كتاب أطلس لبنان الأرض والمجتمع

النوع: 

 

 

الفصل الاول: بناء الدولة الوطنية والسياسات الجغرافية الإقليمية

 

1منذ حوالي القرن والنصف وقعت المناطق الجغرافية - التي جمعت عام 1920 ضمن حدود كيان سياسي جديد سمي « لبنان »- على خطوط اضطرابات إقليمية تفسّر إلى درجة كبيرة عدم الاستقرار في هذا البلد. فتفتت الإمبراطورية العثمانية أدّى إلى نشوء دول جديدة فرضتها الدول الاستعمارية على أنقاض تلك الإمبراطورية، وإلى إقامة دولة إسرائيل وما تلى ذلك من صراع عربي–إسرائيلي، ومؤخراً إلى التدخلات العسكرية الأميركية في الخليج. وقد أدى كل ذلك إلى تأثيرات عميقة في هذا البلد، الصغير جغرافياً، الذي شكل ساحة للصراعات الخارجية، وصندوق رنين بسبب تصدعاته الداخلية الذاتية وبسبب المنافسات والصراعات الإقليمية. لقد شكّلت العملية السياسية الانتقالية الجارية حالياً، بمعنى ما، نوعاً من استعادة لبنان لسيادته، ولكنها توضح أيضاً استمرار التوترات الداخلية التي تتمفصل حول القضايا السياسية الجغرافية الجارية في الشرق الأوسط.

2تتميّز عملية بناء الدولة الوطنية في لبنان « بسيادة للدولة » محدودة في الواقع، أو منتقصة، بسبب الحرب الأهلية والتدخلات الأجنبية المسلحة والدبلوماسية. وهي تتلقّى ردات الفعل على هذه الخضّات. إن وضع الخرائط الجغرافية كأداة لإدارة ولتطوير الأراضي الوطنية يؤشّر إلى ضعف الدولة اللبنانية، كما يظهره هنا السؤال حول عدم الدّقة في تحديد الحدود الدولية، وكذلك عدم الموثوقية في الإحصاءات المحلية. وربما تشكل إعادة إحياء البلديات ظرفاً لإدارة محلية أفضل للأراضي اللبنانية.

لبنان في خطوط التصدع الجغرافي السياسي في الشرق الأدنى

خصوصية لبنان في التاريخ

3يتميّز لبنان عن سائر دول منطقة الشرق الأوسط بطبيعته الجبلية وثروته المائية الوفيرة (الشكل 1-1)، فجبال لبنان تمتد من الجنوب إلى الشمال الأكثر اتساعاً والأعلى ارتفاعاً، إذ يزيد ارتفاع قمة القرنة السوداء عن 3000 م. وتحدّه في الشمال فتحة حمص وسهل عكار اللذان يشكلان معبراً سهلاً إلى الداخل السوري. تعتبر هذه السلسلة الجبلية، المرتفعة والضخمة في الشمال والمتطاولة في الجنوب، عسيرة على العبور؛ وتشكل منطقة ضهر البيدر (1560 م) الممر الرئيسي الذي تعبره طريق بيروت-دمشق الدولية. أما في الجنوب، فيتكون جبل عامل من مجموعة من الهضاب المتفاوتة بارتفاعها، بما يتراوح بين 600 و800 م. وتطل هذه الجبال في الغرب على البحر وعلى السهول الساحلية الضيقة. وأكثر هذه السهول اتساعاً هما سهل عكار في الشمال وسهل القاسمية في الجنوب. تطل السلسلة الجبلية في الشرق، على منخفض « سهل البقاع » الذي يشكل محور مرور بين الجنوب والشمال. وتشكل سلسلة جبال لبنان الشرقية حاجزاً جديداً في الشرق، يكون أقل ارتفاعاً في جزئه الأوسط. ويرتفع جبل الشيخ، أو جبل حرمون، في الجنوب الشرقي، ويزيد ارتفاعه عن 2800 م، ويقع في منطقة الجولان، الذي تحتلها إسرائيل، على الحدود بين لبنان وسوريا وفلسطين.

4وتشكل جبال لبنان، الواقعة على الأطراف الغربية للبادية السورية، الخزان المائي للمنطقة. ففي الغرب، تغذي العديد من الأنهار الساحلية السفوح الغربية لجبال لبنان؛ ومنها نهر البارد ونهر أبو علي ونهر إبراهيم ونهر بيروت ونهر الأولي. ويجري نهر العاصي عبر سهل البقاع باتجاه سوريا وتركيا. ويعتبر الليطاني أطول الأنهار اللبنانية. وهو يروي البقاع قبل أن يلتف نحو البحر الأبيض المتوسط. أما نهر الحاصباني فهو ينبع من جبل الشيخ ويهبط باتجاه منطقة الجليل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ليصب في نهر الأردن.

5وجبال لبنان جبال وعرة صعبة العبور، ولكنها غنية بالمياه وتشكل منذ القدم ملاذاً للسكان، في حين كانت السهول هي التي تستثمر زراعياً.

6عرفت المنطقة عبر التاريخ عدداً كبيراً من الحقب السياسية، التي ما زالت صروحها المعمارية والعمرانية تشهد على الغنى والتنوّع. لقد تأسّست العديد من المدن اللبنانية في العهد الفينيقي، مثل بيروت وصور وصيدا (صيدون) وجبيل (بيبلوس). وساهمت الحضارة الإغريقية (الهلينستية) والرومانية والبيزنطية في تكوين مدن جديدة. كانت بيروت من أهم مدن الإمبراطورية الرومانية قبل أن تدمّرها موجة مد عالية في عام 511 للميلاد. وقد بدّل انتشار الإسلام الولاءات الدينية، ومع ذلك ما زالت المسيحية تحتل مكانة هامة. وأصبح الجبل تدريجياً ملاذاً للأقليات الدينية المسيحية (كالموارنة)، والمسلمة (الشيعة أو الدروز). ثم احتلّ الصليبيون المنطقة لقرنين من الزمن (1099-1291). وتشهد العمارة العسكرية على نشاطهم في ميدان البناء وعلى تأثيرهم المعماري؛ وقد تلاهم المماليك الذين شيدوا العديد من القلاع، واستندوا في بنائها إلى مبادئ العمارة الصليبية.

7وابتداءً من القرن السادس عشر، أصبحت مناطق لبنان الحالية مقاطعات تابعة للإمبراطورية العثمانية، تحت صيغ إدارية متنوّعة. كانت هذه المناطق تعطى لمحصّلي الضرائب العاملين لصالح الباب العالي (المقاطعجية). وقد نجحت عائلتان كبيرتان على التتابع في فرض سيطرتهما المؤقتة على مناطق متنوعة الامتداد، وهما المعنيون في القرنين السابع عشر والثامن عشر ثمّ الشهابيون لغاية عام 1842. ويعتبر بعض المؤرخين اللبنانيين أن هذه التكوينات المناطقية التي تركزت على جبل لبنان كانت بدايات تشكيل الكيان اللبناني.

8لقد ساهمت التجارة مع أوروبا، ولاسيما من موانئ ساحل البحر الأبيض المتوسط أو بوابات المشرق، بالإضافة إلى نشاط المبشرين، في تمييز المسيحيين الذين استفادوا بشكل غير مباشر من نظام الامتيازات التي تحمي الجالية الأوروبية في لبنان. كما أخذ النشاط التبشيري (الشكل 1-2)، ليس الكاثوليكي فحسب بل أيضا البروتستانتي (وخاصة الأمريكي)، يزداد اتساعاً ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، عندما أصبح الحضور الاقتصادي الأوروبي أكثر ضغطاً، مع نمو تجارة الحرير ومشاركة رؤوس الأموال الأوروبية في مشاريع التخطيط والتنمية التي أطلقها العثمانيون. واستطاعت بيروت، ابتداءً من عام 1830، أن تفرض نفسها على حساب مدينتي صيدا وطرابلس، وذلك بفضل علاقاتها التجارية مع الجبل وتطوير مينائها.

الشكل 1-2: البعثات التبشيرية في سوريا العثمانية نحو عام 1850 (باستثناء فلسطين وحلب).

الشكل 1-2: البعثات التبشيرية في سوريا العثمانية نحو عام 1850 (باستثناء فلسطين وحلب).

Agrandir Original (jpeg, 228k)

9لقد عمّ الاضطراب المنطقة ابتداءً من عام 1830. حيث احتلها المصريون بين عامي 1832 و1840. وبلغت سلسلة الاضطرابات الطائفية ذروتها في عام 1860 عندما وقعت اشتباكات بين المسيحيين والدروز في جبل لبنان، وبين المسيحيين والمسلمين في دمشق. فأسس العثمانيون والقوى الأوروبية مؤسسات إدارية جغرافية جديدة تفسح مجالاً واسعاً لممثلي الطوائف الدينية. وأصبح نظام المتصرفية رسمياً في جبل لبنان اعتباراً من عام 1861 (الشكل 1-3). وقد شكل وحدة إداريةً مستقلة عن ولاية بيروت. أما هذه الأخيرة فلم تكن سوى ولاية متقطعة تضم صيدا في الجنوب وطرابلس في الشمال. أما جنوب لبنان الحالي، أو جبل عامل، فقد كان يتبع لولاية حيفا، ويندرج ضمن نفوذ هذه المدينة. في حين كانت منطقة البقاع تتبع ولاية دمشق.

11في هذا الفضاء العثماني المتواصل بشكل عام، كانت حركة التنقل مرنة، بينما كانت التقسيمات الإدارية مهلهلة وتتعدّل باستمرار. وترجمت التغييرات المتعلقة بتسويات نهاية الحرب العالمية الأولى بوضع تقسيم سياسي جديد، تمّ فرضه تدريجياً، مما شكّل انقطاعاً جذرياً مع التنظيم السياسي الذي كان قائماً في السابق (الشكل 1-4). فتقطّعت أوصال سوريا العثمانية، وانهار حلم المملكة العربية، وعاصمتها دمشق. ففي الجنوب، انتدبت بريطانيا العظمى على فلسطين وشرق الأردن. أما في الشمال، فقد أعلنت فرنسا تأسيس دولة لبنان الكبير في عام 1920، كان الموروث عن المتصرفية، لكنه صار يشمل، بالإضافة إلى جبل لبنان، منطقة جبل عامل وسهل البقاع وسهل عكار حتى نهر الكبير الشمالي الواقع شمال طرابلس. لقد تقبلت فرنسا مطالب البطريرك الماروني الذي كان حاضراً في فرساي. وقد أدّى الانتداب ووضع الحدود الجديدة للدولة إلى إلحاق الضرر بالسكان إلى حد كبير، ولا سيما المسلمين والمسيحيين الأرثوذكس.

12ومن جهة أخرى، قسّمت فرنسا ما تبقى من الأراضي السورية إلى عدّة دويلات ذات استقلال ذاتي؛ وقد كان تقسيماً مبنياً على أسس طائفية : دولة العلويين وعاصمتها اللاذقية، دولة حلب، دولة دمشق، وأخيراً دولة الدروز ومركزها السويداء. وفي عام 1924، توحّدت دمشق وحلب. وفي عام 1939 تنازلت فرنسا لتركيا عن لواء اسكندرون. وبعد تأسيس المؤسسات السياسية الخاصة في كل من سوريا ولبنان انتقلت سلطات الانتداب إليها تدريجياً، وذلك بين عامي 1943 و1946، تاريخ جلاء القوات الفرنسية. ويتوافق عام 1943، تاريخ استقلال لبنان، مع وضع الميثاق الوطني اللبناني الذي ينظّم توزيع السلطة بين الزعماء السياسيين المسيحيين والمسلمين، واتفق على أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس الحكومة سنياً ورئيس البرلمان شيعياً، كما تمّ توزيع المناصب الوزارية والمقاعد البرلمانية وفقاً للمنطق نفسه.

13ويمثل إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، الذي رفضته الدول العربية وفرضته الحرب، التحول الكبير لجغرافية المنطقة السياسية. ووقع العديد من الصراعات بين إسرائيل والدول المجاورة لها : في الأعوام 1956 و1967 و1973 و1982. وتصاعدت المواجهة بين إسرائيل والقوى الفلسطينية في لبنان بدءاً من أواخر سنوات الستينات، وشكل ذلك أحد العوامل لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان واستمرارها لفترة طويلة.

14يعتمد التقسيم الجديد للمنطقة إلى دول، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، على مبدأ ويلسون الذي يؤكد على حق تقرير المصير القومي. لكن الواقع، من الناحية الميدانية، يبيّن أن كل الانتماءات الدينية أو العرقية لم تكن تملك أقاليم متجانسة، ولا كانت تمثّل لوحدها انتماء الفئات الاجتماعية أو الأفراد. بالإضافة إلى ذلك، لم تستفد كل الجماعات الدينية والعرقية الرئيسية من إنشاء الدول الجديدة : فالأرمن والأكراد كانوا أكثر المنسيين في معاهدات السنوات 1920. ومن الجانب العملي، ترجم تطبيق المبدأ القومي بمجازر الإبادة الجماعية للأرمن، وهجرة السكان التي شملت أيضاً أقليات أخرى (كالأكراد والأقليات المسيحية كالآشوريين، الذين قمعوا بعنف في العراق في ثلاثينات القرن الماضي). ويقدر عدد اللاجئين الذين وصلوا إلى سوريا ولبنان في عام 1925 بنحو 125,000 نسمة، بينهم 100,000 نسمة من الأرمن، الذين تجمعوا بشكل رئيسي في حلب وبيروت، وكذلك في مناطق أخرى مختلفة (الشكل 1- 5).

15وقد استقبل هؤلاء المهاجرون بطرق مختلفة. ففي لبنان، حصل اللاجئون الذين كانوا مقيمين على الأراضي اللبنانية في عام 1924 على الجنسية اللبنانية، مما دعم التفوق العددي للمسيحيين. لكن حركة السكان لا تتوقف عند ذلك التاريخ، فقسم من المهاجرين اختار طريق الهجرة نحو أوروبا وأمريكا الشمالية. كما تتابعت حركة السكان بين سورية ولبنان مولّدة تجمعات هامة من اللاجئين، في ظل غياب قانون، وحتى فترة قريبة، ينظّم استقبالهم عند وصولهم إلى لبنان. وفي عام 1994 صدر مرسوم للتجنيس في محاولة لتقديم حل لمعظم حالات الهجرة (انظر الفصل الثالث).

16وقد أدّى إنشاء إسرائيل، والحرب العربية الإسرائيلية الأولى في عامي 1948-1949، إلى هجرة الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة. حيث أحصي 129,000 مهاجر في لبنان عام 1950، جاء معظمهم من المناطق الشمالية في فلسطين. وقد اندمج المسيحيون، ولا سيما القادمين من المدن بسرعة، وحصل قسم كبير منهم على الجنسية اللبنانية. أما الريفيون فقد كانوا بغالبيتهم من السنة. وقد سكنوا تدريجياً في مخيمات خاصة بهم، وعاشوا في ظروف مأساوية.

17ثمّ جاءت موجة ثانية من اللاجئين الفلسطينيين في عام 1967، توجّهت بشكل أساسي نحو الأردن. لكن لبنان نال حصة منها بشكل غير مباشر، وذلك بعد القمع الذي تعرّض له الفلسطينيون في أيلول الأسود، عام 1970، والذي أدى إلى إعادة تهجير عدد من المقاتلين الفلسطينيين مع عائلاتهم إلى مخيمات لبنان. وقد عرفت عملية استيعاب الفلسطينيين سياسات متناقضة جداً في الدول العربية؛ فحتى عام 1977 لم تعترف أية منها بإسرائيل، وكانت كلها تدافع عن حق العودة. وقد أصبح الفلسطينيون مواطنين أردنيين، في حين أن المصرين منحوهم وضعاً قانونياً خاصاً، يمنعهم من السفر بحرية من غزة؛ وقد اندمجوا تماماً في سوريا حيث باتوا يستفيدون من كافة الحقوق الاجتماعية، ما عدا حق المواطنة والجنسية؛ أما في لبنان فهم محرومون من هذه الحقوق بما فيها حق دخول سوق العمل.

18وبدءاً من سنوات الـ 1960 أصبح الفلسطينيون في قلب الصراعات السياسية الداخلية في هذا البلد، وفي ذلك الوقت عرف المجتمع اللبناني انقساماً جذرياً بين أحزاب لبنانية يمينية وأحزاب تقدمية تناصر الفلسطينيين. وبينما نجد أن الأولى كانت مسيحية بشكل أساسي، كانت الثانية تجمع ممثلين عن كافة الطوائف اللبنانية. وكانت المسألة تتعلق بمساندة المقاومة الفلسطينية التي أصبحت دولة داخل الدولة، لاسيما بعد اتفاق القاهرة في عام 1969 الذي منح حرية نسبية لعمل الحركة الفلسطينية. ولا يمكن اختصار أسباب الحرب الأهلية اللبنانية بالمسألة الفلسطينية، فقد كانت للتوترات الاجتماعية والطائفية في لبنان تفاعلاتها أيضاً.

بين الحرب الأهلية والتوتر الإقليمي

19ليس هدفنا رسم سياقات الخمس عشرة سنة من الصراع (1975-1990)، بالاعتماد على الخرائط، وإنما الهدف هو فقط أن نوضح إعادة تكوين التشكيلات المناطقية الأساسية لهذه الحرب.

20فالعنصر الأول الذي يجب التشديد عليه هو التقطيع السياسي التدريجي للأراضي اللبنانية (الشكل 1-8). فهناك منطقة مركزية تسيطر عليها القوى المسيحية ولاسيما تلك التابعة للقوات اللبنانية، تمكنت لفترة من تكوين استقلال ذاتي وامتلاك مؤسسات شبه حكومية. وهي تمتد شرق وشمال الحد الفاصل (خط التماس) الذي يمتد في العاصمة على طول طريق دمشق. وهي تضم الضاحيتين الشرقية والشمالية من بيروت، وبلدتي جونية وجبيل وظهيرهما. وانقسم ما تبقى من البلد وأصبح تحت سيطرة قوى أمر واقع متعددة، غالباً ما كانت في حالة صراع بين بعضها البعض.

21وفي الجنوب أدى انتهاء السيطرة الفلسطينية بعد عام 1982 إلى خلق مشهد متقطع، تسيطر عليه بشكل رئيسي حركة أمل (وحزب الله بعد ذلك) التي صارت رأس الحربة في مواجهة إسرائيل. وفي المنطقة الأمنية الإسرائيلية وامتدادها إلى قطاع جزين كانت تسيطر إسرائيل متمثّلة بجيش لبنان الجنوبي. وفي الشمال والبقاع كان الحضور الأكبر يعود للقوات السورية التي كانت تفرض سيطرتها بلا منازع، وكانت تسمح بنمو وتوسع التجمعات الحليفة لها كحركة أمل وحزب الله.

22وعلى ضوء تطور الأحداث، يمكننا القول أن الأزمة اللبنانية أفسحت مجالاً واسعاً للقوى الفاعلة الخارجية، ما أعطاها بعدها الإقليمي (الشكل 1-9). فقد تدخل البلدان المجاوران، سوريا وإسرائيل، بشكل مباشر ومستمر في رقعة الشطرنج اللبنانية، وتمركزت قواتهما في فترات مختلفة داخل الأراضي اللبنانية.

23كانت سوريا قلقة من احتمال نشوء سلطة لا تسيطر عليها، على خاصرتها الغربية في مواجهة إسرائيل. وضمن هذا المنظور كانت تسعى إلى المحافظة على عدم استمرار الهدوء على حدود إسرائيل الشمالية؛ وكان اهتمام سوريا بلبنان يندرج أيضاً ضمن إطار تطوير تكامل اقتصادي واجتماعي بين البلدين المنبثقين عن بلاد الشام في عام 1920.

24فبعد تدخل القوات السورية الأول خلال الأحداث، أصبح حضورها رسمياً في اتفاقيات القاهرة، في نهاية عام 1976. وهكذا أصبحت سوريا القوة الأساسية في قوات الردع العربية المكلّفة بالفصل بين الأطراف المتنازعة. كانت هذه القوات تعسكر في سهل البقاع وفي الشمال، بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982 وحتى عام 1987. ولكنها عادت إلى وسط البلاد بطلب من مختلف الفصائل اللبنانية. وطوال الأزمة، كان هنالك خط أحمر يحدد منطقة في جنوب البلاد لا يتدخل فيها الجيش السوري، لأن ذلك كان يهدد مصالح إسرائيل.

25وفي الواقع، لم تتوقف إسرائيل أيضاً عن التدخل في لبنان، فقد كانت بين عامي 1978 و2000 تحتل بشكل متواصل شريطاً حدودياً في جنوب البلاد، وخلقت فيه ميليشيا إضافية لتحتل الأرض، واجتاحت كامل الجنوب اللبناني وصولاً إلى بيروت في عام 1982. كما كان الجيش الإسرائيلي يسيطر أيضاً على سماء لبنان. وكانت السماء اللبنانية تدوي بانتظام بهدير الطائرات الإسرائيلية التي تخترق جدار الصوت. وانسحب الجيش الإسرائيلي تحت ضغط المقاومة الوطنية اللبنانية إلى منطقة الشريط الحدودي في جنوب لبنان حيث حافظ على وجوده فيها من عام 1985 وحتى عام 2000.

26كذلك تدخلت عدة قوى غربية في لبنان في مراحل مختلفة. فالولايات المتحدة، الحليف الثابت لإسرائيل، شاركت في عامي 1982-1983، مع فرنسا وقوات أوروبية أخرى في تدخلات محدودة يفترض بها حماية الفلسطينيين. وقد تُرجم تدويل الأزمة منذ بداياتها بتواجد قوات الأمم المتحدة، عبر قوات الفصل التابعة للأمم المتحدة في لبنان (يونيفل). ومراقبة خط الهدنة في عام 1949 ثم خط حرب عام 1973 بين سوريا وإسرائيل فوق جبل الشيخ يفسران وجود مفرزتين عسكريتين تحت إشراف الأمم المتحدة.

27وقد ترجمت السيطرة السورية في الميدان الاقتصادي على مستويات عديدة، فعلاقات الأعمال كانت تزيد من التبعية السياسية. من جهة أخرى، كان هناك عدد كبير من العمال السوريين المهاجرين الذين يعملون في الزراعة وقطاع البناء وفي الأعمال اليدوية التي لا تتطلب المؤهلات الخاصة.

28كان الإسرائيليون ينفذون اعتداءات عديدة على لبنان مقابل عمليات للمقاومة اللبنانية لتحرير المناطق المحتلة من جنوب لبنان. وفي عام 2000، اضطر الجيش الإسرائيلي الى الانسحاب من جنوب لبنان بعد تصاعد عمليات المقاومة في لبنان.

29ولفترات طويلة استمرت القوى الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، بالإضافة إلى السعودية بتقديم الدعم، خصوصاً المالي، لحكومات رفيق الحريري المتلاحقة.

30ومنذ عام 2003، أدى التدخل الأمريكي الجديد في العراق إلى وضع سوريا في فوهة المدفع، وتعرضت سوريا إلى ضغوط دولية مكثفة تضافرت مع مظاهرات الشارع اللبناني، بعد اغتيال رفيق الحريري وتوجب عليها أن تسحب جيشها من لبنان في شهر نيسان من عام 2005. فبدأت بذلك فترة انتقالية تميزت بعدم الاستقرار وبخلق جو لعبت فيه الانقسامات الطائفية دوراً مركزياً.

31كانت الفترة التي تلت اغتيال رئيس الحكومة السابق، رفيق الحريري، والانسحاب السوري، فترة انتقالية غير مستقرّة. فالانتخابات الأولى التي تمّت في ربيع عام 2005، أنعشت آمالاً بالعودة إلى الحياة الديمقراطية، والحال نفسها بالنسبة للمظاهرات الحاشدة العامة والعديدة، حتى وإن أفضى بعضها إلى حوادث عنيفة. لكن العودة إلى القانون الانتخابي الطائفي، والاستمرار القوي للشخصيات السياسية أدى إلى ترسيخ التناقضات الطائفية.

32كانت مسألة القانون الانتخابي رهاناً مركزياً بالنسبة للتوترات الداخلية أثناء تلك الفترة. فالتمثيل السياسي في لبنان يعتمد على نظام معقّد غايته النظرية ضمان تمثيل الأقليات المختلفة. ومنذ اتفاق الطائف يتكون البرلمان من عدد متساو من النواب المسيحيين والنواب المسلمين (المجموع 128)، فهو يضم 34 نائباً مارونياً و27 شيعياً و27 سنياً... الخ. وتوزعت مقاعد النواب بحسب القضاء (باستثناء بيروت المقسمة إلى ثلاث دوائر انتخابية)، على أساس قاعدة توزيع طائفية تبعاً لوزن الطوائف الأساسية التي ينتمي إليها المنتخبون المسجلون في القضاء. وهكذا فإن خارطة الانتماء الطائفي للنواب تعكس بالنتيجة التركيب الطائفي في مختلف الدوائر الانتخابية اللبنانية (

33وتحاشياً من تجذر طائفي للنظام المتبع، فصلت اتفاقيات الطائف وقوانين الانتخابات المتتابعة بين المنطقة التمثيلية والمنطقة الانتخابية : وهكذا فإن نائب أحد الأقضية قد ينتخب بشكل عام من قبل الناخبين في عدة أقضية. وفي التطبيق، تم التلاعب بهذا المبدأ تبعاً للمصالح السياسية للقوى المهيمنة في لحظة ما. فلم يتوقف تقسيم الدوائر الانتخابية عن التبدل بين انتخاب وآخر، وهو ليس متجانساً على كامل الأرض اللبنانية (الشكل 1-10 أ). فقد قسّم جبل لبنان إلى دوائر انتخابية صغيرة، تهدف إلى المحافظة على دائرة ذات أغلبية درزية كبيرة. في حين جُمعت محافظتا جنوب لبنان في دائرة انتخابية كبيرة، حيث يسمح نظام الأغلبية بنجاح قوائم الحلف المكون من أمل وحزب الله، وقد أدى التقسيم المطبق في عام 2000 إلى بلوغ منطق التقسيم المتحيّز (gerry-mandering) الأمريكي حده الأقصى، أي تحديد الدوائر الانتخابية بحسب المصالح السياسية لحزب أو مجموعة ما. فعلى سبيل المثال، ارتبط قضاء بشري المسيحي انتخابياً بقضاء عكار ذي الأغلبية السنية. كما أضيف إلى هذه الدائرة جزء من قضاء المنية-الضنية.

34وبعد الخروج من سنوات الحرب الطويلة، قاطعت الأحزاب المسيحية انتخابات 1992 احتجاجاً على نظام اعتبرته جائراً، وعلى التهميش والنفي المفروض على العديد من القيادات السياسية المسيحية. وتبين خرائط الامتناع عن الانتخاب، في ذلك التاريخ، بشكل واضح هذه الإستراتيجية : فقد عرف جبل لبنان مع بيروت أضعف معدلات المشاركة. ونشهد أثناء الانتخابات اللاحقة عودة تدريجية للمعارضة المسيحية إلى اللعبة السياسية، مثلما يبينه معدل المشاركة في الانتخابات الذي يزيد غالباً عن المتوسط الوطني، في منطقة جبل لبنان (الشكل 1-11). لقد سمحت هذه المناورات بأن يدخل البرلمان سياسيون من المعارضة ظلّوا يشكّلون الأقلية. كان الرهان الأساسي في انتخابات 2000 و2005 هو عموماً نتاج القوى التي تدعم رفيق الحريري في مواجهة الأحزاب الأقرب إلى دمشق.

35إنه النظام الانتخابي الذي وضع في عام 2000 لحماية المصالح السورية، والذي لم يتغير، وهو الذي استخدم كإطار لانتخابات عام 2005 بالرغم من الانتقادات التي تعرض لها، وإرادة العديد من القوى السياسية بتغييره بنظام أكثر إنصافاً. وتعكس نتائج تلك الانتخابات تركيب القوى السياسية والتحالفات الجديدة التي تكونت لتحقيق التناوب (الشكل 1-12). لكن موازين القوى كانت ترتبط بآليات تضخيم الأغلبية المحلية المرتبطة بالنظام الانتخابي وبالتحالفات المحلية أو الظرفية لحظة الانتخاب. ودون العودة إلى تفاصيل الترتيبات، لا بد من التشديد على جغرافية الموالاة التي تبرز ذلك.

 36كان تحالف 14 آذار هو المنتصر، نسبة للمظاهرة الموحّدة، في 14 آذار عام 2005، المطالبة بالحقيقة بشأن مقتل الحريري، وبالانسحاب السوري من لبنان. وشكّل هذا التحالف تجمّع المعارضين للوجود السوري : تيار المستقبل، الذي قاده سعد ابن رفيق الحريري، والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، وشخصيات مسيحية، لاسيما مجموعة قرنة شهوان وحزب القوات اللبنانية. أما كتلة الأحزاب الموالية لسوريا فقد تكونت بشكل أساسي من الحزبين الشيعيين أمل وحزب الله. ورغم خروجها ضعيفة من الانتخابات إلاّ أنها بقيت قوية. أخيراً، تشكلت قوة سياسية هامة تمثلت بتيار الزعيم المسيحي ميشال عون. فلقد عاد من المنفى، عشية الانتخابات، هذا القائد المسيحي السابق للجيش اللبناني، والذي كان رئيساً بالنيابة لمجلس الوزراء بين عامي 1988 و1990 - إلى جانب رئيس الوزراء الآخر سليم الحص-. وفي الوقت الذي كانت حركته قد ساهمت في التعبئة المضادة لسوريا، شعر ميشال عون أنه قد خُدع بالوضع الانتخابي، وقرّر عندها بأن يعمل بانفراد، فعقد التحالفات مع حلفاء سوريا القدماء، لاسيما عائلة المر (أرثوذكس) في المتن، وسليمان فرنجية (ماروني) وعمر كرامي (سني) في الشمال.

37وفي بيروت وبعض جبل لبنان، تمّ عقد تحالف انتخابي سياسي بين قوى 14 آذار والأحزاب الشيعية. وهكذا نجح تحالف 14 آذار بلا معارضة في بيروت، حيث كانت نسبة المشاركة بالانتخابات ضعيفة. كما حقق النصر في جنوب جبل لبنان (الشوف وبعبدا-عالية). ويعود انتصاره في بيروت وبعبدا– عالية إلى أصوات حزب الله الذي تُرك له في كل مرة مقعداً لنائب. كما انتصرت قوى 14 آذار في الشمال وفي البقاع الغربي. أما الأحزاب الموالية لسوريا، كحركة أمل وحزب الله وحلفائهما (حزب البعث، والحزب السوري القومي الاجتماعي ..الخ.) فقد كانت منتشرة بقوة في جنوب لبنان ومنطقة بعلبك والهرمل، وهما دائرتان ذات أغلبية شيعية، مغطاة بشكل جيد بمؤسسات العمل الاجتماعي لهذه القوى السياسية. سيطرت القوى العونية في دائرة كسروان-جبيل – بتحالف ضمني مع حزب الله - حيث أثبتت شعبيتها في الوسط المسيحي. ولقد نجحت في المتن وزحلة بفضل تحالفها مع قوى الزعماء المحليين الذين كانوا قديماً من أنصار سوريا (الشكل 1-12).

38إن التحليل المفصل لنتائج التصويت في الدوائر المتنازع عليها كثيراً تبين أن انتصار قوى 14 آذار يعود على الأخص إلى حشد المنتخبين الشيعيين والسنة والدروز لصالحها، في حين أن غالبية الناخبين المسيحيين صوتوا لصالح المرشح العوني. وهكذا، ففي بعبدا-عالية تحالف العونيون مع الزعيم الدرزي أرسلان الموالي لسورية والخصم التاريخي لعائلة جنبلاط. إن فرز الأصوات بحسب الطائفة التي ينتمي إليها المنتخبون (أصبح ممكناً في المراكز بسبب التنظيم الطائفي للانتخاب) يبين أن 70 % من المسلمين، وربما 80 %، قد صوتوا لمرشحي 14 آذار. وعلى العكس من ذلك، حصل المرشحون العونيون والأرسلانيون على 70 إلى 80 % من أصوات المسيحيين (الشكل 1-13). وكمثال آخر، ففي الدائرة الثانية في الشمال حيث جابهت نائلة معوض، ممثلة قوى 14 آذار والمرشحة للمقعد الماروني في زغرتا، خصمها التاريخي سليمان فرنجية، حليف عون. ونجحت نائلة معوض بفضل أصوات المسلمين، في منطقتي المنية وطرابلس. وفي المقابل، تفوق سليمان فرنجية بشكل كبير في المناطق المسيحية، إذ حصل على أكثر من 70 % من الأصوات (الشكل 1-14).

39إن الانقسامات السياسية، لاسيما حول رهانات العلاقة مع سوريا، تتمفصل بشدة مع خطوط التصدع الطائفي، حتى وإن كان من الواجب عدم إهمال الخصوصيات المحلية الناتجة عن ثقل الزعامات (زعماء التيارات) المحلية. لكن موازين القوى، لاسيما داخل القوى السياسية المسيحية، قد تأثرت بنمط التصويت وتقسيم الدوائر الانتخابية. ويمكن لأي تعديل بنمط الانتخاب أو التحالفات الجديدة أن تغيرها بشكل ملموس، الأمر الذي جعل التوازن القائم في ذلك الوقت حساساً جداً.

الدولة والتراب الوطني اللبناني

التقسيمات المناطقية وأملاك الدولة

40لم يعرف لبنان منذ الاستقلال سوى فترات قصيرة لم تتعرّض فيها السيادة اللبنانية وأعمال الدولة للعرقلة. فلقد كانت الدولة اللبنانية في الداخل عرضة لاحتجاجات بعض المجموعات، لاسيما أثناء الحرب الأهلية؛ وملغمة بالتدخلات الخارجية. وتترجم الصعوبات والتوترات التي واجهت عملية البناء الوطني من خلال أنماط تملك الدولة للأرض. فالطريقة التي وضعت بها الدولة الخرائط لأراضيها ومراحل هذه العملية - إن كان بالنسبة للمسح العقاري أو للتقسيم الإداري - تعبّر عن هذه الصعوبات وتوضّحها.

41كما هو الحال في مناطق أخرى وقعت تحت الهيمنة الغربية، قامت إدارة الانتداب الفرنسية بإصلاح النظام العقاري في السنوات 1920. كانت الدائرة العقارية (CF : Circonscription foncière) هي الوحدة الأساسية للتنظيم العقاري، والتي تم تثبيت حدودها من خلال السجل العقاري، بدءاً من عام 1926. لكن هذا العمل لم يكتمل أبداً، وهو لم يتقدم عملياً منذ الاستقلال. ويمثل (الشكل 1-15) الدرجات المختلفة لتقدم التنظيم العقاري. فبعض التجمعات السكانية لم يوضع لها حدود أبداً. وفي البعض الآخر لم يصدق القاضي العقاري على عملية مسح الأراضي، أو أنها لم تسجل رسمياً في السجل العقاري. وتشير الخارطة بشكل تصاعدي إلى سلسلة من القطاعات المتنازع عليها، والتي لم تحدد القرية أو البلدة لتي تتبع لها.

42تبيّن الخارطة المناطق التي تمّ مسحها عقارياً بحسب الأفضلية : ويتعلّق الأمر بشكل أساسي بالمناطق الزراعية الكبرى في البلاد، انطلاقاً من سهل البقاع والسهول الساحلية : القاسمية والكورة وعكار بالإضافة إلى شريط ساحلي ضيق. وقد خصصت بيروت وطريق دمشق، بالإضافة إلى المدن الكبيرة كصيدا وطرابلس، بتنظيم عقاري حديث. وفي المقابل لم يكتمل المسح في كامل منطقة الجبل الوسطى؛ بينما ظلّت المناطق الجبلية المرتفعة غير ممسوحة.

43إن كشف النزاعات العقارية وتحديد أماكنها، بالإضافة إلى الانتهاء غير المكتمل للمسح العقاري، يسلّط الضوء على عملية التشكل الجغرافي الوطني للأراضي اللبنانية من قبل سلطات الانتداب، وبعد ذلك من قبل الدولة اللبنانية المستقلة. وأدت طبيعة هذه العملية إلى تدخل العديد من ذوي المصالح داخل الحكومة (القضاء والجيش) ومختلف الجهات الفاعلة في القطاع الخاص. ومن بين الفاعلين المؤثرين في عملية وضع حدود الدوائر العقارية والعقارات، نجد السكان وملاك الأراضي، وفي بعض الحالات الجماعات الدينية أو الريفية. وتدل النزاعات التي لم تحل على مدى نفوذ هذه الأطراف المؤثرة، التي كانت تدافع عن مصالحها ضد منطق الدولة ومشاريعها. وعوضاً عن أن تكون هذه العملية تنفيذاً مستمراً ومنهجياً وعقلانياً لبناء نسيج قانوني غايته ضمان الملكية، فإنها بدت وكأنها تتبع بشكل عام المصالح المباشرة للمستعمر، الذي كان لا يهمه سوى تحسين وضع الأراضي الجيدة في السهول الزراعية وفي المدن. وتوضح العرقلة الملحوظة منذ عام 1945عدم قدرة الدولة على فرض النظام على أرض الواقع.

44إن سلسلة النزاعات العقارية، التي كشفتها عملية وضع الحدود، تسمح أيضاً بالتساؤل عن عملية البناء الوطني الجغرافي للأراضي اللبنانية التي تركت بعض { الثغرات  » في تشكل الأراضي اللبنانية، والتي يستحيل نسبتها لأي تجمّع سكّاني. وتؤدي هذه الثغرات إلى وجود غموض قانوني بالنسبة للعمليات العقارية الجارية فيها. ويشبه هذا الوضع حالة التجمعات السكانية التي لم يكتمل ترسيم حدودها. ولا يمكن لهذه العمليات أن تتم إلا تحت إشراف موظف من السجل العقاري، وهي على كل حال مشوبة بالريب والعشوائية. وقد أدى عدم اكتمال وضع الحدود العقارية ونقاط الارتكاز للملكيات العقارية إلى وجود وتطور إجراءات مبهمة ومهينة بالنسبة لقانون الأراضي. ويدعم هذا الغموض التعقيد العقاري، ويزيد من هامش التفسيرات والاحتجاجات وحتى تحايل مختلف الأطراف الفاعلة؛ وبالتالي يزيد من المنازعات التي تضعف فيها إمكانات تدخل الدولة، مما يؤدي إلى إمكان تدخل أطراف أخرى، ووضع قواعد مختلفة، وحتى إلى فرض الأمر الواقع.

45وأكثر ما هو معبر أيضاً عن هذه العلاقة الغامضة بالأرض، والتي تدل على عدم وضوح تسجيل أراضي الدولة، هو استمرار النزاعات العقارية على الحدود مع سوريا حتى الآن. والنزاع الأساسي هو ذاك المتعلق بمزارع شبعا، وهي أراضٍ جبلية تبلغ مساحتها 25 كم2، يضاف إليها أرض النخيلة المجاورة المتنازع عليها أيضاً، لتصبح المساحة الإجمالية 38 كم2. وتظهر هذه المنطقة على معظم الخرائط الرسمية السورية واللبنانية كأرض سورية. إلا أن السجلات العقارية تؤكد طابعها اللبناني. وقد كان وراء هذا الوضع خطأ ارتكبته مصلحة الخرائط في الجيش الفرنسي، عندما رسمت الحدود في السنوات 1920. وقد كانت السلطات الفرنسية تعترف بهذا الخطأ، إلا أنها لم تعدل تلك الخرائط في حينه، وهي ما زالت مصدر نزاع حتى الآن. وقد مارست السلطات السورية سلطتها في مزارع شبعا حتى عام 1967، وهو تاريخ احتلال إسرائيل لها. ولم تقم أية لجنة سورية-لبنانية بترسيم الحدود أبداً. ويسمح هذا الوضع حالياً بجعل قضية مزارع شبعا أحد عناصر الخلاف في الصراع الإسرائيلي مع لبنان. لقد احتلت إسرائيل هذا القطاع في عام 1967، عند احتلالها للجولان. وفي عام 2000، انسحبت إسرائيل من لبنان، لكنها ظّلت تحتل قطاع مزارع شبعا. وتؤكد السلطات اللبنانية أن مزارع شبعا هي أراض لبنانية محتلة وأن الاحتلال الإسرائيلي لم ينته كلياً. كما استمر حزب الله في حضوره في هذه المنطقة من خلال عملياته العسكرية المتكررة.

46إن تداخل الحدود السياسية الرسمية التي اعتمدها الجيش اللبناني مع حدود المناطق العقارية، التي وضعتها دائرة السجل العقاري، قد أدى إلى ظهور سلسلة من المناطق ذات الصبغة القانونية الغامضة التي تشبه مزارع شبعا، وذلك بالرغم من أن مساحتها أصغر بشكل عام : مناطق تعود من الناحية العقارية إلى مناطق عقارية لبنانية، ولكنها تقع خارج الحدود اللبنانية؛ أو مناطق سورية من الناحية العقارية ولكنها تقع ضمن الحدود اللبنانية؛ أو أراضٍ لبنانية من الناحية العقارية وخط الحدود، ولكن سورية تعتبرها لها. وتشكّل بعض هذه المناطق مصدراً لبعض المشاكل الحدودية الصغيرة منذ الانسحاب السوري في شهر أيار من عام 2005؛ ذلك لأن القوات السورية مازالت موجودة فيها (كفرقوق، مزرعة دير العشائر، عرسال، القاع...). ومن جهة أخرى، هناك بعض القرى أو القطاعات الحدودية التي تعيش في حالة انسجام كلّي مع سورية ويصعب الوصول إليها من لبنان، كقرية الطفيلة التي لا يربطها طريق معبّد بالبقاع إلا منذ عام 2001 فقط.

47وكنتيجة مباشرة لهذه الإشكالات، أصبح من الصعب معرفة مساحة البلاد بدقة. فشعار 10452 كم2، الذي أطلقه بشير الجميل في عام 1982، والذي تأخذ به حالياً مختلف الأطراف الفاعلة، يبدو متناقضاً مع بعض المصادر الأجنبية أو الرسمية. فالدراسات التي قام بها المجلس الوطني للبحوث العلمية، أو تلك التي وضعها خبراء الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، وكذلك وزارة الزراعة، تتبنى مساحة مقدارها 10250 كم2.

إدارة الأراضي واللامركزية

48تشهد التحولات المتتابعة للتقسيمات الإدارية في لبنان على تحولات جهازها الإداري، وعلى الرهانات المناطقية المحلية الخاصة بآلية العمل السياسي للجمهورية اللبنانية. في لبنان يمكن تمييز مستوين إداريين : المحافظة بمركزها الذي يضم خدمات الدولة التي يديرها المحافظ، والمستوى الثاني هو القضاء الذي يضم بعض الخدمات الإدارية التي يديرها القائمقام (الشكل 1-16).

49ويظهر في تكوين لبنان ثلاثة إصلاحات إدارية متتابعة بين عامي 1920 و1930. ففي قرار انشاء لبنان الكبير، سيطرت بشكل أساسي استمرارية التقسيم المناطقي العثماني، بالرغم من اختفاء صفة الولاية. فقد بقيت لمدينتي بيروت وطرابلس الكبيرتين صبغة مستقلة. وفي المناطق الأخرى، استمرت المحافظة على نظام الأقضية القديم. وفي عام 1925، قام الحاكم الفرنسي موريس ساراي (Maurice Sarrail) - الذي كان مصمّماً على وضع الإطار للدولة اللبنانية الجديدة - بوضع إصلاح يهدف، في نفس الوقت، إلى تبسيط التسلسل السابق وإلى تحطيم التقوقع الطائفي في البلاد. على سبيل المثال، تمّ جمع قضاء واسع واحد، هو قضاء طرابلس، ضمّ كل مناطق الشمال، بما فيها منطقة زغرتا؛ ولقد تقبل السكان الموارنة هذا التبديل على مضض. ورغم ذلك منح ساراي المدينة المسيحية دير القمر، الواقعة في الشوف، مرتبة الناحية (تقسيم إداري عثماني الأصل، يمثل مستوى أدنى من القضاء). وفي عام 1930، وبعد أن أصبح للدولة دستورها في عام 1926، وضع الإصلاح الجديد أسس التقسيم الحالي. وعرف هذا التقسيم بعض الخصوصيات الحساسة التي أخذت بعين الاعتبار، كاستقلالية موارنة الشمال المحلية. وبشكل عام، تعبر هذه المستويات الإدارية أيضاً عن المركزية المؤسساتية للبلد. فقد تمّ تكليف بعض الموظفين في المراكز المحلية، ولكن لم توضع لهم أية سلطة تمثيلية.

50وبعد الاستقلال الفعلي، في عام 1946، عملت الجمهورية الوليدة على خلق سلسلة من الأقضية الجديدة. وقد ارتبط هذا التكثيف للتقسيمات الحكومية بهدف مزدوج. فقد أعطى السلطات الجديدة، في بادئ الأمر، فرص وظائف أكثر في الإدارة؛ كما سمح التقسيم إلى عدد أكبر من الأقضية برفع مستوى التمثيل بالنسبة لمختلف المجموعات الطائفية، وأشكال التوزيع التي يستفيدون منها. ويتوافق تقسيم جنوب لبنان إلى محافظتين (النبطية وجنوب لبنان)، في عام 1975، مع هدف دعم مكانة الدولة في الجنوب، تلك المنطقة التي ظلت لوقت طويل مهملة، والتي كانت تعتبر أفقر منطقة في هذا البلد.

51ويعبر إنشاء محافظتي عكار وبعلبك-الهرمل، في عام 2003، عن منطق التنمية المتوازنة، وهو المبدأ الذي يندرج ضمن اتفاقيات الطائف التي وضعت حداً للأزمة اللبنانية. وتتطابق هذه الإجراءات الإدارية مع الرغبة بجعل خدمات الدولة بمتناول أكبر عدد من السكان في المناطق المأهولة ضعيفة الارتباط بمراكز المحافظات التي تتبع لها (طرابلس وزحلة). ولكن التنمية المتوازنة تكتسب أيضاً معناها من منطق التوازن الطائفي. وهكذا أصبحت بعلبك مركزاً لمنطقة ذات أغلبية شيعية، كانت تتبع من قبل لمدينة مسيحية (زحلة).

52ولا يمكن تفسير التقسيمات الإدارية، المضغوطة أكثر فأكثر، كمؤشر على السيطرة المتصاعدة على الأراضي اللبنانية فقط، فالأمر يتعلق أيضاً، أو بالأحرى أكثر، بأداة قبول وتحسين وضع الكتل الاجتماعية المحلية والعائلات الكبيرة والجماعات الطائفية، بالإضافة إلى أنها قناة لإعادة التوزيع لمصلحتها.

53ويمكن التأكد من ثقل مركزية الدولة في إدارة الأراضي بشكل واضح عندما نأخذ بعين الاعتبار عمل البلديات. فإن إنشاء بلدية في لبنان مشروط بطلب يقدمه أهالي مركز سكاني ما، يتمتع بشرط الحجم (300 نسمة) وبموارد ضريبية. وعلى عكس بعض البلدان مثل فرنسا، حيث يشكل التجمّع السكاني وحدة الأساس للتراب الوطني، فإن البلديات في لبنان لا تشكل امتداداً واحداً متكاملاً للبلد. وهكذا فإن الخارطة تؤكد وجود بقع ومناطق لا تستفيد من صفة البلدية. وعلى مستوى البلد، تمّ تغطية أكثر من ثلاثة أرباع مساحته ببلديات، مقابل الثلثين فقط في عام 1998 (الجدول رقم 1). ويختلف هذا الوضع كثيراً بحسب المناطق. وبشكل عام، فإن وسط البلاد، أو جبل لبنان باستثناء قسم كبير من قضاء جبيل، مغطى بالبلديات بشكل واسع. أما الأطراف فهي تضم عدداً أقل من البلديات، لاسيما محافظات الشمال والجنوب. وليس من السهل تمييز فروقات جغرافية واضحة بين الساحل والجبل، وذلك بسبب تنوع الأوضاع المناطقية. وفي غياب البلديات، يتكفل القائمقام بتأمين الإدارة اليومية.

54والنظر في تاريخ إنشاء البلديات يعبّر عن إرادة السلطة المركزية تزويد المناطق بسلطات محلية للإدارة. (الشكل 1-17). وتعود حركة إقامة البلديات إلى فترة التنظيمات في العهد العثماني، أي إلى عصر الإصلاحات المرتبطة بالتحديث الذي بدأه الباب العالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فلقد أسست أول بلدية في جبل لبنان في عام 1856 في دير القمر؛ ثم، وبشكل تدريجي، نالت المدن الرئيسية والتجمعات المُدُنية الهامة هذه الصبغة. لاسيما بيروت في عام 1870. وفي عهد الانتداب الفرنسي، ثم في عهد الاستقلال، كان انتشار البلديات بطيئاً، وغير متساوٍ، ويتميز بالقفزات، لاسيما في عملية الإنشاء السنوية، وفي المحصلة ظل عدد البلديات المنشأة قليل الأهمية.

 55كان عهد الرئيس شهاب هو العهد الذي شكّل قفزة هامة في هذا التطور، وذلك بمنح صفة البلدية إلى عدد كبير من المراكز السكانية. وصدر قرار جديد لإدارة البلديات في عام 1962، سمح بتنظيم الانتخابات البلدية في عام 1963. وقد رافقت هذه السياسة حركة تجهيز البلد بالخدمات العامة، وسياسة إقامة مراكز جذب الاستثمار العام إلى المناطق، بعد الأعمال التي قامت بها بعثة إرفد IRFED (انظر الفصل 7). ومع ذلك، لم يتم تنظيم انتخابات بلدية بعد عام 1963 إلى عام 1998، وهذا مؤشر على الحذر الذي تعاملت به الحكومات التي أعقبت عهد شهاب مع السلطات المحلية. وخلال الحرب الأهلية، توقفت العديد من البلديات عن العمل، وذلك بسبب الاضطرابات والدمار الذي عمّ البلد، ولكن أيضاً بسبب وفاة أو هجرة أعضاء من المجالس البلدية. وعشية الانتخابات الجديدة التي نظمت في عام 1998، كان حوالي نصف المجالس البلدية متعطل عن العمل (الشكل 1-18). أي أن المستوى المحلي، وحتى زمن قريب، لم يكن يحسب له حساب كبير في إدارة الأراضي.

56قد تميزت انتخابات 1998، ثم تلك التي تمت في عام 2004، بإنعاش مؤسسة البلدية، وهو ما ظهر بشكل خاص من خلال إقامة بلديات جديدة شملت العديد من القرى، لاسيما في جنوب البلاد (الجدول رقم 1 والشكل 1-17). ومن جهة أخرى وضعت اتفاقيات الطائف في مقدمة المهام المطروحة ضرورة اعتماد اللامركزية في البلاد، ولقد عقد المانحون الدوليون الكثير من الآمال على ذلك، بالرغم من أنه، على أرض الواقع، لم يتمّ أي إصلاح في هذا الميدان.

57ومع ذلك، تواجه البلديات عقبات كثيرة. فنموها يترافق، لا سيما في المناطق الريفية، مع تفتيت الأراضي الذي يمكن أن يعزز المناقشات المحلية وعودة الديمقراطية، ولكنه يثير مسألة الموارد المالية والبشرية لهذه المجتمعات، خاصة وأنها تظل تحت الإشراف الإداري والمالي لوزارة الداخلية المسؤولة عن الشؤون البلدية والقروية. أما بالنسبة لبرامج الاستثمار، فإن القسم الأعظم من هذه البرامج يقرّره مجلس الإنماء والإعمار.

58إن التعاون بين البلديات، الذي ينص عليه القانون من خلال إقامة اتحادات البلديات، يسمح بالتأكيد بالتشارك في العديد من المهمات، مثل جمع القمامة وإصدار رخص البناء، وما إلى ذلك. لكن على الرغم من بعض المستجدات الأخيرة، فإن هذا التعاون لا يغطي، في الواقع، إلا جزءاً صغيراً من التراب الوطني (الشكل 1-19). وحتى عندما توجد البنى الهيكلية، فإنها لا تملك سوى القليل من الإمكانات. وهي في بعض الأحيان لا تمتلك التجاور الجغرافي، هو واقع يطرح التساؤلات فيما يتعلق بفعالية آليات الإدارة المقترحة.

59وتشدد جميع هذه الخرائط على ضعف الأطر الإدارية والإمكانات على المستوى المحلي. وتفسر الحرب وتعطيل الحياة الديمقراطية، بالإضافة إلى طريقة عمل الدولة، هذا الواقع بشكل جزئي. ومع ذلك، يجب ذكر أسباب أخرى، لأن هذه الحالة قد تتجذر على المدى الطويل. ففي البداية، باستثناء الفترة الشهابية، لم تظهر الدولة اللبنانية أبداً حرصها على تشجيع ظهور هذه التجمعات المحلية وتأطيرها، أو تنظيم الانتخابات الدورية. ولقد ظلت محاولات التحديث، التي يترجمها إنشاء الاتحادات، محدودة للوهلة الأولى بسبب ضعف انتشارها الجغرافي وضعف الإمكانات المالية لهذه التجمعات.

60في إطار هذه الأفكار حول علاقة الدولة بالامتداد الجغرافي لبنان، تبدو مسألة المناطق الإحصائية مفيدة لدرجة أنها تحدد إمكانية القيام بدراسة ما، بما فيها وضع هذا الأطلس للبنان. ومن الضروري الإشارة في هذه المرحلة إلى أن خرائط شبكة الدوائر العقارية والبلديات لم تكن موجودة كما هي الآن في الإدارات الحكومية في منتصف سنوات التسعينات. إن أحد الأهداف التي تمت متابعتها منذ بداية هذا المشروع كان إعادة تشكيل هذه الخرائط بالاعتماد على التقاطع بين مجموعة متنوعة من المصادر. وتجدر الإشارة في الوقت نفسه إلى ندرة المصادر الإحصائية على مستوى الوحدات الإدارية الأساسية، المتمثلة بالدوائر العقارية أو بالبلديات. وتوضح هذه النقطة من جديد تباعد العلاقة بين الدولة وأراضيها. وهذا دليل على بناء وطني معقد ومكبوت. وبالإضافة إلى ذلك، فهذه المعلومات إن وجدت، ليست متاحة للجمهور.

61لقد وضعت إدارة الإحصاء المركزي تقسيماً مناطقياً لتستعمله في نشر هذه البيانات (الشكل 1-20 : أ). وهذا التقسيم، الذي يتكون من 99 وحدة، يميز على وجه الخصوص المدن عن الأقضية، وأحياناً يضع طوقاً من الضواحي حولها، كما يميّز العديد من المناطق الفرعية في القضاء، وذلك بحسب التدرّج الجبلي (كقضاء جبل لبنان). إذا كان هذا التقسيم لا يملك أية قيمة إدارية، فهو مع ذلك ذو أهمية كبيرة. فهو يسمح بنشر البيانات على مستوى تجميعي أكثر دقة من القضاء بكامله. ذلك لأن الأقضية تقدم نسيجاً غير مناسب لوضع الخرائط، لاسيما بسبب عدم التوازن الشديد في الحجم السكاني الناتج عن التضاريس. وفي هذه الحال يمكن أن تكون النظرة الجغرافية أقرب إلى الواقع. ومع ذلك، فإن التقسيم الذي اعتمدته إدارة الإحصاء المركزي يتضمن أيضاً بعض العيوب. ففي بعض الحالات (النبطية، على سبيل المثال) نجد أن المناطق لا تتواصل. وفي نقاط أخرى (كسروان) لم يُجمع الساحل في وحدة متصلة ومتجانسةً. وأخيراً، فإن المحيط العمراني، لاسيما في الضواحي، لا يتناسق دائماً مع التوسع الحقيقي للتجمعات العمرانية.

62ومن الممكن تحسين هذا التقسيم. فالخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية (SDATL) تميز وحدات مورفولوجية متجانسة من حيث المشهد الطبيعي ومن حيث العمران. فقد تم اختيار ستين وحدة تتمتع بهوية قوية. ومع ذلك، فإن التقسيم المعتمد من قبل هذا المخطط لا يتوافق مع التقسيمات الإدارية (الشكل 1-20 : ب) ولهذا فإن هذا الأطلس يستخدم تقسيماً ثالثاً يتكون من 122 وحدة، وهو يسعى في ذلك للحفاظ، في آن واحد معاً، على كل من المنطق الإداري والمنطق المورفولوجي (الشكل 1-21). إن الحالة الوحيدة لقفزة في المناطق الإدارية تتعلق بمراكز سكانية، مثل القلمون الواقعة في وسط قضاء الكورة، ولكن هذه البلدة السنية تتبع طرابلس. وفيما يتبع من هذا الأطلس حسب هذا التقسيم، تمّ دمج المعطيات المتوفرة على المستوى المحلي. فهذا المستوى الإحصائي يتميز بتقديمه مشاهدة جيدة.

 الفصل الثاني:لبنان والعولمة

p. 33-64

1لا يمكن اختصار لبنان بأرضه الصغيرة (الشكل 2-1) وخصوصياته الاستثنائية. وما يعطي أهمية فائقة لدراسة لبنان جغرافياً هو أنه - وعلى عكس بعض الدول الأخرى التي قد تعيش في شبه اكتفاء ذاتي - لا يمكن فهم هذا البلد دون الأخذ بعين الاعتبار علاقات حيوية تربطه مع جيرانه ومع العالم. وبهذا المعنى نرى أن لبنان هو حالة نموذجية لظاهرة العولمة، بسبب انفتاحه على الخارج منذ القدم، على الأقل بالقضايا المدنية، ولن نعود هنا إلى العصر الفينيقي. لقد شكل سكانه منذ القديم تجمعات اغتراب مستمرة حتى الآن. في البداية حول البحر المتوسط، ثمّ في الآفاق الأبعد. لقد لعبت سوق بيروت دوراً محورياً في التبادلات الاقتصادية والثقافية. وكانت هذه المدينة من أهم المراكز المصرفية في الشرق.

2وتتميز العولمة الحالية ليس فقط بتزايد كبير في كمية التبادلات بأشكالها المختلفة، ولكن أيضاً بالميل إلى التمييز بين المناطق وترتيبها. وتحمل العولمة عدداً من الفرص الجديدة، ولكنها تتضمن أيضاً بعض المخاطر. وفيما يخص لبنان، فإن الانفتاح التجاري يقابله التبعية المالية لرؤوس الأموال الدولية. ويشكل توفر رؤوس الأموال والموارد المرتبطة بالاغتراب تعويضاً جزئياً لعدم التوازن في اقتصاد البلد، الظاهر في الدين الحكومي الخارجي المتزايد والمقلق.

3وتواجه مكانة لبنان على الصعيد الإقليمي الهشاشة ذاتها، فمن خلال دوره كنقطة تغلغل مفضلة للرأسمالية الغربية، وكمحطة نحو الدول العربية الأخرى، وكمركز مالي محوري، فإن لبنان يعاني اليوم من التأثيرات المتراكمة لتهميشه خلال الحرب الأهلية وتحول الحركة الاقتصادية لمصلحة دبي التي أصبحت بوابة الدخول الإقليمية الجديدة في المنطقة.

اللبنانيون في المهجر

4لا تتوفر لدينا أرقام موثوقة حول عدد اللبنانيين الموجودين خارج لبنان، كما أنه من الصعب تعريف كلمة مغترب نظراً لتنوع الحالات: من أشخاص لديهم الجنسية اللبنانية ويقيمون بشكل دائم في الخارج، إلى أحفاد لبنانيين لم يعد لديهم الجنسية اللبنانية ولكنهم يشعرون بارتباطهم الثقافي بلبنان، مروراً بالمهاجرين الذين يمضون جزءاً من العام في لبنان… إلخ. وتتحدث تقديرات غير واقعية عن رقم يقارب17 مليون مغترب، وهو ما يعتبره الديموغرافيون غير منطقي، مقارنة مع عدد السكان اللبنانيين المقيمين في لبنان الذين كان يبلغ عددهم 4 مليون نسمة تقريباً في عام 2001. وتتحدث تقديرات أخرى، أكثر منطقية، عن عدد يتراوح بين 3 و4 مليون لبناني مغترب، بينهم الكثيرون ممن يمتلكون جنسية أخرى أو أكثر في الوقت نفسه. ومهما كان الرقم، فليس من الخطأ البدء بلبنانيي الخارج الذين يحتفظون بروابط قوية مع بلدهم الأصلي، بغض النظر عن انتماءاتهم المتعددة، والذين يشكلون نوعاً من الشتات (الاغتراب) الذي توحده العلاقات الثقافية والانتماء المشترك المستمر لأرض المنبت بالرغم من المسافة والتشتّت.

موجات الهجرة

5لقد انتشر سكان الساحل الشرقي للبحر المتوسط - قبل أن يطلق على البلد رسمياً اسم لبنان منذ 150 عاماً - على شكل موجات متتالية وغير منتظمة تزامنت مع الهجرات الدولية الكبيرة، التي طالت سكان أوروبا والمناطق المجاورة لها في القرن التاسع عشر. وترتبط أسباب هذه الحركة السكانية الكبيرة بالانفتاح الذي تأثرت به المنطقة والذي نتج بشكل أساسي عن احتكاك بالغرب ذي وجهين: وجه رجل الدين المبشّر الذي يجول البلاد بكل أنحائها وإلى أعماق وديانها، حاملاً معه التعليم الذي من شأنه تلبية الطموحات بالترقي الاجتماعي الذي لا يوفّره الاقتصاد المحلي، ووجه تاجر الحرير الذي أدخل اقتصاداً جديداً وخلق تبعية ونقاط ضعف ترتبط بتقلب الظروف وبأمراض دودة القز. كما ساهم بانفتاح المنطقة على العالم ثورة وسائل النقل التي سمحت بإمكانية الهجرة البعيدة غير النهائية خلال عمر المهاجر.

6تتالت عدّة موجات من الهجرة، وكانت ذروة الموجة الأولى في نهاية القرن التاسع عشر. بعد المجاعة الفظيعة التي نتجت عن حصار الإمبراطورية العثمانية الاقتصادي خلال الحرب العالمية الأولى. ثمّ كانت القفزة الثانية بعد إقامة نظام الإنتداب. وتناقصت الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية، ووصلت إلى مستوى منخفض في ستينات القرن الماضي

7ويبين (الشكل 2-2) المناطق التي هاجر إليها اللبنانيون في تواريخ عدة. وتشير أرقام العشرينيات ونهاية الخمسينيات من القرن العشرين إلى أن المهاجرين قد تجمعوا بشكل أساسي في مركزين: أمريكا الشمالية والجنوبية. وتشكل الولايات المتحدة الأمريكية أهم اتجاهات الموجات الأولى من المهاجرين. وفي أمريكا اللاتينية تعتبر البرازيل والأرجنتين من أولى الدول المستقبلة للمغتربين اللبنانيين. ولا يتميز اللبنانيون هناك عن أشقائهم السوريين والفلسطينيين الذين يطلق عليهم كلهم اسم «الشوام». وكان منهم العديد من رؤساء الجمهوريات لهذه البلدان، مما يدل على اندماجهم القوي في تلك المجتمعات. إلى جانب هذه الدول، نجد عدّة اتجاهات ثانوية مثل مصر، التي كانت في حالة إقتصادية مزدهرة فلجأ إليها العديد من المسيحيين غداة مجازر عام 1860. ولقد مكث فيها «الشوام»، كما كانوا يسمّون (نسبة لبلاد الشام)، حتى قيام الثورة الناصرية. كانت أوروبا في ذلك الوقت وجهة ثانوية جداً. ثمّ بدأت أستراليا بالظهور. وليس هناك تغيرات كبيرة بين هذين التاريخين، باستثناء زيادة أهمية أفريقيا، حيث رافق اللبنانيون الاستعمار الفرنسي ونشّطوا الشبكات التجارية فيها.

8قد تسببت الحرب الأهلية، بدءاً من عام 1975، بموجة ثالثة من الهجرة. ولافتقارنا حتى الآن لمعطيات - شبيهة بما تضمنته المصادر السابقة لكي نتمكن من دراسة توزع الموجة الأخيرة من المهاجرين في العالم - يمكننا الاعتماد على نتائج الدراسة التي قامت بها جامعة القديس يوسف، في عام 2001، عن الذين هاجروا بعد 1975 وما زال لديهم أقارب في لبنان. وتشمل هذه الحالة حوالي 600,000 شخص. وتتوزّع الموجة الأخيرة من المهاجرين بشكل مختلف جداً عن الموجات السابقة. فهم لم يذهبوا إلى أمريكا اللاتينية بسبب الظروف الاقتصادية التي أصبحت مضطربة هناك. في حين ظلت أمريكا الشمالية تتمتع بجذبها القوي للمهاجرين. والجديد في تلك الفترة هو أن كندا باتت أكثر جاذبية من الولايات المتحدة الأمريكية. واحتلت دولة شابة أخرى، هي أستراليا، مركزاً متميزاً لهجرة اللبنانيين. أمّا الهجرة نحو الدول العربية، وخصوصاً إلى دول الخليج، فلقد كان لها خصوصية هامة في هذه الفترة الأخيرة من تاريخ الهجرة اللبنانية. إذ استطاع اللبنانيون بفضل تعليمهم المنفتح على الغرب وإتقانهم للغة العربية فرض أنفسهم في هذه الدول، إلى جانب الفلسطينيين وبنسبة أقل السوريين، وأن يعملوا كخبراء ووسطاء تقنيين وتجاريين في خدمة التطور الاقتصادي للدول النفطية. أما الآفاق الأخرى للمغتربين اللبنانيين فكانت بالدرجة الأولى أوروبا الغربية، وبدرجة أقل أوروبا الشرقية وإفريقيا. وقد استقبلت أوروبا الغربية، الأقرب إلى لبنان، بشكل خاص العائلات ذات المستوى الجيد. في حين أن إفريقيا وأمريكا كانتا أكثر انفتاحاً من الناحية الاجتماعية.

9لم تتوقف الحركة بين هذه الوجهات العديدة ولبنان؛ والعودة إلى الوطن الأم ما زالت شائعة أيضاً. وترتبط الهجرة غالباً، وخصوصاً المعاصرة منها، بمرحلة من عمر الإنسان، هي الفترة المرتبطة بجمع المال والزواج. وتشير دراسة جامعة القديس يوسف بهذا الصدد إلى أن 7% من سكان لبنان المقيمين قد جربوا الهجرة قبل العودة إلى البلاد. ومن الصحيح أيضاً أن وجهات الهجرة لا تملك كلها الدرجة نفسها من الترحيب بالمهاجرين. فالعودة من الدول العربية، حيث الحصول على الجنسية صعب جداً، ومن إفريقيا، كبيرة جداً بالمقارنة مع العودة من مناطق العالم الأخرى (الشكل 2-3). وهناك عاملان وراء هذه الظاهرة. يرتبط العامل الأول بالوضع الاقتصادي والسياسي لبلد المهجر. وهكذا، فإن إفريقيا تعتبر وجهة للشباب، ولمدة محدودة من الزمن. وتؤدي الاضطرابات السياسية فيها إلى عودة سريعة للقاطنين اللبنانيين. أما أوروبا الشرقية، فهي تستقطب الطلاب، ولكنها لا توفر الكثير من فرص الاندماج الاقتصادي. كما أن فرص الحصول على الجنسية الأجنبية غير متساوية بين البلدان المختلفة، فالدول العربية مثلاً لا تقدم للمغتربين اللبنانيين أي أمل بالاندماج، على العكس من أمريكا الشمالية وأستراليا أو حتى أوروبا الغربية، حيث يكون الحصول على جواز السفر هدفاً صريحاً للهجرة.

10تعتبر الهجرة في أغلب الأحيان ضرورة مفروضة على الفرد، ووسيلة لتجاوز مساوئ الاقتصاد اللبناني. لكنها تمثل أيضاً فرصة ومورداً للعائلة. ويعتبر عدد حاملي الشهادات الجامعية الذين تابعوا جزءاً من دراستهم أو كلها في الخارج مؤشراً للاستراتيجيات الفردية لتحسين الوضع الشخصي من خلال الإقامة المؤقتة في الخارج (الشكل 2-4). وهكذا، فقد حصل 39% تقريباً من المهندسين و60% من الأطباء على شهاداتهم في الخارج. وتصل هذه النسبة إلى 75% فيما يتعلّق الأطباء الاختصاصيين. وهذا يدل على أن الهجرة تندرج في استراتيجيات، تمّ التخطيط لها مسبقاً، من أجل الترقي الاجتماعي. كما يؤكد اختيار مكان الدراسة وجود هذه الاستراتيجية: فبمواجهة المستويات المتفاوتة من التعليم الجامعي في لبنان، المكلفة كثيراً والمرتبطة بالسلم الاجتماعي، يرتبط اختيار الأماكن المقصودة للدراسة مع الاعتبارات الاقتصادية. وهكذا فإن الحصول على شهادات الطب والهندسة من دول أوروبا الشرقية (27% من الأطباء و8% من المهندسين، أي خمس المهندسين الذين حصلوا على شهاداتهم في الخارج) ينتشر أكثر بين أبناء الطبقات الوسطى والشعبية الذين يستفيدون من تكاليف منخفضة للدراسة في تلك الدول؛ إلاّ أنهم يعانون بذلك، وهذا صحيح، من التشكيك في كفاءاتهم المهنية ومن استعلاء اجتماعي من قبل زملائهم.

مسارات الهجرة المتعدّدة

11يعمل الاغتراب اللبناني بحسب منطق الشبكات، التي تربط بين أطرافها في وجهات الهجرة المختلفة والتي تحافظ على الارتباط بلبنان. في الأساس، يعتمد وجود الاغتراب على تفعيل العلاقات الاجتماعية والعائلية والجغرافية التي تبني وتحافظ على طرق هجرة منظمة وثابتة ولكنها لا تخلو من المرونة.

12وهناك مثالان يوضحان هذه الفكرة. يتعلق الأول بحالة بنت جبيل، وهي مركز قضاء في جنوب لبنان، توضح طريقة شبه حصرية للهجرة بين هذه المدينة وديربورن، ضاحية مدينة ديترويت في الولايات المتحدة، منذ الستينات. وديربورن هي بشكل عام مركز مهم للهجرة العربية في أمريكا الشمالية. فقد سمحت العائلات الأولى التي استقرت في ديربورن باستقرار العائلات اللاحقة، بالاعتماد على مبدأ التضامن العائلي. ثم أخذت الحركة حجماً أكبر مع اندلاع الحرب الأهلية، لكن ذلك ليس السبب الرئيسي في هذا السلوك، طالما أن الهجرة إلى ديربورن قد بدأت منذ ستينات القرن الماضي (الشكل 2-5).

13والمثال الثاني يتعلّق بحالة بشمزين، وهي مدينة أرثوذكسية في قضاء الكورة في شمال لبنان، وهي تمثل حالة معاكسة. فقد بدأت الهجرة في هذه المنطقة في بداية القرن العشرين، حيث سرعت المجاعة في الحرب العالمية الأولى حركات الرحيل. وتعدّد وجهات المهاجرين يدل على تنوّع الاستراتيجيات العائلية وإعادة هيكلتها مع الزمن. فلم تعد مراكز الهجرة في أمريكا الشمالية والجنوبية متشابهة في جذبها. فما زالت الولايات المتحدة جاذبة، إلا أن الهجرة غيرت من اتجاهها لتصبح نحو البلدان العربية وأستراليا (الشكل 2-6).

14وتوضح قصة العلاقات مع السنغال وجود طرق أخرى للهجرة وتطورها بحسب التغيرات الاجتماعية لبلد المهجر. وهكذا فقد أصبحت السنغال وجهة للعديد من المهاجرين اللبنانيين منذ مطلع عشرينات القرن الماضي، حيث جاء إليها في البداية الموارنة والروم الأرثوذكس، ومعظمهم كان من جبال لبنان الغربية؛ ثم الشيعة من جنوب لبنان (الشكل 2-7 أ). وفيما استقرت الطائفتين الأولتين في المناطق الريفية التي لها علاقة بتجارة الفستق، تمركز الشيعة في العاصمة داكار (الشكل 2-7 ب). وبعد الحرب العالمية الثانية والاستقلال، تركّزت الهجرة في داكار، بسبب التطور العمراني في البلاد والترقي الاجتماعي لأفراد الجالية اللبنانية. ورغم توقف الهجرة من لبنان إلى السنغال، إلاّ أنها ما زالت تضم جالية تتألف من بضعة آلاف، استطاع قسم منهم أن يقيم علاقات وثيقة مع فرنسا وحصل أحياناً على الجنسية الفرنسية. كما أن السنغال هي نقطة انطلاق نحو وجهات أفريقية أخرى. ويعاني المغتربون في بعض الدول الأفريقية من عواقب الاضطرابات والحروب الأهلية (مثال زائير وسيراليون وساحل العاج) وهم مضطرون للعودة، أو الرحيل إلى أماكن أخرى في أفريقيا، أو غيرها من مناطق تواجد اللبنانيين. فالمهجر هو بالتالي فضاء متحرك.

الاغتراب كمجموعة شبكات

15يمثل وجود الاغتراب، بالنسبة للعديد من الأطراف الفاعلة اللبنانية، رهاناً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، يضع موضع تساؤل وحدة الوطن، أو وحدة المجموعة التي يمثلونها. لذلك تشكل السيطرة النسبية على المجموعات المغتربة تحدٍ يبرر بذل الجهد على المستوى العالمي.

16وتعتبر الدولة اللبنانية أن المغتربين هم ثروة ومخزون ادخاري جاهز للاستخدام في لبنان عند الحاجة، فأنشأت المديرية العامة للمغتربين.

17تمتد الشبكة الدبلوماسية اللبنانية كثيراً، بشكل خاص بالمقارنة مع صغر حجم لبنان (الشكل 2-8). وتعود أهميتها جزئياً إلى أن الدولتين المجاورتين للبنان، سوريا1 وإسرائيل، لا تقيمان علاقات دبلوماسية معه، وذلك لأسباب مختلفة جداً. فإسرائيل، في الواقع، في حالة حرب مع لبنان، وأي «اتصال مع العدو» معرض لملاحقة قانونية ويعامل على أنه خيانة. أما العلاقات بين سوريا ولبنان فبقيت، حتى انسحاب السوريين في أيار 2005، على شكل علاقة وصاية أكثر منها علاقة بين دولتين متكافئتين. وحتى هذا التاريخ كان المقر العسكري السوري، في عنجر في البقاع، يقوم بأعمال سفارة؛ وكان غالباً ما يطلق على رئيسه لقب «الوالي السوري». من جهة أخرى، كانت تذهب إلى دمشق وفود شبه يومية من الرجال السياسيين، لطلب الحظوة أو للتحكيم في النزاعات.

18تكمن الخاصية الهامة الأخرى للشبكة الدبلوماسية اللبنانية في وزن الاغتراب، الذي يمكن التعرّف عليه من خلال تأسيس القنصليات الفخرية. ويستلم مهامها عادة لبنانيون مزدوجو الجنسية في بلد إقامة عائلتهم، حيث يمثّلون المصالح اللبنانية، ويقع على عاتقهم بعض مهام السجل المدني؛ وهذا يخفف التكاليف بالنسبة للدولة اللبنانية. ويحصل القناصل الفخريون مقابل هذا المنصب على شهرة وسلطة لدى جاليتهم المغتربة. ويمكن قراءة خارطة الشبكة الدبلوماسية اللبنانية على أنها مكونة من طبقتين وظيفيتين؛ الأولى تمثل البنى الجغرافية السياسية، والثانية تعكس جزئياً تاريخ الهجرة اللبنانية. ويعتبر تواجد الهيئات الدبلوماسية التقليدية قوياً في أوروبا والدول العربية والإسلامية والدول الكبيرة، وكذلك في أهم دول الاغتراب اللبناني، كما هي الحال في إفريقيا الغربية. أما شبكة القنصليات الفخرية فهي كثيفة في مناطق الاغتراب القديمة، لاسيما في أمريكا الوسطى ودول وسط إفريقيا وغربها.

19وهناك نوع آخر من الشبكات مرتبط بالانتماء الطائفي. ولقد اعتمدنا هنا مثال الطائفة المارونية، لما يوفره نظامها المركزي وتقسيماته الجغرافية المطابقة للنموذج الكاثوليكي الروماني من تسهيلات في الحصول على المعلومات. ويتعلق الأمر هنا بكنيسة ذات أصل مشرقي يقع مركزها الروحي، أي البطريركية، في بكركي في قضاء كسروان. وتبدو مؤسسات الديانات الأخرى أكثر تشتتاً في جمعيات مختلفة، تحمل بذور التنافس.

20يبدو اليوم أن مركز الثقل الديموغرافي للطوائف المسيحية الشرقية، الأرثوذكسية والكاثوليكية، يتجه حالياً نحو دول العالم الجديد، خصوصاً الأمريكية. وتبين الأرقام العامة المتعلقة بعدد المؤمنين، التي ينشرها الفاتيكان، أن نصف الموارنة يعيشون في أبرشيات أمريكا وأستراليا (أي 1,6 مليون من أصل 3,1 مليون في عام 2004). إلا أن هذه الأرقام قابلة للنقد في تفاصيلها. وقد يكون معيار عدد القساوسة موثوقاً أكثر. وتضم الأبرشيات الخارجية نفسها 200 قس مدني وديني فيما يصل عددهم إلى أكثر بقليل من 1000 قسيس في الأبرشيات المركزية (الشكل 2-9). ويقوم البطاركة الشرقيون بجولات في مناطق الاغتراب بشكل منتظم. وتلعب هذه الطوائف دوراً متصاعداً في العالم الجديد في المجالات التمويلية والثقافية والسياسية. ولقد أنشئت عدة أبرشيات في تسعينيات القرن العشرين، وأصبحت اللغة الانكليزية هي اللغة المشتركة فيما بينها. وتحظى هذه الطوائف بنفوذ لدى الحكومات الأمريكية الشمالية وهي تمول في لبنان المدارس والجامعات والجمعيات المختلفة. وبهذا الصدد يمكن مقارنة الطائفة المسيحية بالطائفة المسلمة التي لا يشكل مغتربوها حالياً وزناً ديموغرافياً أو ثقافياً أو سياسياً يمكن مقارنته بذلك الذي تملكه الطوائف المسيحية.

21ونجد في تنظيم الطائفة المارونية في الاغتراب ترتيباً طبقياً تاريخياً (الشكل 2-10). وتتقاسم الأمريكتين ست أبرشيات تخدم 107 رعية، وتشكل نداً لمنطقة المركز. يقابل ذلك في المشرق، حيث يمكن إحصاء 12 أبرشية في لبنان وواحدة في قبرص وواحدة في الأردن واثنتين في فلسطين وثلاث في سوريا، وعدد إجمالي من القساوسة بلغ 1008 في عام 2004. وتشكلت في مصر، حيث استقر أوائل المهاجرين المسيحيين، أبرشية مستقلة. وبين هاتين المنطقتين، تظل أوروبا وإفريقيا والخليج العربي تحت سلطة البطريرك اللبناني المباشرة، وهو يبعث إليها زائرها الرسولي بانتظام. وتتهيكل الطائفة بواسطة الكنائس، التي تشكل أحياناً رعيات رسمية، وبواسطة أديرة أنشئت بحسب الإمكانات والاحتياجات. وتخدم الأديرة أفريقيا. وفي أوروبا وإيطاليا (خصوصاً في روما) هناك العديد من الأديرة التي هي علامة للروابط الوثيقة بين الموارنة والبابوية. وخارج هذه المناطق، قد لا تملك الطوائف المارونية مكاناً خاصاً بها دوماً، في هذه الحالة تستضيفها كنائس محلية ذات نفوذ متراجع.

22هناك نوع آخر من شبكات الاغتراب مكوّن من الشركات اللبنانية في الخارج. بعضها يختص بمهمة ربط لبنان بمراكز الهجرة اللبنانية، كشركة طيران الشرق الأوسط (الشكل 2-11). إلا أن شبكة طيران هذه الشركة لم تعد تغطي اليوم سوى جزءاً صغيراً من مناطق الاغتراب، التي كثيراً ما تتذمر من هذا الوضع. ويعود سبب تقليص شبكة خطوط الشركة إلى اضطرارها لتنظيم نشاطها، نظراً لحجمها الصغير، بالإضافة إلى دخولها في تحالفات تجارية مع شركات أخرى. فقد أصبحت الشركة في عام 2006 عضواً في تحالف سكاي تيم (Sky Team) الذي تسيطر عليه الخطوط الجوية الفرنسية. والوجهات المفضلة للشركة هي الدول العربية في الخليج وفي المشرق العربي، وأوروبا الغربية. وكانت تستثمر خط باريس-بيروت بالتعاون مع الخطوط الفرنسية بمعدل ثلاث رحلات في اليوم2. وكانت طائرتان أسبوعيتان تؤمنان خدمات الجاليات اللبنانية في دول إفريقيا الغربية. ولربط لبنان بأمريكا وأستراليا، اعتمدت شركة طيران الشرق الأوسط على شركائها ضمن التحالفات التجارية الدولية.

23وقد مثلت المصارف نوعاً آخر من الشركات المختصة بالتبادلات بين لبنان والمهجر. ففي عام 2004 أحصت الجمعية اللبنانية للمصارف 29 مصرفاً لبنانياً و56 فرعاً لها في العالم، برؤوس أموال غالبيتها لبنانية (الشكل 2-12). ويبدو أن هذه المؤسسات تميل إلى التواجد في مراكز النشاط المالي في العالم، أي في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن يلاحظ غيابها في اليابان، حيث تملك وسطاء لها هناك. وتظهر خصائص شبكة المصارف هذه من خلال العلاقات بين الدول النفطية ولبنان، التي تركز على دور الوساطة المالية الذي تقوم به بيروت. وقد بقيت إفريقيا منسية من قبل البنوك اللبنانية، ومن المحتمل أن اللبنانيين الذين يملكون هناك مراكز تجارية عالية المستوى يتعاملون مع شبكات مالية أخرى، قد تكون غير رسمية، لإرسال جزء من أرباحهم إلى لبنان.

24ويعتبر لبنان إحدى الدول التي اضطرت للتعامل، بين عامي 2000 و2003، مع مجموعة العمل المالي المكلفة بمكافحة تبييض الأموال (GAFI)، وما زالت هذه الهيئة تراقب لبنان عن كثب بالرغم من أن الوضع أصبح طبيعياً.

25وتستفيد شركات أخرى من تنظيم اللبنانيين في المهجر. وهكذا، كان التطور الذي عرفته المجموعة اللبنانية-الأردنية دار الهندسة للاستشارات (شاعر وشركاه) التي أصبحت من أولى الشركات العالمية في هذا المجال، وهي تضم أكثر من ألف مهندس وتمثل عولمة منطلقة من الشرق الأوسط (الشكل 2-13). وقد ارتبط نجاح الشركة في البداية بهجرة الكوادر اللبنانية إلى دول الخليج، حيث أسست وطورّت نفسها تاريخياً. ولكن سرعان ما تجاوزت هذا السوق لتوجه أنظارها نحو المغرب العربي أيضاً، وكذلك نحو إفريقيا، خصوصاً في نيجيريا والغابون وبعد ذلك في أنغولا، وهي دول أصبحت ثرية بسبب النفط أيضاً. وإذا كان الاغتراب اللبناني لا يفسر لوحده هذا التطور السريع، إلاّ أنه قد ساهم فيه على الأقل. وخلال الحرب الأهلية اللبنانية توزّع مقر إدارة الشركة على عدّة مواقع، في القاهرة ولندن وبدرجة أدنى عمان، التي حلّت مؤقتاً مكان بيروت، حيث كان يقطن مديرها العام ومؤسّسها. وفي التسعينات، أعادت الشركة جزءاً من موظفيها إلى العاصمة اللبنانية، وذلك عندما تم تكليفها بتصميم العديد من ورشات إعادة الإعمار. وفي الوقت نفسه، عقدت الشركة تحالفات دولية تسمح لها بدخول منطقة المحيط الهادئ والولايات المتحدة، في الوقت الذي تابعت فيه نموها في آسيا الوسطى والجنوبية.

التبعية للعالـم

26يبدو أن الاقتصاد اللبناني، بمعنى ما، يتحدى كل منطق؛ فهو بعيد جداً عن تلبية الحاجات الداخلية، ويستهلك كميات كبيرة من المواد المستوردة. كما أن صادراته متواضعة تتراوح بين 10 و20% من الواردات (الشكل 2-14). إلاّ أن البلاد لم تجد حتى الآن أية صعوبة في تمويل هذا العجز التجاري والمصاريف العامة للحكومة، بواسطة مديونية عامة وخاصة وصلت إلى أرقام قياسية. ويعود هذا الوضع بشكل عام إلى المساهمة، التي يصعب حصرها من خلال المؤشرات المتوفرة، للمغتربين في الاقتصاد اللبناني من خلال تحويلاتهم المالية واستثماراتهم في لبنان.

التجارة الخارجية وشركاء لبنان الاقتصاديون والماليون

27تبيّن التبادلات التجارية في لبنان اندماجه في العولمة (الشكل 2 ـ 15). إن ميزان لبنان التجاري في عجز مستمر؛ وهو يعتمد بشكل كبير في مشترياته على شريكه الأول، الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن المستوردات من المواد الاستهلاكية (السيارات والأدوات المنزلية الكهربائية) تميل للتزايد من الدول الآسيوية خصوصاً من الصين. وتزود دول المنطقة لبنان بما يحتاجه من الوقود. وبما أن الزراعة في لبنان متخصصة وذات إنتاجية ضعيفة فهو يستورد أيضاً القمح والعديد من السلع الغذائية. وتتجه صادراته المتواضعة جداً نحو دول في الشرق الأوسط، وعلى الأخص إلى سوريا والعراق والإمارات العربية المتحدة والسعودية. وتأتي بعدها في الترتيب دول الاتحاد الأوروبي وسويسرا. ويحتل اللؤلؤ والحجارة الكريمة والمعادن الثمينة المركز الأول في قائمة الصادرات اللبنانية، لاسيما إلى سويسرا، وهذا مؤشر على أهمية صناعة الحلي والمجوهرات.

28ومن جهة أخرى، يصدّر لبنان أيضاً بعض الآليات والسلع المعدنية والكيماوية والصناعات الغذائية. كما تبين الخارطة التبادلات مع دول المهجر في أفريقيا والأمريكيتين.

29من الصعب تحديد وتقييم الاستثمارات الأجنبية في لبنان. ويحتل لبنان بالنسبة لحجمه موقعاً مميزاً للاستثمارات الأجنبية في المنطقة (الشكل 2-16). وتقدم قائمة الشركات التي نشأت في بداية القرن الواحد والعشرين في لبنان صورة عن الدول التي تنتمي لها هذه الاستثمارات في القطاع الخاص؛ وهي تنتشر في منطقتين رئيسيتين (الشكل 2-17). الأولى هي منطقة الشرق الأوسط: ويتعلّق الأمر هنا باستثمارات البناء والتجارة والصحافة ووسائل الإعلام الأخرى. وبالفعل كان لبنان يشكل في عام 2004 البلد الثالث للاستثمارات العربية بعد السعودية ومصر (الشكل 2-18). ولقد تناقصت هذه الاستثمارات، التي كانت كبيرة في التسعينات، ووصلت إلى حد أدنى في عام 2001. ومنذ ذلك الحين، حد العرب من استثماراتهم في أمريكا وأوروبا وأرسلوا رؤوس أموالهم إلى الشرق الأوسط مما أدى إلى زيادة كبيرة جداً في حجم الاستثمار. زد على ذلك أن النمو المستمر لعائدات النفط يغذي هذا السيل من الاستثمارات (الشكل 2-19).

30وباستثناء الاستثمارات العربية هذه، تشكل أوروبا المُورِّد الأساسي الثاني للاستثمارات، حيث تهتم شركاتها بقطاعي التجارة والخدمات بشكل أساسي. وفي أغلب الحالات نرى أن الاستثمار تقوم به مجموعة من الأشخاص يكون أفرادها لبناني الجنسية والآخرون أجانب، إن لم يكونوا جميعهم من أصل لبناني، على الأخص في الشركات القادمة من إفريقيا أو أمريكا الجنوبية. أخيراً تجدر الإشارة إلى استثمارات تقوم بها شركات مسجلة في مناطق الحماية الضريبية، مثل باناما والبهاما والجزر العذراء؛ وهي تظهر من خلال الشركات المصرح بها في وزارة التجارة، وتمثل حركة تجارية ومالية كثيفة (الشكل 2-17).

31ويشكل قطاع الخدمات المالية (بنوك وشركات تأمين) والسياحة مصادر هامة للدخل، لتعويض العجز التجاري البنيوي في ميزان المدفوعات. ويعتبر استيراد رؤوس الأموال عنصراً رئيسياً من عناصر الاستقرار المالي للبنان، وهو يقوم بوظيفة تمويل الاستهلاك المحلي. ومن المؤسف أننا نجهل الكثير عن هذه الحركة، سواء في حجمها أو في مصدرها.

ديون لبنان

32يتميز الاقتصاد اللبناني، على الصعيد الاقتصادي الكلي، بفارق كبير بين الإنتاج المحلي المقاس بالناتج المحلي الإجمالي، والاستهلاك. كان الاستهلاك يزيد عن الناتج المحلي الإجمالي عام 2002 بحوالي 20%. يعزى هذا الفارق إلى رؤوس الأموال التي يأتي بها أفراد الجالية اللبنانية في الخارج، على شكل استثمارات أو تحويلات للعائلات وإلى المديونية العالية التي تتعلّق في الوقت نفسه بالدولة وبالعائلات والشركات. ففي عام 1995، كانت الدولة مسؤولة عن عجز الميزانية الجارية بنسبة 48%، في حين كانت البقية للعائلات والشركات، وتبلغ 52%.

33وازدادت مديونية الدولة منذ ذلك الحين، وأصبحت مصدراً للقلق بالنسبة للأوساط السياسية والاقتصادية. فمن 38 مليار دولار في عام 2005، أي 180% من الناتج المحلي الإجمالي، استمرت المديونية بالتزايد، بسبب تكاليف إعادة البناء ورواتب وأجور الوظائف العامة. وينعكس هذا الحد الباهظ في المديونية في المرتبة العالمية الأولى التي يحتلها لبنان في ميزان الديون مقارنة مع الصادرات (الشكل 2-20).

34وتلتهم فوائد الديون حالياً جزءاً متزايداً من الموارد العامة. ومن أجل تخفيض التكلفة قرّرت الحكومة وضع الديون بالعملة الصعبة عوضاً عن الليرة اللبنانية، وذلك لأن فوائد الأخيرة كانت مرتفعة جداً (الشكل 2-21). ورغم أن هذه الديون تعود للبنوك اللبنانية في غالبيتها، إلا أن الدولة تعرّض نفسها بهذه الطريقة إلى المزيد من مخاطر تغيرات أسعار الصرف.

المساعدات الدولية

35ولا تخيف هذه المجازفة الأسواق، لاسيما وأن لبنان يسدد دوماً فوائد ديونه في الموعد المحدّد. ويستفيد لبنان بالإضافة إلى ذلك من مساعدات مالية، استثنائية بحجمها، من المنظمات الدولية والدول الحليفة والصديقة. وتكمن الأهمية الاستراتيجية للمنطقة وراء هذه العناية الخاصة للمانحين. فهناك عدة دول مجاورة تتلقى مبالغ مماثلة أو حتى أكبر، كالأردن على سبيل المثال (الشكل 2-22).

36ويبين الشكل البياني المتعلق بالمساعدات الخاصة بالتنمية وإعادة الإعمار، الموزّعة على لبنان بين عامي 1992 و2004، المكانة التي تحتلها دول الاتحاد الأوروبي، إن كان من خلال ما يرصده الاتحاد نفسه أو من خلال المساعدات الثنائية، حيث تحتل دولتا فرنسا وإيطاليا المركز الأول (الشكل 2-23). وتبدو دول الخليج العربي كدول مانحة ومقرضة هامة أيضاً، إن كان بشكل مباشر أو عبر المؤسسات العربية أو الإسلامية. ولقد سمح المؤتمر، الذي أطلق عليه اسم «باريس الثانية»، في تشرين الثاني 2002 بتأمين مساعدة إضافية تساوي 4 مليار دولار، يتكون معظمها من قروض جديدة وتقسيط جديد للقروض القائمة. وقدمت فرنسا بدورها 500 مليون دولار، وقد منحت هذه المساعدة لقاء وعود واهية بإجراء بعض الإصلاحات التي لم تنفذ قط، مما يدل على درجة الاعتبار العالية التي يحظى بها لبنان، وأهميته الاستراتيجية في نظر حلفائه، بالإضافة إلى الثقة الشخصية التي عرف رفيق الحريري كيف يبنيها، مما جعل اختفاؤه المأساوي يشكل قلقاً كبيراً حول مستقبل البلاد.

تحويلات المهاجرين المالية

37تشكل الهجرة بالنسبة للبنانيين مصدراً اقتصادياً أساسياً، بالرغم من التنديد اللفظي بها من قبل السلطات السياسية والاقتصادية. إنها تسمح عموماً للبنان بتحقيق توازنه المالي. ويشهد تركيب المداخيل في لبنان على أهميتها الحيوية كمساند للاستهلاك. وهكذا، تجاوز الإنفاق الوطني، في عام 2002، 20% من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر. وهذا واضح، خاصة بالنسبة للأثرياء من سكان لبنان، الذين يشكل دخل العمل في الخارج بالنسبة لهم 12% من متوسط الدخل في عام 1998، في حين أن نسبة كبيرة من »الإيرادات الأخرى«، لاسيما دخل رأس المال، مرتبطاً أيضاً بالخارج وبالاغتراب (الشكل 2-24).

38وبشكل عام، تشكل التحويلات المالية من المهاجرين لأسرهم، في جميع طبقات المجتمع، نسبة كبيرة من الدخل المتوفر. ووفقاً للمقارنة الدولية التي أجراها صندوق النقد الدولي خلال الفترة 1990-2003، فقد تلقى لبنان بشكل متوسط أكثر من ملياري دولار سنوياً، وهو ما يصنّفه، بشكل مطلق، تماماً بعد بلدان تضم عدداً أكبر بكثير من السكان، كالهند والمكسيك والفيليبين ومصر وتركيا (الشكل 2-25). وإذا حولنا ذلك إلى نسب مئوية من الناتج القومي الإجمالي، فإن لبنان يتبوأ المرتبة الثالثة في العالم لتحويلات العاملين في الخارج والتي تبلغ حوالي 25% من الناتج القومي الإجمالي. أو حجم مماثل تقريباً للتقديرات الوطنية المذكورة أعلاه. وهكذا فإن لبنان يصنّف بين البلدان الجزر، أو المعزولة (ليسوتو، وتونغا وساموا)، وكذلك بين البلدان التي عانت مثله من الهجرة بسبب الحروب الأهلية (البوسنة والهرسك وفلسطين)، ولكن أيضاً الأردن المجاور، الذي يشكل الفلسطينيون 50% من سكانه، والذي يعتمد اعتماداً كبيراً على عماله المهاجرين في دول الخليج.

العولمة ومسألة اللغة

39لبنان دولة ذات ثقافة عربية. وتستعمل اللغة العربية فيه في صيغتها العامية السورية-اللبنانية، وبصيغتها الفصحى الأدبية. ولقد ضمن التعليم، الذي بدأ منذ قرن، اندماج لبنان في كتلة ثقافية أوسع تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي. إلاّ أن استخدام لغات أخرى فيه شيء شائع، وهو يعبر عن تاريخ تتلاقى فيه العديد من التأثيرات الثقافية.

40وتستعمل اللغتين السريانية واليونانية لدى الطائفتين الصغيرتين الكلدانية والآشورية. وقد استخدمت اللغة التركية في لبنان لفترة زمنية طويلة، إلاّ أن استخدامها اليومي لم يعد موجوداً إلاّ في قرية واحدة في عكار. والأرمنية هي لغة جزء كبير من أحفاد الهجرة الأناضولية. ويتحدث اللاجئون الأكراد اللغة الكردية. أمّا الإيطالية المرتبطة بالتجارة مع جنوا والبندقية، بالإضافة إلى العلاقات مع البابوية، فقد كانت لغة منتشرة في المشرق لفترة طويلة ولكنها تراجعت بسرعة منذ عام 1850.

41والتنوع اللغوي هو أيضاً إرث تركته للبنان الغزوات الاستعمارية والتبشيرية، التي ارتبطت ببعضها البعض دون أن تختلط؛ بدءاً من فرنسا الكاثوليكية - التي لم تكن معاداة المؤسسة الدينية فيها مادة قابلة للتصدير أبداً - إلى البعثات البروتستانتية البريطانية أو الأمريكية. وقد انتشرت الفرانكوفونية بشكل واسع منذ فترة الانتداب، دون أن تطغى على اللغات الأخرى، لاسيما الإنكليزية. وحالياً، يوظف هذا التعدد للغات في إطار العولمة، وباتت الإنكليزية تنافس الفرنسية. ولقد جعل هذا التعدد من لبنان دولة جاذبة للشركات الأجنبية؛ كما أن اللبنانيين يستثمرون مهاراتهم اللغوية في هجرتهم في أوساط الاغتراب.

42على عكس ما يقال أحياناً، فإن تعليم اللغة الفرنسية واستخدامها ليسا في تراجع. فمازالت الفرنسية هي اللغة الأجنبية الأولى بالنسبة لـ 65% من الأطفال، الذين يتعلمونها أحياناً من المرحلة الابتدائية، أو حتى في الروضة (الشكل 2-26). وبسبب انتشار التعليم المدرسي، نجد أن معرفة اللغة الفرنسية لدى الأجيال الشابة هي اليوم أوسع مما هي عليه لدى الكبار: ففي عام 1994 كان 39,5% من شريحة الشباب، ما بين 15 و19 سنة، يتقنون الفرنسية بشكل جيد أو متوسط، مقابل أقل من 20% من شريحة الكهول ما بين 50 و54 سنة. وتتزايد قليلاً نسبة اختيار اللغة الإنكليزية كلغة أجنبية أولى. وتنتشر معرفتها بشكل أسرع من الفرنسية إلا أنها تبقى أقل انتشاراً. فنسبة 13,8% من اللبنانيين يتكلمون الإنكليزية ولا يتكلمون الفرنسية، وبالعكس فإن 28,5% من اللبنانيين يتكلمون الفرنسية ولا يعرفون الإنكليزية. ويبلغ مجموع اللبنانيين الذين يمكن اعتبارهم مؤهلين لاستخدام اللغات الثلاث، العربية والفرنسية والإنكليزية، 20,5% من اللبنانيين. وتصل هذه النسبة لدى شريحة الشباب، ما بين 15 و24 سنة إلى حوالي 30% (جامعة القديس يوسف 1995).

43إن الاختلافات المناطقية مهمة جداً: إنها تترجم في المقام الأول غنى السكان (الشكل 2-27). فسكان بيروت الكبرى يملكون مهارات لغوية أكثر. وفي جبل لبنان، تتميّز المناطق الدرزية والضاحية الجنوبية لبيروت، حيث توجد الأغلبية الشيعية، بمعرفة أكثر باللغة الإنكليزية مقارنة بالفرنسية؛ وهذا في جزء منه، مرتبط بالإرث الذي خلّفته البعثات التبشيرية البروتستانتية لدى الطائفة الدرزية. وحالياً، يتجه الشيعة أكثر فأكثر، وخصوصاً في جنوب لبنان، نحو تعلّم اللغة الفرنسية، وغالباً ما يفسر ذلك على أنه نتيجة هجرتهم القوية إلى إفريقيا الفرانكوفونية.

44وفي الوقت الذي تتفوق اللغة الفرنسية في مرحلة الدراسة الثانوية، نجد أن الوضع مختلف في المرحلة الجامعية. ويتميز المشهد الجامعي اللبناني بنسبة عالية من عدم التجانس (الشكل 2-28). فقد أنشأت البعثات التبشيرية في القرن التاسع عشر الجيل الأول من الجامعات البروتستانتية (الجامعة الأمريكية في بيروت، وبيروت يونيفرسيتي كوليج الذي صار أسمها الجامعة اللبنانية الأمريكية، الخ.). ثمّ أسّست البعثات الكاثوليكية في القرن التاسع عشر جامعة القديس يوسف (أو اليسوعية التي أسسها الأخوة اليسوعيون). وتأسست الجامعة اللبنانية تدريجياً بعد الاستقلال. وأنشئت في الستينيات جامعة كبيرة أخرى، هي جامعة بيروت العربية، التي ترتبط بجامعة الإسكندرية. وخلال الحرب الأهلية، قسّمت الجامعة اللبنانية إلى خمسة فروع مناطقية. وانتشرت العديد من الجامعات الخاصة. ونتج عن كل ذلك توسّع كبير لسوق الجامعات: 12,5% من السكان يملكون شهادة جامعية، و20% من جيل الـ 20-30 سنة يدرّس في الجامعة أو كان يدرس فيها عام 2001.

45تختار الجامعة لغة التدريس فيها بشكل حر، ولا توجد إحصائيات موثوقة في هذا المجال. هذا يعكس سياسات الجامعات وتنوع طلابها وأساتذتها. وعلى هذا الأساس من المألوف، في كثير من الأحيان، أن تستخدم عدة لغات في الوقت نفسه. وبشكل عام يبدو أن اللغة الفرنسية هي الأكثر شيوعاً. وهذا واضح في جامعة القديس يوسف وفي الجامعة اللبنانية، حيث العديد من الأساتذة يتقنون الفرنسية؛ والوضع أكثر تعقيداً بحسب الفروع ومستوى الطلاب. واللغة العربية هي لغة التواصل بين الطلاب عموماً. وما يلفت الانتباه هو التطور السريع للجامعات التي تدرّس باللغة الإنكليزية، خصوصاً الصغيرة منها، وليس الجامعات الكبيرة القديمة. هذه الجامعات والمعاهد الجامعية تدّعي أنها تقدّم للطبقة الوسطى حلاً بديلاً –تعرّض للعديد من الانتقادات- يعوض عن ارتياد الجامعة اللبنانية، التي أصبحت تعتمد التعليم كثيف الطلبة، والتي تتعرّض للكثير من الذم. تلعب هذه الجامعات على رغبة اللبنانيين في الهجرة، وجاذبية أمريكا (أو اوستراليا) لهم، كما هو واضح من خلال تسمياتها (راجع قائمة التسميات المختصرة، الشكل 2-28) وشعاراتها الدعائية (مثلاً شعار المنظور العالمي «A Global Perspective» بالنسبة لإحداها). وكذلك عموماً من خلال أنظمتها المشابهة لأنظمة الجامعات الأمريكية. كذلك تقف وراء تأسيس هذا التنوع الجامعي الرهبانيات المسيحية المختلفة التي تجد في المهجر التمويل اللازم للاستثمار في ميدان السياسات الجامعية، وعموماً في أوساط المغتربين القدماء. ومن خلال الوكالة الجامعية للفرانكوفونية يحاول مسؤولو الفرانكوفونية بناء عرض بديل، وتتطلّب هذه المهمة بعض التنازلات، إذ أن عدداً من المؤسسات المنتسبة للهيئة تدرّس بالإنكليزية علناً.

مكانة لبنان في الشرق الأوسط

46يشكّل الشرق الأوسط مقياساً أساسياً لفهم الانفتاح الخارجي للبنان وأشكال اندماجه في الاقتصاد العالمي. وهنا تساهم الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية في فهم التحولات التي تطرأ على الدور التاريخي للبنان كصلة وصل، أو كجسر، بين أوروبا وبشكل أعم الغرب من جهة، والشرق الأوسط العربي من جهة أخرى. ويكوّن شكل شبكات النقل مؤشراً دقيقاً في هذا الصدد. وبشكل عام، وبسبب طبيعة الاقتصاد اللبناني، حيث التجارة وتدفق الرساميل أهم بكثير من الإنتاج، وكذلك بسبب تطورات الاقتصاد العالمي الذي يمنح مكانة أكبر للمدن، لا يمكننا الخوض في هذا الموضوع بدون أن نتطرق إلى حالة بيروت وعملية تحولها إلى متروبول التي تعيشها حالياً.

تهميش بيروت

47الملاحظة التي تفرض نفسها هنا هو التهميش الحاصل لمدينة بيروت، والذي يمكن رؤيته في تطور تسلسل الشبكة العمرانية. لقد كانت بيروت متروبولاً للمشرق ووصلت إلى عتبة المليون نسمة في نهاية الستينات. ثم تباطأ نموها بسبب الحرب، ونظراً لتزايد عدد المدن في الداخل، وبسبب الهجرة، حيث وصل عدد سكانها إلى 1,6 مليون نسمة في عام 1996 داخل حدود «بيروت الكبرى» (1,9 مليون نسمة بحسب جيوبوليس عام 2000 Géopolis). وهي تظهر اليوم على أنها عاصمة صغيرة مقارنة مع عمان ودمشق، هذا حتى لا نقارنها مع القاهرة أو إستانبول أو الإسكندرية أو بغداد... كما أنها تراجعت مرتبتين على سلم المدن الإقليمية منذ عام 1975 بحسب جيوبوليس (الشكلين 2-29 و2-30).

48ولكن معيار الحجم لا يعبر بدقة عن دور المدينة الإقليمي. فوظائف نقل المسافرين والبضائع ستكون أكثر إفادة هنا. فالشبكة التي ترسمها شركة طيران الشرق الأوسط (MEA) تتماشى مع دور الوسيط الذي تلعبه بيروت في ربط الغرب مع المنطقة. ولكن، بعد أن كانت الشركة تسيطر على أجواء المنطقة، ظهرت منافسة المدن الأخرى؛ كذلك فإن ازدياد قدرة الطائرات على التحليق لمسافات أطول ساهم في تهميش العاصمة اللبنانية.

 49وتبيّن خارطة حركة الطيران في مطارات المنطقة (الشكل 2-31) أن بيروت لا تحتل سوى مكاناً عادياً في حركة النقل الإقليمية، وهي بعيدة عن أن تكون مركزاً لمطار ذي أبعاد دولية (hub)، فهي تتعرض لمنافسة دبي، مركز النقل الدولي في الإمارات الذي ينافس مطار بيروت بشدّة، ويتطور بسرعة كبيرة. وفي عام 2004 تجاوز عدد مسافري المطار في دبي - الذي يشهد أعمال توسّع مستمرّة والذي يلعب دور وكالة تجارية لكل دول الخليج - العشرين مليون مسافر. وهناك عدة مطارات في المنطقة تعلن عن عدد مسافرين أكبر بكثير من بيروت، كإستانبول والقاهرة وعدة عواصم مجاورة ذات الحجم المماثل. ويتناقض هذا الوضع مع ما كانت عليه بيروت في فترة مطلع السبعينات. ويمكن تفسير هذا التحول بالحرب الأهلية من جهة، ولكن أيضاً بسبب سياسات التحديث وتجهيز البنية التحتية التي أقيمت في هذه العواصم. ويعتمد نمو هذه العواصم الاقتصادي، وخصوصاً السياحي، على التنافس الشرس الدائر بينها. وكثيراً ما تعتبر المدينة الإماراتية على أنها قدوة بالنسبة لبيروت، وتبين مقارنة حجم حركة الطيران في كليهما تواضع الانطلاقة اللبنانية، حتى وإن كانت حقيقية (الشكل 2-32).

50ومع البقاء في مجال التبادلات، نلاحظ أن حركة البضائع في الموانئ تؤكد أيضاً عملية تهميش لبنان (الشكلين 2-33 و2-34). وإذا كانت العاصمة اللبنانية قد استطاعت عام 1948، بعد إغلاق المنافذ العربية لميناء حيفا، أن تصبح محطة الترانزيت بين المتوسط والخليج، وعلى الأخص العراق، فإننا نلاحظ أن لبنان لم يعد حالياً بوابة المنطقة، بالرغم من استئناف حركة النقل في مينائي بيروت وطرابلس. فمينائي طرطوس واللاذقية باتا ينازعانه تفوقه المحلي. لقد أصبحت بيروت نقطة توقف ثانوية للملاحة الإقليمية المنطلقة من الإسكندرية أو بور سعيد ولا يمكن مقارنة تطورها مع ذلك الذي يمر به ميناء دبي، الذي يربط بين آسيا الصناعية والأسواق الشرق-أوسطية.

51وإذا أردنا أن نستعرض بإيجاز ميدان الوظائف القيادية، نلاحظ أن التهميش يفرض نفسه أيضاً. ومثال بورصة بيروت معبر جداً عن هذا الوضع، فرغم وجود قطاع مصرفي متطور، تظل بورصة بيروت هزيلة بالنسبة للقاهرة أو الرياض (الشكل 2-35). ففي عام 2004 لم يندرج فيها سوى 16 شركة، ومعظم سوق الأسهم تشكله شركة سوليدير، وهي شركة إعادة إعمار وسط بيروت. ويمكن أن يكون هناك مؤشرات أخرى أقل قسوة بالنسبة للعاصمة اللبنانية، لكن المهم في الأمر هو أنها كانت تحتل عام 2006 موقعاً ثانوياً في جوقة المدن الكبرى في الشرق الأوسط.

تجدد السياحة

52يعتبر قطاع السياحة أحد القطاعات القليلة التي استعاد فيها لبنان بعضاً من مجده. فلقد كان يشكل قبل الحرب أهم الوجهات السياحية في الشرق الأوسط، وقد استقبل قرابة مليون سائح عام 1974، ساهموا بحوالي الـ 20% من الدخل المحلي الإجمالي. وبعد ثلاثين عاماً، تجاوز عدد السياح عتبة المليون مجدداً في عام 2003. لا شك أن هذه العتبة رمزية، تحجب التحول الهام الذي طرأ على هذا القطاع، ما يجعل من هذه العتبة نسبية. ولم يعد لبنان إلاّ وجهة عادية بين وجهات أخرى في منطقة تعرف فيها السياحة نمواً كبيراً، ولكنها تظل وجهة ضعيفة كردة فعل النزاعات العسكرية وعدم الاستقرار. ومع ذلك فقد تضاعف حجم السياحة في لبنان ثلاث مرات عملياً بين عامي 1999 و2004، ولكن هذا النمو لا يضاهي ذاك الذي تعرفه الجارة سوريا (الشكلين 2-36 و2-37).

53في النهاية، يبدو أن ما يعرضه لبنان سياحياً ما زال محدوداً وخاصاً جداً. فشاطئه المكتظ بالسكان والملوث، مثلاً، أقل جذباً من السواحل التركية والقبرصية أو من سواحل سيناء المصرية. ومن المؤكد أن تراثه التاريخي عظيم إلا أنه قليل التأهيل. كما أن لبنان بلد مكلف للسائح. وتبين جنسيات السياح ونمط إقامتهم خصوصية الوضع السياحي اللبناني (الشكل 2-37 ب). وبشكل عام، يمثل العرب الجزء الأكبر من كتلة الزوار، وبالدرجة الأولى السوريون والخليجيون، لاسيما السعوديين والكويتيين والإماراتيين. فلبنان يشكل بالنسبة لهم مكاناً تقليدياً للاصطياف في الجبال (الشكل 2-37 ج)، ولكن أيضاً في المناطق المُدُنية، كبيروت ومنطقة جونية. فهنا تشكّل الفنادق والمتاجر الراقية والتحرّر والبغاء المقومات الرئيسية للسياحة. ويمثّل الأوروبيون الغربيون، لاسيما الفرنسيين والألمان، الكتلة الثانية من السياح الذين يأتون إليه عموماً لاكتشاف إرثه التاريخي، دون إهمال متعة التبضع في أسواقه وتذوق مأكولاته.

دور ثقافي وإعلامي

54لقد شهد لبنان، على صعيد تبادل البضائع وكمركز تجاري كبير، تراجعاً وتهميشاً لم يتغير اتجاههما منذ التسعينات، إلاّ أنه ما زال يلعب دوراً ثقافياً متميزاً على مستوى العالم العربي. فعاصمته بيروت، هي مدينة عالمية وجامعية، وملاذاً للمثقفين العرب المضطهدين من قبل الأنظمة الاستبدادية منذ الحرب العالمية الثانية؛ وهي تقوم بدور المحور في عملية إنتاج وتداول المعلومات والمعارف. ويوضح مثال صناعة الكتاب هذا تماماً. لقد ولّى ذاك الزمان، زمن أواخر الستينات، الذي كان يقال فيه: «القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ«. ومع ذلك، فإن العاصمة اللبنانية لا تزال تحتل مكانة بارزة في إنتاج وتجارة الكتاب. ولبنان هو أحد الأقطاب الرئيسية للنشر في العالم العربي، فقد كان ينشر حوالي 7500 كتاباً سنوياً (ميرمييه، 2005 Mermier). ومن المؤكد أن القاهرة قد تفوقت عليه بوضوح، والمملكة العربية السعودية هي أيضاً منتج رئيسي. ويظل المغرب، حيث يتقدم التعريب بسرعة، والذي ينتج أيضاً مثل لبنان كتباً بالفرنسية، في وضع ثانوي في ميدان النشر. وتبين الإحصاءات الخاصة بتجارة المطبوعات (كتب، نشرات، صحف) الموقع المركزي الذي ما زالت بيروت تحافظ عليه في ميدان تسويق الكتاب، بالمعنى الواسع للكلمة (الشكل 2-38). ولبنان هو حتى الآن أكبر مصدّر للمطبوعات في العالم العربي. ومن جانب آخر، إنه المجال الوحيد الذي نجد فيه فائضاً في الميزان التجاري، على العكس من جميع الدول العربية الأخرى. وقد شكلت المطبوعات 5% من إجمالي الصادرات في عام 2003، وهو رقم كبير ويوضح الدور الثقافي الخاص لمدينة بيروت وللّبنانيين في العالم العربي.

55شكّل المحطات التلفزيونية الفضائية - التي يعتبر لبنان أكبر مزوّد لها بالبرامج والإعلانات التي تطور سوقها الشرق-أوسطي في بيروت أولاً - قطاعات اقتصادية أخرى مزدهرة، يلعب فيها لبنان دوراً هاماً. ولكن مراكز القيادة قد انتقلت الآن إلى دول الخليج: دبي أصبحت مركز القيادة الرئيسي للدعاية، ومنافستها الرئيسة هي القاهرة. ونجد في التلفزيون أن رؤوس الأموال هي بالأحرى سعودية. فقناة الجزيرة تبثّ من قطر، ولكن إحدى منافساتها في سوق الأخبار هي قناة العربية، التي تملك استوديوهات في بيروت. وبوجه أعم، ينتج لبنان برامج ترفيهية محبوبة في جميع أنحاء العالم العربي

56وفي المقابل لم يعرف لبنان التطوّر المتوقّع في مجال تكنولوجيا المعلومات، على الرغم من وجود اليد العاملة المؤهلة؛ ويبقى لبنان بعيداً عما وصلت إليه الإمارات العربية المتحدة، أو إسرائيل(الشكل 2-39). وقد ركزت سياسة الحكومة على حماية مقدّم خدمة الاتصالات التاريخي، وحافظت له على دخل مريح توفره تكاليف الاتصالات السلكية واللاسلكية العالية جداً. ولقد نتج عن هذه السياسة التأخر في إدخال قدرات تكنولوجية عالية؛ وهذا يرتبط أيضاً بتشكّل احتكارات في هذا السوق.

الفصل الثالث: السكان والإسكان

p. 64-90

1يتكشّف لنا من خلال دراسة السكان اللبنانيين، وبناء على الأرقام المتوفرة التي تعتبر غير دقيقة ومشكوك بها وحتى متناقضة، ملاحظتان مضادتان إلى حد ما؛ تعبّر الأولى عن نزعة نحو تجانس السلوك والبنيات الديموغرافية. يعتبر لبنان بين البلدان العربية رائداً في ميدان التحوّل الديموغرافي. إذ أن انخفاض معدلات الخصوبة وتبني سلوكيات «عصرية» - كانت إلى عهد قريب حكراً على السكان المسيحيين الأكثر تعلّماً والأكثر انفتاحاً على الخارج - أصبحت سلوكيات تنتشر حالياً في كافة المناطق ولدى كافة الطوائف اللبنانية. وتعتبر بيروت بشكل خاص مركز جذب في هذا التوجّه، فهي فضاء مشترك وساحة للاندماج، وهي المكان الذي تتكوّن به هذه الممارسات الجديدة. ويتلازم مع تجمّع السكان والنشاطات الاقتصادية في الساحل النقص التدريجي لمقومات الحياة في الجبال والمناطق الريفية.

لكن، من جهة أخرى، هذا التوحيد للعادات ولطرق العيش لا يوحّد بالضرورة الهويات والانتماءات الدينية أو القبلية، كما يتضح من 2استمرار الممارسات التي ترتبط بالمنبت الأصلي، كأماكن التجمعات المدنية للسكان المتنقلين على امتداد الأراضي اللبنانية. ومع ذلك، فإن هذه الممارسات والانتماءات تطرح إشكالية الوحدة الوطنية، هذه الوحدة التي تزيد من هشاشتها حركات هجرة اللبنانيين المؤقتة أو الدائمة إلى الخارج، والتي تولّد انتماءات أخرى، وأحيانا تمسكاً بالقيم الجديدة. ويساهم في هذه الهشاشة أيضاً، وعلى عكس ما سبق، توطن مجموعات قومية أو إثنية ضعيفة الانخراط في المجتمع اللبناني - إن لم تكن منبوذة منه، كالفلسطينيين - والهجرات المؤقتة للمهاجرين من سوريا أو من بلدان أخرى.

الأرقام المشكوك بها

3إن أول ما يجب التشديد عليه هو عدم التيقن القوي الذي يحيط بالتقديرات السكانية. كما يجب أن يرافق هذه الملاحظات الحذر والريب؛ ولا يمكن أن نذهب أبداً أبعد من التقديرات التقريبية (الشكل 3-1). فالتقديرات الثلاثة الأولى المتاحة هي تعدادات وإحصائيات جرت في عهد الانتداب الفرنسي. ولقد أدت استخداماتها السياسية والاجتماعية إلى إضعاف الثقة بها. حتى أن جزءاً من السكان يشكك بوجود الهوية الوطنية اللبنانية، وتعبر عن ذلك تصريحات مبطنة. وفي عام 1943، كان الغرض من التعداد توزيع المعونة الغذائية، وكان من مصلحة السكان أن يشملهم الإحصاء. كما كانت مسألة اعتبار عدد المهاجرين الذين رحلوا في العهد العثماني إشكالية إيضاً. وعلى أية حال، فبعد عام 1932، لم يجر أي تعداد سكاني، وتستند الأرقام المتوفرة على الإسقاطات والدراسات الاستقصائية.

4وبعد الاستقلال، توجب انتظار رئاسة فؤاد شهاب (1958-1964) كي تولد إدارة حقيقية مكلّفة بالإحصاء. وقد ترجمت الإصلاحات والسياسات الاجتماعية بازدهار التعدادات والدراسات، والتي كان أكثرها جدية التحقيق الميداني الاستقصائي المتعلق بدراسة السكان النشيطين (العاملين) في عام 1970، والتي اعتمدت مرجعيتها على تقدير السكان المقيمين، حتى وإن كان قد تمّ إعادة تقويم عددهم في عام 1974. وفي ذلك التاريخ، كان عدد السكان يصل إلى 2,126,000 نسمة. وفي هذه الأثناء، ظل سجل النفوس المؤسسة الوحيدة المؤهلة التي تشمل السكان المقيمين والمهاجرين.

5لقد كان مشكوكاً وبشكل كبير بالتقديرات السكانية أثناء الحرب. ويبرز من بينها التحقيق الذي يشمل المهجّرين في عام 1987 (جامعتي القديس يوسف ولافال /USJ/Laval 1992) والذي يذكر الرقم 3 ملايين مقيم. وبعد الحرب، أعيد تشكيل إدارة الإحصاء المركزي بصعوبة، بفضل المساعدة الدولية. وقد تمّ نشر نتائج تحقيقين صادرين بشكل متباعد عن وزارة الشؤون الاجتماعية وعن إدارة الإحصاء المركزي، ووصل الفارق بينهما إلى 25%. ويقدر الأول عدد السكان اللبنانيين المقيمين بأقل من 3 ملايين نسمة في عام 1996، بينما يقترح الثاني، الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي، رقماً يقترب من 4 ملايين نسمة في عام 1997. وقد أدى هذا التباعد بين الرقمين إلى جدال حاد بين الديموغرافيين اللبنانيين. ففي عام 2001، جاء التحقيق الذي قامت به جامعة القديس يوسف، المعتمد على المنهجية نفسها التي تبنتها إدارة الإحصاء المركزي، ليدعم تقديرات هذه الأخيرة. وفي المقابل، فإن آخر الأرقام التي قدمتها إدارة الإحصاء المركزي في عام 2004 تظهر تراجعاً في عدد السكان الذي هبط إلى 3,7 مليون مقيم، وهي تتناقض بشكل واضح مع المعطيات السابقة، وتتفق بالأحرى مع تقديرات وزارة الشؤون الإجتماعية في عام 1996.

6وتفسر هذه التناقضات ثلاث نقاط رئيسية تشكل لب هذه النقاشات. فنوعية الاستقصاء هي مشكلة بحد ذاتها. ولم يكتمل تعداد المساكن في كافة أنحاء لبنان إلا في عام 1996. وفي بلد ترتفع فيه نسبة المهاجرين الفصليين، فإن التقديرات العالية لعدد المساكن الرئيسية يمكن أن يكون وراء العدد المرتفع جداً للسكان.

7كما يشكّل الحجم غير المعروف للهجرة اللبنانية في السنوات الأخيرة متغيراً، ممّا يؤثّر على التقديرات السكّانية. وهنا يكمن هدف الخطابات الحماسية والتقديرات المحيرة (الشكل 3-2). ووفقاً لنتيجة حساب الصافي بين القادمين والمغادرين من اللبنانيين الذي قدمته إدارة الأمن العام، فإن البلد يفقد في المتوسط 120,000 نسمة سنوياً منذ عام 1990. ويذكر بعض المختصين أن الهجرة بلغت 1,7 مليون نسمة منذ ذلك التاريخ. وتشير تقديرات أخرى إلى أرقام أكثر اعتدالاً. ففي عام 2001 قدرت دراسة قامت بها جامعة القديس يوسف عدد المهاجرين منذ عام 1975 بـ 600,000 نسمة، بما في ذلك ما يقرب من 250,000 نسمة منذ عام 1991. وتقترح دراسة أخرى رقم 350,000 نسمة بين مهاجر دائم ومؤقت خلال سنوات التسعينات. ويمكن لتسارع محتمل للهجرة أن يؤدي إلى استقرار في عدد السكان في لبنان وربما إلى تراجعه. وعلى أيّة حال، تظهر هذه الارقام أن الهجرة هي حقيقة راسخة (انظر الفصل 2).

8ولا يزال تقدير عدد السكان المقيمين خاضعاً لمسألة أخيرة تتضمن الكثير من الشك: السكان الأجانب. فالدراسات الأخيرة تقدر نسبتهم من عدد السكان المقيمين بين 4% (وزارة الشؤون الاجتماعية، 1996) و 7% (إدارة الإحصاء المركزي 1997 و2004). ونحن هنا أمام مسألة قديمة: فقد قدر عدد السكان الأجانب في عام 1970 في لبنان بحوالي 330,000 نسمة، أي بحدود 15% من عدد السكان ككل، وكانوا يمثلون 25% من سكان بيروت الكبرى، وهم خصوصاً من السوريين والفلسطينيين. كما تحيط الكثير من الشكوك بعدد العمال السوريين في لبنان، الذي لم يعرف رسمياً إلا في عام 2003، حيث بلغ 500 عاملاً، بحسب رخص العمل الممنوحة، ولكن بعض المحللين يقدرون أن هذا العدد قد وصل إلى مليون عامل في بعض الأحيان، خلال العقد الماضي! وبشكل عام، نلاحظ وجود عدد كبير من العمال غير الشرعيين في البلاد. وسوف نعود إلى هذه النقطة مع المزيد من التفاصيل في الجزء الثالث من هذا الفصل.

 9وأمام عدم القدرة على الوصول إلى الحقيقة بشأن هذه المعلومات المختلفة، فسوف نعتمد على بيانات عام 1997 لدراسة التوزيع المكاني للسكان، مثلما فعل واضعو الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية. إنه التحقيق الميداني الوحيد الذي تتوفر نتائجه على المستويات المحلية. وسوف نقارن بعض الجوانب فيها مع بيانات القوائم الانتخابية لعام 2000.

الديناميات الديموغرافية

10يعتبر لبنان، من بين جميع الدول العربية، رائداً في ميدان التحول الديموغرافي. فقد استفاد سكانه منذ زمن طويل، لاسيما المسيحيين، من تسهيلات كبيرة في ميدان التعليم.

11وقد سمح تحسين المرافق الصحية منذ زمن طويل بالوصول إلى مستوى معتدل من الوفيات، في حين عرف معدل المواليد انخفاضاً ملحوظاً، من حوالي 33% في عام 1970 إلى 19% في عام 2004، وفقاً لبيانات اليونيسيف. وبدأ انخفاض معدل الخصوبة في السنوات 1950. ووفقاً لتقديرات مختلفة، فهو يهبط اليوم إلى تحت عتبة التجدد السكاني (الشكل 3-3).

12ويعني هذا الانخفاض المنتظم التقارب في السلوك الديموغرافي داخل البلد، بين المركز والأطراف وبين المدن والريف، وبين الطوائف المسيحية والمسلمة. ففي السنوات 1960، بينت المعطيات المتوفرة أن انخفاض معدل الخصوبة كان أكثر وضوحاً لدى المسيحيين، في حين ظل في ذروته في الأوساط الشيعية. ومع ذلك، ففي مستوى تعليمي واجتماعي متشابه يظل السلوك الديموغرافي متقارب.

13ونشهد في الوقت الحاضر وجود تقارب في المؤشرات بين مختلف المناطق، على الرغم من الفروقات الكبيرة التي ما زالت قائمة بين بيروت، حيث وصل معدل الخصوبة إلى حوالي 1,7 طفل لكل امرأة في عام 1993، والشمال، حيث بلغ 3,4 في الفترة نفسها. وتعود هذه الاختلافات عموماً إلى الفروقات في الخلفية الاجتماعية والاقتصادية وفرص الحصول على التعليم (الشكلان 3-4 و3-5). علاوة على ذلك، يمكن للمرء أن يلاحظ أن التقارب هو أسرع بالنسبة لمنطقة تسكنها أغلبية شيعية، كما هو الحال في جنوب لبنان مقارنة بشمال لبنان حيث يختلط السكان السنة بالسكان المسيحيين. وبالتالي يؤدي هذا إلى دحض التفسيرات التي تعطي وزناً كبيراً للبعد الديني.

14يبين الشكل الهرمي للسكان، وتطوره بين عام 1970 واليوم، بوضوح تنوع السلوك الديموغرافي تبعاً لتنوّع البنيات بحسب الأعمار (الشكل 3-6). ففي عام 1970، كان التركيب العمري للسكان تقليدياً بالنسبة لبلد شاب، وتعبر عنه القاعدة العريضة للهرم السكاني. إن الانخفاض الملحوظ في قاعدة الهرم في عام 2004 يدل على انخفاض معدل المواليد، ولا تبدو آثار الحرب واضحة جداً هنا: يمكننا بلا شك أن نربط به التجوف في الهرم المتعلق بالفئة العمرية 40 سنة فأكثر، والمرتبط بارتفاع نسبة الوفيات وبالهجرة، وكذلك النقص المتعلق بالفئة العمرية 15-19 سنة، والناتج عن نقص في المواليد، والذي يعوَّض جزئياً بالفئة 10-14 سنة، وهم الشباب المولودون مباشرة بعد اتفاقات السلام.

15يتبين من خلال ملاحظة الهيكل العمري لمناطق الأطراف، ولا سيما في الشمال، أن هذه الأطراف لا تزال تحمل خصائص تركيبة فتية للسكان (الشكل 3-7)، فنسبة الذين تقل أعمارهم عن عشرين سنة تمثل حوالي 50% في عدة أقضية في الشمال، في حين أنها تمثل أقل من 30% في بيروت والأقضية المسيحية الغنية في شمال جبل لبنان. وتضم هذه المناطق نفسها سكاناً تزيد أعمارهم عن 60 سنة بنسبة مرتفعة نسبياً. أما المناطق التي تعرضت للاحتلال الإسرائيلي في الجنوب فهي تضم أيضاً سكاناً أكثرهم من المسنين، وهذا دليل على هجرة الشباب لأسباب أمنية واقتصادية.

16ويظهر متوسط حجم الأسرة صورة للعلاقة بين المركز والأطراف، والتي تعكس بشكل كبير حالة التناقض بين المناطق ذات الخصوبة العالية، وتلك التي أصبحت هرمة (الشكل 3-8). ولا يستثنى من هذا النمط سوى أقضية جزين ومرجعيون وحاصبيا، التي تعرّضت للاحتلال والتي يتكون جزء كبير من سكانها من المسيحيين.

17لا تصطدم دراسة التوزع المناطقي لسكان لبنان بندرة التقديرات وعدم مصداقيتها فقط، وإنما تواجه أيضاً غياب الإحصائيات المحلية.

توزع السكان على المستوى المحلي

لم تنشر بيانات التحقيقات الميدانية الهامة المتوفرة عن السكان إلا على مستوى المحافظة (إدارة الإحصاء المركزي 1998 وجامعة القديس يوسف 2001)، وعلى مستوى القضاء (وزارة الشؤون الاجتماعية، 1996). وعلى أية حال، فإن مستوى القضاء يظل من الناحية الجغرافية ذا تعبير ضعيف (راجع الفصل الأول)، ومن الضروري أن يكون لدينا تقدير لحجم السكان على المستوى المحلي. ولهذا السبب، فإن فريق مشروع «أطلس المناطق العقارية في لبنان» قد أعاد استخدام النهج الذي اتبعه الخبراء المكلفون بوضع الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية (مجلس الانماء والإعمار 2002). ولقد استخدمنا نتائج تعداد المباني والمنشآت الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي في العامين 1996-1997، التي كانت تهدف إلى تحديث أسس الاستقصاء التي ستعتمد في التحقيقات الميدانية اللاحقة. ونحن نملك على مستوى 1500 دائرة عقارية في لبنان (وهي تعادل مناطق وأحياء في المدن) بيانات عن الأبنية (تاريخ البناء، الارتفاع، الصبغة القانونية، الإشغال)، وكذلك بالنسبة للمواقع المشغولة، خاصة المساكن (الأساسية، الثانوية، الخالية)، ومن خلال القيام بوضع تقاطع لعدد المساكن الرئيسية مع متوسط حجم الأسر على مستوى المنطقة، لنحصل على تقدير أولي لعدد السكان. أما تقدير حجم الأسر فقد أخذناه من مسح وزارة الشؤون الاجتماعية في عام 1996، وهو غير متوفر إلا على مستوى الأقضية. ولجعل هذه البيانات متناسقة، فإن حساب عدد السكان المقيمين على المستوى المحلي عن طريق ناتج ضرب عدد المساكن بالحجم المتوسط للأسر قد تم تصحيحه بواسطة معامل يؤدي إلى تطابق المجموع الناتج مع العدد الكلي للسكان، بحسب تقديرات إدارة الإحصاء المركزي على مستوى المحافظات في عام 1998. وتم لاحقاً تجميع هذه النتائج على مستوى 122 منطقة، محددة في إطار مشروع «أطلس المناطق العقارية في لبنان». وبالتالي فإن النتيجة التقريبية لتقدير عدد السكان على مستوى الدوائر العقارية تكون محدودة الدقة.

18ينتمي لبنان الى فئة البلدان التي يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة الأكثر كثافة سكانية في العالم، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المساحة الكبيرة للمناطق الجبلية. وتفسر التضاريس والتطور الاقتصادي للبلد سبب تركز السكان الكبير على طول الساحل، والذي، بحسب تعريف الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية (SDATL)، يضم أكثر من 33% من السكان في 8% من مساحة البلد، حيث تزيد الكثافة عن 1300 نسمة/كم². وفي الداخل يتركّز السكان في المدن الرئيسية، كزحلة وبعلبك والنبطية. وتتميّز المناطق الجبلية وبعض المناطق الريفية (البترون، جبيل العليا) بكثافات أضعف، إذ تتراوح حول 50 نسمة/كم². هذه التركيبة للتوسع المُدُني هي انعكاس للمعيقات المناخية والتضاريسية بالإضافة إلى هجرة ريفية قديمة ومستمرة (الشكل 3-9).

19للأسف، إن المعطيات عن الهجرة، غير موجودة تقريباً. وللوصول إلى نتائج تقريبية عنها غالباً ما نلجأ في لبنان إلى المقارنة بين مكان التسجيل في سجل النفوس ومكان الإقامة الحالية. في الواقع، لقد ثبَّت سجل الأحوال الشخصية، (سجل النفوس)، أثناء تعداد السكان في عام 1932، مكان تسجيل العائلات. ولا تؤدي الهجرة إلى تغير تلقائي لمكان التسجيل، وتدل الوقائع على أن طلبات تغيير مكان التسجيل نادرة للغاية. إن المقارنة بين سجل النفوس ومكان الإقامة هو بالتالي مؤشر على التنقل على المدى الطويل في البلد. ولقد قدم المسح الميداني في عام 1997 جدولاً يقارن بين هذه البيانات. وقد سمح هذا الجدول بتحديد الاتجاهات الرئيسية للهجرة على مستوى الأجيال (الشكل 3-10).

20الحقيقة الأولى هي أن أغلبية السكان المقيمين، على مستوى المحافظة، باستثناء جبل لبنان، هم من نفس المنطقة؛ بعبارة أخرى، كانت التحركات السكانية الرئيسية إما داخل هذه المناطق (من الريف إلى المدن)، أو من مناطق الأطراف نحو منطقة المركز. والتخالط الوحيد للسكان الذي يحدث في هذه المناطق ناتج عن وصول الفلسطينيين، وبخاصة في جنوب لبنان.

21تختلف منطقة جبل لبنان، ولا سيما منطقة العاصمة بيروت وضواحيها، بشكل كبير عن هذا النموذج. فالعاصمة وضواحيها تتكون من50 ٪ أو أكثر من السكان القادمين من مناطق أخرى، أما بقية جبل لبنان فهو أكثر تجانساً، إلاّ أن نحو سدس سكانه يأتون من مناطق أخرى، ولا تتضمن هذه الأرقام معلومات عن الهجرات الداخلية ضمن المحافظة، والتي ليست ضئيلة، خاصة بين أقضية جبل لبنان.

22يسمح التحليل بحسب الهجرة «التفضيلية» إلى منطقة العاصمة والى شمال لبنان بتحديد مناطق الجذب السكاني للمدن الرئيسية (الشكل 3-11). وتؤكد هذه المنهجية أن منطقة العاصمة تجذب بامتياز سكان جنوب لبنان، لاسيما سكان محافظة النبطية وقضاء جزين، وبدرجة أقل قضاء الهرمل (الشكل 3–11 أ). وفي المقابل، تتميز بعض المناطق بانجذاب أقل نحو العاصمة، مثل سائر أنحاء محافظة الشمال وقضاء كسروان أو أقضية جنوب ووسط البقاع. ويجب أن نستنتج من ذلك تأثير جاذبية غيرها من المدن، وهكذا، فإن طرابلس هي المدينة المفضلة لسكان الشمال (الشكل 3-11 ب)، وجونية بالنسبة لسكان شمال جبل لبنان، وزحلة وضواحيها بالنسبة لسكان البقاع الغربي.

تعديل البنية العمرية للسكان

تفترض المقارنة بين عدد الناخبين في القوائم الانتخابية والسكان المقيمين، أن لا يؤخذ بالاعتبار إلاّ السكان البالغين، وهم الذين تبلغ أعمارهم هنا 20 سنة وما فوق، ولا توجد بيانات عن السكان الذين تبلغ أعمارهم 21 سنة فأكثر والذين يشكلون السكان الراشدين. ولا نعرف البنية العمرية للسكان إلا على مستوى الأقضية، وذلك بفضل المسح الذي قامت به وزارة الشؤون الاجتماعية (1996). إذ يطرح عدد السكان الذين تقل أعمارهم عن 20 سنة في القضاء ثم تعدل النتيجة بعد ذلك كي تتطابق مع عدد سكان هذه الفئة العمرية المعروف على مستوى المحافظة.

ومن الناحية المثالية، كان من الأفضل طرح عدد السكان الأجانب من عدد السكان المقيمين، لكن للأسف، يعطي كلا المصدرين، وزارة الشؤون الإجتماعية 1996 وإدارة الإحصاء المركزي 1997، أرقاماً شديدة الاختلاف وغير موثوقة للسكان الأجانب المقيمين. ولذلك نفضل التمسك بالبيانات الخام، على الرغم من بعدها عن الكمال وقابليتها للنقد، عوضاً عن مضاعفة عدد الفرضيات.

23وقد أظهرت المقارنة بين السكان المقيمين والناخبين المسجلين على القوائم الانتخابية أنها مؤشر مفيد لتحديد المناطق المتأثرة بالهجرة الريفية خصوصاً، بمقابل تلك التي تستقبل المهاجرين من الريف. وإذا اتخذنا كافة الاحتياطات اللازمة المتعلقة بالغموض الذي يحيط بالمعطيات المستعملة، فإن الشكل (3-12) يقدّم صورة للمناطق الرئيسية للهجرة ولتركزها على الأراضي اللبنانية. فالمناطق الممثلة باللون الأخضر، أي تلك التي يفوق عدد سكانها المسجلين عدد السكان المقيمين، هي بشكل خاص المناطق الريفية والمناطق الجبلية المرتفعة. كما أن المناطق الواقعة على الحدود مع إسرائيل قد تأثرت أيضاً بالهجرة، وكذلك منطقة جزين، التي كانت تحتلها الميليشيات المرتبطة بإسرائيل حتى عام 1999.

تعتبر المنطقة المتأثرة بقيمة تقل عن 1 مكاناً أساسياً للهجرة. وعلى العكس من ذلك، تكون المنطقة التي يزيد معدلها عن 1 منطقة استقبال للسكان المولودين خارجها. (في الواقع، يحوم المعدل الوطني حول 0.9 بسبب الهجرة الخارجية). ومع ذلك، تدل القيمة القريبة من التوازن على أن عدد السكان المقيمين يتطابق مع عدد المسجلين، لكن من الممكن أن المنطقة كانت مسرحاً لحركة كثيفة من القادمين ومن المغادرين مما أدى إلى التوازن. إن قيمة هذا المؤشر تعتمد أيضاً على التحفظات الأعم التي يمكن أن نجدها فيما يخص السكان المسجلين، خصوصاً التشوهات التي تولدها الهجرة نحو الخارج (قلة التبليغ عن الوفيات والولادات).

24إن المناطق المستفيدة من الهجرة الداخلية هي بصورة رئيسية المناطق المُدُنية الواقعة على الساحل (صيدا وصور والصرفند وجونيه وجبيل والمنية ومنطقة نهر البارد) أو في الداخل، مثل بعلبك أو الهرمل. وبالنسبة للمناطق الساحلية، تجب الإشارة إلى سكان المخيمات الفلسطينية في صور ومحيطها وصيدا ونهر البارد (إن مساكن المخيمات مشمولة في الحساب الذي أفضى لمعرفة عدد السكان المقيمين).

25تظهر بيروت في فئة مناطق العجز السكاني. وتبدو هذه الحالة غريبة ظاهرياً، إذ أن المدينة هي وعاء للهجرة الريفية منذ قرن من الزمان. هناك تفسيران يسيران جنباً إلى جنب، فعدد السكان المسجلين في العاصمة يضم العديد من الطوائف المتأثرة خصوصاً بالهجرة: الأرمن والبروتستانت وتقريبا جميع اليهود. وبالإضافة إلى ذلك، شهدت مدينة بيروت انخفاضاً في عدد سكانها منذ عام 1970، إما بسبب تقلص الأسر (انخفاض في متوسط حجم الأسرة)، أو بسبب الهجرة منها إلى الضواحي، لاسيما نتيجة للدمار الناجم عن الحرب، والذي أصاب نحو 15% من المباني. في المقابل، نجد في ضواحي العاصمة أن زيادة عدد السكان المقيمين على المسجلين ليس بالأمر الغريب. فهنا تكون الاختلافات كبيرة جداً مع نسبة 4.6 مقيم لكل مسجل واحد في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهي المنطقة الرئيسية لسكن المهاجرين الشيعة من الجنوب ومن البقاع.

26أما طرابلس والبقاع الأوسط والنبطية فهي في موقع وسيط يقترب من المعدل. وبالنسبة لطرابلس، يجب على الأرجح تقدير الهجرة انطلاقاً من ظهيرها (عكار والضنية) مع الأخذ بالحسبان الرحيل القسري للمسيحيين المتأثرين بالحرب والهجرة. وتعتبر النبطية تاريخياً منطقة للهجرة الكبيرة ولا سيما للهجرة الريفية، لكن الحرب حولتها أيضا إلى ملاذ للنازحين من المناطق الأكثر عرضةً للخطر. وينطبق هذا التعليل على البقاع الأوسط: حتى وإن كانت زحلة وضواحيها قد شهدت نمواً سكانياً وعمرانياً قوياً، فالهجرة منها، لاسيما هجرة المسيحيين، كانت قوية.

27ونشهد بين عامي 1970 و1997 انخفاضاً في قدرة بيروت على جذب السكان، لاسيما وسط المدينة، المتأثر بضعف التعايش بين الطوائف، وبشيخوخة سكانه، وبالرحيل المرتبط بغياب الأمن الناتج عن الحرب. (الشكل 3-13). ولقد واصلت ضواحي بيروت الكبرى النمو بالقيمة المطلقة، ولكن وزنها السكاني ظل مستقراً. في المقابل، تشهد مناطق الأطراف زيادة كبيرة. ويفسر هذا بارتفاع معدل الخصوبة في هذه المناطق، وربما أيضاً بسبب دورها كمستقبل للهجرة من الريف نحو العاصمة، ويتم تعويض ذلك بعودة المهاجرين والقادمين من المناطق المتضررة من الصراع إلى التوجه نحو المدن المتوسطة.

28كانت التغيرات بين عامي 1997 و2004، أقل وضوحاً، وشوشت الهجرة الصورة العامة. ومع ذلك، يبدو أننا أمام استقرار في نمو مناطق الأطراف، والذي يمكن أن يعكس هجرة أعلى من المتوسط، وربما عودة الهجرة الداخلية نحو المركز. وعلى أية حال، تسجل مناطق الجنوب والبقاع والنبطية تراجعاً نسبياً، في حين أن الشمال (الأكثر خصوبة) وجبل لبنان (في ظل غياب معلومات عن التوزع بين الضواحي وبقية المحافظة) يسجل ازدياداً ملحوظاً.

المدينة والريف

29يعكس التناقض بين المركز ومحيطه الديناميات الديموغرافية المتناقضة: تعارض المناطق الريفية والفقيرة ذات الخصوبة السكانية العالية مع المركز المُدُني الذي بلغ نهاية التحوّل الديموغرافي، ويجذب إليه جزء من المهاجرين الريفيين. ويترابط هذا الهيكل المكاني مع التناقض بين الريف والمدينة.

30ويؤكد الانتشار الكبير للمدن والقرى والتجمعات السكانية اللبنانية على ظاهرة السكن الكثيف جداً والقديم للبلاد، وفي الوقت نفسه على عدم تساوي الظروف الملائمة للتمدد العمراني (الشكل 3-14). وفي الوقت الذي نجد فيه أن كثافة التجمعات السكانية عالية جداً على السفوح الغربية من الجبال، نجد أنها متبعثرة في الهضبة الجنوبية، وكذلك في البقاع. ففي هذا السهل الأكثر جفافاً، يرتبط توزع القرى بوجود الينابيع. كما أن المناطق العالية في الجزء الشمالي من جبال لبنان، وجبال لبنان الشرقية، خالية من السكان. وهذه البنية العمرانية موروثة منذ القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي تحدث عنها د. شوفالييه (1971) عندما ذكر بأن الجبل مشبع سكانياً. وقد شوه هذه المنظومة قرنٌ من الهجرة نحو المدن والمناطق الساحلية.

31يكشف التسلسل العمراني عن تفوّق بيروت (الشكل 3-15)، فقد اعتبر تجمّعها السكاني - وتوابعه في جونيه وبكفيا وبرمانا وبيت مري وعاليه والدامور- من قبل الخطة الشاملة لترتيب الاراضي اللبنانية «المنطقة العمرانية الوسطى»، وتستضيف منطقة العاصمة 39% من السكان اللبنانيين. وتهيمن هذه المنطقة المركزية، التي يمكن أن نضيف إليها التجمع السكاني الساحلي في جبيل، على بقية منطقة جبل لبنان الضعيفة سكانياً والتابعة للعاصمة. إن الاستثناء الوحيد الملحوظ هو منطقة الشوف، التي تأثرت بالتأكيد بهجرات الحرب المؤلمة، ولكن مكونها الدرزي ما زال يحتفظ بتواجده النسبي.

32إن المدينة الكبيرة الوحيدة الأخرى هي مدينة طرابلس، التي تضم نحو 350,000 نسمة مع ضواحيها المنظمة بشكل سيء في مراكز صغيرة مثل المنية والعبدة. وهذا التجمّع العمراني هو بلا منازع عاصمة الشمال والوجهة المفضلة للهجرة الريفية منه. وعلى الرغم من أنه يرتبط أكثر فأكثر بجبل لبنان بسبب توترات الحرب، فإن المناطق المسيحية في الكورة والبترون وبشري وزغرتا، التي تنشطها التجمعات السكانية ذات الحجم المتواضع (يبلغ عدد سكان زغرتا حوالي 20,000 نسمة). لا تزال تعتمد على مدينة طرابلس المتروبوليتية.

33ويبلغ عدد سكان كل من صيدا وزحلة وصور نحو 100,000 نسمة. وتهيمن كل منها على ضواحيها القريبة وتخدم محيطاً ريفياً محدوداً. وتعاني هذه المدن، بالنسبة للخدمات العادية، من مزاحمة غيرها من المدن القريبة كالنبطية وبعلبك، أو من المجمع العمراني المكون من برجا وشحيم (حوالي 60,000 نسمة)، وبالنسبة للخدمات الاستثنائية، فإن بيروت هي التي تؤمّنها. هذا التأثير المحدود للمدن اللبنانية الرئيسية هو في الوقت نفسه مؤشر على هيمنة بيروت على الشبكة العمرانية اللبنانية، فالعاصمة قريبة جداً، ومؤشر على التقسيم الطائفي والمناطقي الذي يعرفه لبنان، والذي يؤدي إلى الحفاظ على استمرار وجود أقاليم صغيرة مستقلة.

34تنتشر في الريف اللبناني بلدات يتراوح عدد سكانها بين 5000 و10,000 نسمة، وهي مراكز صغيرة للخدمات. ولكننا نجد أحياناً قرى متضخمة سكانياً، بسبب معدل الخصوبة المرتفع، لاسيما في الشمال أو في البقاع. وقد انخفض عدد سكان الريف بين عامي 1970 و1997 بالمعنى الدقيق للكلمة، هذا إذا اخترنا المقيمين في التجمعات السكانية التي يقل عدد سكانها عن 2000 نسمة (المعتمدة كمرجع في ظل غياب التعريف الرسمي). ومع ذلك، فإن الفئات التي أظهرت أكبر قدر من النمو هي المدن الصغيرة والمتوسطة، وليس بيروت والمنطقة العمرانية الوسطى (الشكل 3-16).

35يؤكد التوزع الجغرافي للمساكن على الانقسام بين المدينة والريف في الأراضي اللبنانية، مع تسليط الضوء على حركات الهجرة العريقة.

36وتبين خارطة المساكن الرئيسية (الشكل 3-17) أهمية المناطق العمرانية. وتتمثل أبرز الاستثناءات في بعض المناطق الريفية النائية مثل عكار والهرمل وجنوب البقاع، والتي تملك معدلات عالية من المساكن الرئيسية، دلالة على عالم ريفي عامرٍ بالسكان، على العكس من سفوح جبال لبنان الغربية.

37يمثل السكن الثانوي 5,9% من مجمل المساكن في لبنان. ويتواجد معظم هذه المساكن (الشكل 3-18): على السفوح الغربية من جبال لبنان بدءاً من منطقة عاليه وفي الهضاب الجنوبية. وتذكر هذه الجغرافيا بهجرة السكان الكبيرة التي أصابت جبل لبنان طوال القرن العشرين. وهي تشير مع ذلك، وفي الوقت نفسه، إلى التمسك بالروابط بين العالم المُدُني المستقبل للمهاجرين والمناطق الريفية التي تعتبر موطن الجذور الأسرية والملكيات العقارية، وغالباً المكان الذي يتم فيه الانتخاب. وتظهر منطقتي عاليه والشوف معدلات ضعيفة نسبياً للمساكن الرئيسية والثانوية، وهو ما يعبّر عن الهجرة القسرية إبّان الحرب من خلال ارتفاع معدل المساكن الشاغرة (انظر الفصل الرابع).

الديموغرافية الطائفية

38يشهد لبنان التمدّد المُدُني الذي ينتشر، خاصة في الساحل، جنباً إلى جنب مع زيادة تجانس السلوك الديموغرافي، على غرار البلدان الأخرى ذات مستوى التنمية المتقارب. ومع ذلك فإنه ينبغي ألا نقّلل من أهمية استمرارية الانتماءات المحلية والطائفية التي يتمسّك بها السكان، أو بالأحرى إعادة تشكلها. وهناك حاجة إلى مؤشرات أخرى للكشف عن الانقسامات الجغرافية المرسومة في هذا البلد. وفي هذا الصدد، تبدو المسألة الطائفية بالغة الأهمية لفهم الواقع اللبناني، على الرغم من أنها تمثل بالنسبة للبحث العلمي أرضية زلقة جداً ، بسبب نقص البيانات. لقد كان التوزيع الطائفي الملاحظ في تعداد السكان لعام 1932 يهدف إلى تبرير توزيع السلطة بين الطوائف الثلاث الرئيسية في البلاد. ومنذ «الميثاق الوطني» لعام 1943، كان رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، وكانت رئاسة مجلس الوزراء حكراً على السنة، في حين أن رئاسة البرلمان كانت من حق الشيعة. وبشكل أعم، فإن المقاعد النيابية والوظائف العليا في الدولة والجيش توزع بدقة بحسب حصص معينة بين الطوائف الرئيسية. وبالتالي فإن أي تعداد رسمي جديد للسكان سيؤدي إلى إعادة النظر في هذه التوازنات، ونتيجة لذلك فهذا الأمر مستبعد حالياً.

39ومع ذلك، فإن العديد من البيانات الجزئية، أو غير الرسمية، تقدّم معلومات عن تطورات البنية الطائفية في لبنان. وتعتبر القوائم الانتخابية من أهم المعطيات التي لا تقبل النقض، على الرغم من أنها لا تخلو من المواربة. ويستثنى من هذه القوائم من هم دون سن 21، واللبنانيون المقيمون في الخارج الذين لا يسجلون في القوائم الانتخابية.

 40وتبيّن مقارنة المعطيات المتوفرة في الفترة 1932 - 2005 تحوّلاً واضحاً في البنية الطائفية. فبينما كان السكان المسيحيون يمثلون الأغلبية في عام 1932، مع أو بدون المغتربين، فقد انعكس الوضع في عام 2005 (الشكل 3-19). فقد أصبح المسلمون يشكلون نحو 60% من الناخبين المسجّلين. ووفقاً لبيانات سجل النفوس التي نشرتها جريدة النهار في 13 تشرين الثاني 2006 والتي تشمل جميع السكان اللبنانيين (حوالي 4,855 مليون نسمة)، فإن المعدل يميل بوضوح لصالح المسلمين (65% مقابل 35% من المسيحيين)، وذلك بسبب السلوك الديموغرافي والتركيبة العمرية الشابة الأكثر خصوبة لدى المسلمين. ويرجع هذا الانقلاب العددي بشكل كبير، على المدى الطويل، إلى الفارق في معدّل الخصوبة الكلّي بين المسيحيين والمسلمين. كما تلعب الهجرة دورها، ولكن من الصعب جداً تقدير هذا الدور.

41ونظراً لغياب إحصاءات تسلسل زمني لمعدل الخصوبة بحسب الطوائف، فإن اللجوء إلى بيانات القوائم الإنتخابية قد أثبت جدواه من جديد. فسنة الميلاد مذكورة في السجلات، وبالتالي فإن رسم الأشكال الهرمية للطوائف الرئيسية يسمح بمقارنة البنية السكانية بحسب الأعمار وبحسب المجموعات الطائفية، باستثناء من هم دون سن 21 سنة (الشكل 3-20).

42وتقدّم الأشكال الهرمية للطوائف المسلمة (الشكل 3-20 أ) ذات القاعدة العريضة (فئة الأعمار بين 20 و40 سنة) تمثيلاً جيداً للسكان في نهاية المرحلة الأولى من التحول الديموغرافي (لا نتحدّث هنا إلاّ عن الذين تزيد أعمارهم عن 21 سنة). ومع ذلك، فلدى كل المجموعات، وإن كانت العملية تدريجية، من الدروز إلى العلويين مروراً بالسنة والشيعة، ميل واضح باتجاه انخفاض معدلات المواليد. حتى أن التضيق في القاعدة مرئي بالنسبة للدروز.

43وتمثّل الأشكال الهرمية للطوائف المسيحية مرحلة أكثر تقدّماً في التحوّل الديموغرافي (الشكل 3-20 ب). ونلاحظ أن الشكل الهرمي شاقولي أكثر، وهذا دليل على شيخوخة واضحة لدى السكان. كما أن الاتجاه نحو قاعدة أصغر واضح تماماً، وهو ما يشير إلى الآثار الناجمة عن الانخفاض الحاد في معدل المواليد. هذه الاتجاهات هي بالتأكيد أكثر وضوحاً بكثير لو كان لدينا بيانات عن السكان دون سن 21 سنة.

44ويمكن أيضاً تمييز الطوائف الكبرى بين المسيحيين، كالموارنة والأرثوذكس والكاثوليك والأرمن (الغريغوريين والكاثوليك على حد سواء) والبروتستانت (ومن بينهم كثير من الأرمن البروتستانت)، وتشير أشكال هذه المنحنيات إلى شيخوخة أكثر وضوحاً (قمة هرم شبه عمودية نتيجة تمثيل كبير للأشخاص المسنين. ولا يمكن إعادة هذا الأمر إلى إقرار بنسبة خصوبة أكثر انخفاضاً فقط. ويمكن ربط هذا التشويه للشكل الهرمي السكاني بالهجرة القديمة أيضاً، والتي ما زالت تعاني منها هذه الطوائف، لاسيما الأرمن. وعلى الرغم من الوجود القديم للجماعات الأرمنية في سوريا العثمانية، فإن وجود الأرمن في لبنان يعود بشكل كبير إلى النزوح القسري من الأناضول خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، وقد حصل الأرمن المقيمون في لبنان على الجنسية اللبنانية في عام 1924. كما تمت تسوية أوضاع أولئك الذين جاؤوا في وقت لاحق. لكن بالنسبة للبعض منهم، لم يكن لبنان سوى محطة للانطلاق إلى وجهة أخرى من وجهات الاغتراب، أو بالنسبة للبعض، للرحيل إلى أرمينيا السوفيتية في عام 1947. وقد عجّلت الحرب الأهلية اللبنانية من هذه الحركة. وغالباً، لم يكن أطفال المهاجرين يتسجلون في سجلات الأحوال الشخصية اللبنانية، كما أن الوفيات لم تكن كلها مسجلة. وتفسر هذه الحجج البنية العمرية لدى البروتستانت (ومنهم عدد كبير من الأرمن البروتستانت) وكذلك لدى اليهود. فما زال هناك 5600 يهودي مسجل في القوائم الانتخابية في عام 2005. في حين أن عدد المقيمين منهم في لبنان لا يزيد عن المائة نسمة.

 45وبوجه عام، توضح المقارنة بين شكل هرم السكان المقيمين وشكل هرم المسجلين في القوائم الانتخابية وجود فجوة كبيرة بين هاتين الفئتين من السكان، وهي تعود على الأرجح -هنا أيضاً- إلى آثار الهجرة (الشكل 3-21). وقد أدت إجراءات تسجيل الناخبين إلى زيادة في فئة الشيوخ. وعلى أية حال، ينطبق هذا الانحراف في الأشكال الهرمية على جميع الطوائف، ولكن بشكل غير متساوٍ، إذا اعتبرنا أن مختلف الطوائف لا تتأثر بالدرجة نفسها بالهجرة. ومن الناحية التاريخية، كانت الهجرة محصورة بالمسيحيين: ففي عام 1932 هاجر 25% من السكان المسيحيين، مقابل أقل من 5% من المسلمين. وإذا كانت المعطيات تنقصنا بالنسبة الفترات اللاحقة، لكن يبدو أن الهجرة قد أصبحت قليلة الاختلاف من الناحية الطائفية. ووفقا لتقديرات عام 2002، كان الشيعة يشكلون نحو 30% من المهاجرين، والموارنة 30%، والسنة 18%، الخ. (معطيات دولية، 2002).

46يعبّر التسجيل الجغرافي للواقع الطائفي بامتياز عن تنوّع الكيان اللبناني وانقسامه. وتبيّن الخرائط المقدّمة هنا (الشكلين 3-22 و3-23) التناقضات القوية للتوطّن الجغرافي لمختلف الفئات. وتعكس هذه الجغرافيا الطائفية الحركات القديمة للطائفة المارونية، أو للمسلمين غير السنة الذين لجؤوا إلى الجبال. كما أنها تحمل آثار التحولات الإقليمية التي وقعت في نهاية الإمبراطورية العثمانية، مع توسع مدينة بيروت على سبيل المثال، والحركات السكانية التي رافقت ذلك (هجرة المسيحيين من الجبال الى العاصمة، وتوطن الأرمن).

 47وإلى جانب التخصّص المناطقي الذي يشمل معظم المجموعات الطائفية، فإنه يمكن تمييز الجماعات المهيمنة محلياً في بعض المناطق الجغرافية، كالسنة والموارنة والشيعة، أو بشكل أقل وضوحاً، الأرثوذكس والدروز، والمجموعات التي هي دوماً في مصاف الأقلية. ومع ذلك، وبحسب المناطق، يمكن لمجموعة تنتمي للفئة الأولى أن تكون أقلية. وبوجه أعم، تبين المعطيات التي تغطي 122 منطقة أنه، في معظم أنحاء البلاد، تتعايش العديد من الجماعات، وأن وجود طائفة واحدة أمر نادر جداً.

48ومن الواضح أن الحرب قد ساعدت على تجمّع الطوائف، وهو الأمر الذي لا تسمح معلومات بيانات سجل الأحوال الشخصية بقياسه، لأنه لم يتم تسجيل هذه التجمعات المستجدّة. ولهذا السبب، فمازال التوزّع الجغرافي للمجموعات الطائفية في مكان الإقامة غير معروف. وبالتالي فإن القوائم الانتخابية هي المصدر الوحيد القابل للاستعمال، والمناطق التي ترسمها هذه القوائم وهمية إلى حد ما أو أكثر من ذلك؛ فهي ليست مناطق الحياة اليومية، ولا تصبح ذات مغزى إلا في الممارسات الاجتماعية مثل التصويت وزيارات نهاية الأسبوع. علاوة على ذلك، إن هذا التوزيع المكاني جزء من وهم ومن منطقة رمزية. وعلينا من أجل تحليله ودراسته أن نأخذ هذه الاحتياطات بعين الاعتبار.

49إن للسنة حضور كبير في المدن الكبرى، وهم يشكلون الأغلبية الواضحة بشكل خاص في صيدا وطرابلس، في الوقت الذي يمثلون فيه المجموعة الأولى في بيروت. وفي المناطق الريفية، يسكن السنة في المناطق الشمالية من عكار، وفي الضنية والبقاع الجنوبي وإقليم الخروب في الشوف، وفي الشمال الشرقي من مدينة صيدا، حيث يكونون الأغلبية.

50يتركز الشيعة من الناحية الجغرافية في الجنوب (جبل عامل)، وفي البقاع الشمالي، حيث قد يكونون الوحيدين في بعض الأحيان. وهم كانوا تقليدياً غير موجودين في المدن، على الرغم من الأقلية الشيعية الموجودة في بيروت وضاحيتها. وتسكن بعض الأقليات منهم في منطقتي جبيل والبقاع الأوسط. ويتركز التوطن الدرزي في جنوب جبال لبنان الغربية (الشوف ومنطقة عالية) وكذلك على سفوح جبل الشيخ. وهم يشكلون أحياناً الأغلبية الساحقة في مناطقهم، أو يكونون أكثر اختلاطاً في أماكن أخرى. ويكوّن العلويون في شمال لبنان جماعات صغيرة على شكل أقليات، وتشكّل منطقتهم استمراراً جغرافياً لمنطقتهم الطائفية الرئيسية في جبل النصيرية (الجبال الساحلية) في سوريا.

51وتملك الطوائف المسيحية أيضاً تركيزاً جغرافياً قوياً. فالموارنة متوطّنون بقوة على المنحدرات الغربية لجبال لبنان. وهم الأغلبية في الشمال، من كسروان إلى منطقة زغرتا؛ إلاّ أنهم يختلطون في أكثر الأحيان مع الشيعة في الجزء الجنوبي من لبنان (الجنوب وجبيل)، ومع الدروز (الشوف وعاليه والمتن)، أو مع الأرثوذكس (المتن والكورة). أما الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك فهم في أغلب الأحيان أقلية في عدد من المناطق المسكونة. وهكذا فإن للأرثوذكس حضور تقليدي قوي في المدن الساحلية الكبرى: طرابلس وبيروت. وفي المناطق الريفية؛ هم في حالة اختلاط في المتن وجبال لبنان الوسطى، وكذلك في جنوب شرق لبنان، وفي البقاع الأوسط وفي هضاب عكار. وهم لا يشكلون الأغلبية إلاّ في الكورة، إلى الجنوب من طرابلس. والروم الكاثوليك حاضرون كأقلية في مدن زحلة وصيدا وصور، وبشكل أقل تواضعاً في بيروت. كما أنهم ينتشرون بشكل متبعثر في جنوب جبل لبنان وفي البقاع الشمالي. وتتركز الطائفتان الأرمنية الأرثوذكسية والكاثوليكية في بيروت وضواحيها وكذلك في البقاع الأوسط، وهو مكان توطنهم الأول عندما وصلوا من الأناضول. وتتركز الطوائف المسيحية الأخرى، التي لم نضع مواقعها على الخرائط، في بيروت وجبل لبنان الأوسط والبقاع الأوسط.

السكان الأجانب في لبنان

52لا يمكن حصر تقسيم الكيان اللبناني في ديمومة الهويات المناطقية أو الطائفية فقط، فقد استقبل هذا البلد، الذي كان دوماً أرض اللجوء، طوال القرن العشرين مجموعات عرقية أو قومية ما زال اندماجها المنتقص أو المرفوض يساهم في توتير مجتمع يعاني من الولاءات المتناقضة أو المتنازعة. ويضاف إلى آثار التحولات والنزاعات الجيوسياسية الإقليمية، هجرة اليد العاملة الدولية التي تندرج في حقل هجرة تغطي الشرق الأدنى بكامله أو أوسع من ذلك.

موجات اللاجئين: الأرمن والفلسطينيون والأكراد ومكتومي القيد

53وصلت الأقلية الأرمنية المسيحية من موطنها في أطراف الأناضول إلى لبنان، على شكل موجات في السنوات 1920 و1930، وقد تجذّرت في لبنان، ولكن عدداً من أفرادها ظل بلا جنسية إلى أن صدر مرسوم في عام 1994 يمنحهم الجنسية اللبنانية. وقد استفاد من هذا الإجراء أيضا البدو السنة، الذين ظلوا لفترة طويلة على هامش مشروع البناء الوطني، والذين استقروا واستوطنوا في القسم الشمالي من سهل البقاع. كما حصل على الجنسية في هذه المناسبة أيضاً سكان سبع قرى في منطقة الجليل الحدودية، كانوا قد اعتبروا لبنانيين لفترة في السنوات 1920، وكذلك أبناء المتحدّرين من اللبنانيين.

 54وقد نتج عن هذا الإجراء فضيحة مزدوجة، فتجنيس الفلسطينيين، ذوي الأغلبية السنية، قد أدى إلى حصول مخاوف من أن تكون هناك محاولة للتلاعب بالتوازنات الطائفية اللبنانية على حساب المسيحيين وكان هناك خوف من أن يمثّل ذلك إمكانية توطين نهائي لكافة اللاجئين الفلسطينيين، والذي يبدو اليوم وكأنه فزاعة. بالإضافة إلى ذلك، فقد اتُهمت وزارة الداخلية بأنها تلاعبت بالقوائم الانتخابية من خلال تسجيلها للمجنسين أحياناً في مناطق أخرى غير قراهم. ويعتمد هذا الانتقاد على المشهد المتكرر لمجموعات من المُجنسين الذين يتم نقلهم بالحافلات إلى بعض القرى، أثناء الانتخابات، لاسيما في المتن.

55بين الشكل 3-24 مواقع تسجيل المواطنين المجنسين. وتتطابق منطقة وادي خالد، والبقاع بصورة أعم، مع منطقة تسجيل البدو المستقرين. ويعكس التسجيل في مدن الجنوب تسجيل القادمين من «القرى السبعة«، الذين كانوا لفترة تحت السيادة اللبنانية، وكذلك الأمر في جنوب بيروت أو قرب طرابلس. ومع ذلك، ففي هذه المدن الكبرى وكذلك في البقاع الأوسط، يعكس التمركز القوي للمجنسين وزن النازحين من أصل أرمني. وفي المتن يشكل الأرمن والأقلية المسيحيية ذات الأصل السوري-العراقي نسبة كبيرة من المواطنين المجنسين.

56وصل عدد السكان الفلسطينيين رسمياً إلى 450,000 لاجئ في عام 2005 وذلك بحسب سجلات الأونروا (وكالة الامم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين)، ولكن من المرجّح أن عددهم أقل من ذلك بكثير بسبب الهجرة. ففي عام 1997 قدرت إدارة الإحصاء المركزي عدد السكان الفلسطينيين في لبنان بـ 200,000 نسمة.

57يتجمّع معظم هؤلاء السكان في اثني عشر مخيماً تحت إشراف وكالة الأونروا، ولكن حوالي 44% من اللاجئين الذين رصدتهم الوكالة غير مسجلين في المخيمات. والمخيمات الرئيسية هي: مخيم عين الحلوة، بالقرب من صيدا، وهو يضم حوالي 30,000 لاجئ مسجّل، ومخيما البدواي ونهر البارد في الشمال وكذلك مخيمات ضواحي صور. وفي ضواحي بيروت، تستقبل المخيمات سكاناً متنوعين. إذ يختلط مع الفلسطينيين العمال السوريون والمصريون والسودانيون وعمال من سريلانكا والفليبين. كما يجب الأخذ بعين الاعتبار التجمعات السكنية غير الرسمية والعديدة للاجئين، لاسيما في الجنوب.

58لقد عانى الشعب الفلسطيني كثيراً من قسوة الحرب الأهلية في لبنان ومن الاعتداءات الإسرائيلية. وتتراوح تقديرات الضحايا ما بين 50,000 و75,000 قتيلاً من الضحايا الفلسطينيين العسكريين والمدنيين. كما دُمرت العديد من المخيمات والتجمعات السكنية غير الرسمية أو ذبح سكانها. وتظل مجزرة صبرا وشاتيلا (1982) رمزاً للعنف التي يعاني منه الفلسطينيون. ولا تزال وكالة الأونروا تعمل حتى الآن على تحديد السكان الذين يعود أصلهم إلى مخيم تل الزعتر في الدكوانة، الذي دمّرته الميليشيات المسيحية في عام 1976، ومخيم النبطية الذي دمرته إسرائيل أيضاً إبان الحرب الأهلية.

59كما يعاني الفلسطينيون في لبنان حتى اليوم من الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي، كحالة لا مثيل لها في البلدان العربية الأخرى. فهم يخضعون لقيود تتعلق بدخول سوق العمل. فحتى عام 2005، كانوا مستبعدين من 72 مهنة، وقد خففت حدة هذا الإجراء مؤخراً. كما أنه لا يحق لهم امتلاك الأراضي والمباني. ومع ذلك، وعلى التوازي، فإن، الموارد التي تمول المؤسسات التعليمية أو الخدمات الطبية للسكان الفلسطينيين، سواء من منظمة التحرير الفلسطينية أو الأونروا، تقل ويتم توجيهها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويعيش الفلسطينيون في لبنان وضعاً اجتماعياً مأساوياً. وفي هذا الظرف، يجب فهم تزايد راديكالية التوجهات السياسية الإسلامية الملاحظ في السنوات الأخيرة، لاسيما في مخيمات الجنوب، الأقل مراقبة من قوات الأمن السورية أو اللبنانية.

العمال الأجانب

60يعتبر لبنان بلداً للهجرة، ولكنه في الوقت نفسه بلد لاستقبال هجرة اليد العاملة. ويدل أصل المهاجرين إلى لبنان والمسجلين لدى وزارة العمل، على شدة تأثير العولمة، من خلال الوجود الهام لأعداد كبيرة من العمال الأجانب في القطاعات التي لا تتطلب المؤهلات، ولاسيما في ميدان الخدمات المنزلية والزراعة والبناء والأعمال التي تتطلب الجهد العضلي (الشكل 3-26)، وقد أصبح لمصطلح «سيريلنكية» قيمة نوعية لتسمية الخادمة، علماً أن هذه "الوظيفة" قد تشغلها الفيليبينيات والهنديات والحبشيات ومهاجرات من أفريقيا الغربية وغيرها من الدول الأفريقية الأخرى.

61وقد حلّت هذه القوميات تدريجياً مكان اللبنانيات والفلسطينيات والسوريات اللواتي خدمن في منازل الطبقة العليا حتى تاريخ الحرب الأهلية في لبنان. ويتبع اللبنانيون هنا عادة تعود عليها المغتربون اللبنانيون في الخليج. وليس من النادر بالنسبة لهؤلاء النسوة التعرض لمضايقات كثيرة في الحياة اليومية، وأحيانا التعرض للاستغلال الظالم والقيود المفروضة على حرياتهن، لاسيما مصادرة جواز السفر. كما يعمل عدد أقل من رجال هذه الجنسيات في لبنان. وقد أسّس بعضهم مجتمعاً موازياً يملك أحياءه البائسة وأسواقه وسوق عمله القاسية.

62وفي القطاعات الأخرى، نجد أن هجرة ذكورية وبشكل أساسي عربية. أما الحضور السوري الكثيف فقد تجاهلته الإحصائيات كلياً. وهذا الحضور، الذي قدر بين 300,000 و800,000 عامل، فهو متغير جداً من الناحية الزمنية وذلك بحسب الظروف الاقتصادية اللبنانية (ازدهار عملية إعادة الإعمار والبناء أو ركودها) والفصول السنوية (الشتاء لا يناسب لا البناء ولا الزراعة). وقد كانت مساهمتهم في انتعاش لبنان الاقتصادي بعد الحرب أساسية جداً، على الرغم من أن الرأي العام قد انتقد هؤلاء العمال واعتبرهم البعض عملاءً للمخابرات السورية، وبأنهم لايشاركون في الاستهلاك المحلي، فهم يرسلون أجورهم إلى بلدهم. وقد أدى الجمود الأخير للعلاقات السورية-اللبنانية والعنف الذي تعرّض له العمال السوريون إلى نزوح عدد كبير منهم، وأصبح من الصعب معرفة إن كان سيتم تعويضهم بجنسيات أخرى، وبأي نسبة، بشكل أساسي من العرب، لاسيما من المصريين والسودانيين.

 63ويبدو أن لبنان قد أصبح الآن نقطة عبور للمرشحين للهجرة من الأكراد والعراقيين واليمنيين، وما إلى ذلك. وتعتبر الصراعات الإقليمية هي السبب الرئيسي لهذه الهجرة، وقد ازداد عدد طالبي اللجوء، وخاصة لدى القادمين من العراق منذ عام 2003. لكن الإحصاءات في مركز الحجز في بيروت تظهر أيضاً مجموعات من الجنسيات الأخرى، بما فيهم العمالة ذات الأصل العربي أو الآسيوي، المقيمة في لبنان بشكل غير مشروع (الشكل 3-27).

 

64أخيراً، فإن جدول الوجود الأجنبي في لبنان لن يكون كاملاً إن لم نذكر الرعايا الأوروبيين والأمريكيين. ومع ذلك، فعددهم منخفض جداً، وهم لا يشكلون إلاّ بضعة آلاف، ويتركّزون في العاصمة، ومعظمهم وكلاء لشركات دولية أو موظفون دبلوماسيون وقنصليون.

الفصل الرابع: التحولات في استخدام الأراضي

p. 91-115

1شكّلت الحرب اللبنانية الأهلية، خلال السنوات الثلاثين الماضية عاملاً رئيسياً من عوامل التغيرات المحلية في استخدام الأراضي، ولاسيما من خلال تشريد السكان الذي نتج عنها. وكانت النتائج الرئيسية، التي لا مثيل لها، الإهمال والتخلي عن بعض المناطق وتدمير المناطق السكنية والاستقطاب الطائفي، وتدهور لايمكن معالجته للبيئة في بعض الأحيان بسبب المكبات والتعديات على الشواطىء. ومع ذلك، وبصرف النظر عن طبيعة هذه الحركات المكانية المفاجئة، فقد تمّ رسم جغرافيا جديدة للبنان، وهي تملك الكثير من أوجه التشابه مع بلدان أخرى تشهد نمواً قوياً حيث يبقى دور الحكومة ضعيفاً في مجال التنمية، وذلك ضمن الأشكال المكانية التي رسمت على مستويات كبيرة، كما هو الحال ضمن التجمعات العمرانية الجديدة، لاسيما زيادة السكان والنشاطات في المنطقة الساحلية.

2كانت فترة ما بعد الحرب، هي الفترة التي ترسخت فيها هذه الديناميكية الجديدة، والتي تعتمد على عودة الحركة الداخلية. إن الاستقطاب الذي مارسته بيروت والذي همشته الحرب، عاد ليكون من جديد العامل الأساسي في تنظيم المجال المُدُني. لكن هذه الحركة قد شجعت أيضاً على نمو عمراني في الضواحي، التي ولدت بشكل متناقض أثناء التقوقع الطائفي خلال الحرب. وكان من نتائج ذلك زيادة كثافة السكان في بعض المناطق الريفية من خلال امتداد العمران في المناطق الطبيعية والزراعية. وفي مجال البيئة، لم يستطع تدخل الدولة المتأخر والجزئي والخجول أن يغير من هذا الوضع، واستمر التدهور بالتزايد. وبالتالي فإن البحث عن الخصوصية اللبنانية يجب أن يتم في هذه الاستمرارية النسبية للتحولات المناطقية، بالرغم من تحولات الوضع السياسي العميقة.

انقطاعات الحرب

3إن عدم وجود المصادر الموثوقة يجعل من الصعب تقدير الأضرار إحصائياً، خاصة تلك الناتجة عن الديناميكيات المكانية التي سببتها الحرب. ويستند تقييم الأضرار على دراسة استقصائية أجريت بعد وقت قصير من توقف القتال. ففي كل أنحاء لبنان، تضرر 12,000 مبنى تقريباً، وتعرض 38% منها إلى أضرار فادحة. وتتركّز المباني المتضررة الى حد كبير في بيروت الكبرى وبعض المدن الأخرى (الشكل 4-1 أ).

4لقد كانت الحرب اللبنانية حرب مدن بشكل خاص، حرب تواجهت فيها الجيوش والقوى المسلّحة المحلية مستخدمة أسلحة ذات قدرة محدودة على الدمار، بالمقارنة مع وسائل الدمار التي استخدمت، على سبيل المثال، ضد المدن المهدمة خلال الحرب العالمية الثانية.

5ولم يكن للطيران دور في إحداث الضرر، وإلاّ لكان الدمار أكثر من ذلك بكثير. كانت المدفعية الخفيفة وقاذفات الصواريخ والرشاشات والكلاشنكوف أسلحة القتال الرئيسية على طول خط التماس الذي تعرض للتدمير أكثر من غيره، لكنه ظل مع ذلك ثابتاً نسبياً طوال خمسة عشر عاماً من الحرب. وقد شهدت الأسلحة التي تمتلكها مختلف الفصائل تطوراً متزايداً، ونتيجة لذلك، سببت المعارك التي وقعت في الفترة 1989-1990، والتي تدخل فيها الجيش اللبناني على نطاق واسع، أضراراً أكبر مقارنة بتلك التي لوحظت قبل ذلك.

6لقد تأثر 15% من المباني في مدينة بيروت (بالإضافة إلى االمركز التجاري)، و10٪ في ضواحيها. لكن الأضرار تركزت بشكل خاص في وسط المدينة، وعلى طول خط التماس الذي يفصل بين القطاعين الشرقي (مسيحي) والغربي (مسلم بالغالبية)، وفي بعض المناطق المتضررة من القتال في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث توجد المخيمات الفلسطينية، وبشكل محدود في مواقع المعارك التي تواجهت فيها القوى المسلّحة المتناحرة في الضواحي الشرقية، وكذلك في منطقة الدامور الواقعة جنوب العاصمة (الشكل4-1 ب).

7وفي خارج بيروت الكبرى، كانت المناطق الرئيسية المتضررة هي تلك التي كانت مسرحاً للمراحل المختلفة من الصراع، ولاسيما المناطق التي تقع على محاور الطرق الداخلة إلى المدينة، وفي مناطق الاختلاط الطائفي. وهكذا، كان جبل لبنان إلى الشرق من بيروت، حول طريق دمشق، وكذلك على طول الحدود بين قضاء المتن وبعبدا، أرض المعارك خلال المرحلة الأولى من الحرب. ثم انتقلت الحرب الى مناطق عاليه والشوف، حيث جرت حرب الجبل في الفترة 1983-1994، وفي شرق صيدا عام 1985،. كما وقعت معارك عنيفة في عام 1983 في طرابلس بين القوى الموالية لسوريا وتلك المحلية والمؤيدة للفلسطينيين (الشكل 4–1 أ).

8يحمل جنوب لبنان بصمات الاحتلال الإسرائيلي، لكن التفوق العسكري خفف من حجم التدمير الحاصل بشكل عام، مقارنة مع ذلك الذي عرفته منطقة العاصمة، لاسيما الضاحية الجنوبية حيث كانت مقاومة الغزو على أشدها في عام 1982.

9إذا كان التدمير المادي محدود الحجم بشكل عام، فإننا نجد في المقابل أن التحولات المتعلقة بهجرة السكان كبيرة جداً. وتشير التقديرات إلى أن ثلثي اللبنانيين قد غيروا مكان إقامتهم خلال الحرب، وأن الثلث لم يجد مقر إقامته الأصلي على حاله بعد الحرب. ولقد أدت الهجرات القسرية، التي سببها المناخ العام غير الآمن أو سياسات الطرد والمذابح، إلى تحقيق تجانس طائفي، غير متساوٍ بالتأكيد، على الأرض اللبنانية، ولكن بالرغم من ذلك ترك تقسيماً مبنياً على أسس طائفية، لطالما دعى إليه بعض المنظرين الإيديولوجيين.

10وتسمح الخارطة التي أعدت بناءً على بيانات التحقيق الميداني - الذي قامت به جامعة القديس يوسف وجامعة لافال في عام 1987 - بتحديد التيارات الرئيسية للهجرة في ذلك التاريخ (الشكل 4-2). وخلال المرحلة الأولى من الحرب، تم تسجيل تحركات كبيرة للسكان في العاصمة، وخصوصاً في عام 1976، عندما حوصرت الأحياء الفقيرة ذات الغالبية المسلمة، وعلى الأخص المخيمات الفلسطينية في بيروت الشرقية، وأخليت من سكانها من قبل الميليشيات المسيحية. وجاء الرد بشكل خاص بمجزرة الدامور التي ارتكبتها قوات منظمة التحرير الفلسطينية ضد السكان المسيحيين في هذه المنطقة. ومنذ عام 1978، لجأت إلى العاصمة وضواحيها عدة موجات من النازحين الفارين أمام تقدم القوات الإسرائيلية. ويعود توسع الضاحية الجنوبية إلى توطن هؤلاء اللاجئين، وبعضهم في ظروف غير قانونية. وتسارع هذا التوطن ابتداءً من عام 1984، عندما دخلت الدولة حلبة الصراع ضد المسلحين الشيعة والدروز وفقدت السيطرة كلياً على بيروت الغربية.

11وابتداءً من عام 1984، أدت الفوضى التي سادت في بيروت الغربية إلى تدهور أوضاع المسيحيين الذين كانوا ما يزالون يقيمون في بيروت. وكانوا يمثلون قبل الحرب ما يقرب من نصف السكان في الجزء الغربي من منطقة بيروت الإدارية. ويفسر هذا الهروب بعيداً عن العاصمة توسع الضواحي الشرقية والشمالية، وخاصة ولادة مناطق سكنية كبيرة في مراكز للاصطياف، في المتن وكسروان، في النصف الثاني من الثمانينات (انظر ص 112، حول نمو بيروت).

12تعتبر حرب الجبل، بين عامي 1983 و1985، سبباً في هجرة المسيحيين من الشوف ومن شرق صيدا إلى بيروت الشرقية، في حين أن جزين، التي كانت تحتلها اسرائيل والميليشيات المعاونة لها، لم تفقد سوى جزء من سكانها. وتبين خارطة المساكن الشاغرة في عام 1996 (الشكل 4-3) النسبة الكبيرة المعبرة جداً التي تحتلها في المناطق الجنوبية من جبال لبنان، كما أنها ترسم أثار هذا النزوح، التي لم تستطع سياسة عودة المهجرين التي طبقتها وزارة المهجّرين أن تمحوها (انظر الفصل السابع). ومع ذلك، تمّ استبدال بعض الأشخاص المطرودين بلاجئين آخرين يحتلون مساكنهم، سواء في العاصمة أو في المناطق الأخرى. ففي بيروت كان 6,7% من المساكن، في عام 1994، مشغولة من قبل واضعي اليد، وخصوصاً على طول خط التماس.

14وقد تجسد هذا السعي للتجانس الطائفي من خلال تخطيط لسلوك مناطقي جديد، حيث أخذ نطاق الحياة اليومية يتشكل في إطار حركة السكان التي غدت شديدة الصعوبة بسبب الحواجز، وانعدام الأمن ونقص المحروقات. وقد انحصرت حدود الحياة اليومية بمحاور الطرق التي تربط بين مكان الإقامة الجديد ومكان العمل والمدرسة. قد رسم التقطيع الناتج عن ذلك، وبشكل دائم، مناطق العيش التي ما زلنا نشعر بها إلى درجة كبيرة حتى اليوم. ويبين تحليل الحركة اليومية الذي أجري في عام 1994 في بيروت الكبرى استمرار الانقسام بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. ففي ذلك التاريخ لم يعبر خط المعارك السابق سوى 10% من مجمل التنقلات السكانية (الشكل 4-4). وتتمّ الغالبية الساحقة من التنقلات في المنطقة نفسها. والنتيجة تصدم المرء، لاسيما بالنسبة للقطاعات الواقعة بالقرب من هذا الخط. وفي عام 2006 كانت قد تقلصت الانقسامات في المجال العمراني، لصالح توحيد حقيقي لسوق العمل. لكن ما تزال العديد من خطوط سيارات الأجرة تعتبر خط المعارك القديم كحد للتعرفة. وعموماً، تظل حركة السكن خاضعة بشدة للجغرافيا الطائفية.

الديناميات المُدُنية

15لقد أدت الهجرة والتنقلات القسرية إلى التخلي عن بعض الأراضي، وكذلك إلى تنمية مناطق مُدُنية جديدة. وعموماً، شهد العمران المُدُني نمواً قوياً طوال هذه الفترة. إن هذه الانطلاقة لم تكن نتيجة للحرب فقط: فلقد كانت قائمة بالفعل قبلها واستمرت بإيقاع مدهش في سنوات ما بعد الحرب، كما انتشر أسلوب جديد للحياة، أسلوب ناتج عن الحرب وكذلك عن التغيرات الاجتماعية الأخرى. وكان ذلك من النتائج الأخرى لتدهور الزراعة، ولعودة تيار الهجرة إلى خارج لبنان، وبشكل أعم إثراء بعض الفئات من السكان، وظهور أنماط جديدة من الاستهلاك والاقتناء المتكرر للسيارة والرفاه المنزلي، الذي يتطلب معايير جديدة للسكن. وتُرجمت هذه التغيرات بظهور المشاهد العمرانية الجديدة. فحول المدن بدأ يسيطر مشهدٌ يتميز بانتشار المباني الصغيرة المعزولة في وسط عقارها وعلى طول الطرق أو في المواقع العقارية المفرزة المتصلة بشبكة الطرق الرئيسية. وفي المناطق الريفية، تفسح منازل القرى الحجرية القديمة المكان للمباني الحديثة، أو يضاف لها طوابق أخرى. وفي أطراف القرى، وأحياناً في قلب الحقول، تبرز منازل جديدة، وغالباً ما تكون عائلية وتتألف من العديد من المساكن في وسط الحقول أو الغابات، وكل ذلك ضمن إطار حركة عمران مبتذلة تتراخى تجاهها قوانين التنظيم المُدُني، هذا إن وجدت طبعاً (انظر الفصل السابع).

16وتوضح الخرائط التي تبين فترات بناء المباني مدى تضعضع الكثافة السكانية التي حصلت خلال الحرب، والتوجه نحو إعادة التركيز في سنوات ما بعد الحرب (انظر الفصل الثالث). فالمناطق التي عرفت أكبر كثافة للمباني التي شيدت خلال الحرب هي المناطق النائية في الجنوب، (باستثناء المنطقة التي تحتلها إسرائيل)، وفي الشمال وفي البقاع (الشكل 4-5 أ). وفي هذه المناطق، تشهد أطراف المدن الكبرى زيادة ملحوظة في البناء، خاصة في الجزء الأوسط من البقاع وأطراف بعلبك، وكذلك التوسع الشمالي في مدينة طرابلس وعلى طول طريق المنية وطريق حلبا. وخلال تلك الفترة، لم يسجل الجزء الأوسط من بيروت الكبرى نمواً كبيراً. وفي المقابل، عانت ضواحيها من طفرة لافتة للنظر، خاصة الضواحي الجنوبية للعاصمة، فضلاً عن المناطق الشمالية، على طول الأوتوستراد المتجه نحو المتن وكسروان.

17وبالنسبة لفترة ما بعد الحرب، نجد أن الاتجاهات في حركة البناء قد أصبحت أقل وضوحاً (الشكل 4-5 ب). فالمنطقة الوسطى من البلاد (بيروت الكبرى) أصبحت موطناً لحركة واضحة، نجدها أيضاً وبشكل أوسع في المنطقة الساحلية. ويمكن تحليل هذا الاتجاه على أنه عودة لحركة البناء في مدن المنطقة الوسطى. ومع ذلك، لم تتوقف عمليات البناء في المناطق النائية، حيث لا تزال العديد من النواحي تسجل نسبة مرتفعة من الأبنية الجديدة.

أشكال العمران

18يوضح تطور المورفولوجيا العمرانية ظهور نسيج مهيمن يتكون من الضواحي التي تضم الأبنية الصغيرة الجماعية حول التجمعات العمرانية الرئيسية، التي ولدت في إطار استثمار عائلي أو استثمارات عقارية تجارية صغيرة (الشكل 4-6). كان هذا النوع من المشاهد العمرانية يميل، في الفترة الماضية، للنمو على كامل السفح الغربي تقريباً من جبال لبنان وليس فقط على أطراف المدن. ولكن في المناطق الريفية، ما زال السكن الريفي فردياً بشكل خاص (الشكل 4-7). وفي المدن، نجد أن الأحياء الخاصة بالفيلات نادرة جداً، وهي تتركّز في بعض مشاريع الوحدات السكانية العقارية الراقية القليلة المنتشرة على التلال المحيطة بالعاصمة. ومؤخراً، ظهرت منتجات من صنف «الأحياء المغلقة» وهي تضم أيضاً منازل فردية.

19كان حجم حركة التوسع العمراني في الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية: 2,5 كم2 سنوياً منذ عام 1963، وقد تضاعفت مساحة المناطق العمرانية منذ ذلك التاريخ (مجلس الإنماء والإعمار، 2002). وينتشر العمران بشكل خاص في المنطقة الساحلية التي تزداد فيها الكثافة أكثر فأكثر، ولكنه يمتد أيضاً ويصل إلى الأطراف.

20ويُظهر توزّع التوسّع العمراني بحسب درجات الارتفاع عن سطح البحر انتشار العمران في الجبال (الشكل 4-8). ففي حين أن المدن الكبرى تقع على الساحل، فإن معيقات الموقع وآليات التباين الاجتماعي المكانية قد أدت إلى احتلال مناطق على ارتفاعات أعلى. وهو الوضع السائد، خصوصاً في المنطقة العمرانية الوسطى، حيث شمل العمران قرى الاصطياف السابقة التي أصبحت أماكن للإقامة الدائمة.

21تبين خارطة التوسع العمراني بين عامي 1963 و1998 أن معظم التغيرات في استخدام الأراضي من ناحية الحجم - إن كان في نفس نسبتها من المناطق المبنية من قبل أو بالمساحة المطلقة - قد حصلت في المناطق النائية من البلاد (الشكل 4-9). ولقد تأثر جنوب لبنان بشكل خاص، وظهرت تجمعات عمرانية جديدة نتيجة التحام بلدات قديمة لم تكن ذات شأن، أو كانت في مناطق مجهولة لدى الجغرافيين والعمرانيين، وقد تمّ احتسابها من قبل استشاريي الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية. وهكذا تقدّم برجا-شحيم، الواقعة بين بيروت وصيدا، مع ما يقرب من 60,000 نسمة، أو منطقة المنية-العبدة، الواقعة شمال طرابلس، بعدد سكانها الذي يقرب من 75,000 نسمة، مثالان عن التجمعات العمرانية الناشئة من بدايات تجمّع سكانية تقليدية (انظر الفصل الثالث). وتمثّل (الخارطة 4-9) التجمعات الناشئة عن حركة البناء المذكورة آنفاً.

22ولكن العمران لم يقتصر على التوسع في ضواحي المدن. فانتشار نمط الحياة المديني يستعير أشكالاً أخرى، ويتسلل إلى قلب القرى والبلدات في لبنان، مما أدى إلى تغير المشهد العمراني. وأحد الأشكال المذهلة لهذا التحول في استخدام الأراضي هو ظاهرة الزحف العمراني، وظهور أبنية عائلية صغيرة خلف أطراف القرى وفي الحقول وعلى التلال. وتوضح الخارطة أن مناطق نمو هذه الأشكال العمرانية الجديدة لا يمكن اعتبارها مماثلة لتوسع الضواحي في التجمعات العمرانية الموجودة (الشكل 4-10 ب)، ولكنها تتعلق أولاً بالمناطق الريفية وفي الأطراف (الشكل 4-10 أ). ويستدعي هذا الشكل الجديد من التوسع العمراني المزيد من البحث. ويمكننا أن نفترض أنه قد أصبح ممكناً بفضل نظام متكامل من التضامن العائلي لإدارة التراث العقاري وللمدخرات، بالإضافة إلى غض النظر من قبل السلطات المحلية بما سمح بالتحايل على القوانين المعيقة بطبيعتها إلى حد ما.

تحولات المناطق الزراعية والطبيعية

23ومع ذلك لا ينبغي أن نستنتج من تحليل هذه الحركة المتسارعة للتوسع العمراني على أنه طال كامل البلد؛ ففي المحصّلة، ليس هناك أكثر من 6% من مساحة البلاد التي تقع في منطقة فيها بناء، يضاف لها 6% من الأراضي المشمولة بالزحف العمراني (انظر الجدول 1). إن الخطاب المتعلّق باختفاء المناطق الطبيعية الذي يعمّ لبنان، يعتمد على التركيز الشديد للتمدّد العمراني، وعلى حقيقة أن السكان يتنقلون في النهاية بشكل قليل خارج المناطق العمرانية، أي فقط على جانبي محاور الطرق، التي تولّد بدورها شريطاً من المساكن يزيد من وهم انتشار العمران.

24حتل الأراضي الزراعية (الشكل 4-11) مساحات شاسعة في السهول وفي الهضاب الشمالية والبقاع والجنوب. في المقابل، نجد أن نسبة المساحات الزراعية في الجبال محدودة بشكل عام. وتقدّم خارطة المناطق «الطبيعية» (الشكل 4-12)، أي تلك التي لم تستخدم للعمران أو للزراعة، أي أنها ترسم، حيث تكون الأجلال المدمّرة، مملكة للماعز وللشجيرات الشوكية، كما تكون أحياناً فريسة للحرائق. إنها نتيجة للهجرة الريفية ولتراجع الزراعة وليس فقط مخلفات المناطق التي لم يترك الإنسان فيها بصماته أبداً. وهكذا فالجبل ومساحات شاسعة في وادي سهل البقاع، وكذلك العديد من منحدرات جبال لبنان قد أهملت، واندمج بعضها محلياً بالمجال العمراني، لكن هذه الأراضي الطبيعية تتوسّع في مناطق أخرى على حساب الأراضي الزراعية.

الأضرار البيئية

25كان تدهور البيئة وظروف الحياة أحد النتائج البارزة للزحف العمراني، الذي اقترن مع بطء الاستثمار في ميدان تجهيزات المرافق والخدمات الأساسية التي ترافق العمران، وذلك بسبب الحرب الأهلية وغياب الدولة والإدارات المحلية.

226كما كان التدهور البيئي، في المقام الأول، نتيجة مباشرة للحرب. وتبين خارطة المناطق الملغّمة في لبنان (الشكل 4-13) هذه الحقيقة بشكل واضح. فقد ساعدت حقول الألغام على عزل الأطراف المتصارعة عن بعضها البعض، كما يتضح من سلسلة المواقع المعروفة التي تطوق جبهات الحرب القديمة أو التي ما زالت قائمة. وهكذا نتعرف بسهولة على منطقة الحدود بين لبنان واسرائيل، وخط الفصل القديم للمنطقة الأمنية الاسرائيلية وامتدادها من جزين، بالإضافة إلى الخط الذي يحدد المنطقة المسيحية الصغيرة في مرتفعات البترون وجبيل وكسروان، وفي الضاحية الجنوبية من بيروت. كما نجد أيضاً في داخل هذه المناطق قطاعات قديمة للمجابهة، كمنطقة ريفون أو سن الفيل، حيث جرى القتال بين القوات اللبنانية والجيش اللبناني في عام 1990.

27كانت عمليات إزالة الألغام التي تمّت بعد الحرب قد تقدّمت بشكل غير متكافئ في حزيران 2004. وقد كانت منطقة بيروت وكسروان والمتن الأعلى نظيفة عموماً. وعلى العكس يمكن أن يدهشنا حجم العمل الذي يجب القيام به، لاسيما في المنطقة الجبلية، بدءاً من منطقة دوما وتنورين بالقرب من البترون، وصولاً إلى الشوف وجزين. ومع ذلك، فقد عرفت بعض القطاعات اهتماماً خاصاً. فبعد سنوات قليلة فقط من الإنسحاب الإسرائيلي، بدا برنامج إزالة الألغام في الجنوب وكأنه همٌ حقيقي. وقد استفاد من تمويلات عديدة ومن الخبرات الدولية. ولم يكن هذا هو الحال في المناطق القريبة من جزين وإقليم التفاح، التي لم تلق الاهتمام نفسه. ففي كل عام تنعي المنطقة العديد من ضحايا الألغام. وعلاوة على ذلك، وبحسب السلطات اللبنانية، لم يقدم الجيش الاسرائيلي خرائط للمناطق التي لغمها أثناء انسحابه، ونتيجة لذلك فإن الأرقام المتعلقة بإزالة الألغام المذكورة هنا، والمأخوذة من تحليل معطيات الأمم المتحدة، قد تكون أقل من قيمتها الحقيقية.

المقالع والكسارات

28لقد أدى انتشار العمران إلى أضرار بيئية خطيرة أخرى. أحد نماذج هذه الأضرار هو استخراج مواد البناء. وتبين خارطة مساحة المقالع انتشارها العام في البلاد، خصوصاً على السفوح الغربية من جبال لبنان، بالقرب من التجمعات العمرانية الرئيسية (الشكل 4-14 أ). تظهر في الشكل بشكل واضح جداً المقالع الكبيرة الواقعة بالقرب من ممر ضهر البيدر بجوار طريق دمشق، وتلك الموجودة في منطقة جبل صنين، وفي منطقة سبلين في الشوف، بالإضافة إلى تلك الواقعة في منطقة شكا،. ومع ذلك يقع أكبر تركيز للمقالع في أراضي بلدة عرسال في سلسلة جبال لبنان الشرقية. وقد كان استخراج المواد كثيفاً بشكل خاص خلال فترة إعادة الإعمار. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى طفرة البناء، والحجم الكبير للأشغال العامة، وكذلك إلى الحجم الكبير لعمليات الردم. ووفقاً لحسابات الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، فهذه الأخيرة تمثل ما يقرب من نصف الحجم المستخرج من المقالع في سنوات التسعينات.

29علاوة على ذلك، يبدو أن الكثير من المقالع التي تم تحديدها بواسطة الاستشعار عن بعد ليست مرخصة (الشكل 4-14 ب). وهكذا، ووفقاً لإحصاء تم في عام 1997، يملك 151 موقعاً فقط رخصاً، للعمل، من أصل 275 مقلعاً عاملاً بكل طاقته. ومنذ ذلك التاريخ ما زال التصديق النهائي على مخطط توجيهي للمقالع، المحصورة نظرياً في جبال لبنان الشرقية، هو موضوع جدل لا نهاية له، ضمن عملية ابتزاز من أصحاب الكسارات والمقالع، إن كان في الرخص المؤقتة أو في المخالفات.

التلوث

30يعتبر تلوث المياه السطحية الجارية، والمياه الجوفية، والشواطىء، أحد أشكال الضرر الذي يشمل البيئة على نطاق واسع. فلبنان يفتقد بشكل مأساوي إلى محطات معالجة المخلفات المنزلية أو الصناعية على حد سواء. وفي عام 2005، لم يكن هناك سوى محطتين لمعالجة مياه الصرف صالحتين للعمل: محطة الغدير في الضاحية الجنوبية لبيروت، ومحطة بعلبك. أما في الأماكن الأخرى، فإن إلقاء المياه المستعملة في المجاري المائية هو القاعدة. ووفقاً لبيانات عام 1996، تمّ ربط 65% من المباني إلى شبكة الصرف الصحي. ولم يتغير هذا الرقم كثيراً في عام 2004، حيث وصل إلى 67%. ولا تشمل هذه المشكلة المناطق الريفية فقط، بل المناطق العمرانية الجديدة أيضاً (الشكل 4-15). وعلى الرغم من التقدم المرتبط بالاستثمارات في السنوات العشرة الأخيرة، فإن غياب المعالجة يؤدي إلى الحكم على الأنهار بأن تظل مجار حقيقية مفتوحة. وفي الجبال، تتعرض طبقات المياه الجوفية للتلوث بسبب حركة المياه الكارستية في بنية تضاريسية شديدة التصدع.

31وفي غياب البيانات الحكومية المتعلقة بالتلوث، فقد لجأنا إلى الجمعيات البيئية، كجمعية الخط الأخضر وجمعية البيئة والتنمية - اللتان نستعمل بياناتهما هنا - واللتان بفضلهما تمّت الإجراءات النادرة المعلنة وإحصائيات الصرف الصحي. (الشكل 4-16).

32ومسألة النفايات الصلبة ليست بوضع أفضل. فبعد سنوات من الحرب، عندما تناثرت القمامة في غمار الفوضى التي عمت كامل الأراضي اللبنانية، تميزت فترة إعادة الإعمار بإرادة التحكم بهذا القطاع. ففي بيروت كُلفت شركة خاصة بجمع النفايات. ومع ذلك، وبسبب غياب منشآت المعالجة، فقد أنشأت هذه الشركة مكبات ضخمة مفتوحة لصالح بيروت الكبرى تصل حتى البحر في برج حمود (تمتد على مساحة تزيد عن 30 هكتاراً) وكذلك شمال طرابلس، وجنوب صيدا. وفي زحلة، تنتشر المكبات في السهل. وقد تم إغلاق موقع برج حمود في عام 1997، ولكن الموقع البديل في الناعمة مخصّص نظرياً للنفايات الخاملة، وهو ممتلئ تقريباً، ويشك بأنه لم ينشأ بموجب المعايير الخاصة بالمكبات. وتبيّن إحصاءات تلوث الهواء أن المدن اللبنانية شديدة التلوث، ويعود ذلك إلى قدم وسائل النقل وسوء صيانتها.

تدهور المناطق الساحلية

33يعاني الشاطئ اللبناني من التلوث الشديد أيضاً، بسبب ضغط مكثف للزحف العمراني يمكن قياسه من خلال الصور الفضائية المتعددة التواريخ. فعلى امتداد شريط ساحلي يبلغ عرضه 500 م (الشكل 4-17)، نجد أن 31% من الشاطئ إما مبني أو في طور البناء. وتحتل الزراعة 37% من الأراضي الساحلية، وتمثل المناطق الطبيعية 26%. بينما نجد أن الأراضي الزراعية واسعة جداً في الجنوب والشمال (أكثر من 70% من الأراضي)، ما يزال الغطاء الطبيعي يحتل حيزاً كبيراً (أكثر من 50% من الأراضي) في منطقتين فقط من الساحل، هما في أقصى الجنوب، وهي منطقة تجمد فيها النشاط بسبب الحرب والاحتلال الاسرائيلي والبعد عن المراكز العمرانية، والمنطقة التي تمتد من البترون إلى رأس شكا التي يصعب الوصول إليها بسبب المنحدرات الصخرية المرتفعة، وحيث أنشئت محمية تحت الماء. أما في المناطق الأخرى، لاسيما في الجزء الأوسط، فإن الأنشطة البشرية هي التي تسود. ووفقاً لدراسات تتعلّق بآفاق المستقبل في المناطق الساحلية، فمن المتوقع أن تختفي المناطق الزراعية القريبة من بيروت، والواقعة في أكثر المناطق استثماراً، بحلول عام 2015.

34في الوقت الذي تم فيه بناء 11% من الشريط الساحلي حتى عام 1962 - أي إحتلاله بالأبنية وأرصفة الموانئ وغير ذلك- فقد اصبح ما يقارب من 48% من الساحل مبنياً في عام 2003 (الشكل 4-18). وقد توسعت المناطق المبنية أثناء الحرب وبعدها، في المنطقة الواصلة بين بيروت-جبيل وشكا-طرابلس. ومع ذلك، فإن هذا التوسع قد شمل منذ بضعة سنوات الشريط الساحلي الواقع جنوب بيروت ومنطقة صيدا. وتمثل منشآت الموانئ جزءاً من هذا التوسع، لاسيما توسع مرفأي بيروت وطرابلس. كما يجب ذكر إنشاء طريق المطار الجديد والمساحات المخصصة لشبكة الطرق. على كل حال، تجدر الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من التعديات على الساحل، مع أنه ملكية عامة، ناتج عن الإشغال المخالف أو غير القانوني للساحل من قبل المجمعات السياحية أو المنشآت الأخرى. ووفقاً لإحصاءات عام 1996 (إيوريف وإكوديت 1997، ECODIT-IAURIF) التي تمّت لتحديد المخالفين ولتصفية المخالفات وتسويتها لقاء غرامة، فإن نصف الساحل المبني قد تمّ بالطريقة نفسها. ولم تطبق المخالفات أو تنفذ التسويات، وربما يعود ذلك إلى أن المستفيدين من هذ التعديات هم من أصحاب النفوذ القوي.

35كذلك، لقد تراجع الشاطئ - المشوه كلياً بسبب الزحف العمراني الذي دمّر الشواطئ الطبيعية وحوّل السهول الزراعية الخصبة إلى مناطق مبنية - بسبب هجمات الحت البحري في العديد من الأماكن. كما أن استخراج الرمل للبناء ولعمليات الردم يلعب دوراً بالغ الأهمية في التقلص الذي أصاب الشواطئ الجنوبية. ففي قطاعات مختلفة، نجد أن السكة الحديدية، التي أنشئت في زمن الانتداب، والعديد من أجزاء الطرق قد اختفت تحت الماء. إنها حالة طريق عكار مثلما هو الحال في الجنوب في عديد من قطاعات الساحل الرملية.

الغابات

36لقد جعل لبنان من شجرة الأرز شعاراً له، وكان يشتهر بغاباته في الماضي. ولكن هذه الغابات تعاني، منذ العهد الفينيقي، من اعتداءات الحطابين والرعاة وتصنيع الفحم. وتغطي الغابات حالياً 12% من مساحة البلاد، أما إذا لم نأخذ بالحسبان سوى الغطاء الكثيف للغابات (الغطاء الذي يحتل أكثر من 60% من الأرض) فإن النسبة تنخفض إلى 7% فقط، وهي تتنتشر على السفح الغربي من سلسلة جبال لبنان الغربية الذي يتلقى كميات كبيرة من الأمطار - وحيث تسود بشكل رئيسي أشجار الصنوبر والبلوط - وفي المناطق المرتفعة حيث توجد بقع متفرقة من شجر الأرز (أكثر بقليل من 1000 هكتار في عام 1998). أما في السفوح الشرقية وفي سلسلة جبال لبنان الشرقية فتسود أشجار العرعر والسرو التي تحتل مساحات مبعثرة (الشكل 4-19). أما الجنوب ذو الارتفاعات المنخفضة، فهو مستصلح للزراعة بشكل أكبر من بقية أنحاء البلاد. وقد انخفضت مساحة الغابات في لبنان بنسبة تقارب 35% منذ سنوات الستينات، لاسيما في منطقة شمال لبنان في جبال لبنان الغربية. ويدفع عدم تجانس البيانات ومعايير التعريف إلى توخي الحيطة بشأن هذه الأرقام.

37لقد أجرى المجلس الوطني للبحوث العلمية دراسات عن حرائق الغابات. وقد تم الإبلاغ عن أكثر من 2500 بؤرة لاشتعال النيران في الفترة 2002-2003. إن المساحات التي احترقت غير معروفة بشكل جيد: وتقدّر مساحة الغابات المحترقة سنوياً بـ 1500 هكتار، وهذا يدل على أن معظم الحالات المبلغ عنها عبارة عن بداية لاشتعال للنيران تمت السيطرة عليها في الحال. وتظهر خارطة الحرائق أن الحرائق كانت عنيفة حول المناطق العمرانية أو التجمعات الريفية الكثيفة (تمّ جمع هذين النمطين من المناطق في (الشكل 4-20) ضمن فئة «العمران المتقطع»). ومن جهة أخرى، فهي تصيب غالباً البساتين والمناطق الزراعية. فمنطقة عكار التي تتميز بالتعايش بين زراعة تقليدية وضغط عقاري مرتبط بالنمو السكاني الكبير تأثرت بشكل واضح بالحرائق. وقد تمّ إحصاء خمسة وتسعين حريقاً في قضاء القبيات وحده.

مشاهد طبيعية لبنانية

38نختتم هذا الفصل من خلال تقديم أكثر دقة عن تنظيم ثلاث مناطق لبنانية سجلت تحولات عديدة في السنوات الأخيرة. والمطلوب هو دراسة تفصيلية أكثر للمنطقة الوسطى. لقد تشوه المشهد الطبيعي بسبب انتشار العمران الذي ينتشر بعمق في الجبل، حيث تتراجع المشاهد الزراعية والطبيعية. فاللبوة، وهي بلدة صغيرة في البقاع الشمالي، تعبر عن مصير المناطق الطبيعية البعيدة عن العاصمة. وتقدم بلدة الصرفند في جنوب لبنان، نموذجاً عن تطور جزء كبير من الساحل يخضع لنمو عمراني متزايد يتنافس مع الزراعة.

المنطقة العمرانية الرئيسية

39كان تجمّع بيروت الكبرى يضمّ، بحسب تعريف المنطقة المُدُنية المركزية في الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، 1,6 مليون نسمة في عام 1997. وموقع بيروت عبارة عن بروز يحمي خليجاً واسعاً يضم ميناءً تمّ بناؤه وتوسيعه تدريجياً، وهو يستفيد في الجنوب من سهل ساحلي واسع، رملي في بعض أجزائه. في المقابل، لا يسمح الجبل في الشرق والشمال إلا بوجود ممر ضيق. كما لا يمكن إعمار الوديان العميقة والضيقة، لاسيما واديي نهر بيروت ونهر الكلب اللذين يرسمان حدود قضاء كسروان. وهكذا نجد أن الاتجاهات الوحيدة للتوسع هي نحو الداخل، وتلك التي تتبع خط القمم والتي تسمح بالوصول بسرعة إلى ارتفاعات تتراوح بين 400 و800 م.

40وقد عرف السهل الجنوبي العديد من مشاريع التوسع التي أنجزت بشكل غير متساوٍ قبل الحرب (انظر أيضاً الشكل 7-16). ويمتد المطار في هذا السهل، وقد تطلب توسعه الحديث بناء مدرج في عرض البحر فوق رصيف صناعي. وقد اكتمل مؤخراً بناء حرم جامعي لصالح الجامعة اللبنانية، كان قد بدئ ببنائه قبل الحرب. كما تزايدت كثافة البناء في القرى الكبيرة التي أصبحت نقاط ارتكاز للضاحية المتنامية، في الوقت الذي كان البناء يكتمل تدريجياً في السهل الساحلي الشمالي. وتطور انتشار العديد من المناطق الصناعية ومنشآت التخزين على طول نهر بيروت وفي مناطق توسع الميناء.

41لقد عجل تقسيم التجمع العمراني إبان الحرب في تطور مستقل في كل منطقة. وقد تعزّز السهل الساحلي، باستثناء منطقة خط التماس، بعمران مكثف جداً على الرغم من تنوع أشكاله. وتشكل أحياء الطبقة المتوسطة، التي تتكون من الأبنية المرتفعة، الجزء الأكبر من القسم الشرقي من الضاحية الجنوبية. وإلى الجنوب والغرب من هذا القطاع، لاسيما حول المطار وعلى طول الشاطئ، نمت أحياء عشوائية، تضم عدداً من السكان كان يقدر في نهاية الحرب بـ 200,000 نسمة. وفي الضواحي الشرقية، أدى ضيق الموقع إلى تحويل التوسع نحو محيط خليج جونية بعيداً عن القتال في قلب المنطقة المارونية. وقد جذب الطريق السريع الذي يربط بين بيروت الشرقية وكسروان نمواً عمرانياً خطياً جمع العديد من الوظائف الخدمية التي انتقلت من مركز المدينة الذي دمره القتال. ولكن جزءاً من هذه الخدمات تمّت المحافظة عليه وتجديده في السنوات التي تلت الحرب. وقد شكل ضيق الموقع أيضاً تبريراً طرحه المقربون من الرئيس أمين الجميل (1982-1988) للبدء بتشييد رصيف ساحلي في ضبية.

42ولقد لوحظ مع عملية إعادة الإعمار انتعاش التنمية العمرانية في بيروت، وذلك من خلال تكثيف بناء الأبنية التي حلت محل النسيج العمراني القديم (المباني الجميلة جداً في بعض الأحيان والعائدة للفترة العثمانية أو لفترة الانتداب). وكانت أحياء الأشرفية وكورنيش عين المريسة والروشة قد امتلأت كلها بالأبنية العالية المخصصة لسكن البرجوازية، أو كأماكن لتأسيس وظائف خدمية جديدة. وفي الضواحي، لم يتباطأ النمو، خصوصاً فوق التلال المفتوحة لمشاريع البناء المخصصة للطبقة المتوسطة. وهنا أيضاً، أنشئ الكثير من مشاريع الوحدات السكانية المفرزة المغلقة ذات النمو المدهش التي لا مثيل لها في أماكن أخرى من العالم. أما بالنسبة للضاحية الجنوبية، فإن جمود المشاريع الطموحة لإعادة الهيكلة يفسر استمرار وجود الأحياء العشوائية سيئة الخدمات والملوثة، وضعيفة الربط بالمرافق العامة.

43وقد عجلت عملية إعادة فتح الطرق، وتنظيم شبكة جديدة وحديثة من طرق السيارات، في ظهور مشهد جديد يضم المنشآت الخدمية والتجارية. وزرعت مجمعات السوبرماركت والمولات في المواقع المميزة، عند تقاطع الطرق السريعة في الضواحي (انظر أيضاً الشكل 5-23). ومع ذلك، فقد أنشئت العديد من الاستثمارات الكبيرة ضمن منطقة بيروت الإدارية، حيث لا يزال يعيش السكان الأثرياء (فردان والأشرفية). وفي الوقت نفسه، تابعت الصناعة تخفيف كثافتها لتعاود انتشارها في الضواحي البعيدة.

44إن التحليل الزمني لنمو مساحة بيروت الكبرى يسلط الضوء على الانقطاعات التي تلت الحرب في المناطق العمرانية (الشكل 4-22). وبين عامي 1963 و1987 (تواريخ عشوائية مرتبطة بتوفر المعلومات الكارتوغرافية)، نشهد بشكل أساسي إعمار السهل في الشمال كما في الجنوب من المدينة. والانقطاع الذي يكونه خط التماس محسوس. فمنذ النصف الثاني من سنوات الثمانينات، انطلق العمران ليجتاح التلال المجاورة، خاصة نحو الشمال على طول الطريق السريع الساحلي. إنها الفترة التي تمّ فيها بناء المجمعات السكنية الكبيرة في المنطقة المسيحية. وإثر سنوات ما بعد الحرب، سجلت المدينة بكاملها وبشكل مفاجئ تسارعاً مدهشاً للعمران الذي راح يحتل المنحدرات الشديدة وينتشر على طول محاور الطرق وعلى طول خط القمم، كما استفاد من افتتاح شبكة طرق جديدة في جنوب المدينة.

اللبوة

45يقدم نموذج بلدة اللبوة الواقعة شمالي البقاع صورة معبّرة عن المناطق النائية في لبنان التي تخلت عنها الدولة، حيث الموارد المحلية محدودة ولا تساعد على وجود تنمية اقتصادية. تقع بلدة اللبوة على أطراف سفح جبل من سلسلة لبنان الشرقية، عند خاصرته الجافة وعند التقاء الينابيع التي تسمح بري الأراضي الواقعة في منطقة البادية. وتضم اللبوة نحو 7,000 نسمة. وتمتد المساكن المتجاورة على طول الطريق: تميل القرية إلى تثبيت جزء كبير من السكان الريفيين القادمين من الريف المجاور وسكان من البدو الرحل الذين استقروا فيها حالياً. ويعتبر تآكل المناطق الزراعية شكلاً آخر لهذا التمدد العمراني (الشكل 4-23).

46وتستثمر الأراضي المروية بطريقة البستنة. كما خصصت مساحات واسعة للزراعات البعلية المعتمدة على الأمطار في الحقول الشاسعة. وقد شكل تطور المقالع في أراضي السلسلة الشرقية القاحلة وضمن أراضي القرى المجاورة نشاطاً هاماً. ويضاف إلى النشاطات الزراعية والتعدين وظائف جديدة ترتبط بنفوذ هذه البلدة الصغيرة في المنطقة المحيطة بها، وباقتصاد العبور (ترانزيت) الجديد. وتخدّم هذه البلدة المسلمة العديد من القرى المجاورة ذات الغالبية المسيحية، مثل رأس بعلبك والعين والقاع. ولقد استفاد اقتصاد العبور من تطور حركة نقل البضائع على محور حمص-بعلبك. ويتنوع المشهد العمراني بفضل ظهور المحلات والمؤسسات الجديدة: تجارة متخصصة ووكالات مصرفية، وبعض الخدمات الطبية والمدارس الثانوية؛ وكل ذلك يؤكد على قوة التغيير الاجتماعي في مجتمع بلدة صغيرة، تظل معزولة جداً وبعيدة عن التحولات التي تعرفها العاصمة والمناطق الساحلية، ولا تستفيد كثيراً من استثمارات الدولة في التنمية. وفي البقاع الشمالي، انتشرت لفترة طويلة زراعة المخدرات خلال فترة الحرب، وشكلت بالنسبة لجزء من السكان مصدراً بديلاً للدخل.

47تقع الصرفند في منتصف الطريق بين صيدا وصور، (بالنسبة للموقع، انظر الشكل 3-15)، وقد عرفت تطورات تماثل تلك التي شهدتها بعض المدن الساحلية اللبنانية التي عانت من الضغط العمراني الكبير الذي امتدّ على حساب زراعة الخضار والسواحل الطبيعية.

48يقع قلب بلدة الصرفند التاريخية على تلة صخرية تطل على السهل الزراعي، حيث تخلت الحمضيات تدريجياً عن مكانها لصالح بساتين الموز الأكثر مردوداً. وقد كانت الصرفند، البعيدة عن منطقة الاحتلال الإسرائيلي وعن المناطق المختلطة، بمنأى عن القتال خلال الحرب. وقد أتاح هذا الوضع الآمن، بالإضافة إلى موقعها الوسيط بين المدينتين الرئيسيتين صيدا وصور، وجود أنشطة متنوعة (الحرف ومحلات صيانة السيارات ومحلات البيع بالمفرق ومصانع صغيرة... الخ.)، لاسيما كل ما يرتبط بحركة المرور بين المدينتين الكبيرتين المذكورتين.

49ويوضح (الشكل 4-24) مدى توسّع العمران خلال سنوات الحرب، وحتى عام 2000. وهو يظهر ثلاثة أنواع من العمران التي يمكن أن نجدها على طول الساحل اللبناني. النوع الأول خطي ويتبع مسار الطريق الساحلي بين صيدا وصور. وقد زاد من حدة هذا النوع من النمو، الذي تسهله حركة المرور بين المدينتين، انتشار العمران العشوائي على الأملاك العامة البحرية نتيجة الاستيطان الكثيف للسكان النازحين إليها من مناطق أخرى. والنوع الثاني هو مركزي، أي يتمحور حول نواة مركزية وينتشر فوق الهضبة الزراعية العليا غير المروية، على العكس من السهل الساحلي الذي يعبره نهر الليطاني. ويتميز محيط القرية الآن بوجود طوق من الأبنية التي زحفت على الأراضي الزراعية. ويتعلق النوع الثالث بمشاريع مجمعات إسكان الشقق المفرزة الخاصة. وهي بشكل أساسي سكنية (عمارات أو فيلات)، ويمكن أن تتخذ في بعض الأحيان صفة «الأحياء المغلقة» ضعيفة الاندماج ببيئتها المحيطة، سواء كانت عمرانية أو زراعية أو طبيعية. وفي الصرفند تنتشر هذه المشاريع العمرانية في السهل الأعلى، ويسكنها المهاجرون العائدون إلى الوطن.

50لقد أدت الحرب إلى تشريد أعداد كبيرة من السكان الذين فروا من مسرح القتال، أو من المذابح، باتجاه المناطق السكنية الأكثر أمناً، وجعلت من الصرفند واحدة من العديد من المحطات التي حط فيها هؤلاء السكان رحالهم. وقد سهلت الحرب سكن المهجرين، كأولئك الذين جاؤوا إلى الصرفند، في الأملاك العامة البحرية. مما أدى إلى تدهور المرافق السياحية التي كانت تشتهر بها الصرفند. وقد امتد عجز الإدارة المحلية حتى سنوات ما بعد الحرب، ولم يترجم فقط باستمرار الزحف العمراني على الأملاك العامة البحرية، وإنما أيضاً من خلال انتشار البناء والمجمعات الإسكانية دون الحصول على رخصة مسبقة من المديرية العامة للتنظيم المدني.

51ولقد قلصت الحرب إلى حد كبير من نفوذ العائلات الشيعية القديمة لصالح قوى جديدة، مثل حركة أمل وحزب الله، بالإضافة إلى نخبة اجتماعية جديدة: الشيعة الذين أثروا في أفريقيا وعادوا إلى الوطن. كما أن بنية الملكية العقارية تبدو كعامل توضيح إضافي مفيد جداً ويسمح بإدراك هذه التحولات الاجتماعية بشكل خاص.

52ويبين الشكل (4-25) العلاقة بين العمران وملكية الأرض. ففي الواقع، تعود ملكية قطع الأراضي الزراعية الكبيرة (ذات اللون الأخضر) الواقعة في السهل الزراعي الساحلي، في غالبيتها العظمى، إلى ملاك ليسوا من أهالي الصرفند: إنها عائلات شيعية ثرية تظل الزراعة المكثفة (الموز والخضروات ضمن البيوت البلاستيكية) بالنسبة لهم نشاطاً عالي المردود؛ وما زالت هذه الأراضي بمنأى عن العمران. أما القطع المبنية (ذات اللون الأصفر)، وهي أصغر وتقع على طول محاور الطرق وحول مركز المدينة، فتعود ملكيتها إلى مهاجرين من أهالي الصرفند. إنه المكان الذي تتركز فيه الأبنية الجديدة. والقطع ذات اللون الأرجواني هي من أنماط مختلفة: أراضي الوقف (الديني والعائلي)، وأراضي البلدية وأملاك دولة وأملاك عامة

الفصل الخامس: الاقتصاد

p. 116-135

1يُعاني تحليل بنى الاقتصاد اللبناني، كما هو الحال بالنسبة للدراسات السكانية، من ثغرات في المعلومات الإحصائية على الصعيد الوطني، وبشكل أوسع على الصعيد المحلي. وقد سمح نشر أعمال بعثة الحسابات الاقتصادية الوطنية في عام 2005 بإعادة تشكيل بنى المحاسبة الاقتصادية للسنوات 1997-2002. وعلى الصعيد المحلي، نظل أسرى للدراسة التي نفذت في عام 1997 والتي تناولت المؤسسات واتجاهاتها، وعلى وجه الخصوص سوء تقدير العمل المستقل في بلدٍ تبقى فيه العمالة غير الرسمية واقعاً، يصعب بالتأكيد تقدير حجمه.

2وقد تمثّل التحدّي الذي واجهه الاقتصاد اللبناني خلال أعوام ما بعد الحرب بتجاوز الصدمة التي سبّبها الدمار، وانعدام التنظيم بسبب الصراع: وبالأسعار المحلية الثابتة، فإن لبنان عام 1997 لم يتجاوز لبنان عام 1970 إلا بنسبة 16%.

بنية الاقتصاد

3يتميز الاقتصاد اللبناني بأنه ذو بنية سهلة التفتت، فقد كانت المؤسسات التي يبلغ عدد موظفيها أقل من 5 موظفين تمثل 95% من مجموع المؤسسات في عام 1997، ويعتبر هذا الرقم أيضاً تقديراً متدنياً. وتتميز التوجهات الاقتصادية بخصائص تاريخية للاندماج اللبناني في السوق العالمية، وقد دفع هذا الوضع إلى نشوء قطاع وساطة مالية وتجارية هام. وقد نتج عن العائدات من المغتربين ومن النشاطات الاقتصادية للبنانيين في الخارج، رفع تكاليف فواتير الإنتاج، مّما أثّر سلباً على كلفة الإنتاج المحلي، وحفّز اقتصاد استهلاك الأموال الآتية من خارج البلاد. وينتج عن هذا عدم توازن بين الواردات والصادرات (الفصل الثاني). ولقد أكدت سياسة تشجيع الاستثمار اللبناني والعربي، التي وضعها رفيق الحريري لإعادة إعمار لبنان، على إبراز ميزاته القديمة. ولم يكن دعم ربط الليرة اللبنانية، بمستوى 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد منذ عامي 1995 و1996، في صالح التنافسية اللبنانية، على الرغم من الوضع النفسي الإيجابي الذي نشأ عن تأسيس جو من الثقة، بعد أعوام من الحرب تعرضت فيها الليرة اللبنانية لعدة عمليات تخفيض لقيمتها.

4تتميّز بنية الإنتاج اللبناني إذاً بضعف القطاعات الأساسية والثانوية التي لم تمثّل سوى 27% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2002، وقد بلغت نسبة قطاع الخدمات 73% (الشكل 5-1). تتميز آثار السياسة المتبعة في فترة ما بعد الحرب بالتطور المتباين لمختلف القطاعات. فبينما شهدت قطاعات الصناعة والزراعة والبناء الركود، نجد أن أغلب قطاعات الخدمات قد سجلت ارتفاعاً واضحاً (الشكلان 5-2 و5-18).

5لقد مرّت ظروف ما بعد الحرب، حتى تاريخ إصدار الأطلس، بثلاث مراحل أساسية (الشكل 5-3). وقد تلى انتهاءَ المعارك ارتفاع ملحوظ في المستوى الاقتصادي، غذته حركة قوية لإعادة الاستثمار، بينما أعاد تخفيض سعر الليرة التنافسية مجدداً في عام 1992. وقد تولت الاستثمارات العامة إعادة الإعمار، بدءاً من عامي 1993 و1994. ثم تدهورت الأحوال في مختلف المناطق في لبنان اعتباراً من عام 1996 وأخذت آفاق الازدهار بالابتعاد. وقد أدت أزمة التمويلات العامة والسياسة الصارمة المتبعة منذ عام 1998 إلى تراجع الاستثمارات والمداخيل وإلى حالة من التراجع الاقتصادي. وبعد عودة رفيق الحريري كرئيس لمجلس الوزراء، بعد عام 2000، ساهمت معاودة الاستثمار - التي تلت أحداث 11 أيلول 2001، وآثار اتفاق باريس 2 التي أبعدت الخشية من احتمال حصول أزمة مالية - بإنعاش الاقتصاد. وكان اغتيال رفيق الحريري والاضطرابات السياسية التي وقعت عام 2005 سبباً في الضربة التي أوقفت هذا النمو والتي أفسحت المجال للعديد من التساؤلات حول المستقبل.

6إن البنية الجغرافية للاقتصاد مركزة بشكل ملحوظ، مما يزيد من حدة تأثيرات التضخم السكاني الأحادي لمدينة بيروت. ويشدّد (الشكل 5-4) على أهمية المدن، التي تضمّ بشكل طبيعي معظم المنشآت الاقتصادية.

7وحسب تصنيفات الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية فإن 39% من السكان و42% من الشركات تتركز في المجال العمراني حول بيروت. ومن بين التكتلات الأخرى في البلاد، مدينة طرابلس، التي تمثل أيضاً تركيزاً كبيراً للنشاط الاقتصادي و9% من السكان و11% من الشركات. وتستقبل غالبية المدن الأخرى، كصيدا وصور، نسبة أقل من الشركات مقارنة بنسبة السكان، (لكل منهما على التوالي: 4,1% و2,6% من السكان و3,9% و2,3% من الشركات).

8يوضح (الشكل 5-5) هذه الحالة بطريقة أخرى، فعلى صعيد لبنان، لقد كان للساحل بين بيروت وطرابلس والبقاع الأوسط أيضاً معدلات أعلى من المنشآت والسكان، بينما يظهر الجنوب ومعظم المناطق الأخرى تحت المعدل. ويؤشر هذا المعدل، على صعيد بيروت وضواحيها، إلى التنظيم بين الأحياء التي تضم مناطق النشاطات، كبيروت، على وجه الخصوص، والضاحية الشرقية والساحل، والمناطق الأقل حظوة كالضاحية الجنوبية أو التلال. ومع ذلك، فإن قيمة هذا المؤشر محدودة بالشكوك التي تلقي بثقلها على التقديرات الخاصة بالسكان والبنية العمرية للسكان النشيطين.

9إن توزيع المنشآت التي تمتلك أكثر من عشرين عاملاً له مغزى أكثر، أي الـ1,4% التي تشكل أكبر منشآت البلاد. وتؤكد المقارنة مع (الشكل 5-6) أن الاقتصاد قليل «التعقيد» ويتركّز كله تقريباً بين بيروت وجونية.

10إن التوزيع المناطقي للسكان النشيطين (الشكل 5-7) يوضح البنى المناطقية للإنتاج. ويعبر تمايز النسيج الاقتصادي بين المناطق مجدداً عن التناقض بين النطاق العمراني المركزي والأطراف. ويبدو أن اقتصاد المنطقة المركزية أكثر تعقيداً، وفي ذات الوقت أكثر توجهاً نحو الخدمات، وعلى وجه الخصوص الخدمات المالية والخدمات المقدمة للشركات. ومع ذلك، تضم ضاحية بيروت الشرقية قطاعاً صناعياً قوياً كذلك. وتتميز مناطق الأطراف بمستوى نشاط زراعي مرتفع (18% في النبطية والبقاع) وبمستوى أعلى من المتوسط في قطاع البناء: أنشطة نموذجية لاقتصاد ضعيف التطور ويعتمد على يد عاملة غير الماهرة.

الزراعة

11كانت الزراعة اللبنانية تمثل 6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2002، وكانت تضم 7% من السكان النشيطين في عام 2001. وفي عام 1970، كانت تساهم بـ 9% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي وتضم 19% من السكان النشيطين. وبسبب ركود الاقتصاد اللبناني، يدل هذا التراجع النسبي على تدهور واضح بالحجم، بينما هناك إمكانية للتنمية في هذا القطاع تقدمها الميزات الطبيعية للبلاد، ووفرة الأيام المشمسة وتوفر الموارد المائية. وتعاني الزراعة من تكاليف اليد العاملة المرتفعة، (ولهذا تستخدم الكثير من العمال الأجانب، كالسوريين على وجه الخصوص)، ومن التبعثر والضعف الكبير في هيكلية الإنتاج، والتسويق غير المناسب، ومن صعوبة الحصول على القروض. كما يعاني الإنتاج من عجز كبير بالنسبة للاستهلاك، وتبقى عمليات الاستيراد من الدول المجاورة كبيرة.

12وعلى النقيض من قطاعات النشاطات الأخرى، فإن المعلومات عن الزراعة مرضية عموماً، بفضل الإحصاء الذي أنجز عام 1999، والذي أحصى 194,000 عامل تقريباً في هذا القطاع، منهم 33% فقط يعملون بدوام كامل. ويؤكد (الشكل 5-8) أن تعدّد النشاطات يسود في جميع المناطق، والمناطق الوحيدة التي يمكن استثناؤها هي البقاع والسهل الساحلي في الجنوب وعكار. ويحمل مصطلح تعدد النشاطات معنيين: أولهما، عندما يكون النشاط الزراعي في أغلبه نشاطاً مُكمِلاً في إطار عائلي موسع، وثانيهما، عندما يكون النشاط الزراعي ذا غاية تجارية ولا يشمل هذا المعنى أغلبية الحالات. وحتى في هذه الحالة فمن الممكن أن يكون ضرورياً توفر عائدات تكميلية أخرى.

13يعكس متوسط مساحة المنشآت الزراعية الصغير جدأ (الشكل 5-9)، بنية النشاط وتبعثر المنشآت. ويميز التجزؤ وصغر المساحة الجبال وكذلك جنوب البلاد، ولا تزداد المساحة إلا قليلاً في البقاع والسهول الساحلية.

14تشكّل المزارع التي تزيد مساحتها عن 4 هكتار 5% فقط من إجمالي الملكيات التي أحصيت، ولكن حصتها تعادل 49% من الأراضي الصالحة للزراعة. وتشكل المنشآت الزراعية التي تزيد عن 10 هكتار 30% من الأراضي الصالحة للزراعة، وهي تتركّز في البقاع (الشكل 5-10).

15يعد الري شرطاً حتمياً لتنمية الإنتاج، ولكن توزيعه يظل غير متساوٍ في الأراضي اللبنانية (الشكل 5-11)، فهو يغطي وسطياً 41,9% من الأراضي الصالحة للزراعة. ويتميز البقاع الأوسط والبقاع الشمالي (حول مُجمع العاصي) والسهول الساحلية الشمالية والجنوبية ومنطقة الينابيع والبساتين في الجبال اللبنانية عن باقي الأراضي التي تتصف بالزراعة البعلية. كما أن شبكات الري قد تضرّرت بشكل كبير بسبب الحرب، وإصلاحاتها بعد الحرب كانت غير متكافئة. وقد أعيد أخيراً إطلاق المشاريع التي تهدف لري الجنوب من نهر الليطاني، والتي كانت قد تأخرت كثيراً بسبب المماطلات السياسية اللبنانية قبل الحرب، ثمّ بسبب الاحتلال الإسرائيلي؛ وقد عادت هذه المشاريع بعد عام 2000، ثمّ توقّفت بسبب اندلاع حرب صيف 2006.

16تؤكد الاختصاصات الزراعية في المناطق المحصورة هنا، من خلال المساحات المخصّصة لمختلف أنواع الإنتاج، خصائص كل منطقة (الأشكال 5-12، 5-13، 5-14). ففي السهول الساحلية تنتشر زراعات مكثفة كبساتين الحمضيات وزراعة الخضراوات المتنوعة. وتتجلّى الزراعة المكثّفة في محيط المدن، من خلال انتشار البيوت البلاستيكية التي تسمح بتأخير تحول الأراضي الزراعية الخصبة إلى مناطق سكنية لتستجيب بشكل أفضل لطلب السوق العمراني.

17يقدّم البقاع، الذي كان مخزن الحبوب لروما، مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة، المزروعة بالحبوب والشمندر السكري. وفي الجزء الأوسط من السهل، تنتشر على التلال حقول واسعة من الكروم لإنتاج النبيذ، الذي تطور كثيراً لصالح التصدير، بفضل استثمارات ضخمة غداة الحرب، وبفضل تطبيق تقنيات جديدة في صناعة النبيذ وتسويقه. إن أشجار الزيتون مهمة جداً في منطقة الكورة وكذلك في هضاب جنوب لبنان وهضاب منطقة حاصبيا. وتشكل الأشجار المثمرة (التفاح والكرز والدراق) التخصّص الوحيد الهام في السفوح الغربية للسلسلة الغربية. وهي تُزرع عند مصبات الينابيع على ارتفاع 1200 م تقريباً، ويصدّر قسم من منتجاتها للبلدان العربية المجاورة. أما أشجار المشمش فهي من اختصاص شمال البقاع.

18ويوضح وجود صناعة التبغ الدور الذي لعبته الدولة، بالرغم من كل شيء، في توجيه الإنتاج بواسطة المعونات المالية الممنوحة. فقد دعمت هذه الصناعة دوائر متخصّصة بالجهود التي بذلت قبل الحرب لتنظيم الإنتاج الزراعي بمختلف أشكاله، ثم انحرفت هذه الجهود إلى حد كبير عن أهدافها وأصبحت تُستغل بطرق نفعية. وهكذا، أصبح مكتب التبغ الذي يدعم هذه الزراعة بيد المقربين من بعض القوى السياسية. ويبدو بوضوح أن إنتاج التبغ يتركز في المناطق الجنوبية بالاضافة الى عكار.

19وتقتصر تربية المواشي على الأغنام والماعز (الشكل 5-15). وتنتشر تربية الأغنام بشكل خاص في البقاع الذي يعتبر موطنها التاريخي. ويربى الماعز على كل الأراضي اللبنانية، فهو يرعى في الأحراش والغابات والأراضي البور في المنحدرات المرتفعة. وتتركز المداجن كثيراً في البقاع، على شكل منشآت كثيفة الإنتاج. وتظل تربية الأبقار قليلة الانتشار، بالرغم من محاولات بعض المستثمرين تأسيس صناعة مشتقات الحليب.

الصناعة

20إن المعلومات المتوفرة عن الصناعة، وخصوصاً توزعها المناطقي، قليلة جداً. ومن جهة أخرى، فإن هذا القطاع يتركز بشكل كبير في منطقة بيروت الكبرى، بحيث يجب أن تتم دراسته في هذا المستوى، الأمر الذي سيقودنا إلى أبعد من طموحاتنا في هذا الكتاب.

21لقد عرف لبنان قبل الحرب الأهلية تنمية لا يستهان بها لصناعات المواد الاستهلاكية والتي توجهت نحو سوق إقليمي. وهدمت الحرب هذه التنمية بتجزئتها للسوق وتأثيرها على وسائل النقل. ولم تؤمن السياسة الحكومية أبداً شروط استئناف هذا النمو. وقد شكّلت الصناعة اللبنانية والبناء على التوالي 13 و8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2002، بالنسبة لسكان نشيطين يمثلون 13 و9% (في 2001)، مقابل 15,9 و4,5% من الناتج المحلي الإجمالي و19 و6,5% من السكان النشيطين (في عام 1970).

22وخلال السنوات الأخيرة (1997-2002) سجلت أغلب المجالات تراجعاً في نشاطاتها (الشكل 5-16)، وحافظت بضعة قطاعات على حجم نشاطات مستقر، لا بل كانت في تطوّر مستمر، لكن مقابل تخفيض القيمة. والقطاعات الوحيدة التي تطورت هي الصناعات الغذائية والطباعة والمجوهرات. ويتوجه القطاعان الأخيران نحو التصدير بشكل خاص. ومنذ عام 2002، سجلت عدة فروع صناعية انتعاشاً نسبياً في نشاطها التصديري.

23يُظهِر التوزع المناطقي للصناعة كثافة المنشآت في ضاحية بيروت الشرقية، وفي منطقة طرابلس؛ كما ينتظم بعضها في بعض مناطق الجنوب (الشكل 5-17). وإذا ما قارنا بين المنشآت التي تضم أكثر من عشرين عاملاً (الشكل 5-18) فإن هيمنة بيروت تظهر بوضوح أكثر، وكذلك تركيبة النسيج الصناعي الطرابلسي، التي تتكون من منشآت صغيرة وحتى صغيرة جداً، وهي متوجهة بشكل رئيس للسوق المحلية.

الخدمات

24تمثل مختلف فروع قطاع الخدمات المكونات الأساسية للاقتصاد اللبناني (الشكل 5-19). وقد تمّ تناول ثلاثة منها بشكل خاص في هذا الكتاب، وهي المصارف والتجارة والسياحة والترفيه.

25يتميز هذا القطاع عموماً بحيويته الكبيرة. وهو سريع النمو بشكل خاص، لاسيما قطاع البريد والاتصالات (أكثر من 15% سنوياً)، وقد ارتفع هذا المعدّل بسبب تزايد استعمال الهاتف المحمول. ويتجلى نمو السياحة بالنمو الذي يشهده قطاع الفنادق والمطاعم (بمعدل أكثر من 5،5% سنوياً)؛ ويؤدي هذا الارتفاع إلى تنمية قطاع النقل الجوي، الذي ساعدت عليه السهولة المتزايدة للوصول إلى مطار بيروت. كما يتطور القطاع المصرفي والتأمين أيضاً. ويُفسَّر نمو بعض القطاعات بزيادة الأسعار الممارسة، كما هو الحال في التعليم. ودون أدنى شك يجب اعتبار النمو المحدود لقطاع خدمات الشركات، كمؤشّر على أن بيروت قد تأخرت في استعادة دورها كمركز إشعاع إقليمي، وموقع لإنشاء مقرّات الشركات العاملة في الشرق الأوسط.

طريق شتورة التجاري في البقاع (سفح جبل لبنان، في عمق الصورة). التقطت الصورة في نقطة المصنع على الحدود السورية. ويعرف هذا الطريق حركة سير كثيفة تضم سيارات أجرة جماعية عديدة (مقدمة الصورة)، ويعبّر هذا الطريق عن كثافة التبادلات بين سوريا ولبنان التي تعاني اليوم من التوترات بين البلدين.

طريق شتورة التجاري في البقاع (سفح جبل لبنان، في عمق الصورة). التقطت الصورة في نقطة المصنع على الحدود السورية. ويعرف هذا الطريق حركة سير كثيفة تضم سيارات أجرة جماعية عديدة (مقدمة الصورة)، ويعبّر هذا الطريق عن كثافة التبادلات بين سوريا ولبنان التي تعاني اليوم من التوترات بين البلدين.

المصارف

26القطاع المصرفي في لبنان هو أحد العناصر القوية في الاقتصاد اللبناني. ففي منتصف عام 2004، كان هناك 63 مصرفاً تعمل على الأراضي اللبنانية، منها 14 مصرفاً تملك رؤوس أموال غالبيتها أو كلها عربية، و10 مصارف ذات رؤوس أموال أجنبية. وتوظف المصارف في لبنان 15,000 موظف تقريباً. ويعود نمو قطاع المصارف إلى قروض الخزينة، وإيداعات غير المقيمين التي تمثل 13,5% تقريباً من الإيداعات.

27تتّصف الشبكة المصرفية في لبنان بأنها بديناميات متعدّدة. فمن جهة، نشهد تبسيطاً للمشهد المصرفي من خلال عمليات الدمج والتملك، وهكذا فقد انخفض عدد المصارف من 73 مصرفاً في عام 1999 إلى 61 مصرفاً في عام 2003. وهذه العمليات تغير الشبكة دون أن تشكك بنزوعها إلى التطور، كما يشهد عل ذلك (الشكل 5-20). ويزداد عدد الوحدات المصرفية في كل مناطق البلاد، وهذا يدل على إرادة المصارف بالحصول على زبائن جدد. إلاّ أنّ هذا لا يلغي التساؤل عن عدم التوازن العام للشبكة المصرفية لصالح بيروت وضواحيها، حيث يقطن السكان الأكثر ثراءً عموماً، وغالبيتهم من ذوي الرواتب المرتفعة والأكثر ثقافة، وحيث يقع القطاع الاقتصادي الحديث، وبالتالي حيث توجد الكثير من المصارف.

28ومن جهة أخرى، يبدو النشاط المصرفي أكثر تركزاً في بيروت وضواحيها وهذا واضح من خلال عدد الوحدات المصرفية. تشكل وحدات منطقة العاصمة 57% من المجموع الكلي في لبنان، و53% فقط من المودعين. لكنها تجذب 69% من قيمة الإيداعات، وتمنح 63% من القروض، و81% من قيمة القروض الموزّعة. يعكس هذا التركز المفرط تركز الاقتصاد اللبناني في بيروت (الشكل 5-21). ويشير أيضاً إلى تدويل أنشطة هذه المصارف، وبشكل خاص العمليات المصرفية مع الخارج، التي تتعامل مع مبالغ أكبر، يتم تداولها في فروع المصارف الكبيرة في العاصمة.

التجارة

29التجارة هي القطاع الرئيسي للنشاط الاقتصادي في لبنان؛ فهي كانت تضمّ حوالي 27% من السكان النشيطين في عام 2001، و33% من الناتج المحلي الإجمالي و54% تقريباً من المنشآت في عام 1997. ويتبع توزّعها المكاني منطقياً توزع السكان، إلاّ أنّ الكثافة التجارية تسمح بتحديد التمايزات في هذا الشأن (الشكل 5-22). فهي توضح المناطق التي تستفيد من بنى تحتية تجارية أكثر كثافة، والتي تلعب دور نقاط جذب قوية للسكان من خارجها. كما تبرز المدن التي تلعب دور السوق. وهذا تماماً ما يحصل في البقاع وفي منطقة النبطية أيضاً. وفي المقابل، لا تظهر صيدا وصور كمدن تجارية. ويصعب تفسير هذا: فقد يكون مؤشراً على ضعف نفوذهما المناطقي، أو مؤشراً على الواقع الاقتصادي في كل منطقة، حيث النشاطات التجارية في بلدات البقاع والجنوب متضخمة الحجم، وذلك لأن التجارة فيها قد تكون قطاع النشاط الاقتصادي الوحيد المتاح.

30يظهر جانب آخر في معطيات عام 1997، وهو أن الممرات التجارية، التي ترتسم على طول محوري البقاع الحدوديين (شتورة والمصنع) وطرابلس-العبدة، تشير إلى فعالية نشاطات الشراء لدى الزوار السوريين، في الوقت الذي ظلّت فيه سوريا لمدة طويلة أقل انفتاحاً على المواد الإستهلاكية المستوردة. ولقد تغيرت الحالة تدريجياً؛ حيث تعاني هذه الممرات اليوم من أزمة متزايدة بسبب التغير القاسي في العلاقات السورية اللبنانية وتقلص حركة المرور بين البلدين. وفي حالة بيروت، أدت الحرب الى تغيير في أمكنة أسواقها التجارية (الشكل 5-23). ولقد ترجم تدمير أسواق مركز المدينة بظهور أسواق جديدة في بعض أحياء بيروت أو في الضواحي. وعلى المستوى المذكور، نجد أن الشكل الأكثر وضوحاً هو ظهور ممر تجاري على طول الطريق السريع الشمالي الذي يمتد نحو جونية. وفي جبل لبنان الأوسط، تتواجد التجمعات التجارية على طول الطرق الرئيسية التي تتبع خط القمم في مناطق بعيدة نسبياً عن العاصمة.

31شهدت الساحة التجارية اللبنانية منذ منتصف التسعينات ثورة حقيقية، خاصة في المناطق العمرانية الكبرى، حيث تميزت بنمو مذهل للتوزيع التجاري (الشكل 5-24). فقد نشأت بكثرة مجمعات تجارية محلية مثل مجمع بو خليل، أو فروع لمجمعات أجنبية مثل مونوبري أو سبينيز أو كازينو (Monoprix, Spinneys, Casino)، في بيروت الكبرى، وامتداداتها في الشمال نحو جونية وجبيل، وفي طرابلس وصيدا وزحلة. وقد نمت عدّة مراكز تجارية عملاقة أيضاً، دون أن تصبح مجمّعات تجارية. لقد كان إنشاؤها لصالح عُقد شبكة الطرق التي أعيد تنظيمها بالإضافة إلى زيادة حركة السيارات. ويطمع المستثمرون في هذا القطاع بكسب الطبقة الوسطى الأكثر ثراء وكذلك لمن يمتلكون السيارات.

32وبسبب نقص الإحصاءات، يصعب قياس ومعاينة المظاهر المكانية لعملية إعادة التنظيم هذه، التي يبدو أنها نُفذت على حساب التوزيع التجاري المتوسط، أكثر مما هو على حساب المتاجر الصغيرة القريبة من المستهلك. ففي البداية، شوشت ندرة الأسماء التجارية، المترافقة بجاذبية التجديد، خطوط الفصل التي أورثتها الحرب بخلق مناطق شرائية سلسة جداً مختلفة عن المناطق الطائفية. واليوم، أشاعت إعادة التوازن المكاني للعرض هذا البعد الذي يتجاوز الممارسات التجارية.

السياحة والترفيه

33كان قطاع السياحة والترفيه قبل الحرب الأهلية، أحد محركات الازدهار في البلاد. وكانت إعادة إطلاقه أحد أهداف إعادة الإعمار. ومؤخراً، استعاد هذا القطاع مستواه السابق للحرب، ولكنه عانى بشدة من تأثير الصدمات السياسية في عامي 2005 و2006 (انظر الفصل الثاني). وعلى صعيد العمالة، استخدم قطاع الفنادق والمطاعم بين 3 و4% من السكان النشيطين في عام 2001. ولا بد أن يأخذ التنظيم المجالي لهذا القطاع في الحسبان عادات السياح الأجانب، وكذلك اللبنانيين (المقيمين أو المغتربين الذين يقضون إجازاتهم في لبنان) التي تتميز بأشكال خاصة. وإذا كانت أماكن تمركز المنشآت السياحية (من ناحية العدد) موجودة في المناطق العمرانية، فإن هذا القطاع يشكل مورداً هاماً جداً لمنطقة جبل لبنان، وبالتالي فهو يشير بوضوح إلى عادات السكان اللبنانيين في عطلة نهاية الأسبوع، ويلحظ تناقص حدة الهجرة الريفية بسبب التعلق بالموطن الأصلي (الشكل 5-25). وفي المناطق الريفية الأخرى التي هي ليست أقل تعرضاً للهجرة، يعود ضعف هذا القطاع على الأغلب لعادات مختلفة، فسكان المدينة الأقل ثراءً لا يرتادون المطاعم إلاّ قليلاً في أيام الآحاد. ويمكن الإشارة هنا أيضاً إلى حالة بلدة الناقورة في جنوب لبنان، حيث أسست منشآت ترفيهية لجنود القوات الدولية للأمم المتحدة في لبنان.

34ومن الصعب تقبل وتقدير العادات السياحية للسياح الأجانب. فيجب أن تُذكر المواقع السياحية الثقافية العديدة (بعلبك وجبيل وصور.. الخ.) حتى وإن كانت تتلقى أيضاً زيارة عدد كبير من طلبة المدارس.

35وفي المقابل، تبدو الاستثمارات العقارية، المرتبطة بالسياحة الدولية، بوضوح عبر شراء الأجانب للعقارات، التي يجب التصريح بها لدى مصلحة السجل العقاري عندما تتجاوز مساحة العقار 3000 م². وتتركز هذه الاستثمارات في مركز جبل لبنان (قضاء كسروان والمتن وبعبدا وعاليه) وفي بيروت. وهي تشير بوضوح إلى جغرافية أماكن اصطياف أبناء الخليج قبل الحرب. وبعد الانقطاع الذي حصل خلال سنوات الحرب، عادت وبدأت تتركز في هذه الأماكن أيضاً مشاريع الفنادق والشقق المفروشة والمنتجعات (الشكل 5-26).

36لقد أدرج النشاط الفندقي (الشكل 5-27) في هذا المخطط. لكن التمييز بحسب فئات المنشآت (على الرغم من أن تصنيف وزارة السياحة ما زال غير مقبول تماماً) يسمح بجعل التعليقات أكثر دقة. ففي بيروت والمناطق الساحلية المجاورة تشغل الفنادق الفخمة المكانة الأولى. وفي أغلب مناطق الاصطياف الجبلية في شرق بيروت، كزحلة، نجد أن السياحة «الشعبية» هي غالباً الأكثر رواجاً، كما في جونية، لكن الفنادق الفاخرة موجودة أيضاً. وفي الفئة الثالثة، تبدو الفنادق أكثر تواضعاً بعدد الأسرّة والمنشآت، وهي تستهدف بشكل رئيس الزبائن المحليين.

37تشير خارطة المطاعم (الشكل 5-28) إلى التناقض الشديد بين بيروت والمدن الرئيسية من جهة، وبين أماكن الترفيه والمنتجعات الساحلية، ولاسيما الجبلية، حيث توجد مطاعم «بلدية» كبيرة جداً يلتقي فيها الأصدقاء والعائلات أثناء الإجازات أو في عطل نهاية الأسبوع. إلا أن اللائحة التي تنشرها وزارة السياحة ليست كاملة، وهي تغفل بشكل خاص العديد من المناطق الشعبية كضفاف العاصي أو الحاصباني.

38وتعبر خارطة أماكن التسلية داخل مدينة بيروت القديمة، عن جغرافية تتجدد باستمرار منذ خمسة عشر عاماً (الشكل 5-29). فأثناء الحرب، كان مركز المدينة وحي الفنادق في الزيتونة وعين المريسة قد دمر. وتجمع عدد كبير من أماكن التسلية في الضاحية الشرقية وفي كسروان حول جونية. وفي بيروت الغربية، كانت أماكن الترفيه قد تركزت في الروشة على كورنيش المنارة. واحتفظ شارع الحمراء، هذا المركز القديم من نمط الستينيات، بوظيفة ترفيهية أيضاً.

39وقد ظهرت تدريجياً أمكنة أخرى، في إطار العودة للوضع الطبيعي. كان أولها شارع مونو Monot، وهو حي يقع قرب خط التماس القديم حيث تزدحم المطاعم والحانات في الأبنية القديمة المرممة، غالباً بشيء من التمييز. وقد استفاد حي الأشرفية بأكمله، حيث نمت فيه وظيفة ترفيهية محدودة خلال الحرب، من هذا التوجه. وابتداءً من نهاية التسعينات، أدّى انتهاء ترميم حي المعرض وساحة النجمة إلى ازدهار منشآت جديدة في مركز المدينة الذي يستقطب السياح بشدّة. ولقد سمح بناء الفنادق الجديدة على الواجهة البحرية بتغيير شكل شاطئ عين المريسة الذي أصبح مكاناً للتنزّه يرتاده الكثيرون. ويدخل حي الجميزة بدوره في عملية الترميم، وهو حي ساحر بمبانيه القديمة.

40إن أغلب زبائن وسط المدينة هم من الأجانب ومن المتقدمين في العمر، بينما نجد أن زبائن مونو والجميزة أصغر سناً ومعظمهم من اللبنانيين. وفي القسم الغربي من بيروت، وفرت الاستثمارات العقارية الكبيرة تنمية حي فردان، حيث تلتقي مساحات جديدة للتسوق الراقي والترفيه. وفيما يخص شارع الحمراء فهو يشهد أيضاً عمليات إعادة هيكلة. إنه حي تقليدي للمكاتب التي تحيط بها مطاعم صغيرة، كما يظل مكاناً يرتاده الطلاب، خاصة من الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية الأميركية. كما تمثل الروشة هدفاً لاستثمارات عديدة في مجال الترفيه. ويعتبر شارع بدارو مركزاً صغيراً بدأ يذبل منذ نشوب الحرب.

41وتبرهن العادات الجديدة على مرونة ملحوظة تتكيف مع استراتيجيات المستثمرين. وهي تتخلّص من جزء من الحواجز التي خلّفتها الحرب. ويمثّل شارع مونو ومركز المدينة فضاءات متعدّدة الطوائف كثيرة الاختلاط. وعلى العكس، نجد أن أنماط الاستهلاك والسلوك الجديدة التي تفرض نفسها قد أفقدت الأسواق روحها الشعبية التي كانت تتحلى بها.

الفصل السادس: المجتمع: مستوى المعيشة، التجهيزات ذات المنفعة العامة والبنى التحتية

البنية الإجتماعية والاقتصادية للسكان

الدخل

2إن الفوارق في الدخل في المجتمع اللبناني واضحة جداً. فبحسب الدراسة التي أجراها الاتحاد الأوروبي في عام 2002، يعيش 42% من السكان تحت خط الفقر النسبي (728 دولار/شهر/أسرة) و7% تحت عتبة الفقر المدقع (314 دولار/شهر/أسرة). وعلى العكس من ذلك، يتمتع جزء صغير من السكان بدخل مريح. ويمثل منحنى توزع الدخل بحسب الشرائح شكلاً ثنائي النسق يؤكد على النسبة الكبيرة للفئات الفقيرة وضعف الطبقات الوسطى (الشكل 6-1). وهناك حوالي 8% من الأسر التي تملك دخلاً شهرياً يزيد عن 3200 دولار.

3تمثّل بنية دخل الأسر بحسب المناطق الكبرى تشابهاً قوياً مع جغرافية الاقتصاد اللبناني. ونجد أعلى دخل لدى الأسر في المناطق الوسطى، في بيروت وجبل لبنان، حيث تحتل الطبقة الوسطى مكانة هامة نسبياً. وتتركّز في مناطق الأطراف نسبة مرتفعة من السكان الفقراء، كما تبينه خارطتا (الشكل 6-2)، سواء اعتمدنا على مؤشر مالي (مفهوم الفقر المطلق) أو مؤشر نوعي يأخذ بالإعتبار تباين مستوى الاستفادة من الخدمات والتعليم. وهكذا كانت المناطق الوسطى في كسروان والمتن وبيروت تمثل نسبة أقل من 3% من الأسر التي تعيش تحت عتبة الفقر المطلق في عام 2002، وضمت مناطق الأطراف في البقاع الشمالي وعكار وجنوب لبنان أكثر من 15% من الأسر في هذا الوضع. ويعزز هذه الخارطة بشكل عام خارطة تلبية الحاجات الأساسية التي تشير إلى أن نسبة الفقر الأعلى هي لدى أُسر المناطق الواقعة في أقصى الجنوب وفي البقاع الشمالي وفي الشمال.

4إلاّ أنّنا نستطيع ملاحظة أنّ الوضع في الجنوب كان أقل تجانساً مّما هو في الشمال، فهناك الكثير من الأقضية التي تتميّز بتصنيفات متوسّطة، لاسيما في منطقة النبطية. إنّ الوضع متناقض ظاهرياً، فمن جهة عانى الجنوب لمدة أطول من آثار الحرب (راجع الفصل الرابع)، ومن جهة أخرى، صنفته الدراسات دوماً في السنوات 1960 و1970 بأنه أقل المناطق نمواً في البلاد. إن أحد المصادر القليلة بهذا الشأن هي الدراسة التي قام بها معهد البحوث من أجل التنمية والتدريب (إرفد)/ مكتب التنمية الاجتماعية في عام 1970، التي بينت، بفضل التحقيق الميداني الذي شمل 60 قرية لبنانية، الفقر الكبير في البقاع والجنوب. والوضع المتنوع في الشمال (الشكل 6-3).

5يفسّر تحوّل تسلسل هرمية الفقر بالعديد من العوامل. يتعلّق الأوّل بفوائد الهجرة. وفي الواقع، استفاد الجنوب من الكثير من الاستثمارات القادمة من مغتربيه، ويشهد على ذلك ضواحي قراه، فهي مغطّاة بفيلات فاخرة، وهي علامة على نجاح مهاجري الجنوب الذين غالباً ما يأتون للتقاعد فيها، بمجرّد أن ينتهى إنشاؤها. ومع ذلك، يصعب معرفة إن كانت هذه الحالة تخص الجنوب أكثر من مناطق لبنانية أخرى، لوحظت فيها استثمارات للمغتربين أيضاً.

6والعامل الثاني لهذا التغير هو أن الجنوب استفاد أيضاً من إعادة التوازن السياسي الذي تمّ التوصل إليه من خلال تسوية ما بعد الحرب، حيث أن هذه المنطقة تعيش عملياً في تكافل مع العاصمة، خاصة بعد أن قربهما من بعضهما تحسين البنى التحتية للطرق. فجزء من الرواتب التي تؤخذ في بيروت - خاصة في الوظائف الحكومية - يتمّ إنفاقه في قرى الجنوب. وعلى العكس، فإن الذين يأتون من الشمال هم نسبياً أقل عدداً في العاصمة، قلب البلد الاقتصادي، (أنظر الشكل 3-11 ب)، وهذا ما يحد من إعادة توزيع الدخل باتجاه الشمال.

7تتمتع بيروت ومنطقتها عموماً بمستوى معيشي مرتفع جداً مقارنة ببقية البلاد، واللامساواة في التجمع العمراني في بيروت واضح جداً. ويشير (الشكل 6-1) إلى وجود طبقة مرفهة بشكل خاص، فهنا تتركز نخبة البلد الاقتصادية. ويبين التمايز الاجتماعي المكاني في التجمع العمراني في عام 1994 هذه التناقضات الاجتماعية التي لا نعرف كيف تطوّرت فيما بعد. فإذا ما نظرنا إلى ربع السكان الأكثر حرماناً في ذلك التاريخ، نلاحظ وجودهم المفرط في المدينة الأم (بيروت الإدارية)، وكذلك في الضاحية الجنوبية. كما توجد بؤرتان في الدائرة الثانية، جنوب المطار وفي الشمال حول ضبية، حيث كان يوجد مخيمٌ فلسطيني يأوي نسبة مرتفعة جداً من السكان المحرومين. ولا يتطابق رصد الأماكن التي يوجد فيها ربع السكان الأكثر غنى بشكل كامل مع النسخة السلبية لصورة التوزع السابقة. في الواقع، توجد نسبة كبيرة من الأسر الغنية في مركز المدينة حيث تتجاور مع فئات اجتماعية محرومة وكثيرة العدد أيضاً، كما في أحياء الأشرفية المسيحية. وعلى العكس، فإن أحياء رأس بيروت، وخصوصاً الروشة، هي الأكثر ثراءً.

8ومن وجهة نظر التنظيم الاجتماعي، تتمايز ثلاثة أنواع من الأحياء. إن تعايش السكان الأثرياء والمحرومين في بيروت الإدارية واضح جداً. ويمكن تفسيره بشكل خاص ببنود قانون تثبيت أجور العقارات، التي حافظت على اختلاط نسبي، حتى وإن كان الهدم التدريجي للمباني القديمة حالياً يجعل من الصعب المحافظة على بقاء السكان الفقراء في مركز التجمّع العمراني. وفي الدائرة الأولى في الضواحي، إن كان في الشرق، في حي برج حمود، أو حي سن الفيل السفلي، أو في قطاعات مختلفة من الضاحية الجنوبية (الشياح والغبيري) توجد تجمعات كبيرة للسكان الفقراء، لاسيما في الأحياء الفلسطينية والأحياء العشوائية في الضاحية الجنوبية. وفي المقابل، تبدو التلال كمجالات للطبقة الوسطى وللطبقات الغنية، خاصة في القطاعات الواقعة شمال التجمع العمراني.

9ومنذ ذلك التاريخ، لم يتغيّر هذا التنظيم بشكل كبير. ولا تستطيع سوى الطبقات الوسطى والغنية السكن في مرتفعات بيروت ضمن أبنية صغيرة، وفي نمط حياة يتطلب استعمال السيارة. ولقد اختارت الطبقة الوسطى المسلمة التلال الواقعة جنوب التجمع السكاني، التي شهدت خلال عشرة أعوام توسعاً ملحوظاً بفضل تنمية الطرق السريعة. وقد بنيت في منطقة التلال، بنجاحات متفاوتة، تجمعات سكنية مُسَيَّجة، وأبراج سكنية، تُذكّر، وعلى مستوى محدود، بالتحولات المذهلة لمدن عديدة في الجنوب (انظر الشكل 4-24). ويستمر الاختلاط في مركز التجمّع العمراني، لكن مع ذلك تستمر الطبقات الفقيرة بالتناقص. وأخيراً، ففي الضواحي القريبة من بيروت، تتجاور أحياء الطبقات الوسطى مع البؤر الفقيرة الكبيرة التي تتزايد باستمرار. حتى وإن توقّفت الأحياء العشوائية عن التوسّع، فمن الممكن أن تتكثّف شاقولياً.

النشاطات والوظائف

10تجد التناقضات العامة للموارد على صعيد البلاد تفسيراً جزئياً في معدل نشاط السكان. ويبين (الشكل 6-5) بوضوح أن معدل نشاط السكان (المعرّفين هنا بالسكان في سن العمل الذين لديهم وظيفة) أعلى في المناطق الوسطى، وهو ما يفسر جزئياً الدخل الأفضل، خصوصاً وأن التحقيقات الميدانية قد أظهرت أن المؤهلات والرواتب فيها مرتفعة أكثر. إن هذا التفاوت في الوصول إلى الوظيفة ناتج جزئياً عن الجغرافية الاقتصادية للبلد (أنظر الفصل الخامس). يوضح الوضع الوظيفي هذه الاختلافات المناطقية. وتترجم الصفة غير الرسمية للاقتصاد أو ضعف تنظيمه بنسبة مرتفعة من العمالة غير الوظيفية، التي وصلت إلى 39% في عام 2001. فالتجارة والبناء والزراعة هي القطاعات التي تسيطر فيها الوظائف غير الثابتة أو الأعمال الحرة (الشكل 6-6 أ).

11 أنّ هذه النسبة أكثر بكثير في مناطق الأطراف (الشكل 6-6 ب)، فالحجم الكبير للوظائف الحرة والعمال المؤقتين تعبير عن اقتصاد أكثر هشاشة ودخل أقل انتظاماً.

12إن الاختلافات المناطقية في الموارد ناتجة أيضاً عن التباينات الكبيرة في إمكانية دخول المرأة سوق العمل. في الواقع، من الواضح أن نسبة نشاط النساء كانت أقل في مناطق الأطراف (الشكل 6-7). ونشهد اليوم ارتفاعاً طفيفاً في نسبة نشاط النساء، خاصة بسبب تأخر سن الزواج لدى النساء، ويفسر هذا التأخر بصعوبات تأسيس الأسرة. ولكن يلاحظ هذا الارتفاع في نسبة نشاط النساء بشكل أكبر في المناطق الوسطى.

13ويوفّر مستوى التعليم لدى السكان شكلاً آخر من أشكال التفاوت الإجتماعي في المجتمع. فنسبة الأمية عالية بشكل خاص في شمال البلاد، لاسيما في قضاء عكار وفي أقصى الجنوب. أي بشكل أساسي في المناطق المسلمة الفقيرة، السنية أو الشيعية، ولكن المسيحيين الفقراء الأميين موجودون أيضاً في قضائي مرجعيون وعكار. إن الأمية لدى النساء (الشكل 6-8 ب) ترسم وشاحاً واسعاً يغطي جميع مناطق الأطراف باستثناء الأقضية التي تحوي مدناً كبيرة، مثل صيدا وزحلة وطرابلس. إن البعد الطائفي لهذا التقسيم قوي جداً، لأن هذه المناطق الريفية تضم سكاناً مسلمين كثر. وعلى العكس، فإن خارطة حملة الشهادات الجامعية تعطي الغلبة لمناطق وسط البلاد (الشكل 6-8 ج). ومن خلال اللامساواة في الوصول إلى التعليم يمكن قراءة التنمية غير المتوازنة في البلاد. فالأطراف لا تزال إلى حد بعيد خارج العالم الحديث. وبسبب ضعف التنمية الاقتصادية، تظل هذه المناطق معتمدة بشكل كبير على الدولة، التي تظل الجهة الوحيدة التي توفر فرص العمل والتجهيزات ذات المنفعة العامة.

14ويظهر التوزّع المناطقي للوظائف العامة أن الدولة تمثل الجزء الأكبر من الوظائف، وبالتالي من مصادر الدخل، في العديد من المناطق الريفية النائية وفي شمال جبل لبنان وفي أقصى شمال البلاد في البقاع (الشكل 6-9). وتبدو المناطق الوسطى، حيث تتركز إدارات دولة شديدة المركزية، أقل استفادة من الوظائف الحكومية نسبياً، ما يؤكّد على النقيض من ذلك، وجود تنوّع في فرص العمل الكثيرة في القطاع الخاص. وعلى العكس من ذلك، هناك بعض المناطق الريفية الأقل استفادة من الوظائف العامة. وربما يمكن تفسير وضع بنت جبيل ومرجعيون بربطه بالاحتلال الإسرائيلي الطويل، وبالتالي حيث كان وجود الدولة اللبنانية شبه معدوم عملياً. بينما بالنسبة لأقضية المنية-الضنية والهرمل، يبقى وضعها مؤشراً على الحرمان وتأخراً واضحاً جداً في التنمية.

15إن الوصول للمؤسسات العامة الاجتماعية ووجود بنى تحتية أساسية هي طريقة أخرى لقياس عدم المساواة في التنمية والثروة في المجتمع اللبناني. وهذه القطاعات معنية بشكل مباشر بموضوع متكرر في لبنان منذ الستينيات، وهو «التنمية المتناسقة» بحسب التعبير الذي انتشر للأب ليبريه (Lebret) وفريق معهد البحوث من أجل التنمية والتدريب (IRFED). ثم تحولت هذه المسألة، إذ يتّم التطرق إليها اليوم تحت اسم «التنمية المتوازنة»، وهو تعبير مكتوب رسمياً في الدستور منذ اتفاق الطائف. إن قياس الوصول لهذه التجهيزات ذات المنفعة العامة وللبنى التحتية هو انعكاس للسياسات السابقة، لكنها أيضاً مبادرات خاصة و/أو طائفية لم تنتظر الدولة لتوفير الخدمات للمواطنين ضمن منطق السوق أو التضامن الطائفي. ويمثل مجالا التعليم والصحة هذين النهجين.

التجهيزات ذات المنفعة العامة، البنى التحتية الأساسية والتنمية المتوازنة

16إن التفرعات الحقيقية لشبكات المياه الصالحة للشرب كانت، في 2006، بعيدة عن أن تشمل كل لبنان (الشكل 6-10 أ). إنها تمثل غطاءً واسعاً ينطلق من سهول المنية وعكار وصولاً إلى البقاع الأوسط بما فيه ضواحي زحلة، مع نسبة تغطية متدنية جداً كما يبدو. ويمكن أن نميز فيها نمطين من المناطق، الأول يتمثل بالمناطق الريفية أو الجبلية حيث حالة نقص قديم في التخديم بالشبكة لم تكملها سياسات التخطيط في فترة ما قبل الحرب. والثاني، الذي يضمّ مناطق تتواجد بشكل خاص في السهول وفي ضواحي المدن التي عرفت نمواً كبيراً في ميدان البناء أثناء الحرب. ولم تواكب البلديات والسلطات الحكومية المعنية هذا التطور، حيث تعرف هذه المناطق عجزاً خطيراً جداً في البنى التحتية. ونجد في الفئة نفسها مدن صور وبرجا وشحيم، ومما يثير الفضول أننا لا نجد النبطية. وتعاني الضاحية الجنوبية في بيروت بشكل أساس من الإشكالية نفسها، وهي تتعارض بوضوح مع المدينة الأم، وكذلك مع الضاحيتين الشمالية والشرقية اللتين عرفتا مع ذلك نمواً كبيراً أثناء الحرب. ونستنتج من ذلك أن السلطات الحكومية، في هذه الحالة، قد استطاعت أن تواجه هذا النمو بشكل عام، بالرغم من الصعوبات التي واجهتها. ويفسر الوضع غير الشرعي للعديد من المساكن في الضاحية الجنوبية أيضاً اتصالها الضعيف بالشبكة، إذ أن هذه المساكن ليس لديها الحق بأن ترتبط بالشبكة.

البنى التحتية الأساسية

17يمثّل الارتباط بشبكة المجاري اختلافات واضحة مع هذا النموذج (راجع الشكل 4-16)، إذ نجد هنا تناقضاً تقليدياً بين المناطق العمرانية في بيروت وضواحيها وصيدا وزحلة وطرابلس وباقي البلاد، فالارتباط بشبكة المرافق الصحية قليل التطور أو حتى معدوم في بعض المناطق. يعود هذا التناقض المكاني إلى العجز في سياسة التجهيزات ذات المنفعة العامة، وبالتالي إلى ثغرات في أداء الجماعات والدولة. لن نستنتج من هذا استنتاجات متسرعة فيما يخص الحفاظ على البيئة في غياب محطات معالجة حتى يومنا هذا (2005). ففي الحالة الأولى، تصب التدفقات المائية عبر شبكات موجودة في مجاري المياه و/أو في البحر، وفي الحالة الأخرى تلقى في الطبيعة عبر بالوعات وحفر الصرف الصحي.

18لقد توصلت الدولة اللبنانية في نهاية الستينيات إلى ربط كامل البلاد بالشبكة الكهربائية. لكن الحرب وضعت هذه النتيجة موضع شك لعدة أسباب؛ أولاً بسبب نقص الاستثمار وتوقف الإنتاج الذي لم يعد يلبي عموماً زيادة الطلب الناتجة عن التزايد السكاني، والتي تكثفت أيضاً بسبب تزايد الأجهزة الكهربائية المنزلية خاصة لدى الطبقات الوسطى. يضاف إلى ذلك، الأعطال وتصاميم نظم عفا عليها الزمن؛ ثمّ يضاف إلى كل هذا، أثناء سنوات التسعينات، الهجمات الإسرائيلية على المحطّات والمولّدات، التي أدّت إلى تقنين الكهرباء. وباستثناء بيروت1، لا تتلقى أية منطقة في لبنان الكهرباء طوال اليوم حتى الآن. ومن جهة أخرى، أدت هجرة السكان إلى خلل بين العرض والطلب، و في قدرة الشبكة على تلبية هذا الطلب. إنها بشكل خاص حالة الضواحي العمرانية الجديدة، في بيروت على سبيل المثال. إن عجز الشبكة هو سبب إضافي للجوء إلى التغذية البديلة.

19وفي مواجهة هذه الحالة فإن ردة فعل الأسر والشركات تعتمد إلى حد كبير على إمكانياتها المالية. ونشهد لجوءاً كبيراً للمولدات الكهربائية، يكون فردياً في البداية، ثم يصبح على مستوى المبنى أو الحي. وأتت في بعض الأحيان أيضاً على شكل مساعٍ شخصية، على صعيد بناء أو على صعيد حي ما. وتوضح خارطة المباني التي تملك مولدات كهربائية إحدى هذه الاستراتيجيات (الشكل 6-10 ب). إنها تبين أن اللجوء إلى المولد الكهربائي للأبنية ينمو بشكل خاص في ضواحي بيروت وفي جبل لبنان الشمالي، وهذا ما يتوافق مع عمران حديث للمناطق الآهلة بالفئات القادرة على الدفع. وليس من السهل دوماً في المناطق القديمة الكثيفة تركيب معدات مماثلة، ويفضل اللجوء إلى مولد كهربائي للحي، لكن هذه المعلومات غير متوفّرة.

20يتميز وسط البلاد بخدمات أفضل بالنسبة للبنى التحتية الأساسية، وهذا ما يُفسر جزئياً في عمران أقدم وفي جهود مستمرة للدولة والجماعات العامة لصالح هذه المناطق. كما أن هذه المناطق هي أكثر ثراء بشكل عام وتستفيد أيضاً من بنى تحتية أفضل نوعية نسبياً من باقي البلاد.

التعليم

21إن نسبة التعليم الرسمي، ضمن قطاع التعليم، هي ضعيفة بشكل عام مقارنة بالقطاع الخاص والقطاع الخاص المدعوم الذي يدعى أحياناً مجاني.

22يعتبر التعليم الخاص ذا نوعية أفضل، وتفضله الطبقات الاجتماعية الوسطى والثرية. وقد نما التعليم بشكل ملحوظ خلال سنوات التسعينات، قبل أن يشهد تراجعاً نسبياً منذ عام 2000 بسبب مصاعب اقتصادية. وتنشّط التعليم الخاص، جزئياً، مؤسسات دينية، لاسيما المسيحية. وتمثل نسبته حوالي 50% من مجموع طلاب المدارس، وتشكل نسبة التعليم الحكومي 40% تقريباً من الطلاب، ويشكل القطاع الثالث 10% تقريباً من المجموع، ويمثل هذا القطاع الأخير نشاط الجمعيات أو المؤسسات الطائفية وذات الغاية الاجتماعية.

23يتركّز قطاع التعليم الخاص بشكل أساسي في بيروت وعلى الساحل الشمالي لجبل لبنان والمناطق الأكثر ثراء في جبل لبنان ذي الغالبية المسيحية. وفي المناطق الأخرى، لا يوجد هذا التعليم إلا في المدن الرئيسية وضواحيها (زحلة وبعلبك وصيدا وصور والنبطية وطرابلس). وهكذا، فإن وجود القطاع التعليمي الخاص مرتبط بقدرة السكان على الدفع (الشكل 6-11 ج).

24وتبدو خارطة التعليم الحكومي كأنها معاكسة لخارطة التعليم الخاص (الشكل 6-11 أ). وتملك بيروت ومناطق الساحل الشمالي لجبل لبنان قطاعاً تعليمياً حكومياً يخدم أقل من ثلث الطلاب، وغالباً أقل من ذلك بكثير. ويهيمن القطاع العام في الشمال، خاصة في عكار. كما أن تمثيله قوي أيضاً في جنوب لبنان وفي جنوب البقاع. وبشكل عام، تتطابق غلبة القطاع الحكومي مع خارطة أكثر المناطق فقراً. وينتشر التعليم الخاص المدعوم من الدولة بشكل كبير في البقاع الشمالي، وكذلك في عدة مناطق من جنوب لبنان والبقاع الجنوبي كما في المناطق النائية في شمال لبنان (الشكل 6-11 ب). وهو يبدو مرتبطاً بشدة بالعمل الخيري للمنظمات الدينية، حيث تتواجد جمعيات شيعية مثل جمعية المبرات الخيرية أو الجمعيات المرتبطة بحزب الله؛ ومثال على ذلك انتشارها القوي في ضاحية بيروت الجنوبية كما في قضائي بعلبك والهرمل. لكن هناك جمعيات ذات أهداف مماثلة لدى المسيحيين الفقراء في ضواحي بيروت أو في الجبل المسيحي. وتبدو هذه الظاهرة أقل تطوراً في الوسط السني، حتى وإن وجدنا بعض النماذج في عكار. وفي المقابل، وباستثناءات قليلة، تبدو صيدا وطرابلس غير معنيتان بذلك كثيراً.

25يشير التقسيم المكاني للقطاعات الثلاثة أولاً إلى اختلاف مستوى الثروة بين السكان، إذ أن السكان الأثرياء نسبياً هم وحدهم القادرون على دخول التعليم الخاص. ويدل تركز التعليم الحكومي والخاص المدعوم، المتزايد في بعض المناطق، على وجود عدم تكافؤ في أشكال التنظيم وفي تأطير الدولة للسكان. وتتركز هذه الأشكال من التعليم في المناطق التي أهملتها الدولة، لاسيما في الأوساط الشيعية وفي المناطق المسيحية الفقيرة، حيث تتحمل مسؤولية مصير السكان منظمات ذات ثقل طائفي كبير.

26إن خارطة المدارس الحكومية التي تحتوي على أقل من 100 تلميذ تأتي لتكمل تقريباً المعلومات عن الجهد الذي تبذله الدولة (الشكل 6-12). تستخدم هذه الإحصائية غالباً في الجدل القائم حول سوء إدارة الدولة وعلاقة نفقاتها بالمحسوبية المفترضة. ونستطيع ملاحظة أنه في بعض الأقضية الفقيرة جداً، مثل بعلبك والهرمل وعكار وبنت جبيل أو البترون، يوجد الكثير من المدارس الحكومية ذات الحجم الصغير، التي غالباً ما يحتفظ بها لضمان الحد الأدنى من الخدمة في المناطق النائية والمحرومة من الخدمات. ومن حيث النسبة المئوية، يبدو أن هذا الجهد يعود بالنفع على المناطق المسيحية الريفية أو الجبلية (الكورة والبترون وبشري وجزين أو مرجعيون). ولا تستفيد سوى منطقة الهرمل من جهد مماثل

المرافق الصحية

27يكشف الوصول للمرافق الصحية إشكالية مختلفة جزئياً. ولا تساعد المعلومات المتاحة على تحديد نسبة القطاع الخيري. حتى أن تعدد المستوصفات لا يسمح بفصل ما يتعلّق بعمل الدولة عن ذلك الخاص بالجمعيات ذات الطابع الطائفي أو التابعة للمجتمع المدني.

28تقدّم خارطة كثافة الأطباء صورة معقّدة، ومختلفة نوعاً ما عن صورة الفقر. ولا تتوافق هذه الخارطة لا مع التناقض بين المركز والضواحي، ولا مع التناقض القائم بين المدن، أو بشكل أشمل بين الساحل والجبل والمناطق الريفية (الشكل 6-13).

29تضم المناطق الأكثر تجهيزاً مدن بيروت وضواحيها الشمالية والشرقية، والبقاع، ومنطقة صيدا حتى النبطية، وبعض المراكز الإدارية مثل طرابلس وصور وراشيّا وبعلبك وبشرِّي. وبشكل عام، يتميز الشمال، لاسيما عكار، بالنقص الشديد في عدد الأطباء، ما يشير بقوة إلى الجذب الذي تمارسه طرابلس. على كل حال، نجد مناطق مختلفة تكون فيها كثافة الأطباء ضعيفة، كما في الجبل المسيحي أو في الجنوب، مما يدفع على الأرجح إلى تفسير ذلك على أنه إشارة إلى وجود مناطق تعتمد في خدماتها على مراكز إدارية مجاورة.

31يشير الحجم والانتشار المتباين للمشافي، العامّة أو الخاصّة (الشكل 6-14ج)، إلى أن الصحة في لبنان هي قبل كل شيء سوق يتمتع فيه الفاعلون في القطاع الخاص بحرية الحركة الكاملة، فقد كان القطاع الخاص يضم، في عام 2000، أكثر من 90% من الأَسِرَّة التي توزعت في قلب المناطق التي تستطيع الدفع بشكل أساسي، وهذا يعني في التجمعات العمرانية الكبيرة (الشكل 6-14 أ). وقد أدّت هذه الحرية إلى المنافسة الشرسة وإلى الاستهتار بكل معيار اقتصادي يحبّذ الحجم الكبير، وإلى منطق يرتكز على تحفيز الإنفاق لتعويض ثمن التجهيزات الطبية. وتبدو بيروت وصيدا على وجه الخصوص كأماكن رئيسة لانتشار القطاع الطبي الخاص. كما أخذ القطاع الطبي مكانه أيضاً في هذه المدن اعتماداً على سوق إقليمية، حيث أنه يستهدف زبائن من البلدان المجاورة، وحتى من بلدان الخليج.

32تتميز خارطة توزع المشافي الحكومية أولاً بضآلة العرض (الشكل 6-14 ب). ويشير توزعها إلى إرادة تجهيز المناطق النائية بالحد الأدنى من الخدمات الطبية، تعززت في السنوات الأخيرة بمشاريع لإنشاء المشافي في مراكز الأقضية. ومع ذلك، يصطدم هذا الجهد بميزانية الدولة المحدودة. في الواقع، تأجل افتتاح تجهيزات جديدة في عدة حالات، لأن الدولة لا تستطيع تأمين نفقات التشغيل والطاقم، أو حتى ثمن التجهيزات الداخلية للمشافي التي موّلت المساعدات الدولية بناءها فقط.

34يضاف تناقض حالات عدم المساواة بالدخل أو بالحصول على التعليم بين الوسط والأطراف في لبنان، إلى عدم المساواة التي تؤثر أيضاً على طريقة الوصول للخدمات العامة والبنى التحتية الأساسية وكذلك الصحة. ويتم ملء الثغرات التي نتجت عن أعمال الدولة بأشكال مختلفة. ويتكفل القطاع الخاص ببعض الوظائف كالطب أو التعليم على حساب تزايد عدم المساواة. ومن جهة أخرى، يطرح التحرك الطائفي في النهاية موارد جديدة للسكان من خلال استبدال الدولة بخدماته.

35وفي جزء واسع من هذا البلد، غير الكبير بمساحته، يمكن الوصول إلى بعض التجهيزات ذات المنفعة العامة والبنى التحتية في جزء واسع من البلاد بفضل القدرة على الحركة. ممّا يشرح نجاح المطالبة بـ «التنمية المتوازنة»، فعدم التوازن ليس مكانياً فقط، فالرهان إيديولوجي أيضاً وطائفي بشكل خاص. وتتجسّد المطالب بتعامل متكافئ بين مختلف المناطق والطوائف

الفصل السابع: سياسات التنظيم وإعادة الإعمار

p. 153-174

1تفسّر الحرب الأهلية وآثارها التحوّلات المناطقية في لبنان خلال الفترة الحديثة. ويجب أيضاً أن تؤخذ في الحسبان مبادرات الأطراف الاقتصادية الخاصّة المؤثّرة. ومن جهة أخرى، فإن التغيرات السكانية وأنماط الحياة هي بطبيعتها جماعية، كالتعليم والتمدّن وأنماط السكن، وهي تؤدي إلى تحولات على المدى البعيد. ولا يجب إهمال دور الدولة والتخطيط العام خلال فترة إعادة البناء هذه، بل يجب أخذ وضع الدولة بالحسبان في إطار تنوع المصالح التي تُفَسرُ فيها أو تتعارض معها، في تنوع الفاعلين المؤثرين المفاوضين. ويقود وجود الدولة المركزية والإدارت المحلية والمانحين الأجانب والفاعلين، بنوعيهما العام والخاص، والإدارات التي يشرف عليها السياسيون ذوو المصالح المتعارضة أيضاً، إلى تخطيط مناطقي يصبح فيه البحث عن مبدأ تنظيمي ضرباً من العبث. ويفضل قراءة الإجراءات وآثارها المناطقية كتعبير عن هذه الصراعات والاختلافات التي تتشكل في جسد اجتماعي يعيش تحولاته الخاصة.

التراث الشهابي

2لا نستطيع الامتناع عن العودة بالجهد الذي بذلته الدولة في إقامة تجهيزات المنفعة العامة وتنمية المناطق منذ الاستقلال، خاصة منذ سنوات الخمسينات وحتى الحرب الأهلية، حتى وإن كانت الوثائق لهذه الفترة ليست وفيرة. فالسياسات المتبعة كانت تهدف إلى التنمية الاقتصادية وبناء الدولة في آن معاً. إن أشهر مثال عن التنمية المناطقية الشاملة قبل الحرب هو السياسة التي اتبعها اللواء شهاب بين عامي 1958 و1964. ومخطط الاستقطاب الذي اقترحه معهد البحوث والتدريب من أجل التنمية (إرفد) (IRFED)، المستشار لدى الحكومة اللبنانية، بعد الدراسات التي قام بها، يعبر عن هذه المقاربة (الشكل 7-1). وتحدّد هذه الوثيقة - بالاعتماد على التسلسل العمراني - شبكة من التجهيزات العامّة المعدّة لكل مستوى، كان ينتظر منها أن تكون رافعات فعالة في نشر الحداثة، وأن تجسّد في الوقت نفسه، وبشكل ملموس، عمل الدولة في خدمة التلاحم الوطني. ويميز هذه الفترة تفكيك العزلة التي كانت تعيشها المناطق المعزولة، من خلال بناء الطرق وتجهيز القرى بالمياه الصالحة للشرب والكهرباء. كما كانت برامج الري وإعادة التشجير توجهاً آخر لهذه السياسة.

3ويعتبر عهد شهاب، في أعين المسؤولين والرأي العام في كثير من الأحيان، مرجعاً ومثالاً يحتذى به. وتشكّل ذكراه المرجعية التي يُحتَكم إليها والنموذج الذي تناقش من خلاله توجهات السياسية الحالية. ويندرج موضوع التنمية المتوازنة، الذي أُدخل على المبادئ الدستورية في اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، ضمن إطار عملية التنمية المتوازنة التي وضع أسسها النظرية الأب لويس-جوزيف لوبريه (Louis-Joseph Lebret)، مدير معهد البحوث من أجل التنمية والتدريب.

نفقات إعادة الإعمار

4كانت إعادة إعمار لبنان هدف العديد من الخطط أثناء فترات هدوء الحرب الأهلية، خاصة في عام 1977 عندما تأسّس مجلس الإنماء والإعمار (CDR)، ثم في الفترة 1982-1983 في بداية عهد الرئيس جميّل. وقد أعيد تفعيل مجلس الإنماء والإعمار في عام 1991. وهو يمثل الهيئة الرئيسية لإعادة الإعمار المكلفة بتحديد المشاريع ذات الأولوية والحصول على التمويل من الممولين الدوليين ومن الحكومة اللبنانية.

5تتجسد المؤسسات الرئيسة الأخرى المكلفة بإعادة الإعمار بمجلس الجنوب، الذي أنشئ عام 1970 لتنمية الجزء الجنوبي من البلاد، وصندوق المهجّرين، الذراع الأيمن للوزارة التي تحمل الاسم نفسه. وقد تأسس هذا الصندوق والوزارة، كلاهما، في عام 1992.

6إذا كانت إعادة الإعمار في لبنان بطابعها الكبير والإرادي، وبفضل شخصية رفيق الحريري القوية، تبين التزام الدولة بتضميد جراح الحرب، فيجب عدم إهمال السياسات المطبقة الأخرى، خاصة في المجال الاجتماعي. ووفق مجموع النفقات العامة المنفذة عام 2000، فإن نفقات إعادة الإعمار (بمعنى الاستثمارات المادية للدولة) لا تمثّل إلاّ 11,6% من الاعتمادات المخصّصة. وتشكّل النفقات الاجتماعية -على شكل الأجور أو الرواتب التي تدفع لموظفي الحكومة، الذين انضمّ إليهم أعضاء ميليشيات قدماء- جزءاً هاماً أيضاً. وتشكل سياسة المهجرين جزءاً أساسياً من هذه السياسة الإصلاحية (أنظر لاحقاً). ولا يمكن فهم الدين العام العملاق والمتراكم إلا كنتيجة لتضافر هذه الأفعال، ولا يمكن تفسيره فقط بالنفقات المنتقدة أحياناً بأنها باهظة وغير مفيدة، بالإضافة إلى أنها مولدة للفساد (راجع الفصل الثاني).

7يظهر توزيع استثمارات مجلس الإنماء والإعمار الجهد الكبير المنفذ لإعادة تأهيل البنى التحتية الضرورية للاقتصاد والحياة اليومية (أنظر الشكل7-2)، كالطرق والإمداد بالمياه الصالحة للشرب وبالكهرباء والهاتف، ومطار بيروت الدولي والميناء. وقد شكلت البنى التحتية الأساسية حتى عام 2004 ما يعادل 56% من النفقات، ومياه الشرب والصرف الصحي 15% من المجموع. ونلاحظ في البرامج الحالية التوجه نحو المظاهر البيئية التي تشهد وعياً للتأثيرات البالغة الخطورة التي تصيب البيئة (راجع الفصل الرابع) والتي يجب تفسيرها كاستجابة لالتزامات المموّلين الدوليين الذين أعطوا الأولوية لهذا الموضوع، لاسيما الاتحاد الأوروبي.

8يجب أن يُقدَر التوزيع المناطقي لاستثمارات إعادة الإعمار (الشكل 7-3) على ضوء الخسائر التي حصلت من جهة، وعلى ضوء متطلبات التنمية المتوازنة في الجدال السياسي القائم من جهة أخرى. ويُدخِل أخذ عدد السكان بالحسبان (الشكل 7-4) في المعايير مسألة الشك بالإحصاءات (راجع الفصل الثالث). بالإضافة إلى أن قيمة المؤشر كانت منحازة قليلاً، لأن عدداً من الاستثمارات في العاصمة أو في منطقتها كانت غير قابلة للتغيير، فليس هناك سوى مطار دولي واحد في لبنان وهو يقع في ضواحي بيروت. والصحيح أيضاً هو أن العاصمة بيروت كانت أكثر من يستفيد من عوائد الاستثمار، ولكن ذلك يعود لأسباب ترتبط بالبنية المناطقية وبالاقتصاد الذي يتجاوز كثيراً قدرات الدولة، حتى لو كانت تملك الرغبة بالتدخل فيه.

9ويظهر من خلال هذه المؤشرات القليلة والمختزلة، أن جهود إعادة الإعمار كانت أكثر في جنوب لبنان وشماله مما كانت في البقاع. ويدلّ هذا في الجنوب على التضامن الوطني تجاه الأرض التي كانت محتلّة. أما بالنسبة للشمال فيمكن التأكيد على أنه المنطقة الأكثر فقراً في لبنان، لكن تحليلاً أكثر عمقاً قد يشير إلى أن هناك على الأرجح حالات من عدم التوازن بين الأقضية في الشمال، وأن عكار بقيت قليلة الاستفادة من هذه الجهود. وفيما يخص البقاع فهو لا يتميز بأي ازدهار، ويبدو ضعيف الاستفادة. أما جبل لبنان، فبالرغم من كل الاستثمارات المرتبطة بالعاصمة فهو يبدو أيضاً أقل استفادة.

التنفيذ في بعض القطاعات

10يجب التوجه نحو القطاعات، وذلك من أجل تقديرٍ أوضح لأشكال ولرهانات سياسات إعادة البناء. لقد تم التطرق باختصار في الفصل السادس من هذا الكتاب لمسائل التجهيزات الصحية والمدرسية. حيث تم إنشاء العديد من المستشفيات في مناطق الأطراف، ولكن العديد منها بقي مغلقاً بعد بنائه بسبب نقص التجهيزات والطاقم الطبي أو الاعتمادات المالية الضرورية للعمل. ويوضح هذا محدودية هذا الجهد، ويدفع للتساؤل عن الهدر في الاستثمارات المنفذة. وفيما يخص المدارس، أقيمت العديد من المنشآت ذات الحجم الصغير في المناطق الريفية، والتي كانت تترافق أحياناً مع مؤسسات القطاع الخاص، الذي يفضله السكان (راجع الفصل السادس). وترتبط المشاريع التي تعلنها الحكومة في هذا المجال، كما في بيروت، بالمزايدة لإرضاء الطوائف أكثر من ارتباطها بتقييم الحاجات الحقيقية للسكان، ونراها بوضوح هنا في مسألة تنظيم الطرق.

11ويفسر تنظيم الطرق (الشكل 7-5) الانشغال بتأمين الربط الفعال بين مختلف المناطق، في بلد تُرجمت فيه الحرب بالتقسيم وبصعوبات في حركة السير. يندرج في هذا المنطق عمليات إصلاح وتوسيع البنى التحتية للطرق السريعة على الساحل ونحو دمشق. وكان اجتياز جبل لبنان عبر عدة طرق جبلية يقدم أحياناً كوسيلة لإرضاء المصالح الاستراتيجية والسياسية، ولم تكن الغاية الاقتصادية فيها تتقدم دوماً بشكل تلقائي، كما هو الحال بالنسبة للطريق الرابط بين سير الضنية والهرمل. لكن توسيع شبكة الطرقات يخضع أيضاً لأهداف محلية، أو لضغوط المنافع الشخصية. وهكذا فقد امتلك النواب لوقت طويل مبالغ خاصة لصيانة الطرق المحلية في مناطقهم.

12يعد قطاع الكهرباء رمزاً لطموحات إعادة الإعمار. فقد أدى التدمير، والتقصير في الصيانة، ونزوح السكان، إلى اضطراب شديد في إنتاج وتوزيع الكهرباء. وقد قلص الغش والخطوط العشوائية وعدم الدفع وعدم تعديل التعرفة بحسب السحب، موارد الكهرباء في لبنان. وفي نهاية الحرب، كانت المؤسسة العامة للكهرباء تؤمن من 4 إلى 6 ساعات كهرباء يومياً. ومن أجل تخفيف التقنين، أُنشئت وحدات بديلة خاصة لتوليد الكهرباء تملك مولدات كهربائية.

13ولقد سمحت استثمارات كبيرة تمولها المساعدات الدولية بتحسين الأوضاع. فقد أعيد بناء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية أو تمت صيانتها، كما أعيد تأهيل الشبكة وتحديثها (الشكل 7-6). ومع ذلك، ظلت هناك العديد من المشاكل. وحتى عام 2005 لم يكن قد تمّ إنجاز الشبكة نهائياً. وأظهرت الدولة عجزها عن تطبيق قرارات الاستملاك المرفوضة. وتمّ تأجيل التحول إلى استعمال الغاز الطبيعي في محطات توليد الكهرباء، لكلفته القليلة، وذلك بسبب الرفض السوري لإيصال الغاز الطبيعي، اثر الخلافات السياسية الحادة بين البلدين. لقد تزايد الإنتاج بانتظام لكنه بقي غير كافٍ في مواجهة الطلب (الشكل 7-7)، وما زال التقنين مستمراً (الشكل 7-8 أ)، فهو يتراوح بين ساعتين وأربع ساعات يومياً منذ عام 2000. ويعتمد لبنان أيضاً على الطاقة السورية التي يجب استيرادها، لكن شركة كهرباء لبنان كانت تعاني من عدم التسديد ضمن الوقت المحدّد.

14في الواقع، إن المشكلة الأكثر خطورة هي عجز الشركة المزمن. فقد كان دين شركة كهرباء لبنان يشكل في نهاية 2005 (مع الفوائد المتراكمة) ثلث ديون الدولة، حسب مصادر أشارت إليها الصحافة. وتبلغ نسبة الهدر التقني 15% من الإنتاج، وتبقى القرصنة عند نسبة 23%.

15إن لهذا الاختلال الوظيفي بعداً مناطقياً (الشكل 7-8 ب). فعملياً لم تعرف بيروت التقنين إلاّ مؤخّراً، وكان هذا تعبيراً عن خيار واضح لحماية النشاط الاقتصادي وصورة لبنان. بينما لم يكن جنوب لبنان يتلقى من التيار الكهربائي أكثر من عشرين ساعة وسطياً يومياً في عام 2004. وتغدو الحالة يوماً بعد يوم متعبة أكثر، مما يعبر عنه المتوسط (أنظر الشكل 7-8 ج). وينقطع التيار الكهربائي بانتظام في فترات الحر الشديد أو في منتصف الشتاء أو عند زيادة الطلب أو شح الوقود بسبب عدم التسديد. وفي الوقت الذي لا ينقطع فيه التيار الكهربائي إلا قليلاً عن بيروت، نجد أن بعض المناطق قد تبقى محرومة من الكهرباء لعدة أيام. ويبقى اللجوء للمولدات الخاصة في كل مكان حاجة مكلفة لا تستطيع كل العائلات تحمّلها.

سياسة المهجَّرين

16كانت سياسة المهجَّرين هي أحد المحاور المميّزة لتحرك الحكومة اللبنانية عند انتهاء الحرب. ولا يوجد معطيات عامة تسمح بأن نقدّم لها هنا استعراضاً شاملاً، والتحليل المقترح هنا ليس إلا جزئياً. فلم يكن تحرك مجلس الجنوب موثقاً. وباستثناء النتائج الجزئية التي نشرت في عام 1997، فإن معطيات وزارة المهجَّرين تعاني أيضاً من نقص الشفافية. وقد ارتفعت القروض الموضوعة بين عامي 1992 و1997 لتصل إلى 2,5 مليار دولار، و500 مليون دولار بين عامي 1997 و2000. وبعد ذلك الوقت أصبحت النفقات قليلة. وقد شمل عمل هذه الوزارة عدة محاور. لقد كان صندوق المهجّرين في عدة مدن، خاصة طرابلس، منسِّقاً حقيقياً ومساهماً عقارياً على صعيد واسع، واهتم بإعادة الإعمار، وإعادة تأهيل الأحياء المدمرة. من جهة أخرى، فإن سياسة دعم العودة وتقديم الإعانة لإعادة تأهيل المساكن في القرى كانت تشكل جوهر سياسته، وهذا ما يشكل هنا هدف الدراسة. لكن طموحه بأن يكون فاعلاً في ميدان التنمية الاقتصادية المحلية لم يترجم إلا قليلاً على أرض الواقع.

17تركّزت الإبداعية في سياسة المهجَّرين على تأكيد حق العودة. وفي قرى الجبل اللبناني، كانت العودة مشروطة بإجراء مصالحة جماعية بين الطوائف، وكانت تتطلّب الإعفاء القانوني من المسؤولية عن أعمال العنف المرتكبة. وعموماً، أنجزت هذه المصالحات في العديد من القرى. ومحلياً، في بعض القرى، فإن بعض النزاعات لم تحلّ بعد، وبقي التوتر شديداً. وبحسب المعهد اللبناني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية - وهو جمعية غير حكومية ذات انتماء ماروني - فإن 22 قرية من أصل 148، قرية في أقضية بعبدا وعاليه والشوف، أي 15% من المجموع، لم تسجل في عام 2003 أية عودة، بسبب هذه النزاعات أو تأخر دفع التعويضات من قبل صندوق المهجرين.

18في عام 1997، وبعد المرحلة الأولى من تطبيق هذه السياسة، وحسب الحصيلة المنشورة الوحيدة، تظهر المعطيات أن مناطق جنوب جبل لبنان وبيروت قد استفادت من تعامل مميّز من قبل السلطات (الشكل 7-9 أ): كان 35% من المهجَّرين معنيون بذلك. وفي المقابل، نجد في قضاء المتن - حيث كان النزوح قوياً (أكثر من 16,000 عائلة) - أن هذه العملية لم تشمل سوى 4,2% من المساكن. وقد استخدم وليد جنبلاط، زعيم دروز الجبل، الذي كان لعدّة مرّات وزيراً للمهجرين خلال تلك الفترة، هذه الوسيلة كي يعزّز قاعدته المحلية، خاصة لدى المسيحيين الذين ساهم مسلحيه بتهجيرهم أثناء الحرب. وقد تمسّك بتقسيم المساعدات بين العائلات المسيحية المهجرة والعائلات الدرزية التي حلّت مكانها، والتي كانت أحياناً مسؤولة عن هجرتهم القسرية. وهكذا، ففي الشوف كان عدد المستفيدين من تعويضات إخلاء المنازل من محتليها أكثر من تلك على عائلات المهجّرين أصحاب المنازل. وفي عاليه وبيروت كان عدد المستفيدين من هذا التعويض أكثر بكثير نسبياً مما هو في بعبدا والمتن (الشكل 7-9 ب). وقد أثارت سياسة المهجَّرين الاعتباطية والمتأثّرة بالممارسات المصلحية العديد من الجدالات السياسية. ففي العاصمة، كان موضوع إخراج واضعي اليد من وسط مدينة بيروت هدفاً للمفاوضات المكثفة بين الأحزاب الشيعية ورفيق الحريري، الذي كان في حينها رئيساً للوزراء، وذلك لضمان إطلاق مشروع إعادة الإعمار. لقد تجاوز عدد المستفيدين وحجم تعويضاتهم، وبشكل كبير، التقديرات المتفق عليها والمعايير المستخدمة في أماكن أخرى.

19ما هي النتائج التي يمكن استخلاصها من تطبيق هذه السياسة؟ يبدو أن نشر نتائج التحقيق الذي أجراه المعهد اللبناني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية قد أظهر، بعيداً عن موضوع «المصالحات»، أن حقيقة العودة كانت ضعيفة جداً ولم تشمل سوى 20% من العائلات المهجَّرة أساساً. كما أن الاختلافات المناطقية كانت صارخة (الشكل 7-10 أ).

20ففي أقضية جبل لبنان الجنوبي الثلاثة، شهد الشوف أكبر نسبة للعودة. وتظل عاليه وبعبدا أقل منه بكثير. وفي جميع الأحوال، تظل العودة إليهما ضعيفة جداً. وتتميز قرى شرق صيدا، حيث يتدخل مجلس الجنوب، بحركة عودة مرتفعة (أنظر الشكل 7-10 ب). تبدو هذه الحالة مرتبطة بأعمال نفذتها هذه المؤسسة في إطار انتخابات 1992. وفي منطقة جزين التي عانت من الاحتلال أكثر من التهجير، كانت العودة مهمّة أيضاً، لاسيما بعد الانسحاب الإسرائيلي، كما يدل على ذلك تزايدها بين عامي 1999 و2001.

21ظهر الخارطة المفصلة أن جغرافية العودة تشكل تناقضات شديدة (الشكل 7-11). بداية، بالإضافة إلى حالات جزين وشرق صيدا، فإن المناطق التي يلاحظ فيها العدد الأكبر من حالات العودة هي المناطق الساحلية، خاصة القريبة من بيروت، كقرية الدامور الرمزية التي هدمتها المنظّمات الفلسطينية عام 1976. وفي الجبل تتنوع الحالات. فقد استفادت القرى المسيحية مثل بحمدون من العودة، لكن هناك قرى أخرى، غالباً أكثر اختلاطاً، كانت بالكاد معنية بهذا الموضوع.

22ويتداخل عاملان في التفسير، فالبعد الاقتصادي أساسي. وفي غياب سياسات تنموية محلية تتجه نحو الزراعة أو السياحة، لا توجد أية وسيلة حقيقية لقلب ما يظهر في النهاية كهجرة ريفية متسارعة ومأساوية دون عودة محتملة. ولهذا فإن قضاء فترات الراحة خلال الصيف أو زيارات نهاية الأسبوع ذات مغزى، لاسيما لارتباطها بالشباب. فقد تحولت منازل العائلة القديمة إلى مساكن ثانوية. وترتبط العودة الكبرى إلى قطاعات جيدة الارتباط ببيروت، مثل بحمدون أو الدامور، يمكن فهمها كشكل من أشكال الانخراط في سوق العمل الأوسع أو التحضر في الضواحي.

23ويتعلق العنصر الثاني بتخبطات سياسة المهجَّرين، والجراح الطائفية التي لم تلتئم والتي كانت أيضاً ذات أحجام متفاوتة. ورغم تصريحات الزعيم وليد جنبلاط لصالح العودة، والمصالحة التي عقدت وسط ضجة كبيرة مع البطريرك الماروني في عام 2001، فقد كان الوضع مختلفاً على أرض الواقع، حيث كان يتأخر دفع التعويضات. وفي المناطق المختلطة كانت العودة أضعف غالباً (قارن بين الشكلين 7-11 و 7-12). فضلاً عن ذلك، نستطيع التشكيك بتشجيع عودة المسيحيين في المناطق التي كانت تتمدّد فيها طوائف أخرى، خصوصاً الطائفة الشيعية التي كانت تتوسّع في الضاحية الجنوبية، كما حصل في سهل الحدث. إن عودة المسيحيين وسياسة التمسك بالعقارات، التي تشجع السلطات الدينية على اتباعها، يمكن أن تلعب في النتيجة دور الحاجز في هذا المجال.

حالة الدامور

24تُظهر حالة بلدة الدامور على المستوى الصغير آليات العمل في عودة النازحين. فعلى هذه الأرض المحدودة المساحة تترادف أنماط مختلفة من التفكير، بعضها موروث من الصراعات الطائفية القديمة، والتي كانت أحداث عام 1976 إحدى تجلياتها، وأخرى أحدث، ولها علاقة مع تحول بيروت إلى متروبول الجذب للاستثمار العقاري والسياحي الذي يتميز به السهل الساحلي، الذي كان ما زال محمياً حتى تاريخه.

25في الأصل، كان الدامور هو التجمع السكاني المسيحي الرئيس في القسم الساحلي الواقع بين بيروت وصيدا. وقد كان هذا الموقع الهام من الناحية الجيوسياسية وبالاً عليه خلال الحرب الأهلية، لأنه كان بمثابة بوابة على طريق التموين الرئيسة للقوات الفلسطينية باتجاه جنوب لبنان. وفي عام 1976، ورداً على الحصار وعلى المجازر في المخيمات الفلسطينية في بيروت الشرقية، تم قتل الكثير من السكان وتهديم نحو 600 مبنى في تلك البلدة. بدأت عودة المهجَّرين في عام 1994. وبعد المرحلة الأولى من إعادة الإعمار التي امتدت حتى عام 1998، بدأ الإحساس بنضوب تمويل صندوق المُهجّرين في ظرف تراجع لبناني كان يعلن نهاية مرحلة إعادة الإعمار.

26لم تتم إعادة إعمار الدامور بشكلها القديم، ولا ضمن إطار احترام الأنظمة العمرانية كما يسمح بها المخطط التوجيهي العمراني الرئيس الصادر بموجب مرسوم في عام 1968. على العكس من ذلك، فإن قانون العودة لعام 1994 كان يعفي السكان من تقديم طلب رخص البناء. كانت تنشأ الأبنية الجديدة ذات الأربعة أو الخمسة طوابق، في الوحدات العقارية المفرزة إفرادياً، بطريقة مختلفة جذرياً عن الأبنية القديمة. حتى أنه كان يمكن رؤية تعديات على الأملاك العامة وعلى العقارات المجاورة. لكن بشكل عام، تحددت إعادة الإعمار بالنطاق السابق للمدينة وتعدلت البقعة العمرانية قليلاً بين عامي 1975 و1998 (الشكلان 7-13 و7-14).

27لقد خضع التقسيم العقاري لتغير خفيف، وكانت عقارات الدامور موضوعاً لأطماع متنازعة، وهي تشهد على التوتر بين التوسع المتروبولي لبيروت وللرهانات الجيوسياسية والطائفية (الشكل 7-15). وظهرت مشاريع إسكانية مفرزة جديدة، خاصة على الهضاب المجاورة لقرية المشرف، حيث يمتد حيٌّ واسع مغلقٌ من الفيلات. وحصل أصحاب مشاريع التنمية الإسكانية من القطاع الخاص على 10% من مساحات المنطقة العقارية. وتمتلك الأوقاف المارونية 8% من المنطقة العقارية، وهي تقع بشكل أساسي في السهل الزراعي. وقد تمّت فيها دراسة مشروع للاستجمام، يهدف إلى جذب الزبائن من العاصمة القريبة إلى شاطئ رملي لم يستثمر حتى ذلك الوقت. لكن البلدية والزعيم الدرزي وليد جنبلاط وحدا قواهما لمعارضته: فالدفاع عن سلامة الصفة الزراعية لهذا القطاع يتضافر مع انشغال زعيم الدروز بالحفاظ على كامل بوابة منطقة نفوذه، أي الشوف.

إعادة إعمار بيروت

28تعتبر عملية إعادة إعمار بيروت إحدى أكبر الورش التي تمسكت بها الحكومة اللبنانية. لقد تعرضت المدينة وضواحيها لأضرار فادحة لأنها كانت من أهم ساحات المواجهات، ولأن العاصمة هي محرّك البلاد الاقتصادي. وكانت إعادة انطلاق النشاط الاقتصادي شرطاً أساسياً للنهوض الوطني. إن إعادة الإعمار والمصالحة في هذه المدينة هي ملك لكل اللبنانيين، على عكس المناطق المغلقة، وتشكل رهاناً رمزياً أساسياً بحسب تعريف الكاتب أحمد بيضون.

29لقد تم التحضير لإعادة إعمار بيروت خلال الحرب بواسطة العديد من وثائق التخطيط. وتم إنجاز مخطط توجيهي في نهاية عام 1986 من قبل فريقٍ فرنسي- لبناني كان قد اقترح فيه خيارات طموحة. وكان قد عاد وأكد على وحدة التجمع السكاني من خلال إعادة إعمار المركز، وسياسة تهدف لإعادة النقل العام المشترك، وعلى إقامة مراكز ثانوية تستوعب التوسع العمراني الذي بدأ أثناء الحرب.

30وادّى تتابع مشاريع إعادة الإعمار إلى خيارات أدّت إلى الإساءة إلى الانسجام الاجتماعي المفترض (الشكل7-16). لقد فضلت الدولة أدوات التنمية الاقتصادية، حيث أعيد تأهيل الميناء واستبدل المطار القديم بمطار جديد بإمكانه استيعاب 6 ملايين مسافر، بالإضافة إلى بناء مدرج جديد يمتد في البحر. وقد أطلقت عدة مشاريع للتجهيزات العامة، ومنها: مدينة رياضية ومستشفى جامعي وحرم الجامعة اللبنانية، أنجزت كلها في عام 2005. كما أطلقت مشاريع عمرانية كبيرة، مثل إعادة إعمار مركز المدينة، وعمليات ردم ساحل الضاحية الشمالية، وبرنامج واسع لإعادة إعمار وتأهيل ضاحية بيروت الجنوبية التي تعتبر الموقع الرئيس للأحياء العشوائية في العاصمة. وتم تحديث وتوسيع شبكة الطرق السريعة بين هذه المواقع، وبشكل خاص إضافة طرق جديدة لدخول المدينة.

31لقد علِّقت عدة مشاريع بسبب نقص التمويل العام أو غياب المستثمرين. ومن بين مشاريع إعادة الإعمار في المناطق المتضررة، لم يستفد خط التماس إلا من إجراءات عاجلة لإزالة المباني الخطرة. وأدت التوترات السياسية، بالإضافة إلى نقص الأموال، إلى حصر الإنجازات في الضاحية الجنوبية ببناء الطرق على حساب المساكن الاجتماعية التي كانت متوقّعة. ولم يعرف تنسيق المراكز الثانوية بدء الدراسات التحضيرية. وفي الجزء الجنوبي من منطقة الردم، الذي يفترض أن يستقبل مشروع محطة معالجة مياه الصرف الصحي، تم تأجيل الأعمال بانتظار وضع الهيكل المالي للمشروع. وفي ميدان النقل، تأجل أيضاً تنفيذ الطريق الدائري حول بيروت وطريق دمشق السريع. أخيراً، وباستثناء شبكة الحافلات العامة ضعيفة الفعالية، لم ير النور أي مشروع نقل عام مشترك منظّم.

32عموماً، كانت الانجازات لا بأس بها، وقد سمحت بتحسين الحياة اليومية. لكن الأبعاد الاجتماعية أُهملت بوضوح وتركت جانباً: فقد تُركت عملية إعادة إعمار أجزاء كثيرة من المدينة لمستثمري القطاع الخاص. ولم يكن لدى الكثير من السكان خيارات أخرى غير بيع أبنيتهم العتيقة الباهتة والانتقال للعيش في الضواحي.

إعادة إعمار وسط المدينة

33إنّ مشروع إعادة إعمار وسط المدينة هو رمز إحياء المدينة، ويستحق أن ننظر إلى النوايا التي كانت تحركه وإلى تقدّم البرنامج.

34لقد تمّ تكليف شركة عقارية خاصة في العاصمة بإعادة الإعمار، وهي شركة سوليدير التي يملك ثلثيها من كان لهم حقوق وملكية، أما الثلث الثالث فكان لمستثمرين مستقلين. كانت مهمّة الشركة تنفيذ الأعمال وفقاً لمخطط اعتمدته السلطات، وتقسيم وبيع الأراضي، عدا تلك التي استعادها المالكون القدامى والمباني الدينية. وقد أثار المشروع جدالات عديدة، بسبب استملاك عقارات خاصة بتعويضات وُصفت بأنها غير كافية، وكذلك بسبب حجم أعمال الهدم الكبير على حساب النسيج العمراني التقليدي والمعالم الأثرية. وكان الصانع الرئيس والمحرّك لهذا المشروع رفيق الحريري، رجل الأعمال الذي أصبح في عام 1992 رئيساً للوزراء في جو من اختلاط المصالح.

35كان حجم الدمار كبيراً في وسط المدينة. ومع ذلك، تجاوزت أعمال الهدم الحدود الضرورية، ووصلت، بعد عدة مراحل، إلى إزالة كل شيء بهدف تنفيذ مشروع ذي توجهات عصرية جداً: لقد تمّ هدم 80% من المباني القديمة. (أنظر الشكل 7-17). وقد أدى الاحتجاج الذي قاده المثقفون إلى المحافظة على مائة مبنى تاريخي تقريباً بالإضافة إلى ما كان مخططاً له. وقد تم كسب مساحة كبيرة في البحر. وتتكون أراضي منطقة الردم من النفايات المعالجة التي ألقيت في البحر إبان الأزمة.

36يهدف البرنامج إلى بناء 4,7 مليون م2، أي ثلاثة أضعاف ما كان موجوداً قبل الحرب. وقد شهدت الوظائف تحولاً هاماً، وألغيت الأسواق التقليدية والمهن الصغيرة – التي كانت تعتبر رمزاً للاختلاط الاجتماعي في هذا المركز، والتي أضعفتها الحرب - لمصلحة المكاتب والمتاجر الفاخرة والنشاطات الفندقية. فالبرنامج ليس سوى مؤشر، وعلى إدارة مشروع التأقلم مع الوضع الذي كان يُرجى أن يكون مزدهراً. (الشكل 7-18).39أُطلق المشروع في عام 1994، بعد تصديقه ودراسة تفاصيله. وشهد عدّة تعديلات تشهد على التقلبات السياسية وصراعات السلطة بين الحريري وخصومه السياسيين. وهكذا فإن بناء المسجد الضخم في ساحة الشهداء والذي تسيطر كتلته على الكاتدرائية المارونية، لم يكن مخططاً له في المخطّط الأساس، ولم يُضَف إلا في عام 2000، بعد المزايدة الطائفية التي شوهت قليلاً صورة المصالحة النموذجية. وسمحت التعديلات على المشروع بتوسيع منطقة الردم التي حددت في البداية بـ 45 هكتاراً، وهي تتجاوز حالياً 64 هكتاراً (الشكل 7-19).

40رغم الأحداث الاقتصادية والسياسية الحالية الصعبة، بين عامي 1998 و2000، استطاعت سوليدير التفاخر بنجاحات عديدة (الشكل 7-20). في المرحلة الأولى، انتهت إعادة التأهيل الضخمة والكثيفة للحي الذي يعود تاريخه إلى فترة الانتداب. أنعشت أنواع متعددة من التجارة وبعض مطاعم هذا الحي. ويساهم قاصدو الفنادق الجديدة بتنشيطها، ويوجد فيها لبنانيون كثر يكتشفون مركزاً جديداً لهم في خليط طائفي أو اجتماعي. وقد عقدت التظاهرات السياسية الكبيرة في وسط المدينة. واستثمرت رؤوس أموال عربية في لبنان بعد 11 أيلول 2001، وتبلغ مبيعات الشركة مستوى عالٍ. وقد تمّ التنسيق لبيع 90% من الأراضي التي كانت تحت إدارة الشركة في بداية عام 2006، وستحجز أفضل الأجزاء من منطقة الردم وتجني الأرباح في الموعد المحدّد. (الشكل7-21).

41لكن نستطيع أيضاً الإشارة إلى محدودية هذه الإنجازات، وبعض البطء في تقدمها. لقد تمّ تمديد التنازل الذي حدّد في البداية بخمسة وعشرين عاماً لمدة عشر سنوات إضافية. وبقي جزء كبير من الأراضي بانتظار الاستثمار، تستخدم كمواقف للسيارات أو لاستخدامات مؤقتة أخرى. وعلى الصعيد التجاري، فإن مشروع الأسواق الكبير، أو المركز التجاري الواسع، الذي يمتد على مساحة 60,000 م2 قد تأخّر لأكثر من خمس سنوات، وعليه أن يواجه منافسة العديد من المشاريع الأخرى في المدينة. إن تسويق المكاتب هام ويجعل من سوليدير المؤثر الفاعل الرئيس في هذا السوق. ومع ذلك، كان هنالك الكثير من المساحات فارغة، لاسيما في المنطقة التاريخية، حيث بلغت نسبة الفراغات 35% في عام 2005، وحيث كان مخططاً تحولها إلى مساكن فاخرة. ولا يضمن بيع الشقق في المشاريع العقارية المفرزة أو المكاتب للمستثمرين، المسموح به بفضل أموال الخليج، وجود مستخدمين في النهاية. ويبقى استخدام منطقة الردم والتي كلف إنشاؤها مبالغ طائلة (230 مليون دولار) غامضاً. وكان قد خُطِط لإنشاء حديقة عامة كبيرة، كما أرادت سوليدير أن تنشئ فيها حلبة لسباق السيارات، الغرض منها الدعاية وحقوق البث التلفزيوني، لكنها لم تنجح في ذلك إلى تاريخه.

التوسع المُدُني

42من خلال تغطية الأراضي بمخططات التنظيم المُدُني، يكمن الرهان في قدرة الدولة على فرض سلطتها ومعاييرها القياسية. ففي عام 2000، وخارج المحميات الطبيعية التي تشكل 2% من الأراضي اللبنانية، تشكل المخططات المُدُنية المقرّرة 10% من أراضي الدولة. ويقدّم (الشكل 7-22) رؤية لتقدّم الأعمال التي باشرت بها المديرية العامة للتنظيم المُدُني منذ منتصف الستينيات وحتى عام 2000، وذلك بتقسيم المخططات الرئيسة بحسب تاريخ تصديق كل منها بمرسوم. وهكذا، فإن جميع المدن الساحلية والمدن الداخلية الأساسية ومراكز الإصطياف كانت نظامية قبل عام 1980، في حين أن غالبية المخططات الرئيسة الصادرة بعد عام 1990 كانت تتعلّق بشكل خاص بتصحيحات طفيفة على المخطّطات السابقة. وصدر مخطّط بمرسوم للقطاعات الأربعة عشر فقط غير المنظمة من قبل.

43تسمح هذه الخارطة بمعاينة القسم العمراني (باللون الرمادي) الذي بني خارج المخططات التوجيهية (أكثر من 60% من مجموع المناطق العمرانية). ويمكن تفسير ذلك كإشارة على الصعوبة التي تواجه الإدارة العامة في متابعة النمو العمراني، وقد تركز مجهود هذه المديرية على محورين رئيسين للعمران، هما الخط الساحلي والشريط العمراني الذي يشكله طريق دمشق. وحول هذين المحورين تشكلت خلال الحرب وبعدها حلقة عمرانية أخرى تقع خارج ملفات المخططات التوجيهية. هذه هي حال التجمعات السكانية في برجا وشحيم وفي الشوف، وجنوب شرق صيدا، والمتن الأوسط (قرنة شهوان)، وفي منطقة كسروان (غزير) وجبيل. ولهذه التجمعات السكانية، ذات الغرض السكني أساساً، قاسم مشترك يتمثل بقربها من محاور الطرق السريعة وبالتالي من المراكز العمرانية (بيروت الإدارية، صيدا، جونية، جبيل، الخ.)، وبالإطلالة والمناخ الجاذبين، بالإضافة إلى أنها تستفيد من قوانين عمرانية أقل صرامة مما هو في المناطق المجاورة الخاضعة للمخططات التوجيهية، إذ أنها لا تعتمد إلا على قانون البناء الذي يسمح بأبنية ذات ثلاثة طوابق. وهذا ما يشرح شغف المقاولين العقاريين والطبقات الوسطى بهذه المناطق السكنية.

44وضعت في الخارطة المصغّرة الملحقة بالشكل، بالإضافة إلى المناطق المنظمة بمرسوم في الخارطة الكبيرة السابقة (المناطق الحمراء)، المناطق التي أقرّها فقط المجلس الأعلى للتنظيم المُدُني. وهذا يكشف حجم العوائق التي تواجهها الأنظمة المُدُنية. والمناطق الزرقاء هي تلك التي وافق عليها المجلس الأعلى للتنظيم المُدُني لكنها تبقى بانتظار مرسوم وزاري. ونسبتها ليست ضعيفة، وتكشف عن المقاومة المحلية من قبل النواب المحليين وملاك الأراضي الذين يعيقون تطبيقها، وذلك باستعمال نفوذهم لدى السلطات التنفيذية. وتظهر هذه المقاومة لعدة أسباب. فأحد الآثار الرئيسة للمخططات المُدُنية هو تخفيض معايير الاستثمار مقارنة بقانون البناء، ممّا يؤدّي إلى انخفاض أسعار العقارات المشمولة بالمخططات. وبالمقابل، فهي لا تقترح رؤية أو وسائل تنمية اقتصادية بديلة عن الملاذ الادخاري في المضاربات العقارية. وإذا استطاعت الأنظمة المُدُنية تخفيض كثافة الاستثمار المسموح بها، فلا يمكنها أن تمنع تماماً البناء على الأراضي الزراعية أو الطبيعية. وفي هذا الوضع الذي لا تملك فيه الدولة أية سياسة لحماية الموارد الزراعية أو الطبيعية، فإن المُلاك يريدون المحافظة على القيمة التجارية لأراضيهم التي تهددها قوانين التنظيم المُدُني.

45وينتج عن هذا حذرٌ تشتد حدّته أكثر فأكثر بين الدولة المركزية والمستوى المحلي (الجماعات المحلية ومختلف المالكين) الذي يتبنى المنطق القائل: «ليس في ملكيتي» (NIMBY, Not In My Back Yard)؛ وينظر كل مالك نظرة سيئة إلى كل دراسة تخص منطقته، وذلك بغض النظر عن المضمون والهدف الحقيقي لهذه الدراسة. ومن جهتها، فإن الإدارة المركزية تنعزل أكثر فأكثر، متجنبة وضع آلية تنسيق أو إعلام، يمكن أن تساعد على تقبل أفضل لهذه المخططات على المستوى المحلي.

46وفي عام 2003 تمّ تعديل المادة 17 من قانون البناء والعمران لعام 1983 (القانون رقم 10841/03). وهذا التعديل، الذي أقره قانون البناء الجديد الصادر في عام 2004، يخفض معايير الاستثمار، خصوصاً وأنه يقسّم المناطق غير المنظّمة إلى مناطق للاصطياف، ومناطق مأهولة وغير مأهولة، ومناطق زراعية ووديان. والعنصر الجديد فيه، هو منع البناء في المناطق الثلاث الأخيرة إلا بتصريح من مديرية التنظيم المُدُني. وما زال تقدير تأثير القانون الجديد مبكراً، لكنه يشكل تطوراً هاماً بالنسبة للمعيار القديم.

الورش الجديدة للتنظيم والتنمية

47لقد ظهرت إرادة التحكّم بالتنمية العمرانية من خلال وضع الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية (SDATL)، التي تطالب توصياتها بإعادة صياغة للعمران في لبنان، إن كان على المستويات التنظيمية والقانونية أو التنفيذية، على حد سواء. وتقترح هذه الخطة أيضاً مبادئ إنشائية للأراضي المخصّصة لتوجيه الاستثمارات العامة. وتسعى إلى تشجيع عمران اقتصادي ذي مساحة أكبر وأكثر احتراماً للبيئة، خاصة على الساحل وفي الجبل. ومن جهة أخرى، فهي تسعى إلى تعزيز بضعة أقطاب مناطقية دون بعثرة الموارد العامة أو التأثير على الوحدة الوطنية. ولم تحصل هذه الوثيقة على ترجمة قانونية، بالرغم من أنها تشكّل مرجعاً بالنسبة للإدارات، يلهمها بعضاً ممّا تفعله.

48إن أحد الانتقادات الموجهة إلى واضعي هذه الخطة هو إثارة حذر الإدارة المركزية التقليدي تجاه مستويات أقل من المستوى الوطني، بالرغم من حمى التوجه اللامركزي الحقيقية التي اجتاحت لبنان منذ النصف الثاني من التسعينات. وقبل فترة وجيزة من الانتخابات البلدية الأولى في عام 1998، وبعد ثلاثين عاماً من الانقطاع، بدأت وزارة البيئة الحديثة بالانتباه إلى الجانب المحلي في مشاريعها، وقامت بإدخال خطوات مختلفة تم الترويج لها على الصعيد الدولي (أجندة21، على سبيل المثال). وفي وسط الوزارة، التي أصبحت هيئة أركان حقيقية للمانحين الدوليين، ولدت العديد من المشاريع التي تجمع بين التنمية المستدامة والنهج التشاركي وحماية البيئة، كمشروع LIFE (تشجيع المبادرة المحلية للبيئة العمرانية) ومشروع PAC (برنامج التنظيم الساحلي)، ومؤخراً مشروع SEA (التقييم البيئي الاستراتيجي). ورغم طموحات هذه المشاريع إلا أنها عانت من قلة اهتمام الإدارات المركزية الأخرى بها، خاصة مجلس الإنماء والإعمار، فدون رعايتها سيكون صعباً جداً عليها أن تشق طريقها في متاهات الإدارة اللبنانية.

49ومنذ الانتخابات البلدية عام 1998، حاولت البلديات، منفصلة أو مجتمعة في اتحادات، أن تحمل مسؤولية تنمية بلدياتها، وذلك بنسج علاقات مع الخارج من خلال اتفاقيات التوأمة أو بالانتماء إلى شبكات بين المناطق، لاسيما الأوروبية والفرنسية. لكن وزارة الداخلية وشؤون البلديات حرصت على إبقاء هذه النشاطات تحت رقابتها، وهي لا تتردّد بتجميد الأموال الممنوحة كي تكبح تحرّر البلديات من النفوذ المركزي.

50ومؤخراً، ظهر مشروعان غير متساويين بالأهمية (الشكل 7-24). الأول هو مشروع CHUD (التراث الحضاري الثقافي والتنمية العمرانية) الذي تمّ تصميمه وتمويله من البنك الدولي، وأداره مجلس الإنماء والإعمار لحساب وزارة الثقافة. أطلق المشروع في عام 2003، وهو يتناول خمس مدن تاريخية ثانوية: صيدا وطرابلس وصور وبعلبك وجبيل. وبلغت ميزانيته 62 مليون دولار. وبالإضافة إلى الفوائد التي جلبها للعاصمة كما للمدن الثانوية، فإن هذا المشروع يشهد على أولويات جديدة من خلال مقاربة التراث تدخل فيها الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، وتدعو إلى تبن مباشر للجماعات المحلية، وهي سابقة في لبنان.

51وهناك برنامج آخر طموح في مستواه، ومع أن تمويله متواضع أكثر، وهو برنامج ARAL (المساعدة على إعادة تأهيل الإدارة اللبنانية). ولقد أطلق هذا البرنامج عام 2004، وهو مصمّم ومموّل بالكامل من قبل المفوضية الأوروبية بالتعاون مع وزارة الدولة للتنمية الإدارية ومجلس الإنماء والإعمار. وهو يهدف، بشكل خاص، إلى مساعدة البلديات على وضع مشاريع تنموية محلية، ويغطّي 12 تجمعاً للبلديات تمتد على مساحة تشكّل 14% من الأراضي اللبنانية (أنظر الشكل 7-24). والإبداع في هذا المشروع هو اعتماده مستوى مناطقياً لا يوجد حتى الآن في لبنان، وهو إشارة إلى تطبيق الشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي. ويدل اختيار المجموعات الرائدة وتقسيماتها على أن هذه الشروط تأخذ في الحسبان العوامل السياسية المحلية. وهكذا، فالمظهر المبرقع لمجموعة زغرتا يفترض البحث عن انسجام طائفي وسياسي في عملية تحديد هذه المناطق.

52ويظل تجديد السياسات التنموية اللامركزية مؤجلاً بسبب العديد من الشكوك. ويتعلّق أهمها بحجم التمويل الذي خصّصه الاتحاد الأوروبي. ومن جهة أخرى، هل تستطيع الإرادة الحقيقية أن تترسخ مناطقياً، في حالة مشروع المساعدة على إعادة تأهيل الإدارة اللبنانية وكذلك في مشروع التراث الثقافي والإنماء العمراني، والتي لا بد أن تترجم من خلال تشكيل فرق محلية لمرافقة تنفيذ المشاريع، وتحمل مسؤولية متابعتها لدى البلديات والممولين؛ فهل تستطيع هذه الإدارة أن تستمر؟

53لم تتوقّف هذه الرؤية المقتضبة لورشات التنمية في لبنان عند تحرّك الجمعيات غير الحكومية التي أصبحت مرئية أكثر فأكثر، والتي أصبح عدد منها عبارة عن مؤسسات حقيقية على مر السنين بميزانيات هامة وضعت تحت تصرفها، والتي انخرطت في الشبكة العالمية لدعم التنمية. وفي النهاية، يشهد كل هذا الاضطراب على تَعقُّد الرهانات وعلى تشابك المستويات والمتدخلين المحليين أو الوطنيين أو الدوليين.

الخــــاتمــــة: الأراضي اللبنانية تحت وطأة حرب تموز 2006

p. 175-190

1كنا على وشك الانتهاء من صياغة نص هذا الأطلس في تموز 2006، عندما قامت إسرائيل بعملية اعتداء واسعة النطاق على لبنان رداً على أسر حزب الله لاثنين من جنودها، والتي أطلق عليها اسم حرب الثلاثة والثلاثين يوماً (12 تموز-14 آب 2006). وبسبب النتائج المأساوية لهذه الحرب كان لا بد من إضافة هذه الخاتمة. فهذه الحرب تعبّر بطريقتها الخاصة عن الديناميات المكانية للبنان، وعن المشاكل المطروحة في متن هذا الكتاب بعيداً عن ملابسات الحدث التي استقطبت وبشكل أكبر وعلى الفور اهتمام وسائل الاعلام.

2لقد كانت الحجة المباشرة لهذه المواجهة الجديدة بين إسرائيل وحزب الله، ولبنان بشكل جانبي، هي مصير الأسرى اللبنانيين المعتقلين في إسرائيل، وقضية مزارع شبعا التي لا تزال معلقة. لكن الحرب اتخذت اتجاهها في جو من التوترات الإقليمية الأوسع والمتفاقمة في السنوات الأخيرة.

3لقد أدى تدهور الأوضاع المعيشية في الأراضي الفلسطينية، لا سيما منذ انسحاب القوات الإسرائيلية من جانب واحد في غزة (آب 2005)، ثم بعد فوز حركة حماس في الانتخابات (كانون الثاني 2006)، إلى دعم روح التضامن والمقاومة في لبنان، مما ساهم في التعبئة التي يدعو إليها حزب الله باستمرار. كانت الولايات المتحدة - حليفة إسرائيل التي أضعفت بسبب فشل سياستها في العراق - قد برّرت العملية الإسرائيلية ضد حزب الله ضمن إطار الحرب الدولية ضد الإرهاب. من جهة أخرى، لاقت رغبة إيران في تطوير برنامجها النووي الخاص، وربما الخوف من محاولتها امتلاك السلاح النووي، رفض معظم الدول الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية. وتشكل تصريحات السلطة في طهران المناهضة للصهيونية مصدراً للقلق لدى القوى الغربية وإسرائيل. كانت إيران قد دعمت حزب الله سياسياً ومالياً، أثناء العمليات العسكرية، ثم خلال فترة إعادة الإعمار.

4كانت الأضرار الناجمة عن قصف الطيران والبحرية الإسرائيليين، فضلاً عن محاولات الاقتحام البري، كبيرة جداً. وهي، وإن كانت قد تسببت بخسائر اقتصادية فادحة للبلد بأسره، فهي متباينة للغاية بحسب المناطق والتوزع الاجتماعي، وهي قد أثرت بشكل خاص على السكان الشيعة في الجنوب وفي الضاحية الجنوبية لبيروت. ومن جديد، توجب على الدولة، التي كانت قد بدأت بالتوجه نحو أولويات جديدة، أن تعالج الأزمة وتؤمن المأوى لمن لا مأوى لهم، وأن تعمل على إعادة تأهيل المرافق الحيوية، ووضع برامج جديدة للإعمار. واستفاد لبنان في مهمته الجديدة مرة أخرى من تعبئة الجهود، ومن تضامن دولي واسع النطاق، سواء عن طريق التدخل العسكري المتزايد للأمم المتحدة أو عبر المساعدات المالية الكبيرة التي تلقاها.

5ويعتمد نجاح عملية عودة الأمور إلى نصابها، إلى حد كبير، على قدرة القوى السياسية على تجاوز الانقسامات الداخلية - التي تعمقت منذ عام 2005 واغتيال رفيق الحريري والانسحاب السوري، بالإضافة إلى الانتخابات البرلمانية - والتي زادت من حدّتها حرب إسرائيل على لبنان، صيف 2006 وتداعياتها. ومن خلال حصر أكبر قدر ممكن من الآثار المكانية لهذه الحرب، فإن هذه الخاتمة تقترح أيضاً قراءة جديدة لهذا البلد، ولأسس تنظيمه، في ضوء توزع الأضرار بحسب القطاع والمنطقة، في ظل العواقب المستمرة للتوتر الجيوسياسي الذي يتخبط به المجتمع اللبناني منذ عام 2005.

6عمال فوق جسر المديرج، وهو من أكبر الجسور في المنطقة.

التوزيع القطاعي والمكاني لأضرار الحرب

7كان من إحدى نتائج التعبئة الوطنية والدولية لدعم لبنان بعد الحرب، قيام الحكومة، بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية المحلية ووكالة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (UNOHAC)، بنشر الكثير من المعلومات الناتجة عن المسح الميداني (انظر بشكل خاص الموقع: www.rebuildlebanon.gov.lb). وعلى الرغم من أنها تستند في بعض الأحيان إلى تعدادات سريعة ومتفاوتة في الدقة فإننا نستخدمها هنا.

8لقد وصلت حصيلة الخسائر البشرية للحرب، التي شنتها إسرائيل على لبنان، إلى ما يقرب من 1200 قتيل و4400 جريح. كما نزح أكثر من مليون نسمة عن بيوتهم. وفي أوائل عام 2007، كان ما يزال هناك 100,000 نسمة بلا مأوى بسبب تدمير المنازل، في حين أن أكثر من 100,000 نسمة كانوا قد هاجروا إلى الخارج بشكل طارئ، ويبدو أنهم سيقيمون هناك باستمرار. وقد قدرت الحكومة قيمة الخسائر الاقتصادية المباشرة الناجمة عن الدمار الذي حصل بـ 2,8 مليار دولار، منها 1,7 مليار ناتجة عن تدمير المباني السكنية. والقطاعان الآخران اللذان سجلا أكبر الخسائر المباشرة هما الصناعة والتجارة، بالإضافة إلى الزراعة والري (الشكل 8-1).

9من وجهة النظر المالية، فإن كلفة تدمير البنية التحتية خلال الحرب الإسرائيلية عام 2006 يعادل حوالي خُمس استثمارات إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية. ويقارن عدد المنازل المتضررة (100,000) مع الـ 220,000 منزل كانت مدمرة في عام 1991. وتقدر تكلفة الأضرار التي أصابت المباني السكنية بحوالي نصف المبالغ التي أنفقت على سياسة عودة النازحين (حوالي 3 مليار دولار بين عامي 1993 و2002، راجع الفصل 7).

10لقد وضح تقييم الخسائر غير المباشرة من قبل الحكومة (كانون الأول 2006) مدى التقصير القائم، والناتج عن تباطؤ النشاط الاقتصادي منذ شهر تموز 2006. فبينما كان النمو الاقتصادي المتوقّع لذلك العام يترواح بين 5 و6%، نجد أنه تراجع في النهاية بنسبة 6%، أي أن الخسائر غير المباشرة وصلت إلى حوالي 2 مليار دولار. وزادت البطالة بشكل مأساوي، إلى 14% من متوسط كان9 %. وعرفت الهجرة الهيكلية، لاسيما من حملة الشهادات، ذروة جديدة. و تأثر قطاع السياحة بشكل خاص، إذ بلغ العجز حوالي مليار دولار في عام 2006. كما أصاب التباطؤ برامج الاستثمار في العقارات، المرتبط بشدة بقطاع السياحة. إن النتيجة المالية التي تسبب مصدراً كبيراً للقلق هي تزايد الدين الحكومي، الذي ارتفع إلى 40 مليار دولار في نهاية عام 2006، أي إلى أكثر من185 % من الناتج المحلي الإجمالي. خاصة وأنه كان على الحكومة أن تواجه أقساطاً كبيرة للتسديد في عامي2007 و2008.

11ويعكس التدمير الناتج عن قصف الطيران والبحرية الإسرائيليين منطقاً مزدوجاً (الشكل 8-2). فقد أراد الجيش الإسرائيلي تدمير القدرات العسكرية لحزب الله، من خلال استهداف قواعده التنفيذية المفترضة، بالإضافة إلى مقاتليه، وإعاقة قدرته على الحركة الميدانية في الوقت نفسه، لاسيما تدمير الجسور والطرق (الشكل 8-3). ومن ناحية أخرى، سعت إسرائيل أيضا لعزل البلاد عن طريق إلحاق الضرر بالبنية التحتية للاتصالات والتبادل مع الخارج: المطارات والموانئ والمعابر الحدودية مع سوريا. وإضافة إلى عزل حزب الله ووقف تموينه بالأسلحة، برز أيضاً هدف واضح يتمثل بإعادة لبنان خمسة عشر عاماً إلى الوراء عبر تدمير اقتصاده. لقد عانت المواقع المدنية والمرافق والبنية التحتية الاقتصادية أضراراً جسيمة. وكان لبعض الضربات دلالة رمزية واضحة، كتدمير جسر المديرج على الطريق السريع بين بيروت ودمشق، وهو إنجاز رائع من إنجازات إعادة الإعمار في السنوات 1990 ويقع على الشريان الحيوي الواصل بين العاصمة والبقاع وسوريا.

12لقد عانى السكان من الشلل الاقتصادي الذي عمّ البلاد. فقد توقف الميناء والمطار عن العمل بضعة أشهر، وكذلك السياحة، وأدى ذلك إلى التأثير على النشاط الاقتصادي، خاصة في بيروت الكبرى وجبل لبنان، خاصة وأن الاقتصاد اللبناني يتميز بأنه كثير التعقيد، شديد الاعتماد على الخارج (أنظر الفصل الخامس). ومع ذلك، فإن الأضرار التي تعرّضت لها البنية التحتية وتدمير القرى والأحياء، والتهجير القسري، قد أصابت السكان الشيعة بشكل خاص. نلاحظ هذه الجغرافيا التفاضلية في سلسلة من الخرائط. ففي مجال البنية التحتية الخاصة بالنقل، يمكن اعتبار حصيلة الهجمات التي تعرض لها مطار بيروت والموانئ معتدلة نسبياً، فما أن استقر الوضع السياسي حتى استؤنفت من جديد حركة الملاحة الجوية والبحرية. وكانت أشد عمليات القصف قسوة هي تلك التي تعرضت لها شبكات الطرق. فقد تم تدمير 97 جسراً و630 كيلومتراً من الطرق العادية والسريعة. وأصبحت حركة المرور نحو جنوب البلاد (لاسيما على الطريق السريع الذي كان قد أنشئ حديثاً)، وعبر الجبل صعبة بسبب عمليات القصف. كما تمّ استهداف العديد من نقاط العبور الى سوريا (الشكل 8-3).

13كما تمّ استهداف محطات توليد الكهرباء وخزانات الوقود؛ فتعطل تزويد الجنوب بالكهرباء تماماً، وانتشر نظام التقنين فيما تبقى من البلاد (الشكل 8-4). وأصيبت عدة خزانات للوقود، وكذلك شبكات النقل الرئيسية للمياه الصالحة للشرب. وفي غياب الكهرباء، توقفت إمدادات المياه في الجنوب. ويشكل القصور في هذه الخدمات العامل الرئيسي في تدهور الوضع المادي في التجمعات السكانية في الجنوب التي عاد إليها كثير من النازحين. كما تضرر ستة عشر مشفى، وثلاث مائة وخمسين مدرسة في الضاحية الجنوبية وجنوب البلاد. وقد تعرّضت القدرات الصناعية، بالرغم من أنها متواضعة (أنظر الفصل الخامس)، لأضرار كبيرة، حيث أصيب 142 مصنعاً. وشمل القصف العديد من المصانع الاستراتيجية، وأصيبت صناعات أساسية بالشلل، كما هو الحال في تدمير مصنع حليب لبنان، الذي يصنّع 70% من إنتاج الحليب في لبنان. ومع ذلك، لقد عانى البقاع الأوسط من الهجمات، إلاّ أن الضاحية الجنوبية في بيروت (قضاء بعبدا) وجنوب لبنان هما اللذان تحملا أفدح الأضرار (الشكل 8-5).

14الشكل 8-4: الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية الأخرى غير الطرق.

15وتمثل الأضرار التي لحقت بالمباني السكنية حوالي ثلثي حجم الأضرار المقدرة (الشكل 8-1). ووفقاً لتقديرات رسمية للحكومة اللبنانية، فقد أصاب الضرر بدرجات متفاوتة أكثر من 100,000 منزل منها 16,000 منزل مدمّر تماماً. إن البيانات الكارتوغرافية هنا هي تلك التي نشرتها وكالة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (UNOHAC) في أواخر شهر أيلول، وهي تصف حالة 80,000 منزلاً متضرّراً، 19% منها مدمّر بالكامل (الشكل 8-5 أ و ب).

16تتطابق خارطة الأضرار السكنية الناجمة عن الغارات الإسرائيلية بشكل كبير مع المناطق التي يقطنها السكان الشيعة، حيث توجد مقرات حزب الله ومؤسساته. ويقع نحو 30% من الأضرار التي لحقت بالمنازل في الضاحية الجنوبية لبيروت (الشكل 8-6 ب). وعانت بلدة حارة حريك، وهي ضاحية الطبقة الوسطى حيث توجد المؤسسات الأساسية لحزب الله، من أشد الأضرار: تحول فيها 182 مبنى إلى ركام وأصيب 192 منها بدرجات متفاوتة، أي ما مجموعه 6000 منزلاً دُمرت أو أصبحت غير صالحة للسكن، وتضرر 17,000 منزلاً آخر. وفي المقابل لم تصب مناطق المخالفات الشاسعة في الضاحية الجنوبية لبيروت بأي ضرر تقريباً. كما أن أضراراً فادحة أصابت بلدات وقرى جنوب لبنان، تمثل ما يقرب من نصف حجم الأضرار المقدرة. فقد تمّ تدمير أكثر من 8,000 منزل وتضرّر نحو 45,000 منزل آخر بدرجات متفاوتة. والتجمعات السكانية الثلاثة الأكثر تضرراً هي بنت جبيل والخيام وعيتا الشعب، والتي ضمّت على التوالي 2800 و4000 و1350 منزلاً متضرراً أو مدمّراً. وعملياً، أصيبت جميع التجمعات السكنية في أقضية صور وبنت جبيل ومرجعيون، أما قضاء النبطية فقد تضرر خصوصاً في قسمه الجنوبي. والمنطقة الأخيرة التي شملها القصف هي منطقة البقاع ولاسيما بعلبك: المدينة التي تأسس فيها حزب الله وحيث تقع مؤسّساته الخيرية النشيطة، والتي تضررّت بشدة من جراء الغارات الجوية. وفي سائر أنحاء البقاع، تدمّر 330 منزلاً وأصيب 476 منزلاً آخر بأضرار بالغة، منها أكثر من 80% في بعلبك. وأصبح أكثر من 4,000 شخص بلا مأوى في هذه المدينة.

17كثير من المراقبين، لا سيما مؤسسات حقوق الإنسان الدولية كمنظمة هيومن رايتس ووتش (منظمة العفو الدولية)، قد طعنت برواية الجيش الإسرائيلي التي ادّعت فيها إسرائيل أن الضحايا من البشر والأضرار الجسيمة، التي أصابت البنية التحتية والمساكن هي «أضرار جانبية» ناتجة عن التدخلات والضربات التي تستهدف البنية التحتية ومقاتلي حزب الله، الذي استخدم المدنيين كدروع بشرية، كما ادعوا؛ وبالنسبة لهذه المنظمات، يمكن اعتبار جزء من القصف الإسرائيلي بمثابة جرائم حرب. كما أنهم ذكروا أن حزب الله ربما كان مذنباً أيضاً خلال قصف المناطق المدنية في إسرائيل.

18وكان للعمليات العسكرية عواقب وخيمة على البيئة في لبنان أيضاً. كانت الكارثة الرئيسية في بداية الأزمة هي البقعة النفطية الناجمة عن قصف خزانات الوقود في محطة توليد الكهرباء في بلدة الجية الواقعة على بعد 25 كم جنوب بيروت. وقد انتشر أكثر من 15000 طن من الفيول على الساحل اللبناني المتدهور أساساً. وكانت الكارثة من الضخامة لدرجة يمكن مقارنتها بتلك التي نجمت عن غرق ناقلة النفط إيريكا (Erika) على سواحل بريتاني في فرنسا في عام 1999 (الشكل 8-7 أ). ووفقاً لبيانات صور الأقمار الصناعية، فقد ضربت هذه البقعة الشاطئ إلى مسافة تصل إلى 150 كم، من بلدة الجية إلى الحدود الشمالية، ولوّثت الشواطئ والمرافئ ودمرّت الحياة البحرية. وأهم قطاعات الشاطئ المصابة هي منطقة الجية وشواطئ جنوب بيروت وضواحيها، والساحل بين جبيل وطبرجا، وبدرجة تلوث أقل منطقتي رأس شكا وطرابلس، لاسيما جزر الأرانب والنخيل الصغيرة جداً، وكلا الموقعين مصنفان كمحميات طبيعية (انظر الشكل 7-22)، وأخيراً، ساحل عكار (الشكل 8-7 ب). وقد أدى التأخير في اتخاذ تدابير التنظيف، بسبب استمرار الحرب، إلى تفاقم تأثير هذا التلوث على قاع البحر بسبب الترسبات. كما تأثر الساحل السوري في طرطوس بسبب انجراف الطبقة الملوثة؛ كذلك كانت الحال في قبرص وتركيا. وبشكل أعم، يأتي هذا التسرب النفطي ليضيف تأثيراته وملوثاته على ساحل متدهور أصلاً من جراء النفايات السائلة الملوثة ومكبات النفايات والأبنية الإسمنتية (انظر الفصل الرابع). كما شكلت إزالة أنقاض المباني المدمرة، والتي ألقيت في كثير من الأحيان على الساحل، ضرراً آخر لهذا الشاطئ.

19وكان هناك أيضاً تلوّث باليورانيوم في بعض المواقع، لكن لم يتم التأكد من ذلك بالقياسات المتاحة. والمشكلة البيئية الكبيرة الأخرى التي خلفتها الحرب هي إسقاط مئات الآلاف من القنابل العنقودية، لاسيما في الجنوب (الشكل 8-8): فقد أسقط 70% منها في الأيام الثلاثة الأخيرة من الحرب، بعد أن أُعلن اتفاق وقف القتال. وقد حصل ذلك قبل أن تنته عمليات إزالة الألغام المتخلفة عن المراحل السابقة للصراع. وتشكل هذه القنابل المنتشرة في الحقول والتلال تهديداً مستمراً للسكان. وفي منتصف تشرين الأول 2006، كان هناك بالفعل اثنين وثلاثين حالة وفاة (منها 16 عسكري) و125 جريحاً. كما تضرّرت الزراعة بشكل واسع، وهي النشاط الاقتصادي الرئيس في هذه المنطقة، بسبب تبعثر هذه القنابل. وتبدو آفاق التنمية في هذه المنطقة، المهمشة أصلاً بسبب الاحتلال الإسرائيلي والتأخير في سياسة تأمين المرافق والتنمية الوطنية، غامضة أكثر من أي وقت مضى.

إعادة إعمار في خضم التوترات الجغرافية-السياسية

20لقد تمّ الوصول إلى قرار بوقف إطلاق النار بفضل وساطة دولية، تمّ بموجبها تعزيز قوة الأمم المتحدة (اليونيفيل)، التي انتشرت، بالتعاون مع الجيش اللبناني، في قطاع تمّ توسيعه وأصبح يتطابق مع المنطقة السابقة لقوة اليونيفيل الموسعة، لتشمل كامل القطاع الواقع جنوب نهر الليطاني. ويمثل نشر هذه القوة الدولية المشتركة تحولا جغرافياً-سياسياً كبيراً، ذلك لأنه كان على حزب الله أن ينسحب من جانبه من المنطقة ويتخلى عن مواقعه الظاهرة. وقد أخذت الحكومة اللبنانية مواقع لها في منطقة كانت غائبة عنها لفترة طويلة، حيث لم تتقدّم فيها بشكل خاص بعد الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000.

21ويعبّر تركيب القوة الجديدة لليونيفيل عن عودة لبنان إلى طليعة الرهانات الجغرافية-السياسية الإقليمية، ضمن دائرة أوسع من اللاعبين. وفي الوقت الذي خفضت فيه اليونيفيل عدد أفرادها في عام 2000 إلى 2000 رجل، بعد أن كان 5700، في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، أصبحت قوة اليونيفيل تتركب من أكثر من 11,000 جندي في أواخر عام 2006. وبالإضافة إلى فرنسا - التي كانت مكلفة بقيادة اليونيفيل والتي عادت لتؤكد دورها في دعم لبنان - ساهمت عدة دول أوربية في مساندتها، خصوصاً إيطاليا التي تولّت القيادة اعتباراً من شهر شباط 2007، كما أرسلت إسبانيا وألمانيا وبلجيكا وبولونيا جنودها، ومعها عدة بلدان إسلامية، مثل أندونيسيا وماليزيا (الشكل 8-9 والشكل 1-7). وكانت مشاركة تركيا مهمة بشكل خاص، فهذه الدولة كانت حليفة لإسرائيل وجارة سنية لسوريا والعراق، ويقظة على حدودها الكردية ووريثة الإمبراطورية العثمانية، تلك القوة العظمى التي تحكمت سابقاً بالمنطقة. وكان المشارك الجديد الأخير هو الصين، المتميزة بدخولها الاقتصادي في الإطار اللبناني، والتي جاءت لتؤكد حضورها السياسي للمرة الأولى، بالرغم من تواضعه: 135 جندياً.

22ويضاف إلى هذا الالتزام العسكري الدولي لضمان السلام في منطقة الحدود، كانت هنالك تعبئة دولية لمساعدة لبنان في برنامج إعادة الإعمار. وقد تجلى هذا الدعم في أول مؤتمر عقد في ستوكهولم في 31 آب 2006. وكانت الجهات المانحة الرئيسة هي البلدان العربية الخليجية، التي قدمت دعمها المستمر للبنان منذ الحرب الأهلية، ولاسيما المملكة العربية السعودية، التي منحت لبنان ما يقرب من 600 مليون دولار، والكويت وقطر (الشكل 8-10)، كما كان يوجد بين المقرضين أيضاً الاتحاد الأوروبي وعدة دول أوروبية، مثل ألمانيا وبريطانيا، وهو أمر معتاد، لكن مشاركة الولايات المتحدة كانت بالغة الأهمية لأنها جديدة، ففد ساهمت بمساعدة تزيد عن 150 مليون دولار. وهذا مؤشر على التزام قوي لهذا البلد تجاه الحكومة اللبنانية. كما أرسلت العديد من المؤسسات المالية الدولية أيضاً مساعدات مالية إلى لبنان، ولكن على شكل قروض وليس كمنح. وتذكر القائمة التي وزعتها الحكومة اللبنانية أيضاً إيران وسوريا، دون أن تذكر حجم المساعدة التي قدمتها هذه الأخيرة. فقد استضافت سوريا العديد من اللاجئين خلال حرب صيف 2006، وقدمت المساعدة المباشرة إلى لبنان. لكن هذه المساعدة لم ينظر إليها بارتياح من قبل الحكومة اللبنانية التي كان يترأسها فؤاد السنيورة، وهو المعروف باختلافه مع سوريا. من ناحية أخرى، كانت المساعدات الإيرانية الرسمية حيث عملت على إعادة بناء نحو عشرين جسراً؛ ومن المعروف أن إيران هي المصدر الرئيسي للأموال التي وزّعها حزب الله مباشرة على العائلات التي دمّرت منازلها من جرّاء القصف، والتي بلغت مئات الملايين من الدولارات. لقد عبّر مؤتمر ستوكهولم عن دعم المجتمع الدولي للبنان في مواجهة إسرائيل، ولكنه اعتبر أيضاً رداً من قبل البلدان الغربية والعربية على إيران. فلبنان هو الفضاء الذي تندرج

23لقد بدت الحكومة اللبنانية وكأنها المستفيد الرئيسي من هذا الدعم المتجدد. ومع ذلك، فإن كل أنماط إعادة الإعمار التي حدّدتها هي بالذات، أو تلك التي فرضتها عليها الجهات المانحة، تبين بأنها لم تتمتّع إلا بقدر محدود من الثقة من جانب تلك الجهات، وذلك بسبب نتائج عمليات إعادة الإعمار في السنوات التي سبقت الحرب، والتي لاقت الكثير من النقد. وهكذا، قامت عدة دول، مثل قطر أو الإمارات العربية المتحدة، بتمويل مباشر أو عبر الجمعيات غير الحكومية المحلية، للمشاريع والأعمال الميدانية، كرعايتها لعملية إعادة إعمار قرى أو بلدات بأكملها. وهكذا، فإن قطر كانت الراعي الأكبر في إعادة بناء قرى الخيام وبنت جبيل وعيتا الشعب. ومن جهة أخرى، قام بعض الأثرياء والزعماء السياسين اللبنانيين، وبشكل شخصي، «بتبني» مشاريع مختلفة. وقد امتنع جزء من هؤلاء الفاعلين عن تحويل أموالهم عن طريق الحكومة اللبنانية، التي بدت قدرتها على اتخاذ القرار وسيادتها الميدانية هشة جداً. وهكذا ذهب 32 % من المبالغ التي قدمها المانحون في أواخر كانون الاول 2006 إلى المستفيدين مباشرة أو إلى الشركات المنفذّة. إن هذا الضعف، أو بالأحرى هذا العجز، لدى الدولة اللبنانية يلتقي مع ذاك الملاحظ بشكل خاص في المناطق النائية، خلال فترة إعادة الإعمار (الفصل السابع).

24لقد تضاعفت المساعدات الدولية لإعادة الإعمار في أواخر كانون الثاني 2007، خلال المؤتمر الذي أطلق عليه إسم مؤتمر باريس الثالث، وذلك من خلال دعم إضافي لسياسة الإصلاحات التي أعلنتها الحكومة اللبنانية، وبلغت ما مجموعه 7,6 مليار دولار. ونجد من بين المساهمين الرئيسين المملكة العربية السعودية وفرنسا والولايات المتحدة، الخ. (الشكل 8-11). وكان يجب أن تسمح هذه المبالغ الكبيرة للبنان بتسديد ديونه على المدى القصير والبدء بالإصلاحات الهيكلية التي كانت تطالب بها هذه الجهات المانحة. كانت هذه المظاهر المختلفة من التضامن الدولي من أجل لبنان استثنائية؛ ولا بد من الإشارة، إلى حجم المبالغ التي تم جمعها، بعد سنوات قليلة جداً من مؤتمر باريس الثاني الذي وُعد فيه لبنان بمساعدة تبلغ 4,5 مليار دولار، صرف منها بالفعل حوالي 2 مليار. وتشهد هذه المساعدات بوضوح أن هذه القوى المختلفة تعتبر لبنان عنصراً في استراتيجياتها الإقليمية. وهناك فقط حوالي 10% من هذه الأموال على شكل منح، مخصصة للحالات المالية الطارئة وللمساعدة المالية المباشرة لإعادة الإعمار. وبالنسبة لما تبقى، فكانت عبارة عن قروض تضاف إلى الديون القائمة، يعتمد تقديمها على إنجاز برنامج تصحيح هيكلي في الميزانية، كانت قد قدمته حكومة السنيورة، وكان يتضمّن تخفيض النفقات وزيادة الضرائب والخصخصة. إن تبعية لبنان لتلك الجهات المانحة ولمتطلباتها واضحة جداً. إن إمكانية تنفيذ هذا البرنامج مرهونة بالاتفاق السياسي الداخلي، في حين أن هناك أصوات من المعارضة تطعن بشرعيته.

25وبالفعل، لقد تشاركت الحكومة مع مختلف الجهّات الفاعلة المحلية والدولية في مشاريع إعادة الإعمار. وقد سمحت المعطيات التي نشرتها الحكومة اللبنانية بتقييم الوضع في نهاية عام 2006، بعد حوالي ثلاثة أشهر تقريباً من بدء الأعمال، وكذلك ساهمت بتحديد أولويات العمل (الشكل 8-12). ومن بين الورش التي كانت الأكثر تقدماً نجد، في آن واحد معاً، القطاعات التي كانت الأضرار فيها محدودة نسبياً، والتي تحتل الأولوية من أجل استئناف الحياة اليومية. وقد شمل هذا التصنيف إصلاح مدرجات المطار، الذي ساعد على إنهاء عزلة البلاد، وعودة الاتصالات الهاتفية، وإصلاح خطوط الكهرباء، ولكن بسبب الحاجة لتأهيل وحدات الإنتاج الكهربائي المتضررة، كانت الحاجة للتقنين تبدو أكثر من أي وقت مضى في هذا المجال. وقد اتخذت إجراءات سريعة لإعادة تأهيل المدارس. وفي مجال البنية التحتية، نجد في المقابل أن إصلاح الجسور والطرق (لم يرد ذكرها في الوثيقة) قد استغرق وقتاً أطول.

26وفيما يتعلق بتقديم المساعدة للأهالي، تمّ الانتهاء في وقت قصير من تعويض حوالي 7,000 صيّاد سمك. في المقابل، فإن التعويضات الخاصة بالجرحى وعائلات الضحايا احتاجت لوقت أطول. كذلك تأخّرت القضية المتعلّقة بتعويض الأسر التي تضرّرت منازلها أو دمّرت، لأنها كانت تتطلّب تحديد المستفيدين. وقد بدأت بسرعة عملية صرف الأموال للمتضرّرين في الجنوب والبقاع؛ في المقابل، تأخرّت العملية في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفقاً لبرنامج إعادة الإعمار، لأنه كان يصعب تحديد آليات جماعية للأبنية ذات الملكية المشتركة. وقد تزايد الصراع السياسي بين حكومة فؤاد السنيورة وحزب الله، وشكّل عاملاً كامناً أعاق عملية تنفيذ هذه المشاريع، وقد ظهرت هذه المعارضة في جميع القرارات الخاصة بالجنوب والضاحية.

27وأخيراً، نلاحظ في هذه الوثيقة أن معالجة المسألة البيئية كانت تحتاج لوقت طويل أيضاً. وعلى الرغم من الالتزام السريع ببدء العمل في الجبهة لإزالة القنابل العنقودية، فقد كان تقدّم سير العمل بطيئاً لأن الموقع كان كبيراً جداً وحساساً. وقد اكتملت المرحلة الأولى من تنظيف البقعة النفطية، ولكن الوزن المسحوب لم يشكل سوى جزء ضئيل (8%) من الكميات التي تسربت، ومن وقت لآخر تترسّب على الشاطئ كتل من النفط. وفي نهاية المطاف، يطرح البعد المكاني لهذه الحرب وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية من جديد ثلاثة أسئلة مركزية تتجول عبر صفحات هذا الأطلس.

28يتعلّق الأول بقراءة طائفية للكيان اللبناني، وهي قراءة مغرية دوماً. فكما لاحظنا، لقد اعتمدت جغرافية القصف الإسرائيلي، على مسلّمة تفترض وجود هوية تميّز بين المناطق السياسية لحزب الله وأماكن سكن الشيعة اللبنانيين. وفي محاولة معاقبة أحدهما، فقد عصف الضرر بالآخرين. والانقسامات السياسية التي تفاقمت منذ حرب صيف 2006 ما زالت تغذي فكرة أن الفضاء السياسي مقطع بحسب خطوط انقسام طائفية. ولاسيما من خلال الخلافات الشيعية-السنية. وهكذا تمّ التلاعب في لبنان بالانقسام نفسه الذي ميّز العلاقة بين الشيعة والسنة في العراق، أو على نطاق أوسع، بين إيران الشيعية والدول العربية السنية: المملكة العربية السعودية ومصر والأردن... الخ. ولكن هذا التفسير لا ينطبق كثيراً على التضامن بين اللبنانيين الذي ظهر خلال النزاع، لاسيما فيما يتعلق بالتضامن مع النازحين الشيعة من الجنوب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو يغفل حقيقة أن خطوط الانقسام هذه يمكن أن تسير بالتوازي مع استراتيجيات جيوسياسية عكسية لدى مختلف الفاعلين الطائفيين. وهكذا، فإن الولايات المتحدة كانت تدعم الحكومة اللبنانية التي يرأسها سني، ولكنها في العراق كانت تحارب مقاتلين سنّة وكانت تستفيد من دعم الشيعة لها. أخيراً، إن تنظيم اللعبة السياسية اللبنانية بعد حرب الثلاثة والثلاثين يوماً يبدو أكثر تعقيداً بكثير مما يمكن أن تلاحظه قراءة طائفية، كما بين من قبل تحليل نتائج انتخابات عام 2005 (الفصل الأول). وهكذا، فإن حزب الله المدعوم من إيران لديه حلفاء محليين، كالزعيمين المسيحيين ميشال عون وسليمان فرنجية، بالإضافة إلى عدة أحزاب أو مجموعات سنّية ودرزية. أما الحكومة، فكانت تجمع تحالفاً بين الأحزاب السنية والدرزية والمسيحية.

29وتتعلّق الملاحظة الثانية بالتمايزات المناطقية التي كشفتها حرب تموز-آب 2006 وحركة الإعمار المستجدّة. وهي تبين أن جميع هذه المناطق ليست متساوية في ساحة المواجهات الدولية. فتوزّع الغارات الإسرائيلية يرسم جغرافية لبنان الشيعية. وقد استفاد جنوب لبنان في فترة ما بعد الحرب من هبات مالية هائلة، جاءت بالتأكيد لإصلاح الأضرار الناجمة عن العدوان الإسرائيلي، ولكنه لم يستفد أبداً، على الأقل بشكل مباشر، من المنح خلال السنوات التي تلت الحرب الأهلية. وبالمثل، فإن الضاحية الجنوبية، التي تضرّرت بشكل رهيب، قد استفادت من برنامج هام لإعادة التأهيل والإعمار، وهذا يتناقض مع الإهمال الذي عرفته قبل الحرب. وهناك مناطق أخرى لا تزال، في الفترة الحالية، تشدّ اهتمام المستثمرين الدوليين من أجل مشاريع جديدة أو لضمان استدامة تلك المنجزة سابقاً أو قيد الإنجاز، كوسط المدينة ومشروع سوليدير فيه، أو المنتجعات المختلفة في الجبل. وفي المقابل، يبدو أن مناطق أخرى لا تزال إلى حد كبير خارج نطاق الاهتمام الدولي. ومما لا شك فيه أن عمل المؤسسات الشيعية المدعومة من إيران مهم في البقاع، حيث تستفيد العديد من التجمعات السكانية والبنيات التحتية من بعض عمليات الإصلاح. وأخيراً، إن مناطق الشمال، وخصوصاً أقصى شمال البلاد، كانت تبدو بعيدة عن التيار الكبير من المساعدات القادمة الى لبنان في فترة ما بعد الحرب.

30لقد تعاملت الحرب والتعبئة المحلية والدولية مع بنية جغرافية تمّ تحديدها مراراً خلال هذا العمل. ومن المؤكد، أن المشاريع الحكومية لإعادة تنظيم الضاحية الجنوبية في سنوات إعادة الإعمار قد فشلت إلى حد كبير، وأن برنامج إعادة الإعمار والتنمية للمنطقة التي كانت تحتلها إسرائيل بعد عام 2000 لم يحقق عملياً أي إنجاز. ومع ذلك، فقد سمحت بعض آليات إعادة التوزيع بأن يشهد جنوب لبنان تحسناً نسبياً بشكل عام، مع تناقضات كبيرة بالمقارنة مع شمال لبنان والبقاع، وتمّ كل شيء كما لو أن الحرب تمثل من جديد، على الرغم من العنف والدمار أو من خلاله، آلية لإدماج جنوب البلاد، مما يسمح بربطه بالمنطقة الوسطى، فضلاً عن إدراجه في العولمة. ومع ذلك، تجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة لا تبدو أنها الفاعل الرئيس في هذا الإندماج.

31النقطة الثالثة الأخيرة: كانت الدولة حاضرة في بعض المناطق والقطاعات في البلد، كانت تراقب وتسيطر وتضع خططاً للتنظيم وترسل القوى الأمنية وتشيّد البنى التحتية. بينما نجد أنها كانت في مكان آخر، على العكس مما سبق، لا تلقى الترحيب، وحضورها كان خجولاً، وكانت توجد جماعات أخرى تقوم بوظائفها وأنشطتها. ولا شك أن «المجتمع الدولي» يرغب أن تتحكم الدولة اللبنانية أكثر بما يحدث في لبنان، وهو يضغط بمختلف الوسائل، لا سيما من أجل أن يضبط الجيش اللبناني بشكل أفضل بعض المناطق. لكن هناك بعض الفاعلين المحليين أو الدوليين الذين يستفيدون من هذا الفراغ - على سبيل المثال، من خلال تقديم منح لإعادة بناء المدارس أو المساكن. وهذا الوضع لا يخص فترة ما بعد الحرب فقط، وإنما يمكن ملاحظته قبل ذلك خلال السنوات 1990، كما بينا من قبل عند الحديث عن شبكة المدارس (انظر الفصل السادس).

32كان غياب الدولة والسلطات المحلية لصالح التنافسات الدولية بين إسرائيل وسوريا وإيران، وفي وقت سابق بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية. إلى جانب ذلك، وبعد إدخال التعديلات اللازمة، هناك منطق الدولة في بلدان الجنوب في القرن الواحد والعشرين الذي وصل إلى حده الأقصى، والذي نجده في حالات لاتينية-أمريكية مختلفة: التبعية المفروضة، وضعف القواعد الضريبية الخاصة بها وبالتالي ضعف الموارد المالية، وهيمنة الأطراف الفاعلة الدولية، وكافة أشكال التلاعب بالانتماءات الاجتماعية، والمناورة والإيماءات للحصول على الموارد الدولية، والعنف.

 

لائحة المراجع والمصادر

EXTE INTÉGRAL

Rapports administratifs et d’organismes privés cités

ACS 1996  : Répertoire des circonscriptions foncières du Liban, Études et statistiques.

 

ACS 1996-1997  : Recensement des immeubles et des établissements, Études et statistiques (6 volumes).

 

ACS 1998  : Les conditions de vie des ménages au Liban, Études et statistiques.

 

ACS 2006  : The National Survey of Household Living Conditions 2004 (www.cas.gov.lb).

 

Ambassade de France au Liban, ministère de l’Énergie et de l’Eau, 2004  : Les Libanais et l’eau potable, enquêtes socio-économiques, réalisé par Corail-ICEA, s.l., 160 p.

 

CDR 1994  : Damage Assesment, Report by OGER International, 7 vol.

 

CDR 1994  : Plan de transport du Grand Beyrouth, TEAM-IAURIF, 10 vol. + annexes statistiques.

 

CDR 1999  : Évaluation environnementale de la côté libanaise, ECODIT IAURIF, 159 p.

 

CDR 2004-2005-2006  : Rapports annuels (www.cdr.gov.lb).

 

CDR, en collaboration avec la Direction générale de l’urbanisme, 1986  : Schéma directeur de la région métropolitaine de Beyrouth, 256 p.

 

CDR, en collaboration avec la Direction générale de l’urbanisme, 2002  : Schéma directeur d’aménagement du territoire libanais (SDATL), Rapport de la phase 1, Diagnostic et problématiques, Beyrouth/Paris, Groupement Dar-IAURIF, 188 p. + 6 vol. d’annexes.

 

CDR, en collaboration avec la Direction générale de l’urbanisme, 2003  : Schéma directeur d’aménagement du territoire libanais (SDATL), Rapport final, mai, IAURIF-Dar al-Handasah, 233 p. + cartes hors texte.

 

Direction centrale des statistiques, 1972  : L’enquête par sondage sur la population active au Liban, novembre 1970, Beyrouth.

 

Information International, 2002  : «  Facts about Lebanese Emigration (1991-2000)  », téléchargé sur www.information-international.com.

 

Institut libanais pour le développement économique et social (ILDES), 2005  : Mouvement de retour des déplacés à leurs localités d’origine au Mont Liban Sud et dans les cazas de Saida et de Jezzine de 1991 à 2003. Faits et limites (Mai 2004), Préparé par Dr Khalil Abourjaili, 26 p. + annexes.

 

IRFED-ODS, 1972  : Niveaux de développement rural en 1960 et en 1970, Beyrouth, 105 p.

 

Ministère de la Santé, 2004  : Statistiques sanitaires au Liban, Beyrouth.

 

Ministère des Affaires sociales, 1996  : Les tableaux statistiques sur la population et les logements, 2 vol.

 

Ministère du Plan-IRFED, 1964  : Atlas du Liban.

 

Mission des comptes économiques du Liban, République libanaise, 2005  : Les comptes économiques du Liban 1997-2002, élaborés et rédigés sous la direction de Robert Kasparian avec le support de l’unité économique, Projet PNUD-Ministère de l’Économie et du Commerce, Beyrouth, Juillet 2005, 144 p.

 

Principaux sites web utilisés

www.cdr.gov.lb (Conseil du développement et de la reconstruction)

 

www.www.economy.gov.lb (ministère de l’Économie et du Commerce)

 

www.bdl.gov.lb (Banque du Liban)

 

www.abl.org.lb (Association libanaise des banques)

 

www.audi.com.lb (Banque Audi)

 

www.rebuildlebanon.gov.lb (Comité du Haut Secours)

 

www.lebanonundersiege.gov.lb (Comité du Haut Secours)

 

www.cas.org (Administration centrale des statistiques)

 

www.crdp.org (Centre de recherche et de développement de la recherche)

 

www.un.org/unrwa (Agence des Nations unies pour l’assistance aux réfugiés palestiniens au Proche-Orient)

 

www.samidoun.org (Samidoun, ONG mobilisée dans l’assistance civile durant la guerre de 2006)

 

Mémoires académiques, ouvrages et articles cités ou dont des illustrations sont reprises

Abirizk Élias, 2005  : Évolution du trait de côte libanais entre 1962 et 2003, Mémoire de fin d’études de l’École supérieure des géomètres libanais, en partenariat avec le CNRS Liban-Centre national de télédétection et le département de géographie de l’École normale supérieure, 93 p.

 

Abou Sélim, Kasparian Choghig, Haddad Katia, 1996  : Anatomie de la Francophonie libanaise, Montréal, AUPELF-UREF, Beyrouth, FMA, coll. «  Universités francophones  », 317 p.

 

Amory Pascal, Kasparian Robert, Beaudoin André  : La population déplacée au Liban (1975-1987), Université Saint-Joseph/Université de Laval (Québec), 2 vol. + ann.

 

Atlas du Liban, 2004  : réalisé par le groupement Dar-IAURIF, CDR, en collaboration avec la DGU, Beyrouth, Conseil national de la recherche scientifique, 64 p.

 

Atlas du Liban, Géographie, histoire, économie, 2003 (réédité en 2006)  : dir. par Raoul Assaf, Liliane Barakat, Beyrouth, Presses de l’Université Saint-Joseph, 107 p.

 

Bakhos Walid, 2005  : «  Le rôle de la puissance publique dans la production des espaces urbains au Liban  », M@ppemonde, n° 80-4, 15 p. (http://mappemonde.mgm.fr/num8/articles/art05403.html)

 

Balanche Fabrice, 2005  : «  Syrie–Liban : intégration régionale ou dilution  ?  », M@ppemonde, n° 79-3 (http://mappemonde.mgm.fr/num7/articles/art05306.html)

 

Clochard Olivier et Doraï Mohammed Kamel, 2005  : «  Aux frontières de l’asile  : les réfugiés non palestiniens au Liban  », A contrario (Genève), vol.  3, n° 2, p. 45-65.

 

Courbage Youssef, Fargues Philippe, 1973-1974  : La situation démographique au Liban, Publications de l’Université libanaise, 2 volumes, 104 + 182 p.

 

Faour Ghaleb, Bou Kheir Rania, Verdeil Éric, 2006  : «  Les incendies de forêts au Liban  », Forêt méditerranéenne, t. XXVII, n°  4, p. 339-352.

 

Faour Ghaleb, Haddad Theodora, Velut Sébastien, Verdeil Éric, 2005  : «  40 ans de croissance urbaine à Beyrouth  », M@ppemonde, n° 79-3, 12 p. (http://mappemonde.mgm.fr/num7/ articles/art05305.html).

 

Faour Ghaleb, Bakhos Walid, Huybrechts Éric, Verdeil Éric, 2004  : «  L’Atlas des localités du Liban  : méthode d’établissement et premiers apports d’une base de données géoréférencée des unités cartographiques élémentaires du Liban  », Lebanese Scientific Journal, vol.  5, n°  2, p. 37-56.

 

Favier Agnès, 2001  : Municipalités et pouvoirs locaux au Liban, Beyrouth, CERMOC, 422 p.

 

Feghali Kamal, 1996  : Les élections législatives libanaises en 1996. Paramètres et résultats (en arabe), Jdeideh, Dar Moukhtarat, 351 p.

 

Glazse Georg, 2003  : Die fragmentierte Stadt. Ursachen und Folgen bewachter Wohnkomplexe im Libanon, Opladen, Leske + Budrich, Stadtforschung aktuell, 294 p.

 

Hashimoto Kohei, 1992  : «  Lebanese Population Movement 1920-1939, Towards a Study  », dans A. Hourani et N. Shehade, éd., The Lebanese in the World, A century of Emigration, Centre for Lebanese Studies, Oxford, p. 65-107.

 

Infopro Research 2006  : Economic Impact of the July 06 War and the Steps towards Recovery, Beyrouth, Infopro, Center for Economic Information, 179 p.

 

Jaber Mounzer, 1999  : La zone libanaise occupée, Beyrouth, Institut d’études palestiniennes (en arabe), 253 p.

 

Kasparian Choghig, 2003  : L’entrée des jeunes Libanais dans la vie active et l’émigration, Beyrouth, Presses de l’Université Saint-Joseph, 3 vol.

 

Kévonian Dzovinar, 2004  : Réfugiés et diplomatie humanitaire  : les acteurs européens et la scène proche-orientale pendant l’entre-deux-guerres, Paris, Publications de la Sorbonne, 561 p.

 

Khanzadian Zadig, 1926  : Atlas de géographie économique de Syrie et du Liban. Commerce et industrie, Paris, L. de Bertalot, 88 p., 67 cartes.

 

Labaki Boutros, 1998  : «  L’émigration libanaise depuis 1975  », Travaux et Jours, n°  61, Beyrouth, Univer-sité Saint-Joseph, p. 81-141.

 

Maktabi Rania, 1999 : «  The Lebanese Census of 1932 Revisited. Who are the Lebanese?  », British Journal of Middle Eastern Studies, 26/2, p. 219-241.

 

Mermier Franck, 2005  : Le Livre et la Ville. Beyrouth et l’édition arabe, Paris, Actes Sud, 244 p.

 

Messara Antoine, dir., 2002  : La géographie électorale au Liban. Historicité des cazas et découpage des circonscriptions, Beyrouth, Fondation libanaise pour la paix civile, Konrad Adenauer Stiftung, 376 p. (principalement en arabe).

 

Nabti Patricia, 1992 : «  Emigration from a Lebanese Village : A case of Bishmizzone  », dans A. Hourani et N. Shehade, éd., The Lebanese in the World, A century of Emigration, Centre for Lebanese Studies, Oxford, p. 41-64.

 

Naufal-Rizkallah Hala, 2003  : La situation démo-graphique au Liban, Beyrouth, Société d’impri-merie pour la diffusion et la publication, 111 p. (en arabe).

 

Rabbath Edmond, 1986  : La formation historique du Liban politique et constitutionnel. Essai de synthèse, 2e édition, Beyrouth, Publications de l’Université libanaise, 665 p.

 

Saad Abdo, Les élections libanaises de l’année 2005. Lectures et résultats (en arabe), Beirut Center for Research and Information, s.d., 820 p.

 

Safa Élie, 1960  : L’émigration libanaise, Beyrouth, Université Saint-Joseph, Faculté de droit et des sciences économiques, Beyrouth, 324 p.

 

Sakr Jean, 2001  : Les églises orientales (en arabe), Beyrouth, 476 p.

 

Schmid Heiko, 2002  : Der Wiederaufbau des Beiruter Stadtzentrums, Ein Beitrag zur handlungsorientierten politisch-geographischen Konfliktforschung, Im Selbstverlag des Geographishen Instituts der Uni-versität Heidelberg, 284 p.

 

Sfeir-Khayat Jihane, 2005  : Les premiers temps des Palestiniens au Liban, 1947-1952, Thèse de Doctorat en Langues, littératures et sociétés, INALCO, Paris, 2 t., 384 + 205 p.

 

Tarraf Souha, 1994  : L’espace en mouvement. Dyna-miques migratoires et territorialisation des familles libanaises au Sénégal, Thèse de géographie sous la direction de J.-M. Miossec, Université de Montpellier 3, 383 p.

 

Tübinger Atlas des Vorderen Orients, vol. B-IX, Die Osmanische Zeit bis 1918  : par Wolfgang Denk, 1977-1985, Wiesbaden, Ludwig Reichert Verlag.

 

Velut Sébastien, 2006  : «  Cartographier le Liban  », M@ppemonde, n°  80-1 (http://mappemonde.mgm.fr/num9/librairie/lib06102.html)

 

Verdeil Chantal, 2003  : Les Jésuites de Syrie de 1833 à 1864, thèse d’histoire sous la direction de J.-M. Mayeur, Université Paris 4-Sorbonne, 540 p.

 

Verdeil Éric, 2005, «  Les territoires du vote au Liban  », M@ppemonde, n°  78-2, 25 p. (http://mappemonde.mgm.fr/num6/articles/art05209.html)

 

Compléments bibliographiques

Corm Georges, 2006 (4e édition)  : Le Proche-Orient éclaté, Paris, Gallimard (Folio), 1056 p.

 

Doraï Mohamed Kamel, 2006  : Les réfugiés palestiniens du Liban. Une géographie de l’exil, Paris, Éditions du CNRS (coll. Moyen-Orient), 288 p.

 

Hamdan Kamal, 1997  : Le conflit libanais  : communautés religieuses, classes sociales et identités nationales, Genève, Institut de recherche des Nations unies pour le développement social / Paris, éd. Garnet, 275 p.

 

Labaki Boutros, Abou Rjeily Khalil, 1993  : Bilan des guerres du Liban 1975-1990, Paris, L’Harmattan, 255 p.

 

Mermier Franck, Picard Élizabeth, éd., 2007  : Liban, Une guerre de 33 jours, Paris, La Découverte, 256 p.

 

Nahas Charbel, 2006  : Un programme socio-économique pour le Liban, Beyrouth, LCPS, 320 p. (bilingue franco-arabe)

 

Picard Élizabeth, 1988  : Liban, état de discorde, Paris, Flammarion, 263 p.

 

Rougier Bernard, 2004  : Le Jihad au quotidien, Paris, PUF, 262 p.

 

Verdeil Éric, Velut Sébastien, coord., 2005-2006  : dossier Liban-Syrie, M@ppemonde, n°  78-84 (6 articles et notes, http://mappemonde.mgm.fr)

 

إيريك فرداي، غالب فاعور،  سيباستيان فيلو

Traduction de

محمد الدبيات، نور خربطلي ، سلمى العظمة

يقدم مشروع هذا الأطلس رؤية جديدة للأراضي اللبنانية ويسلط الضوء على التحولات التي عرفتها على مدى السنوات الثلاثين الماضية. وهو ثمرة تعاون فرنسي- لبناني. ويستند هذا الكتاب على جمع واسع وكبير للمعلومات المكانية على مستوى دقيق. وتسمح خرائطه الغنية والفريدة من نوعها بإدراك الديناميات المعقدة في العمل في بلد يبدو في كثير من الأحيان عصياً على الفهم.

 

 

الكاتب: 
إيريك فرداي، غالب فاعور، سيباستيان فيلو
التاريخ: 
الجمعة, مارس 16, 2012
ملخص: 
40لم يعرف لبنان منذ الاستقلال سوى فترات قصيرة لم تتعرّض فيها السيادة اللبنانية وأعمال الدولة للعرقلة. فلقد كانت الدولة اللبنانية في الداخل عرضة لاحتجاجات بعض المجموعات، لاسيما أثناء الحرب الأهلية؛ وملغمة بالتدخلات الخارجية. وتترجم الصعوبات والتوترات التي