الطائف: اتّفاق الضرورة

النوع: 

 

 

أتصوّر أنّ اتفاق الطائف كان اتفاق الضرورة الذي لم يشارك الشعب اللبناني فيه، وإنّما كان نتيجة توافق السياسيين الذين دخلوا البرلمان في أوائل السبعينات، ما جعل الشعب اللبناني ينساهم أو لا يرتبط بهم إلا من خلال بعض الجوانب الشخصية، ونحن نعرف أنّ اتفاق الطائف هو الاتفاق الذي أريد له أن يمنع الحرب من خلال برنامج دوليّ، كان اللّبنانيون يريدون وقف الحرب بأيِّ ثمن، وأنا أزعم أنّ أكثر اللبنانيين لم يقرأوا اتفاق الطائف حتى عندما تحوَّل إلى ميثاق.

لذلك نحن لا نعتبر أنّ اتفاق الطائف الذي نؤكّده لأنّه يمنع الحرب، ولأنّه يضع أمام اللبنانيين بعض العناوين التي يمكن أن يحاور بعضهم بعضاً فيها، لا نعتبر أنّ هذا الاتفاق انطلق من إرادة لبنانية شاملة، لأنّ الذين وقّعوه لم ينتخبهم الجيلُ الذي كان في عهد اتفاق الطائف، والجيل الذي كان مخضباً بالدم والأحقاد وبكلِّ الرواسب العفنة. في هذا المجال، كان الدور السوري في ذلك الوقت متداخلاً مع الدور الدولي والإقليمي. ونحن نعرف أنّ النظام العراقي كان يتدخّل في لبنان وكذلك النظام المصري والليبـي... وأنّ المسألة الفلسطينية كانت في عمق الحرب اللبنانية. فأعتقد أنّ المسألة لم تتحرّك من خلال خطٍّ واضح تمسكه دولة معينة، بل كان مزيجاً من خطوط إقليمية ودولية ربّما ابتعد بعضها عن الساحة، ولكن بقيت الخطوط الضخمة في المجال الدولي، ودخلت عليه إسرائيل أيضاً في تحالفها مع أميركا بشكل جعل التعقيدات متحرّكة بطريقة وبأخرى، ربّما تطرح العناوين الكبرى التي قد تضغط هنا وهناك، لكن لم تصل إلى الطريق المسدود في علاقة سوريا بلبنان.

العلاج بالمواطنية

لذلك أعتقد أنّ العلاج لكلّ هذه التعقيدات هو في المواطنية. علينا أن نثقّف الشعب بهذا المفهوم وليس بالتوازن بين المسيحيين والمسلمين في مسألة (6 و6 مكرّر) في الوظائف الكبرى والثانوية، وأن يكون المواطن هو اللبناني والكفاية هي الأساس، وأن نأخذ ما أخذ به الآخرون، وخصوصاً أنّه ليست هناك أيّة فكرة قابلة للتطبيق في هذه الظروف في ما كان يتحدّث فيه من قضية الدولة الإسلامية والجمهورية الإسلامية، والتي يعرف حتى الذين كانوا يستهلكون هذا العنوان أنّه ليس واقعياً لا في لبنان ولا في المنطقة.

فوضى النظام السياسي في لبنان

لذلك مارست النقد لبنانياً منذ ما يسمّى الاستقلال، الذي لم تحكمه قاعدة سياسية واضحة ومحدودة، فالذين جاؤوا كمسؤولين عن لبنان، كانوا يعيشون تجربة الحكم دون أن يكون هناك برنامج لما عليه الحكم في معنى الدولة، لذلك عشنا دائماً في حالة طوارئ سياسية داخل دولة الأمر الواقع. ويمكن هنا الإشارة إلى دور الرئيس فؤاد شهاب في تنظيم شيء من الدولة وذلك عندما استدعى أحد الخبراء للاستعانة به في دراسة كيفية تنظيم لبنان، سواء من الناحية الاقتصادية أو الناحية الإدارية. لذلك لم ينشأ لبنان كدولة، بل نشأ كشخصيات تملك وهجاً معيّناً في الواقع اللبناني، خصوصاً مع النظام الطائفي الذي كان عرفاً ولم يكن قانوناً. لكنّ الشيء الذي نسجّله للفريق الأول الذي حكم لبنان، أنّه كان فريقاً يملك قاعدة سياسية، بحسب تصوّره للسياسة، بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا صواباً أو خطأً، توافق عليه أو لا توافق، فأنت تستطيع عندما تدرس شخصيات من تاريخ لبنان الحديث مثل رياض الصلح أو بشارة الخوري وإميل إدّه، تستطيع أن تحدّد الخطوط التي تحكم ذهنيتهم السياسية، وتناقشهم على أساس القاعدة التي تحكم أداءهم السياسي.

أمّا مع التطوّر السلبي للأداء السياسي في لبنان، حدثت الصراعات الطائفية، أو من خلال الحرب التي لا أسمّيها حرباً طائفية، بل حرباً كسنجرية، وهذا النوع من الإرباك السياسي، ومجيء سياسيين من هنا وهناك نتيجة تسويات، جعل الخطّ السياسي في لبنان لا يتبع لقاعدة، بل يتبع لتسويات. ولذلك، فقد لبنان الشخصيات التي تفكّر على أساس قاعدة سياسية تحكم برنامجها السياسي في الحكم. وأصبح من الصعب جداً أن تناقش أحد السياسيين الطارئين في سياستهم، لأنّه ليست هناك عناصر يمكن أن تمسك فيها هذا الخطّ السياسي أو ذاك، حتى نناقشه كما نناقش الخطوط السياسية السابقة التي كانت لدى السياسيين القدامى.

لذلك، من الطبيعي جداً، عندما لا يكون هناك قاعدة للبنان الدولة والحكم، أن لا يكون هناك استقرار في لبنان. وأنا أعتقد أنّه من غير المستبعد أن يكون النظام الطائفي، مسؤولاً عن ذلك، لأنّ النظام الطائفي يجعل كلّ فريق يفكّر في أن يأخذ لنفسه موقعاً أمام مواقع الآخرين، بالطريقة التي يفسح فيها في المجال لأكثر من ثغرة يمكن أن ينفذ منها الآخرون، لأنّه عندما تفقد القوّة الذاتية الداخلية التي تجعلك قوّةً تجاه الطائفة الثانية، فإنّك تلجأ لأن تأخذ هذه القوّة من خلال الخارج، وهكذا تصبح كلّ طائفة محسوبة على فريق خارجي معيّن، أو على محور دولي أو إقليمي معيّن.

لا استقرار في النظام الطائفي

لذلك، عندما تتجاذب المحاور الدولية والمحاور الإقليمية، إضافة إلى الدوائر الطائفية، فمن الصعب أن يكون هناك استقرار، لأنّ كلّ واحد يجذب المسألة إلى طرفه. لذلك، أتصوّر أنّه لن يحصل الاستقرار على مستوى الدولة ما دام النظام الطائفي موجوداً.

وهنا أتذكّر كلمة لريمون إدّه، أنّ لبنان وجد ليكون دولة للموارنة. ولعلّ ريمون إدّه كان صريحاً حتى في ما لا يقبل الصراحة، وهذا الكلام ينطبق مع السياسة الفرنسية التي أعقبت الانتداب الفرنسي للبنان. ومن الطبيعي أن يحافظ الموارنة على أن يكون لبنان لهم، وأن يكون الآخرون عناصر تؤكِّد هذا الموقع، وتستجيب لكلّ امتيازاتهم. ولعلّنا لا ننسى ما كان يقال في مسألة الامتيازات والحرمان. إنّني أتصوّر، أنّه عندما نشأ لبنان ليكون للموارنة، عمل الموارنة بكلّ ما لديهم من طاقات، من خلال إخلاصهم لدورهم ولموقعهم، وربّما لا يسجّل أحد عليهم نقطة سوداء في هذا المجال، بقطع النظر عن طبيعة السلوك السياسي والاقتصادي الذي اعتمدوه، لأنّ كلّ شخص يرى أنّ له الحقّ، ومن حقّه أن يحافظ على هذا الحقّ.

لكنّ المسألة في رصدنا لتأسيس لبنان، أنّ لبنان لم ينشأ ليكون وطناً لبنيه، وإنّما نشأ ليكون الرئة التي تتنفّس فيها مشاكل المنطقة. إنّه ساحة الاختبار والتجارب، فإذا أرادوا إيجاد حالة طائفية بين المسيحيين والمسلمين في مصر أو في غير مصر، فلبنان هو الساحة التي تعمل على هذا النوع من الحساسيّات الطائفية من خلال تعدّد الطوائف، وإذا أرادوا حرباً دينية، أشعلوها بين المسلمين والمسيحيين، وإذا أرادوا إيجاد حالة توتّر بين السُّنّة والشيعة عملوا على تحريك التناقضات بين الطرفين، فهناك إرباكات تعمل على إيجاد مشاكل وتعقيدات إلى ما لا نهاية، وهكذا الأمر بين اليسار واليمين... حتّى الحرب الباردة كانت تنعكس صراعاً في لبنان، فكان هناك فريق لبناني مع الغرب، وفريق مع الشرق. وهكذا رأينا كيف كانت تخلط الأوراق في لبنان لحسابات خارجية، وكيف توزّعت القضية الفلسطينية بين كلّ الدول العربية، فأصبح لكلّ دولة عربية ممثّل في المقاومة الفلسطينية، لتعمل على إرباك بعض الأوضاع في هذه الدولة العربية أو تلك.

 لبنان: الولايات غير المتحدة

لذلك، لم ينشأ لبنان كدولة طبيعية، والنظام الطائفي الذي كان عرفاً ثمّ صار قانوناً، لن يثبِّت استقراراً للبلد، باعتبار أنّ الطوائف تمثّل ولايات غير متّحدة، ولكنّها قد تأخذ عنوان لبنان، وكنت أقول دائماً، إنّني أحمل مصباحاً في النهار لأرى لبنانياً، فلا أرى إلاّ طائفيّاً.

هذا كلّه يمنع لبنان من أن يستقرّ، لأنّ ليس هناك شيء اسمه لبنان يحكم وجدان الإنسان اللبناني، بحيث يشعر أنّه في دولة يحصل فيها على حقوقه ويقوم بواجباته كمواطن. وإنّني أتصوّر أنّ بقاء لبنان التسوية على أساس طائفي، يُجدَّد في كلّ مرحلة، كما يتجدَّد بشكل غير معقول في الانتخابات النيابية باستمرار، فوجدنا الطائفية تفترس حتى الأشخاص الذين يعيشون طهر المواطنة ويعيشون القومية، لأنّ الظروف الضاغطة حاصرت الجميع، حتى رجع كلّ واحدٍ منهم إلى طائفيّته. لذلك، إذا كان هناك جيل جديد يمكن أن يفكّر في لبنان المواطن وينسف لبنان الطائفي ـــــ ولا أقول ينسف الطوائف، لأنّها تمثل التنوّع الإنساني ـــــ إذا أمكن ذلك، وإذا كان هؤلاء الذين يتحدّثون في شعارات الجيل الشاب، الذي يتطلّع إلى مستقبل يمكن أن يجد فيه استقراره ومواطنيّته ونموّه وتقدّمه، فعلينا التغيير إلى لبنان المواطن وليس لبنان الطائفي.

أيّ استقلال!

أمّا عن التخوُّف من أن تؤدّيَ الأزمة السياسية الحاصلة إلى حرب أهلية، فإنّي هنا أذكر بالفتوى التي أصدرتها والتي حرّم فيها المساس بالسلم الأهلي.

هذا ونحن نعتقد أنّه ليس هناك أيّ معطيات دولية أو إقليمية أو محليّة تسمح باندلاع حرب أهلية. إنّ الظروف التي كانت قائمة في لبنان إبّان الحرب الأهلية، كانت تملك الكثير من الخطوط السياسية الدولية، وأنّ التعقيدات التي حصلت في ذلك الوقت من الفوضى السياسية على مستوى صراع اليمين واليسار، والحرب الباردة والتمويل الهائل من أكثر الدول العربية وغير العربية... كلّ هذه العوامل والعناصر غير موجودة الآن، أو هي موجودة على نحو لا يمثّل أيّ خطر حقيقيّ أو جديّ.

إنّني أستطيع أن أؤكّد حقيقة تاريخية، هي أنّ خلافات اللبنانيين الطائفية السياسية لم تنتج حرباً ولا تنتج حرباً، وإنّما كانت الحروب اللبنانية منطلقة من عوامل خارجية سياسية على المستوى الدوليّ أو الإقليميّ، وهذا أمر ليست له أيّ صدقية في الواقع الحاضر. الحلّ بالمواطنة

الكلّ يتحدّث الآن عن اتفاق الطائف، وأنّه السقف الذي يستظلّه الجميع. إنّني أقول إنّ اتّفاق الطائف يؤكّد المواطنة بديلاً من النظام الطائفي، النظام الطائفي الذي جعل الدول الخارجية تدخل من خلال الثغرات بين طائفة وطائفة.

إنّ الحلّ هو أن يعيش اللبنانيون متساوين كمواطنين، ينفتحون على لبنانهم على أساس الحقوق المشتركة والواجبات المشتركة.

أن يكفّ اللبناني عن أن يكون طائفياً بالمعنى العشائري للطائفة، وينفتح على أساس إنسانيّته، ويطرد كلّ الذين كانوا يشاركون في الإهدار والفساد، ويطرد من ساحته كلّ الذين شجَّعوا أجهزة المخابرات على أن تسيطر عليهم لأنّهم يريدون منها أن توظِّفهم نوّاباً أو وزراء أو مدراء عامين.

إنّ الذين لا يملكون شجاعة الرفض للأجهزة، لا يملكون شجاعة الرفض للفساد وشجاعة التصدّي للاستكبار العالمي.

المشكلة، أنَّ لبنان هو نافذة الشرق على الغرب، ونافذة الغرب على الشرق، وأنّ كلّ أجهزة المخابرات تتحرّك في الساحة اللبنانية. لذلك عندما تثور العواصف السياسية، فإنّ لبنان أوّل من يعيش في داخلها، وعندما تتحرّك الخطط والمصالح الدولية، فإنّ لبنان أوّل من يتلقّاها. مشكلتنا أنّنا نعيش في وطن لا أسوار فيه، وأكاد أقول لا سقف له. ولهذا، فمن الصعب إيجاد آلية لبنانية إنسانية يمكن لها أن تحقّق هذا الحوار ما دمنا لسنا لبنانيين؛ إنّنا موارنة، أرثوذكس، كاثوليك، شيعة، سنّة، دروز... كنت أقول إنّي أحمل مصباح ديوجين في النهار لأرى لبنانياً فلا أرى إلاّ طائفياً.

عندما ندرس هذا العنوان، وهو عنوان الشيعة كطائفة لبنانية، فإنّنا لا بدّ لنا من أن ندرس كل هذا التاريخ. لقد كان الشيعة هم الطائفة المضطهدة إلى حدّ التغييب عن الساحة السياسية، إلاّ من خلال بعض الزوايا الصغيرة جداً، وعاشوا الحرمان كلّه من خلال الواقع اللبنانيّ. ومع ذلك، لم يفكِّر هؤلاء الناس في أيّ مشروع طائفي خاصٍّ لهم، لم يفكّر الشيعة في أن يكون لهم قسمٌ من لبنان يقسمونه على أساسه، بل أرادوا أن يكونوا مواطنين لهم حقوق المواطن ومسؤولياته، وهذا ما عاشوا من أجله في كلِّ تاريخهم، وصرَّحت قياداتهم في الماضي والحاضر بأنّه ليس للشيعة مشروع خاص في لبنان غير المشروع اللبناني، وأنّ الشيعة يعتبرون لبنان وطنهم النهائي، ولا يقبلون وصاية من أيّة جهة تُصادِر قرارهم وتصادر القرار اللبناني، سواء كانت وصاية عربية أو دولية.

هذا هو الخطُّ العام. ونحن نعرف أنّه كان لهم شرف تحرير لبنان الذي بذلوا من أجله المئات من الشهداء الذين هم في ربيع العمر. إنّني أتساءل: من هؤلاء الذين يتحدّثون عن الخوف من الشيعة؟ لماذا الخوف من الشيعة؟ الشيعة يمثّلون موقعاً سياسياً إنسانياً، ففي تاريخهم لم يعتدوا على أحدٍ، بل كانت كلّ أسلحتهم ضدّ إسرائيل العدوّ الأوَّل للبنان وللعالم العربيّ والإسلاميّ، لم يدخلوا الحرب الأهلية اللبنانية ضدّ الطوائف الأخرى، لقد دخلوا في حرب ضدّ بعضهم البعض من خلال بعض الخلفيات التي أثارت هذه الحرب من هنا وهناك، عندما كانت بعض الأوضاع الإقليمية تصفّي حساباتها مع بعضها البعض في لبنان. لذلك، عاشوا مع الآخرين، وتحالَفوا معهم، ولعلَّ بعضهم يتحدّث أنّه لولا المواقف السياسية لهؤلاء الناس، لم تكن هناك أكثرية في الجانب الآخر. لا أريد أن أناقش هذه المسألة، لذلك من حقّ هؤلاء الناس أن يكون لهم رأيهم السياسي، ونحن نعرف أنّهم صرَّحوا أكثر من مرّة بأنّهم لا يأخذون قرارهم من أحد. قد يتحدّث البعض في حالة الاتهام الذي لا يرتكز على أساس، أنّ الشيعة يأخذون قرارهم من إيران أو من سوريا، ولكن هذا الأمر غير واقعي، قد تتّفق في قراراتك مع جهة إقليمية معيّنة، ولكن هذا لا يعني أنّك تمثّل مجرّد آلية تنفِّذ بها ما يقوله الآخرون.

الكاتب: 
محمد حسين فضل الله
التاريخ: 
الأربعاء, فبراير 19, 2020
ملخص: 
لم ينشأ لبنان كدولة طبيعية، والنظام الطائفي الذي كان عرفاً ثمّ صار قانوناً، لن يثبِّت استقراراً للبلد، باعتبار أنّ الطوائف تمثّل ولايات غير متّحدة، ولكنّها قد تأخذ عنوان لبنان، وكنت أقول دائماً، إنّني أحمل مصباحاً في النهار لأرى لبنانياً، فلا أرى إلاّ ط