سعَيد لـ"الجمهورية": التنفيذ المُجتزأ للطائف مرَدّه للسلاح السوري والإيراني
إنّ الهمّ الأساس الذي يشغل بال الدكتور فارس سعيد يتمثّل بدور المسيحيّين، معتبراً أنّ انخراطهم في معركة الدفاع عن اتّفاق الطائف ومشروع الدولة في لبنان على غرار ما كانوا عليه في مطلع العشرينيات والأربعينيات من القرن الماضي كفيل لوحده في إعادة الوهج والتألّق إلى هذا الدور، داعياً إيّاهم إلى أن يكونوا رأس حربة في الدفاع عن العيش المشترك ومشروع بناء الدولة.
* هل اتّفاق الطائف قابل للتطبيق، خصوصاً أنّه لم يُطبّق منذ لحظة إقراره؟
- لقد حال السلاح دون تنفيذ الطائف مرّتين: مرّة في ظلّ وجود الجيش السوري في لبنان، والأخرى ما زلنا نعيش تداعياتها، والمتمثلة بسلاح "حزب الله. فالمشكلة الأبرز هي في السلاح السوري والإيراني، ولكن هذا لا يقلّل من حقيقة أنّ هذا الاتفاق لم يُفهم أيضاً من قِبل اللبنانيّين. صحيح أنّ روحيته هي ميثاقية بامتياز، غير أنّها لم تكن مفهومة أو مقبولة من قِبل كلّ الطوائف.
قبل اتّفاق الطائف كان هناك طائفة مميّزة اسمها الطائفة المارونية بُني حولها ما يُسمّى بـ"المارونية السياسية"، وذلك من خلال الصلاحيات المطلقة التي كان يتمتّع بها رئيس الجمهورية في لبنان، إذ كان لديه صلاحية الربط والفصل في تعيين رئيس الحكومة، فضلاً عن أرجحية مسيحيّة داخل مجلس النوّاب. وكان المسيحيّون هم الذين يحملون لواء الدولة في لبنان. فاللبننة أو الحفاظ على لبنان كان خياراً مارونيّا، في حين أنّ المسلمين كانوا متّهمين قبل الطائف بتبديتهم الاعتبارات القومية العربية على اللبنانية.
وما يدلّ على عدم فهم اتّفاق الطائف يتمثّل بقناعة الفريق الإسلامي بأنّه انتصر على حساب الفريق المسيحي، وهذا غير صحيح، إذ إنّ اللبنانيين جميعاً تكبّدوا إثر الحرب الأهلية خسارة فادحة. وظنّ الفريق الإسلامي أنّه قادر على استبدال "المارونية السياسية" بثنائية سنّية – شيعية، ما ولّد داخل الفريق المسيحي شعوراً بأنّ هذا الاتّفاق يأتي لتصفية حسابات المارونية السياسية واستبدالها.
إذاً، هذه هي أوّل إشارة على سوء فهم اللبنانيين لاتّفاق الطائف.أمّا المسيحيّون فرأوا أنّ هذا الاتفاق مجحف بحقّهم، رافضين التخلَّي عن فكرة أنّ لبنان هو وطن ملجأ لهم، وبالتالي أبَوا الاعتراف بعدم جوازيّة أن تكون هناك بعد الحرب الأهلية، طائفة مميّزة على حساب الطوائف الأخرى.
وبالتالي، فإنّ هذين الخطأين المسيحي والإسلامي، في نظرتهما المشتركة لاتّفاق الطائف أدّيا إلى الإخفاق في مقاربة حقيقية ووطنية لهذا الاتّفاق الذي طُبّق وفقاً لهذين الخطأين، وليس وفقاً لروحه الميثاقية التي ترتكز على تفاهم اللبنانيّين، كما أدّى إلى سعي كلّ فريق إلى محاولة استرجاع أو الاحتفاظ بنفوذه داخل المعادلة السياسية.
ومن هنا، نحن نشدّد على أهمّية أن يكون هذا الاتّفاق الإطار الناظم للعلاقات اللبنانية – اللبنانية، وعلى ضرورة تطبيقه فعليّا وبكلّ حذافيره نصّاً وروحا، من أجل اكتشاف ثغراته ومن ثمّ تجاوزه أو تطويره عند الحاجة، سعياً لإنقاذ هذا البلد.
وأؤكد أنّ ما أدّى إلى التنفيذ المُجتزأ لاتّفاق الطائف مرَدّه إلى السلاح السوري ومن ثمّ الإيراني عبر "حزب الله"، فضلاً عن القراءات المغلوطة لهذا الاتفاق كونه لا يمكن لأيّ طائفة أن تحقّق مكتسبات على حساب الشريك الداخلي، فالمكتسبات للدولة وحدها.
* الثغرات الموجودة في الاتفاق واضحة، فلماذا لا يُصار إلى تصويبها؟
- ثمة قناعة لدى شريحة واسعة من اللبنانيين بأنّ هذا الاتّفاق يجب أن يُطبّق قبل أن نتكلّم عن استبداله أو تطويره، خصوصاً أنّ بروز كلّ طائفة كأنّها تعيش منفصلة عن الطائفة الأخرى، يعطي تبريراً لـ"حزب الله" كي يقول بدوره: أنا أمتلك أولويات على المستوى الطائفي، وهذه الأولويّات تتمثّل ببقاء التنظيم الحزبي الذي يرتكز على قائمة عسكرية وماليّة وسياسية وإيديولوجية بمعزل عن الدولة، وبالتالي إذا كان الجميع يطالبون بإعادة النظر في مضمون الاتّفاق، فلماذا لا نطرح فكرة المؤتمر التأسيسي وكلٌّ يأتي بهواجسه ويطرحها على الطاولة؟
* هل الطائف "شرّع المقاومة تحت عنوان حزب الله"؟
- الطائف واضح، لا ذكرَ لكلمة مقاومة، ولا تبرير دستورياً لامتلاك "حزب الله" للسلاح، ويجب التمييز بين نصّ الاتفاق والبيانات الوزارية التي فرضتها ظروف احتلالية أو تسويات ظرفية.
إنّ واقع المقاومة فرض نفسه على جميع اللبنانيين، وقد التفّ حولها معظم اللبنانيين حتى العام 2000 عند تحرير الأرض اللبنانية بشكل كامل بعد الانسحاب الإسرائيلي.
سلاح "حزب الله" ليس بإمرة لبنانية، فقرار استخدامه أو حلّه هو في يد إيران وليس في يد الحزب، وهذا الموضوع لا يمكن معالجته من خلال المطالبة فقط بتنفيذ اتّفاق الطائف، إنّما يتطلّب ظروفاً موضوعية على مستوى المنطقة وتراجعاً للتضخّم السياسي الذي يعيشه الفريق الإيراني. ولا شكّ في أنّ العنصر الأساس الذي يؤدّي إلى تراجع النفوذ الإيراني في لبنان هو سقوط النظام السوري الذي سيسمح للبنان وللبنانيين بمقاربة مرتاحة إلى موضوع السلاح في الداخل.
* هل توافق على مقولة إنّ حجم الطائفة الشيعية اختلف بين لحظة ولادة الاتفاق واليوم ما يقتضي تعديله لأخذ حجمها في الحسبان؟
- ميثاق 1943 ارتكز على ثنائية مارونية- سنّية وهمّش الطائفة الشيعية، كما همّش أيضا الدروز، ما أدّى إلى انتقال الشيعة من مكوّن أهلي في اتجاه اليسار والحركة الوطنية وقيام حركة موسى الصدر الذي أعطى لحركته عنوان "المحرومين"، ودعا كمال جنبلاط الحركة الوطنية للانقلاب على النظام الذي كان مسؤولاً عن تكريس هذه الثنائية وتهميش الشيعة والدروز.
وإذا درسنا سوسيولوجياً هذه الفترة، نجد أنّ اليسار كان يرتكز على المهمشين الشيعة والدروز وبعض المكوّنات المسيحية التي كانت هامشية داخل البيئة المسيحية، فضلاً عن بعض المهمشين السنّة كحركة "المرابطون" التي كانت حركة مفبركة من قبل "أبو عمار" وليست حركة سنّية حقيقية.
مبدأ الثنائية لم يؤدِّ إلى الاستقرار في لبنان. فالثنائية المارونية-الدرزية انهارت في العام 1840، والثنائية المارونية السنية انهارت في العام 1975، والثنائية السنية الشيعية التي أخذت على عاتقها قراءة اتفاق الطائف وتنفيذه بدعم سوري انهارت مع اغتيال رفيق الحريري ومع ثورة الأرز في العام 2005.
أعطى اتّفاق الطائف للطائفة الشيعية كياناً وأدخلها كمكوّن أساسي وشريك في النسيج الداخلي اللبناني، وأعطاها موقعاً أساسياً في المعادلة الوطنية ودورها يوازي أدوار الطوائف الأخرى، فضلاً عن أنّ الطائف بدّد مقولة الحرمان عبر إدخال عدد هائل من الموظفين الشيعة إلى الإدارات، وقد أكّد الرئيس نبيه بري في أحد تصريحاته أنّه مسؤول عن إدخال أكثر من عشرة آلاف موظف شيعي إلى هذه الإدارة، وبالتالي من غير المقبول أن يقول فريق من اللبنانيين، وعلى رأسهم الشيعة، إنّ اتفاق الطائف يكرّس مجدّداً ما كان مكرّساً في العام 1943 وإنّه يأتي على حساب الطائفة الشيعية، وبالتالي إذا سلّم اللبنانيون أنّه من أجل تجاوز الفتنة الداخلية، ومن أجل تجاوز الانزلاق في حرب أهلية، نرتضي بأن نعطي صلاحيات إضافية للطائفة الشيعية مقابل أن تسلّم هذه الطائفة سلاح حزب الله، فإنّ هذا سيكون بمنزلة عدوى متنقلة بين الطوائف الأخرى.
لا يمكن تعديل اتّفاق الطائف على قاعدة موازين قوى، إنّما أوّلاً يجب على اتفاق الطائف أن ينَفذ ومن ثم إذا كانت هنالك من تعديلات أو تجاوزات أو تطوير يجب أن يكون ذلك من خلال توافق اللبنانيين فقط لا غير.
* هل في إمكان اتّفاق الطائف مواكبة الربيع العربي؟
- هناك مَن يرى أنّ اتفاق الطائف هو نموذج يجب أن يعمّم على العرب وهناك من يستخفّ به إلى درجة المطالبة بإلغائه. وأنا أعتقد أنّ هذا الاتفاق يتناسب تماماً مع طبيعة المجتمع اللبناني. ولا أدري إذا كان يتناسب مع طبيعة المجتمع السوري أو العراقي، أسمع بأنّ السودان يطالب باتّفاق طائف سوداني، وهذا فقط من باب اللفظ أي تعميم المصطلح على بلدان أخرى.
نحن اللبنانيين توصّلنا إلى هذا الاتفاق من خلال معاناتنا، لأنّ مبدأ العيش المشترك بنظري ليس حصيلة رغبة بل حصيلة استحالة تطبيق مبدأ آخر، وهذه القناعة أتت بعد تجربة أدّت إلى سقوط 120 ألف شهيد. وإذا أرادت المجتمعات الأخرى أن تنتج اتّفاق طائف ما، فعليها إمّا أن تتعلّم من
دروس لبنان وإمّا أن ينضج الوعي الجماعي داخل هذه المجتمعات والذي يجعلها ترى ضرورة إنتاج تسوية تشبه الطائف.
* ألا تعتقد بأنّ المدخل للحفاظ على المناصفة المسيحية-الإسلامية يكمن في إقرار قانون انتخابي يعيد للمسيحيين وزنهم وتأثيرهم؟
- المناصفة الإسلامية المسيحية داخل مجلس النواب هي ضرورة علاجية من اجل أن ننزع عن المسيحيين خوف الديموغرافيا، وأن ننزع من المسلمين نشوة الغلبة، وهذه ضرورة وطنية. أؤيد مبدأ المحافظة على المناصفة من خلال وعي المسلمين بأنّ نشوة الطوائف الإسلامية في هذه اللحظة تضرّ بلبنان كما هو الحال بالنسبة إلى الواقع الانسحابي للمسحيين أيضاً.
أعتقد أنّه من مصلحة المسلمين المحافظة على هذه المناصفة لأنّهم إذا أرادوا يوماً ما أن يواجهوا موجة "الإسلاموفوبيا" ضدّهم في الغرب عليهم أن يحافظوا على المسيحيين.
أمّا عن سبل الحفاظ على هذه المناصفة، فهي تكون أوّلاً من خلال الأخذ بالاعتبار حاجة لبنان إلى هذه المناصفة، ومن ثم التطرّق إلى الآليات العملية من خلال قانون الانتخاب.
كما أنّ هنالك دوراً على المستوى الميثاقي وآخر على مستوى بناء الدولة. فعلى المستوى الأول يجب على المسيحيين أن يبرزوا بأنّهم أوّل المدافعين عن لبنان العيش المشترك وأن يكون لبنان بكل طوائفه أمانة في رقابهم، وأن يشعر المسلم بأنّ المسيحي في لبنان يحافظ عليه وعلى كرامته كما يحافظ على ذاته وعلى كرامته.
فربح المسيحيين الأساسي هو ربح لبنان، وإذا وضعنا ضمن أولوياتنا الصلاحيات المسيحية في لبنان سوف نخسر، وإذا وضعنا ضمن أولوياتنا الحفاظ على لبنان- العيش المشترك سيربح لبنان وسنربح معه كلّ ما لدينا من مطالب من داخل التركيبة اللبنانية. لا يمكن أن يكون هناك مشروع مسيحي في لبنان، بل مشروع لبناني ينتصر من خلاله المسيحيون.
أمّا على مستوى بناء الدولة، فعلى المسيحيين أن يطرحوا فكرة الدولة المدنية التي هي دولة ترتكز على إعطاء الدور للمواطنين الأفراد وعلى تأمين الضمانات للجماعات الطائفية. وقد حدّدت الوثيقة السياسية الصادرة عن المجمع الماروني في العام 2006 فكرة الدولة المدنية. ويستطيع الموارنة القول، بكل فخر واعتزاز، إنّهم هم مَن ابتكروا فكرة هذه الدولة.
عليهم أن يبرّروا ما هي الدولة المدنية من جوانبها الدستورية والسياسية، وأن يقودوا معركة الدولة المدنية في لبنان وقيامها في العالم العربي. وإذا كان الفرز بين "ديموقراطية إسلامية" وديموقراطية مدنية في كل أنحاء العالم العربي، فعلى المسيحيين أن ينحازوا إلى الديموقراطية المدنية وأن يكونوا، انطلاقاً من لبنان، رأس حربة لقيام الدولة المدنية في كلّ أنحاء العالم العربي.
* ما هي تداعيات سقوط النظام السوري على الواقع الطائفي في لبنان؟
- أرجح أن تبرز مع سقوط النظام السوري نشوة سنّية ومأزق مسيحي وإحباط شيعي. وهنا يترتّب على المسيحيين لعب دورهم من خلال ضبط هذه النشوة ومدّ اليد للطائفة الشيعية من أجل إخراجها من هذا الإحباط المرتقب، لأنّها ستخضع إلى محاكمة سياسية جماعية كما خضعت الطوائف الأخرى في مراحل سابقة، وبالتالي على المسيحيين أن يكونوا الإطار الجامع على قاعدة الدولة أوّلاً ولبنان أوّلاً.