القبس تنشر أوراقا من مذكرات البطريـــرك صفير (1992 – 1998).. حول لبنان-(9)

النوع: 

سعى البطريرك صفير صادقاً لمساعدة رئيس الحكومة الجديد رفيق الحريري، ودعمه لتحقيق ما يصبو إليه اللبنانيون من نهوض للبنان في شتى الميادين. وظن أن مؤهلاته الشخصية وقدراته السياسية والمالية العالية وعلاقاته العربية والدولية تخوله لعب دور كبير في إنقاذ لبنان من الهيمنة السورية عليه، أو التخفيف منها. فسيد بكركي عايش رياض الصلح الزعيم القومي العربي الذي وظّف رصيده الشخصي لدى زعماء مسلمي لبنان وسوريا والعرب لتأمين انطلاقة لبنان المستقل بعد نزاع طويل بين المسلمين والمسيحيين حول وجود الكيان اللبناني وهويته ودوره. ورأى أن بمقدور الحريري أن يلعب دور رياض الصلح، بعد انتهاء حرب طويلة قسّمت اللبنانيين طائفياً، وجعلت المسلمين خلالها يتحدون بسوريا مطالبين بصيغة حكم جديدة وباستمرار وجود جيشها ودورها للحفاظ على واقع أمّن لهم أرجحية في مجالات عدة. دور رياض الصلح كان البطريرك الماروني يرى في الحريري الشخص المناسب الذي يحظى بالحصانة العربية والإسلامية الكافية لبدء عملية إعادة التقارب بين المسيحيين والمسلمين، وتحقيق المصالحة الحقيقية بينهم تمهيداً لنزع الذريعة التي تبرر استمرار وجود القوات السورية في لبنان. فدمشق كانت، ولا تزال، تقول للأسرة الدولية ان وجودها في لبنان لمنع اقتتال اللبنانيين، وأن انسحابها يعيد الحرب الأهلية. وقد كوّن البطريرك صفير هذه الفكرة عن قدرات الحريري ونياته بعد سلسلة لقاءات عديدة عقدها معه في روما وباريس وبون، وعززتها فيما بعد لقاءاته معه في لبنان خلال السنتين الأوليين لحكومته. شاطر نظرة البطريرك إلى الحريري العديد من الشخصيات المسيحية المعارضة والموالية منها وزير الثقافة والتعليم العالي ميشال إدة الذي قال للحبر الماروني في الحادي والعشرين من شباط 1993 إنه «فرح جداً عندما سمع الحريري يعلن في مناسبات خاصة وعلنية أنه لا قيامة للبلد من غير الموارنة، وأنه عازم على البقاء في الحكم ريثما يُعيد بناء كل لبنان ولو كلّف عشرة مليارات دولار». وإن كان سيد بكركي لم يقل للحريري مباشرة إنه يتوقع منه أن يكون رياض الصلح فأكثر من شخص نقل إليه أمنية البطريرك: «لم يقل لي مرة إنه يراني رياض الصلح ولكن ثمة من قالوا لي كلاماً بهذا المعنى. في أية حال، الظروف مختلفة عن أيام رياض الصلح». تنسيق غير مباشر في المقابل، دأب رئيس الحكومة رفيق الحريري في المرحلة التي تلت تكليفه على التنسيق غير المباشر مع البطريرك صفير. وقد تولى كل من مستشاره الدكتور داود الصايغ والسيد سمير فرنجية مهمة وضع سيد بكركي في أجواء تطورات العمل الحكومي. وقد وجد الحريري في البطريرك الماروني الشريك المسيحي الممثل لتطلعات المسيحيين الذي لا يغضب التواصل معه سوريا. فدمشق المستفيدة من تسامح الولايات المتحدة حيال دورها المتمادي في لبنان بنتيجة مشاركتها في مفاوضات السلام، رسمت قواعد محددة للعبة الداخلية اللبنانية لا يمكن لرفيق الحريري ولا لسواه تخطيها. الاقتصاد غير الآمن استمرت حملة الاعتقالات في صفوف القوى المعارضة لوجود سوريا العسكري وتدخلها في السياسة الداخلية اللبنانية، من غير أن تبدو الحكومة مسؤولة عنها أو في بعض الأحيان على معرفة بها. وبدأت تسود في الأوساط الصحفية والسياسية مقولة مفادها أن للحريري ولحكومته دوراً محدداً يقتصر على الاضطلاع بالشؤون المالية والاقتصادية، فيما الشؤون السياسية الأساسية يعود التقرير فيها إلى القيادة السورية مباشرة أو من خلال رئيس جهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية العاملة في لبنان غازي كنعان. أما الشؤون الأمنية فتعود حصراً إلى قيادة الجيش التي تنسق بدورها مباشرة مع القيادة السورية من غير المرور بالسلطات اللبنانية الرسمية. في ظل قواعد اللعبة المشار إليها، كان على الحريري وحكومته خوض الامتحان الداخلي الجدي الأول الذي كان يفترض أن يشكل مؤشراً على اتجاهات السلطة اللبنانية بعد دخوله إليها من الباب العريض. هذا الامتحان كان التعيينات الإدارية التي لم يستطع فيها الحريري إلا أن يسير وفق التيار السوري السائد في لبنان ويساهم، من حيث أراد أو لم يرد، في تحقيق انقلاب داخل الإدارة مشابه للانقلاب الذي حصل في مجلس النواب وسائر نواحي الحياة السياسية في لبنان. فكما أن الانتخابات النيابية أخرجت من المؤسسات الدستورية كل القوى المعارضة لسوريا، اجتاحت القوى المتحالفة مع سوريا كل المواقع الرئيسية في الإدارات والمؤسسات العامة، وحولتها إلى محميات ومراكز خـــــدمات ريعية وانتــــخابية تعــــمل على تأمــــين مصالح القوى اللبــــنانية التي تغطي الهيمنة السورية على لبنان. رافق سيد بكركي عن كثب استحقاق التعيينات الإدارية، خصوصاً أنها تأتي مباشرة بعد الانتخابات النيابية، وكان قلقه بالغاً من انسحاب تجربة الإبعاد نفسها على التعيينات. وقد نبّه مراراً إلى ضرورة أن تأتي منسجمة مع الأصول والأعراف المعمول بها في لبنان، لكي تنقذ الإدارة العامة من الفساد والاهتراء والترهل الذي أصابها بعد سنوات الحرب، داعياً، في السر والعلن، إلى اعتماد مبدأ الكفاية والنزاهة ومراعاة المنطق الوفاقي الذي كان يفترض أن يسود البلاد بعد انتهاء الأعمال الحربية على الأراضي اللبنانية. مشاكل الأميركان ومنذ الأسبوع الثاني للحكومة الحريرية الأولى، بدأت مشاكل الترويكا حول ملف التعيينات الإدارية. ونقل سمير فرنجية إلى بكركي، في الثامن عشر من تشرين الثاني 1992، شكوى رئيس الحكومة من سعي رئيس الجمهورية إلى فرض أشخاص يدينون له بالولاء الشخصي، وهو ما شكل الاصطدام الأول بين رئيس الجمهورية الياس الهراوي ورئيس الحكومة رفيق الحريري. لم يعرب الحريري، في هذه المرحلة، عن شكواه، من جراء إصرار حركة أمل على «اجتياح» المؤسسات والإدارات العامة، على رغم أن نبيه بري كان صارماً في مطالبته في حق تسمية المديرين العامين الشيعة، وفي بعض الأحيان غير الشيعة. مواجهة أموال إيران ولم يقم رئيس المجلس اعتباراً إلا لمبدأ الولاء الشخصي له حتى أنه أصر على تعيين من لم يحوزوا على الشهادات العلمية اللازمة معتبراً أن «الشهادات في الوطنية تكفيهم». وفي هذا الإطار، يقول الوزير السابق ميشال إدة: «إن الرئيس نبيه بري «طحش» على كل شيء، على أساس أنه يحتاج لكل التوظيفات كي يتمكن من الوقوف في وجه حزب الله. وكان يقول دائماً إن الحزب تأتيه أموال طائلة من إيران وإن السلاح الوحيد المتوافر بين يديه هو التعيينات في الفئة الأولى والتوظيفات في كل الفئات. هكذا بدأت القصة، وتحت عنوان التوازن مع حزب الله أكل الأخضر واليابس». في المقابل، يشير النائب محمد عبد الحميد بيضون، رئيس المجلس السياسي السابق في حركة أمل، إلى أن الجميع شاركوا في عملية المحاصصة، والمسيحيون الذين كانوا في السلطة، والرئيس الحريري، كانوا يقولون الكلام نفسه: نحتاج إلى التعيينات حتى نستطيع استمالة الشارع إلينا. المشكلة، في رأيي، أننا حلينا الميليشيات وأبقينا الدويلات التي أفرزت الميليشيات. الميليشيا لم تخلق من فراغ بل من دويلة موجودة إما في الطائفة وإما في الإقليم الجغرافي. هذه الدويلات أمعنت في احتلال مكان الدولة فجرى تركيب نظام محاصصة أساء لاتفاق الطائف ولكل المرحلة التي تلت». أما وزير الإعلام ميشال سماحة فيؤكد أن «هم الرئيس بري كان توظيف جماعته وتقديم خدمات، في حين أن الرئيس الحريري كان يرمي إلى الإمساك بالإدارة» شيعة فارسية وشيعة عربية أما وزير الخارجية فارس بويز فيشير إلى أن بري «طرح نفسه كصاحب معادلة شيعية بين الشيعية الفارسية التي يمثلها حزب الله والشيعية العربية التي يمثلها هو، ولكي يتمكن من إبقاء الشيعة مرتبطين بالعروبة والدولة وسوريا فهو في حاجة إلى دعم اجتماعي مادي إداري سياسي لمواجهة الدعم الإيراني الهائل لحزب الله الذي يقال إنه يبلغ ثلاثمائة مليون دولار سنوياً. وطالب بكمية كبيرة من الوظائف لتأمين وظائف للشيعة وبكمية كبيرة من النفوذ تحت عنوان أنا لا أستطيع أن أواجه الدعم الإيراني إلا بدعم مشابه من الدولة اللبنانية». الـحلقة العاشرة خطة الـحريري لاسـتـيـعـاب الـوضـع اللبـنـاني

الكاتب: 
أنطوان سعد
المصدر: 
التاريخ: 
الخميس, ديسمبر 1, 2005
ملخص: 
دأب رئيس الحكومة رفيق الحريري في المرحلة التي تلت تكليفه على التنسيق غير المباشر مع البطريرك صفير. وقد تولى كل من مستشاره الدكتور داود الصايغ والسيد سمير فرنجية مهمة وضع سيد بكركي في أجواء تطورات العمل الحكومي. وقد وجد ال