خوارج النخب الطائفية

 

المرحلة التي يمر بها لبنان حافلة بالمخاطر على صيغته، ومسدودة الأفق السياسي، إذا ما أُخذ الانسداد على تفسيرات وشروحات القوى الطائفية السائدة. يضاعف احتمال المخاطر مشهد الانفلات العربي، حيث الفوضى الأهلية تكاد تكون عامة وشاملة. هذه مناسبة للقول، أن الانفكاك اللبناني من تلقي تداعيات المنطقة العربية سيبقى وهماً، وأن البحث الجدي كان وسيظل، في ابتكار صيغ متجددة للارتباط "بالأشقاء"، وللتفاعل المنتج والإيجابي معهم.

أسئلة كثيرة تطرح حول الاستقرار الداخلي اللبناني، وهواجس محقة تحضر عن احتمالات انفجار الهدوء الهش، وسقوط التوازن القلق بين "ائتلافات" وتنافرات القوى الممسكة بإدارة ملفات الخصومات السياسية الداخلية.

يستمد عدم التقاتل الأهلي الحالي مادته من عناصر سلبية، لأن عكسها غير متوافر حتى الآن، مثلما صفة الوضع الحالي صفة سلبية، لا تقدم صورة الداخل اللبناني في صيغة الإيجاب. القول بأن السائد هو عدم التقاتل الأهلي، يتضمن مضمر غياب القتال بالسلاح، لأن أشكال الاحتراب السياسي ملء الأسماع وملء الأبصار، وفي السياق يقتضي القول، أن عدم تجاوز حدود "القتل السياسي" إلى المعركة الحربية يوفره أمران: الأمر الأول، غياب مشروع خارجي يريد تحويل لبنان إلى ساحة حروب بديلة ، وإلى ميدان رسائل نارية متبادلة، لأن ساحات "التبليغ" كثيرة في أكثر من بلد عربي، وفي دول عديدة مجاورة، أما الأمر الثاني، فهو غياب الاستعداد الداخلي لركوب مركب الحرب الأهلية مجدداً، طمعاً في تغيير معادلات، أو سعياً إلى تعديل ميزان الحصص والتوازنات، ضمن التشكيلة السياسية الحالية، أي تشكيلة النظام السياسي الذي ترعاه حتى تاريخه بنود اتفاق الطائف، هذا يمكن وصفه بأنه اتفاق "مفترى عليه"، وعلى الالتزام بتطبيقه تطبيقاً كاملاً وشاملاً. إذن وكما يلاحظ، تضمن السلبية النعتية، سلبية واقع الحال، و"لا" النافية لسياسات ما، تلتقي مع "لا" النافية لصفات التساكن اللبناني الحالي. حيال "اللاءات" هذه، من حق الكتلة الأوسع من اللبنانيين أن تقلق، وأن تضع في اعتبارها احتمال تبدل عدم الرغبة في الداخل والخارج، إلى رغبة انفجارية، لها قاعدتها ومقوماتها، إذا ما تبدلت الظروف العامة، التي ما زالت تمسك بتوازنات كل "لا" نافية، سياسياً وطائفياً.

على صعيد آني، وليس على أصعدة مرحلية، يحتاج اللبنانيون إلى لغة طائفية مفقودة، تناوئ وتسفه لغه السياسة الطائفية السائدة، أي أنها تقارب مصالح "الأجسام" الطائفية، وكل الملتحقين والمنتفعين، من منظار مصلحي مختلف، له شرحه وتعليله وتفسيره، لكل القضايا الوطنية العامة. ولكي لا يرفع يساري أو ديمقراطي أو ليبرالي عقيدته بالسؤال عن "الحكمة" في مخاطبة الطائفيات، يقتضي القول أن من بين أسباب الحديث عن مطالبة "القوى الرجعية" الداخلية بتخفيف غلواء سياساتها، سبب واقع الحال الطائفي، الذي لا تعكر صفو إمساكه بزمام الأمور كلمة من موقع فكري أو سياسي أو اجتماعي مختلف ومخالف ومعترض، أي سبب عجز القوى "التقدمية" عن المبادرة إلى الفعل في الميدان المفتوح موضوعياً، أمام بناء لبنان "مجمع" حركاتها وتحركاتها البديلة. ولأن السياسة تنطلق من عاملي "الموضوع والذات"، فإنه من الجائز، بل من الضروري التطلع إلى ما يديم "استقرار" الحال، بدلاً من أن يظل الوقوف والصمت سمة المراقبين لتدهور الأوضاع والأحوال.

لو جرى تناول وضع الشيعية السياسية كمثل أول، لوجب القول أنه من غير المفهوم ألاّ تبادر شرائح من النخبة الشيعية إلى نقاش الأداء الحالي للممسكين بزمام سياسة الطائفة، وأن تسمح بصمتها أو بترددها، بأخذ كل الجمهور الشيعي بجريرة فصيل سياسي من فصائلها، وترك كل مصالح هذا الجمهور، الآنية والمستقبلية، رهينة لسطور برنامج سياسي واحد، وأسيرة في سجن تفسير أحادي يتولاه قادة هذا المشروع، ويجدّون في سبيل إنفاذه. مادة "النخبة"، التي تسعى إلى رؤية مختلفة لواقعها ومستقبلها ومستقبل طائفتها، موجودة في السياسي اليومي، مثلما هي موجودة في السياسي البرنامجي، وهي موجودة أيضاً في المستند الإيديولوجي والفقهي، وغير غائبة، بل هي حاضرة في تراث شيعي مديد، له رموزه الدينية والسياسية، وله كتاباته وحراكه الاجتماعي، وله تراثه ومواقفه السابقة على قيام الكيان اللبناني، وتلك التي رافقت نشوء وعمر هذا الكيان.

على ما هو معروف حتى الآن، لم تشهد التجربة اللبنانية خروجاً سياسياً للشيعية السياسية على أحكام التجربة مثل الخروج الذي يحصل الآن، ويكاد "المنطق" الذي يقود السياسات الراهنة، نقيضاً لتراث سياسي شيعي، قارب المشهد اللبناني من منطلق الاقتراب منه وطلب الدخول إليه، وليس من دواعي الابتعاد عنه والخروج عليه. من الأمس غير البعيد، كانت تجربة الإمام موسى الصدر، وما صدر، مثلاً وليس حصراً، عن الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين، وما حفل به تراث السيد الغائب، الإمام محمد حسين فضل الله.

الخروج السياسي الشيعي الحالي، يناقض دعوات توطين الشيعة، ولعلها من المرات القليلة، لكن الخطرة، التي يجري إلحاق الشيعة فيها بقوى خارجية، ويصير جمهورها جزءاً من مشاريعها، ويمعن في فرز الطائفة عن قريناتها، بحيث يغلب على تعريفها "مذهبيتها" لا وطنيتها. من المعروف أنه حين تغلب المذهبية تضمر الوطنية، وأنه لا قيامة لأوطان المذاهب، بل إن هذه تكون دائماً نذيراً بدنو آجال الأوطان.

يصح في ما سبق من قول، أن الخط الآخر مطلوب، وله ممكناته وإمكاناته، وأن ما تُطالب به نخبة طائفية أو مذهبية بعينها، مطلوب أيضاً من كل النخب الشبيهة الأخرى. ولعل حصيلة ما، يصوغها "خوارج النخب"، فتكون خروجاً أولياً نحو حالة أفضل من الاستقرار.

الكاتب: 
أحمد جابر
المصدر: 
التاريخ: 
الأحد, أبريل 26, 2015
ملخص: 
لم تشهد التجربة اللبنانية خروجاً سياسياً للشيعية السياسية على أحكام التجربة مثل الخروج الذي يحصل الآن، ويكاد "المنطق" الذي يقود السياسات الراهنة، نقيضاً لتراث سياسي شيعي، قارب المشهد اللبناني من منطلق الاقتراب منه وطلب الدخول إليه، وليس من دواعي الابتعاد