الخازن لـ"الجمهورية": لا بديل عن الطائف

النوع: 

 

 

يرسم النائب الدكتور فريد الخازن لوحة قاتمة عن الواقع السياسي اللبناني لارتباطه بملفّات المنطقة وتعقيداتها، من الصراع العربي-الإسرائيلي إلى الصراع المذهبي وما بينهما التحوّلات الكبرى داخل الطوائف الإسلامية التي برزت منذ التوقيع على اتّفاق الطائف إلى اليوم، فضلاً عن التطوّرات المتلاحقة من الحرب على العراق إلى الأحداث السوريّة، الأمر الذي يجعل التوافق بين اللبنانيين على أيّ مسألة تتّصل بتطبيق الدستور أو تطويره مستحيلاً.

* هل اتّفاق الطائف ما زال قابلاً للتطبيق؟

- إتّفاق الطائف، وكأيّ اتّفاق مفصليّ في الحياة السياسية اللبنانية، يُعتبر وليد ظروف معيّنة كانت سائدة في أواخر الثمانينيات، ويعبّر مضمونه عن شقّين: سياسي وسيادي. إلّا أنّ حصر القرار اللبناني بالشؤون الأساسية في الجانب السوري حال دون تطبيق الإصلاحات السياسية والبنود السيادية، فكنّا أمام واقع تحويل النظام اللبناني إلى نظام دولة سلطويّة أو غير ديمقراطية ولكن تحت سلطة الغير، الأمر الذي حوّل لبنان إلى دولة تابعة، وربّما كان لبنان الدولة التابعة الوحيدة في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.

وفي موازاة هذا الخلل الناجم عن عدم تنفيذ الطائف، لا بدّ من التوقف أمام التحوّلات الكبرى التي حصلت داخل الطوائف الإسلامية مع بروز الرئيس رفيق الحريري داخل الطائفة السنّية، وما عُرف بالحريرية السياسية التي فرضت نفسها وتمكّنت من تخطّي كلّ قيادات الطائفة. كما فرض استشهاد الحريري واقعاً جديدا مع بروز تيار المستقبل.

وما ينطبق على السنّة ينسحب على الشيعة مع التحوّل الذي بدأ مع الإمام موسى الصدر وانتقل إلى حركة "أمل" ومن ثمّ إلى "حزب الله"، فضلاً عن التطوّرات المتصلة بالحروب الإسرائيلية منذ العام 1978 حتى العام 2006، ومن ضمن هذا المشهد المقاومة التي أصبحت بعد التسعينات بقيادة الحزب الذي يملك شعبية واسعة داخل طائفته.

والمقصود من كلّ ذلك أنّ كلّ هذه التطورات لم تكن موجودة على الساحة اللبنانية، خصوصاً أنّ لهذه التحوّلات تأثيرها المباشر على الوضع السياسي داخل كلّ طائفة وعلى الوضع السياسي العام في لبنان.

وطبعاً منذ التسعينيات إلى اليوم حصلت أحداث ضخمة جداً في المنطقة، من المفاوضات العربية – الإسرائيلية في التسعينات التي أنتجت اتّفاق أوسلو، الذي لم يثمر سلاماً، إلى الوضع الفلسطيني - الإسرائيلي بكلّ تقلّباته، والاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة و11 أيلول وحرب العراق وصولاً إلى الربيع العربي وسوريا. وأقصد أن أقول إنّه خلال العشرين سنة الماضية حصلت تحوّلات هائلة في محيطنا القريب ومحيطنا البعيد.

* هل تستدعي هذه التحوّلات تعديلاً للطائف؟

- الكلام على تعديل الطائف كلام سهل، ولكنّ هذا الأمر غير بسيط بالنسبة إلى الواقع اللبناني المعقّد جداً، خصوصاً في ظلّ الانقسام الكبير القائم اليوم في لبنان والذي يشكّل امتداداً للانقسام المذهبي الموجود في كلّ العالم الإسلامي والعربي. هذا في العنوان، أمّا في التفاصيل فنحن غير متّفقين على ماهية التعديلات المطلوبة، كما أن ليس هناك إمكانية للاتّفاق في الظرف الحالي، وهذا أمر مؤسف نظراً لغياب المرجعية التي تفصل بين القوى المتنازعة، والدليل التراجع الخطير لهيبة الدولة على مستويي هيبة السلطة وهيبة الشرعية.

وهذا أمر خطير جداً وغير مسبوق لناحية معينة، أي أنّه صحيح أنّ الدولة لم تكن يوماً صاحبة النفوذ الأقوى ولكنّها عندما كانت تفقد السلطة أو الهيبة كانت تفقدها إزاء مشاكل كبرى، أي عندما فقدتها عشيّة الحرب الأهلية وإبّانها كان ذلك بسبب الوجود الفلسطيني المسلّح على الأرض وتحوّل لبنان إلى الساحة الوحيدة للعمل الفلسطيني المسلّح.

 

وما تجدر الإشارة إليه بروز قضايا أكبر من لبنان، وعلى سبيل المثال قضية المحكمة الدولية، كما أنّ قضية المقاومة تتجاوز الوضع اللبناني. فالكلام عن تعديل النظام السياسي يجوز ومنطقي ومطلوب، ولكنّ واقع الأمر أصعب بكثير. لا أعتقد أنّ هناك بديلا عن الطائف، خصوصا أنّنا اليوم نجاور بلداً يشهد ساحة حرب مفتوحة على كلّ الاحتمالات والاتّجاهات وفي ظلّ الترابط الكبير بين لبنان وسوريا.

* ما الذي حال بعد العام 2005 دون تطبيق الطائف، وما الذي يحول اليوم دون تطبيقه؟

دخلت القوى السياسية بعد العام 2005 في لعبة السلطة، والهدف المشترك الذي وحّد القيادات السياسية آنذاك كان انسحاب الجيش السوري، ولكن، ويا للأسف، بدأت عشية هذا الحدث وبعده المفاوضات السرّية والعلنية المتّصلة بالانتخابات، ما أدّى إلى قيام تحالفات على رأسها ما يسمّى بالتحالف الرباعي الذي استثنى فريقاً سياسيّا واحداً وهو الذي يمثّله العماد ميشال عون، وأقام تحالفات مع حزب الله وحركة أمل والمستقبل والفريق المسيحي المتحالف معهم، وبعد الانتخابات فوجئوا بنسبة التمثيل التي حاز عليها عون.

وتواصلت سياسة العزل في تأليف الحكومة وهذا خطأ جسيم على كلّ المستويات. وفي هذا الجوّ لم يكن الموضوع تنفيذ الطائف ولا تغيير مسار البلد أو تصحيحه، بل كان الموضوع لعبة سلطة.

وقد استمرّت الأمور حتى حرب العام 2006 التي أدخلت عناصر جديدة إلى الوضع السياسي اللبناني والإقليمي والدولي، وصولاً إلى الحدث الآخر الكبير اليوم والمتمثل بما يحصل في سوريا.

*هل يمكن القول إنّ ما حال دون تنفيذ الطائف قبل 2005 هو الوجود السوري، وما حال دون تنفيذه بعد 2005 هو سلاح "حزب الله"؟

السلاح معضلة يلزمها حلّ ومعالجة من دون شك. مسار معالجة هذا الموضوع وُضع رسمياً على طاولة الحوار التي بدأت منذ 2006، ولكن بعد حرب تموز شهد لبنان واقعاً سياسياً آخر وتغيّر الواقع أيضاً في الجنوب مع القرار 1701.

وما حصل لم يكن أحد يتوقّع نتائجه، ولم تكن إسرائيل تتوقّع أن تشنّ حرباً فاشلة على لبنان. وبعد 2006، دخل الاصطفاف السياسي والإقليمي المذهبي على الواقع اللبناني الذي أصبح بالغ التعقيد.

أي أنّنا قبل هذه الأحداث كان الموضوع الأبرز على الساحة هو موضوع السلاح والاستراتيجية الدفاعية وانتقلنا بعدها إلى موضوع مذهبي عميق جدّاً، ومن أسبابه الكبيرة حرب العراق، التي قلبت المعادلة في المنطقة، إلى جانب الصراع المذهبي الدائر من المملكة العربية السعودية مروراً بالدول العربية وصولاً إلى إيران. ويبقى أن موضوع المقاومة وإطارها هما ضمن الاستراتيجية الدفاعية، وهذه المسألة تتطلب وقتاً.

كما أنّ "المحكمة الدولية" كانت سبباً آخر للانقسام والاصطفاف السياسي والمذهبي. وفي مطلق الأحوال، لم تكن الأرضية مهيّأة للبحث في الطائف ولا ضمن أولويات الفئات والقوى السياسية. فهناك اتفاق الطائف النص والدستور، وهناك اتفاق الطائف المجتمع والواقع السياسي، وهناك اتّفاق الطائف التطورات السياسية الخارجية التي تؤثر في البلد.

فأيّ اتفاق سيعكس توازنات لها علاقة بالطوائف وحركتها اليوم التي لم تستقرّ بعد ولم تصل إلى نقطة ارتكاز جديدة. هناك مسائل كبيرة مطروحة أمام الطوائف وزعمائها وأمام كتلها وقواعدها الشعبية، وكنّا في مشكلة النزاع العربي – الإسرائيلي، وأصبحنا في مشكلة الأحداث السورية.

وقبل أن نصل إلى مرحلة تعديل الطائف، هناك إصلاحات ممكنة لقيام دولة القانون قبل مسألة قانون الانتخاب، وفي طليعتها المساواة بين اللبنانيين، أي عندما يتساوى المواطن اللبناني إلى أيّ طائفة أو حزب انتمى تجاه القانون، عندها لا يعود يلتجئ إلى طائفته لطلب الحماية.

وفي اعتقادي، تشكّل هذه المسألة أولوية قبل أيّ شيء آخر، فلنعتبرها اختباراً، لأنّ النجاح بها يُمهّد للنجاح في تعديل الدستور والتفاهم على التوازنات، وخلاف ذلك صحيح أيضاً.

الكلام والعنتريات سهل والمطالبة بطائف جديد ونظام سياسي جديد حتى اللامركزية الإدارية الموجودة في الطائف لم تبحث ولا يوم بجدّية.

فمَن لا يمكنه أن ينجح في الاختبارات الصغرى كيف سينجح في المسائل الكبرى؟ هل يُمكن تحييد المسائل الاستراتيجية التي لها طابع خلافي بنيوي مثل سلاح "حزب الله" عن المسائل التي من الممكن الاتّفاق عليها نحو بناء الدولة؟

مَن سيتكفّل بتحييدها؟ فإمّا أن تُحيّد طوعاً وإمّا أن تُحيّد بالفرض؟ ولكن لا هذه ولا تلك متاحة. فهذه المسائل متداخلة مع الواقع اللبناني، لذلك كنت أركّز في كلامي على النص والواقع السياسي والمجتمعي والتحوّلات السياسية.

وهنا أعطي مثلين: المحكمة الدولية والسلاح. المحكمة بأذهان الكثيرين مسألة تخصّ طائفة معيّنة والسلاح يخصّ طائفة أخرى. والسؤال: كيف السبيل إلى تحييدهما؟

* ماذا عن الواقع المسيحي؟

إنّ المسيحيين كانوا، بلا شك، مستهدفين سياسيّاً، وقد اتّخذ الاستهداف أشكالاً عدة، فكانت القوى السياسية الأساسية محظورة ومستهدفة، وبعد العام 2005 اتّخذ الاستهداف شكلاً آخر مع عزل فريق مسيحي أساسي وإبعاده وعدم تمثيله، وهذا الأمر غير مقبول.

ولكن لا شكّ في المقابل أنّ الوضع المسيحي تحسّن منذ الـ2005 حتى اليوم، إذ أصبح هذا الفريق لاعباً أساسياً على الساحة السياسية اللبنانية، فيما لم يكُن أحد يحسب له حساباً قبل هذا التاريخ. وهذا هو الوضع الطبيعي للفريق المسيحي عبر تنوّعه، في حين أنّ وضع الفريق الآخر غير طبيعي.

وفي الوسط المسيحي، هذا التنوع موجود دائماً ويتّخذ أشكالا مختلفة. لكن بالنسبة إلى المسيحيين فالمعادلة كلّها مرتبطة بأوضاع داخلية، والأولويات والقضايا التي يحملونها هي داخلية، إذ لا أبعاد إقليمية أخرى لها، ومن هذا المنطلق يمثّلون صمام الأمان والمساحة المشتركة بين الطرفين المتنازعين بشكل كبير. طبعاً يملكون تحالفاتهم، وهذا أمر لا بدّ منه، ولولا وجودهم لكان الوضع مختلفاً وكانت المشكلة أكبر بكثير.

*هل ثمّة من حاجة إلى تعديلات دستورية تُعزّز صلاحيات المسيحيين داخل السلطة؟

- هناك معادلة جديدة يجب أن تنشأ اليوم لتعزيز صلاحيات الدولة بكلّ مقوماتها، الأمر الذي يرتدّ إيجاباً على المسحيين والمسلمين وعلى كلّ اللبنانيين. جرّبنا الدولة الضعيفة واللادولة خلال الحرب، والدولة التابعة والدولة بما تيّسر حالياً، وأعتقد أنّنا في حاجة اليوم إلى هذه المساحة المشتركة التي تتجاوز كلّ الطوائف، والتي للمسيحيين وللمسلمين دور فيها، ولكنّ التحدي الأكبر هو عند الفريق غير المسيحي.

الكاتب: 
حوار شارل جبور و باسكال بطرس
التاريخ: 
الثلاثاء, سبتمبر 4, 2012
ملخص: 
هناك معادلة جديدة يجب أن تنشأ اليوم لتعزيز صلاحيات الدولة بكلّ مقوماتها، الأمر الذي يرتدّ إيجاباً على المسحيين والمسلمين وعلى كلّ اللبنانيين. جرّبنا الدولة الضعيفة واللادولة خلال الحرب، والدولة التابعة والدولة بما تيّسر حالياً، وأعتقد أنّنا في حاجة اليوم