"القبس" تنشر أوراقا من مذكرات البطريـــرك صفير (1992 – 1998).. حول لبنان(1) أخشى ما كان يخشاه صفير أن يكون لبنان جائزة ترضية لسوريا
سلاح الموقف، أمضى الأسلحة، في عرف البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، في تمزيق أغشية الأوهام، وابقاء شعلة الحرية والكرامة متقدة في نفوس اللبنانيين، وتذكير المجتمع الدولي أن ثمة شعباً مظلوماً متروكاً لقدره، وهو سلاح لا يؤذي أحداً ولا يمس كرامة ولا يسفك دماً، وان كان في حده الحد بين الحق والباطل. امتشق بطريرك الموارنة سلاح الموقف ورهانه على كرامة المواطن اللبناني وعزة نفسه، وقد أيقن منذ البداية أن هذا الانسان سينتفض على واقعه، أطال الزمن الرديء أم قصُر. وقد تأخر اللبنانيون، أو بعضهم، في ادراك جدوى وفاعلية هذا السلاح في مواجهة أسلحة القمع والتسلّط واستعمال العنف لالغاء المواقع المعارضة. وقد أظهرت الأيام أنه الأجدى والأسلم وأنه يوصل في النهاية الى الهدف من غير المخاطرة بحياة الناس وكراماتهم. بحلول تشرين الأول 1992، أي مع انتهاء العمليات الانتخابية، تحولت بكركي الى مرجعية وطنية مساوية للمرجعيات الدستورية الثلاث مجتمعة التي باتت تمثل فقط مواقع نفوذ سورية تنفذ سياسة دمشق في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط. فيما استمرت بكركي المعقل اللبناني الحر الأخير الرافض للأمر الواقع الذي نظّر له كثيرون، واستقوى به آخرون، ودعا فريق ثالث البطريرك الى الالتحاق به على قاعدة تحالف الأقليات الدينية لتعزيز وضع المسيحيين واعطائهم أكثر مما هو مقدّر لهم في الدستور. وبين تأمين مصلحة اللبنانيين، وتأمين مصلحة المسيحيين، اختار البطريرك أن يدافع عن لبنان لثقته بأن ما هو خير للبنان هو خير للمسيحيين وليس العكس. في حين إن كثيرين لم يتمكنوا من الصمود أمام هذه التجربة وفضّلوا أن يقدّموا مصالحهم الشخصية ومصالح طوائفهم على مصلحة لبنان العليا. يغطي الجزء الثاني من السيرة البطريركية الأحداث الواقعة بين العامين 1992 و 1998 وموقف البطريركية المارونية منها، في فترة صعبة للغاية، كان على البطريرك الماروني السادس والسبعين أن يوازن خلالها ويوفق بين أمرين: أن يدافع عن شعبه المستهدف بشكل مبرمج، والثاني أن يحافظ على الخط الوطني للبطريركية المارونية التي طالما تميزت بالدفاع عن الكيان اللبناني ومقوماته ككل. لقد كان أسهل على سيد بكركي في المرحلة السابقة أن يقصر مقاربته للشأن العام على مواقف وطنية تطال الخير العام للّبنانيين تاركاً للقوى السياسية المسيحية مسؤولية التفاهم مع القوى السياسية الاسلامية على الشؤون التفصيلية وحقوق كل طائفة. بيد أنه وجد نفسه مضطراً الى أن يتولى مهمة الدفاع عن المسيحيين الذين تعرضوا لحملات مركزة من قمع وسجن ونفي واعتقال وتعذيب. ورغم قيامه بهذا الدور بشجاعة كبيرة، لم يُشعر القواعد الشعبية الاسلامية أن نضاله لا يشملها وأن مواقفه أهملتها، لذلك تعاطفت معه وأيدته وأشعرته بدعمها، ولو المستتر له. ولعل هذا الدعم، اضافة الى مؤازرة مجلس المطارنة الموارنة وصلابته، هو ما مكّن البطريرك من الصمود طويلاً كسنديانة عتيقة عميقة الجذور في مهب الريح العاتية الرامية الى اقتلاع كل ما يقف في وجه هيمنتها على لبنان. وغني عن البيان أن الأسرة الدولية لطالما أعطت قضية النزاع العربي-الاسرائيلي الأولوية على الوضع اللبناني. فاهتمت الولايات المتحدة خلال الأعوام التي يغطيها الكتاب في طمأنة سوريا الى نفوذها في لبنان مقابل أن تحفظ الاستقرار فيه وتمضي في عملية السلام. أما فرنسا فبدت، من خلال طروحاتها ووساطاتها، خصوصاً بعد وصول اليمين الى الحكومة ووصول الرئيس جاك شيراك الى الرئاسة، أنها، على الأقل، في تنسيق دقيق مع رئيس الحكومة رفيق الحريري ومتبنية لوجهة نظره في كثير من الميادين. هذه المعطيات الدولية معطوفة على غياب عرابي اتفاق الطائف الاقليميين والدوليين، وعلى اقتناعه الراسخ بحتمية الوفاق الوطني للخروج من الأزمة اللبنانية، عزّزت ثقة البطريرك صفير في الخيارات التي انتهجها منذ انتخابه في عام 1986. في الجزء الأول من سيرة البطريرك صفير كانت الأحداث متسارعة فانعكست أقساماً وفصولاً قصيرة في الكتاب. أما أحداث الجزء الثاني، باستثناء أحداث مطلع عام 1994، فهي بطيئة، وانعكس ذلك على بنية الكتاب، فجاءت أقسامه وفصوله طويلة. لقد تميزت الحياة السياسية بين عامي 1992 و 1998 بالرتابة التي خلّفتها اليد الحديدية السورية الثقيلة التي خنقت لبنان، وكادت تنتزع روحه، لولا البطريرك صفير وكوكبة من المناضلين المجهولين بمعظمهم الذين تفاعلوا مع مواقف سيد بكركي، وتحركوا بما أتيح لهم من امكانات ضئيلة، في سبيل حرية لبنان وسيادته وكرامة أبنائه. لقد أزعجت السيرة في جزئها الأول عدداً كبيراً من اللاعبين، رغم أن أحداً لم يكن مستهدفاً شخصياً فيها، ورغم الأخذ بالتوصية الدائمة لصاحب الغبطة بمحاذرة اشعار أي طرف أن لبكركي موقفاً ضده. وقد أبدى لاعبو المرحلة التي يغطيها هذا الجزء استغراباً من الحملات والانتقادات التي قام بها لاعبو المرحلة السابقة ضد السيرة البطريركية. فعسى أن تكون صدور لاعبي مرحلة «الزمن الرديء» أكثر اتساعاً من صدور من سبقوهم لئلا يصبحوا مضطرين الى أن يسمعوا من سابقيهم ما سبق لهم أن قالوه هم لهم بضرورة التحلي بروح ديموقراطية وقبول الاستماع الى الحقيقة الى ما سوى ذلك من نصائح. فالدنيا دولاب، على ما يقول اللبنانيون. انكفأت المعارضة إلى خلافاتها بعد مقاطعة انتخابات عام 1992 ما بعد العاصفة مساء الأحد الواقع فيه الحادي عشر من تشرين الأول من عام 1992 انحسرت العاصفة الهوجاء. هدأ الضجيج الصاخب الذي رافق العمليات الانتخابية بين داعية للمقاطعة ومبرر لها وبين داعية للمشاركة ومحذر من مغبة الاحجام عن الاقتراع. انتهت “السكرة”. انكفأ الموالون لاحتساب ما حققوه من مكاسب سياسية ومقاعد نيابية واقتسام النفوذ. وبدأوا بالتهيؤ لاستحقاقي تشكيل الحكومة المقبلة، وانتخاب رئيس مجلس النواب الجديد، واجتياح الادارات والمؤسسات العامة، وتكريس واقع الغالب والمغلوب الذي بدأ بالتبلور مع تشكيل حكومة الرئيس عمر كرامي. في المقابل، انفرط عقد المعارضة غداة انتهاء المعارك الانتخابية، بعدما اجتمعت على الدعوة الى مقاطعة الانتخابات، ترشيحاً واقتراعاً، وأغدقت الوعود على الرأي العام بالمضي في سياسة معارضة منظمة، وانكفأ أقطابها الى نزاعاتهم وأحقادهم القديمة. وعاد كل منهم الى حيث كان قبل صيف 1992: من كان رافضاً للنظام برمته، عاد الى رفضيته ومن كان معارضاً له، من داخله، عاود معارضته أو سعى الى ترتيب وضعه مع القوى النافذة في لبنان. أما البطريرك الماروني فالتفت أول الأمر الى الظرف الاقليمي والدولي الذي جعل ممكناً أن تحصل الانتخابات على النحو الذي جرت فيه. وأخذ يراقب محاولات السلطة لاستيعابه أو عزله وسعي المعارضة لاستظلاله أو حمله على مواجهة مفتوحة مع السلطة. وكان سيد بكركي يستنتج، شيئاً فشيئاً، وبكل أسى، أن لبنان الذي عرفه انتهى… ربما الى الأبد. الواقع الجديد لبنان الذي عرفه البطريرك الماروني تميّز، من جملة ما تميز به، بالتسامح والاستعداد الدائم للبدء من جديد أياً كان حجم التجربة التي مر بها. كان اقتناعه راسخاً بأن لبنان لا يقوم الا على قاعدة التوافق بين مختلف الطوائف بعيداً عن كل تحد أو تهميش لأية فئة. رأى- ولا يزال- أن الشعارات التوافقية من مثل «لا غالب ولا مغلوب»، و«لبنان لا يطير الا بجناحيه» وغيرها، هي واقعية وليست مثالية أو وهمية على الاطلاق. ولا يزال يذكر جيداً ما كان يردده الرئيس عبد الحميد كرامي في كل مرة بدا له منحى الأحداث غير موافق للمسلمين في لبنان: «لا تحرجونا كيلا تخرجونا»، ويذكر تالياً حرص القيادات السياسية المسيحية على معالجة مصدر شكوى المسلمين منعاً لأي شعور بالاستهداف عندهم. ضرب لشرعية الميثاق فاجأ البطريرك الماروني صمت الغالبية الكبرى من القيادات الاسلامية حيال شكوى المسيحيين من انتخابات نيابية تحمل تحدياً سورياً سافراً لهم: «الانتخابات ستجري، ولو لم يكن هناك غير مرشح واحد أو ناخب واحد»، وصدمته التصريحات الرسمية اللبنانية التي اعتبرت الانتخابات محطة في مسار «قطار» الجمهورية الثانية، الذي يسير بمن يلتحق به ولا ينظر الى الوراء ولا يأبه بمعارض وبمعترض. وبدا هذا القطار كأنه على استعداد لأن يسحق كل من له رأي مغاير أو نظرة مختلفة الى الأمور. توقع من القيادات والشخصيات والنواب الموالين لسوريا أن لا يقدموا مصالح سوريا السياسية، ومصالحهم الشخصية، على مصلحة لبنان العليا في أمر شديد الدقة يشكل ضربة قاسية لميثاق العيش المشترك الذي لا يعلوه اعتبار والذي لا شرعية لأي سلطة تناقضه، على ما جاء في مقدمة وثيقة الوفاق الوطني التي ارتضاها اللبنانيون قاعدة للحياة السياسية اللبنانية ومنطلقاً لها. الصمود أمام الضغوط موقف هذه القيادات وسلوكها في فترة الانتخابات النيابية وما بعدها جعل البطريرك صفير يقتنع، أكثر فأكثر بأن الطبقة السياسية اللبنانية مكونة من مجموعة من الرؤساء والوزراء والنواب المغلوب على أمرهم، والذين لا يستطيعون أن يصمدوا أمام اغراء ما تعرضه عليهم دمشق من مناصب ونفوذ مقابل التنازل عن الثوابت الوطنية. وفي عرف البطريرك صفير أن من لا يعرف كيف يصمد أمام الاغراء لا يستطيع، بالتأكيد، أن يصمد أمام الضغوط. عتبه على السياسيين لا يعني أنه يقلل من شأن النفوذ السوري في لبنان ومن قدرته على تحقيق الأهداف التي يحددها أياً يكن الثمن. فالموقف الأميركي من الانتخابات النيابية بدّد كل ما كان لديه من شكوك حول حقيقة النظرة الأميركية للدور السوري في لبنان. وترسخ لديه، مع مرور الوقت وتتالي الأحداث، اقتناع بأن الولايات المتحدة لا تعارض الهيمنة السورية على لبنان مقابل أن تقوم دمشق بضبط الوضع الأمني فيه وتمضي قدماً في عملية السلام في الشرق الأوسط. فخلال الفترة التي سبقت الانتخابات، كانت تصل اليه أصداء عما أسر به كبار موظفي السفارة الأميركية مثل دايفيد هيل والسفير رايان كروكر لكوادر أحزاب المعارضة من تقييم أميركي ايجابي لموقف المقاطعة في حال تمكن المعارضون من تحقيق نسبة محترمة من عدم مشاركة القوى السياسية في الانتخابات ومن عدم اقتراع الناخبين. وقد لعبت السفارة الأميركية دوراً حاسماً في حمل حزب الكتائب اللبنانية على مقاطعة الانتخابات عندما كان يتأرجح بين المشاركة وعدمها، طالبة منه صراحة عدم اعطاء العملية الانتخابية غطاء مسيحياً. وقال السفير رايان كروكر للأمين العام للحزب كريم بقرادوني: “أنا أنصح بألا تخرجوا عن التوافق المسيحي. – لكن الجو المسيحي ينحو صوب المقاطعة. – اعملوا وفق الجو المسيحي». ويضيف بقرادوني:«عدتُ والتقيتُ كروكر بعد انتهاء العمليات الانتخابية، وحضوره الجلسة الأولى لمجلس النواب، فقلت له: نصحتمونا بالتضامن مع القوى المسيحية، فصرنا جميعاً خارج اطار مؤسسات الدولة. وها أنتم تؤيدون الانتخابات ونتائجها التي كنتم تعارضونها. فأجابني: نحن عندما نعطي النصائح ليس على من يسمعونها أن يعملوا بالضرورة بموجبها». الورقة اللبنانية لم تكن هذه المعلومات، عن موقف الأميركيين الملتبس من موضوع الانتخابات، وحدها ما حمل البطريرك صفير على عدم الركون الى سياسة الولايات المتحدة وعلى اعتبار سياستها حيال لبنان، في أفضل الأحيان، مفرطة بمصالحه. بل ما خبره شخصياً من استخدام الأميركيين للورقة اللبنانية بهدف الضغط على سوريا، كما حصل في فترة الانتخابات النيابية عام 1992، للحصول منها على مواقف تصب في خانة تقدم مفاوضات السلام مع اسرائيل. فقبل أن تتقدم دمشق بورقة تفاوضية، اعتبرت متقدمة من جانب جميع الأطراف، لكي تبحث في الجولة السادسة من محادثات السلام في واشنطن، كان الموقف الأميركي حازماً لجهة التشكيك في امكانية اجراء انتخابات حرة ونزيهة في لبنان في ظل الظروف السائدة. ومع ابداء دمشق هذه المرونة تراجعت لهجة الدبلوماسية الأميركية الى حدود التعبير عن تمن أميركي باجراء انتخابات حرة ونزيهة في لبنان، كما أن خبرة البطريرك مع الدبلوماسية الأميركية في مسألة الأسماء الخمسة عام 1988 التي يرشحها النواب المسيحيون بمسعى منه وعلى طلب من الخارجية الأميركية، اضافة الى عدم متابعة اشرافهم على تنفيذ اتفاق الطائف، وتركهم الحبل على الغارب للسوريين، لم تكن مشجعة وقد دفعت بالبطريرك الماروني الى أن يفقد الثقة بالسياسة الأميركية حيال لبنان. وفي الفترة عينها، لفت البطريرك صفير صمت واشنطن عن عدم تنفيذ سوريا لبند اعادة انتشار القوات السورية تطبيقاً لاتفاق الطائف الذي رعته الولايات المتحدة عندما حان موعد سحب الوحدات السورية الى البقاع المقرر في الحادي والعشرين من أيلول. وكانت الدبلوماسية الأميركية دعت سورياً مراراً، في ربيع ومطلع صيف 1992، الى احترام الموعد المتفق عليه وتنفيذ اعادة الانتشار. وعندما أثار البطريرك الماروني الموضوع مع السفير الأميركي رايان كروكر يوم زاره هذا الأخير في بكركي في الخامس والعشرين من أيلول، أكد الدبلوماسي الأميركي أن حكومة بلاده «مصرة على اعادة انتشار الجيش السوري، ولو صرح المسؤولون السوريون خلاف ذلك، ليتكلموا لا بأس، ولكن فلينسحبوا». الأولوية للمفاوضات غداة الانتخابات النيابية، أدرك البطريرك الماروني، في ضوء الموقف الأميركي من الانتخابات النيابية ومن اعادة انتشار الجيش السوري، أن الولايات المتحدة لا تضع نصب عينيها الا تأمين نجاح المفاوضات الجارية في واشنطن. واستنتج أن كل شيء سيظل معلقاً بانتظار أن يتحقق السلام. مما يعني أنه، في غضون ذلك، ستبقى الهيمنة السورية على ما هي عليه. وقد أكد له سفير لبنان لدى واشنطن سيمون كرم، في الأول من تشرين الثاني، أن السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط ثابتة و«لن يطرأ عليها تغيير كبير أياً يكن المرشح الذي سيفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية»، والسياسة الأميركية تجاه لبنان كما أكدها الرئيس جورج بوش للسفير كرم يوم قدّم اليه أوراق اعتماده قائمة على اعتبار أن «المسألة اللبنانية مرتبطة بمؤتمر السلام وأن لبنان لن يجد حلاً لقضيته قبل توضيح خطوط التسوية التي سيرسمها هذا المؤتمر». ارتياح سوريا وكوّن وزير الخارجية فارس بويز انطباعاً من خلال اجتماعاته مع نظرائه الأميركيين والفرنسيين وبخاصة جيمس بيكر ورولان دوما وآلان جوبيه، بأن «جو الدبلوماسية الغربية يميل الى جعل سوريا مرتاحة أثناء عملية التفاوض. كنا نشعر بأن المجتمع الدولي لا يريد أن تشعر سوريا بأن دورها ووجودها ونظامها مستهدفة بأي شكل من الأشكال. وتولد لدينا انطباع أن نجاح مساعي السلام هي التي ستمكننا من استعادة سيادة بلدنا»، وأكثر ما كان يخشاه سيد بكركي أن يأتي السلام على حساب لبنان، بمعنى أن يشكل جائزة ترضية لسوريا لكي تقبل بالتخلي عن جزء من الجولان لاسرائيل أو يجري توطين الفلسطينيين فيه حلاً لمشكلة اللاجئين المستعصية. في ظل هذا الظرف الاقليمي والدولي الذي لا يولي لبنان أهمية تذكر، والذي يبقيه تحت وصاية سورية، كان على الحبر الماروني أن يواجه أمراً واقعاً صعباً في لبنان: السلطة الرسمية مرتهنة بالكامل للقيادة السورية، مجلس النواب موال في غالبيته الكبرى لسوريا، السلطة الأمنية تحت اشراف سوري مباشر، المعارضة مفككة لا تجمعها رؤية وتفرقها أحقاد راسخة. وتساءل الجميع، في حينه، عن المنحى الذي ستأخذه البطريركية المارونية بعد المقاطعة وعن امكانية اعترافها بالأمر الواقع الناتج عن الانتخابات التي عارضتها بوضوح. أمر واقع وبدأ الموالون والمعارضون بالتوافد على بكركي لاستشراف ما ينوي سيدها القيام به. لكن البطريرك الماروني لم يعلن موقفاً علنياً يضع فيه حداً لتساؤلات الموالين والمعارضين على حد سواء مفضلاً ترك الأمور حتى تهدأ. وأبلغ جميع مراجعيه ما مفاده: «لم يُغيّر البطريرك موقفه في الجوهر اطلاقاً. وهو لا يزال يعتبر أن الأخطار المحدقة بلبنان وبالمجموعة المسيحية والمارونية تحديداً هي هي. وهو بالتالي ليس نادماً على موقفه الذي اتخذه ابان الانتخابات. وسيتعامل مع النواب الجدد كأمر واقع، ولا يستطيع أحد أن يجبره على الاعتراف العلني بصحة تمثيلهم الذي لا يتجاوز 14 في المائة. وهو يردد هذا القول أمام النواب والمقاطعين على السواء». ومما قاله البطريرك صفير رداً على التساؤلات المشار اليها: «لا يعني التعاطي مع الأمر الواقع أننا لن نواجه كل استحقاق سياسي داهم نلمس أن فيه الخطر على مستقبل لبنان السيد والحر، وعلى وضع المجموعة المسيحية فيه». المقاطعون وحرص البطريرك صفير على أن يكون الداعون الى المقاطعة أول العارفين بموقفه من المجلس الجديد رغم معرفته المسبقة بأن خياره لن يروق لهم. وفي الخامس عشر من تشرين الأول، استقبل سيد بكركي ممثلي الأحزاب والتيارات المعارضة التي قاطعت الانتخابات النيابية ومنهم فاروق أبي اللمع وفؤاد مالك والياس أبو عاصي ووديع الخازن ومسعود الأشقر وعباد زوين ومارون أبو شرف. بدأ الاجتماع بشكوى ممثلي المعارضة من استمرار السلطات الأمنية في ملاحقة الشبان المنتمين الى التيار المعارض وتوقيفهم. فقال البطريرك صفير: «بالطبع نحن ضد التوقيفات لاعتبارات سياسية، ولكن يجب ألا يعطي المعارضون الأجهزة الأمنية سبباً لتبرير ملاحقتهم كما فعل بعضهم أثناء الانتخابات. فزرعوا مسامير على الطرقات وصبوا عليها زيتاً وبعضهم قطعها بالحجارة الكبيرة». لكن ممثلي المعارضة أكدوا على أن هناك شباناً ألقي القبض عليهم لمجرد كونهم معارضين. ورداً على تساؤلاتهم التي تمحورت حول معرفة اتجاهات البطريركية المارونية في المرحلة المقبلة، أوضح البطريرك صفير أنه ليس رأس المعارضة، وأن عليه بالتالي أن يستقبل الجميع، معارضين ونواباً موالين، مضيفاً: «أنا أب لجميع اللبنانيين، وباب بكركي يجب أن يبقى مفتوحاً للجميع. نحن لا نريد أن نخرب الدولة بل أن نصلحها». وبعد أن شرح لهم وجهة نظره من الظرف الاقليمي والدولي الذي يمر به لبنان، وبخاصة الموقف الأميركي الذي تبدل بين ليلة وضحاها، دعا سيد بكركي الى انتظار نتيجة محادثات السلام التي ستعقد في واشنطن في جولتها السادسة في الحادي والعشرين من الشهر نفسه، وهو يهدف الى حل مشكلة الشرق الأوسط ككل فعسى أن تجد المسألة اللبنانية الحل الشافي لها أيضاً. لم يعجب موقف البطريرك صفير ممثلي المعارضة، واعتبره بعضهم تراجعاً من جانب سيد بكركي، وأنه مسيء للمعارضة التي التزمت مبدأ المقاطعة، في حين إن من أصبحوا نواباً لم يراعوا رأي رئيس الكنيسة المارونية وتجدر معاقبتهم بطريقة أو بأخرى، وليس باستقبالهم كنواب واحلالهم في صدور المجالس. لكن أسلوب البطريرك الماروني، كما منطلقاته، كان مغايراً لأسلوب بعض المعارضة وعن خلفياتها. فهو رأى في المقاطعة أداة ديمقراطية لتسجيل موقف معترض على المنحى الذي يأخذه النظام القائم في طواعيته للهيمنة السورية بحيث باتت الخصائص الأساسية للكيان اللبناني مهددة. أما مقاطعة التيار العوني وحزب الكتلة الوطنية وحزب الوطنيين الأحرار فكانت تعبيراً عن رفض كامل للنظام القائم، وعن عدم الاعتراف بكل ما ينتج عنه. وبدا للبطريرك صفير، وهو أكثر المؤمنين بلبنان دولة مستقلة مدنية موحدة، أن متابعة سياسة المقاطعة مغامرة متهورة وغير مسبورة الآفاق، تخوضها قوى لا تجتمع الا على السلبية، وهي لا تزال ممزقة وتاريخها قائم على التفريط بكل شيء متى تباينت مصالحها، ولا شيء يضمن استمرارها في العمل سوية. استمرارية المقاطعة ولم يكن النواب الذين قاطعوا الانتخابات مسرورين برؤية النواب الجدد يتسللون الى البرلمان ويحتلون مقاعد شغلوها لأكثر من عشرين سنة، مستغلين غيابهم عن المعركة الانتخابية، ويجلسون في الصفوف الأمامية في الصرح البطريركي. وكان رأي هؤلاء أن تستمر ديناميكية المقاطعة وفق نهج واضح الأهداف والوسائل لمواجهة مرحلة ما بعد الانتخابات. ويقول النائب السابق ادمون رزق: «لم يُثمّر الموقف اللبناني العارم الذي قاطع الانتخابات. وكان عندي نوع من التحفظ لعدم متابعة موقف المقاطعة واعطائه مفاعليه العملية لجهة اشعار من شذوا عن الموقف العام بالخطأ الذي ارتكبوه تجاه بكركي والمسيحيين. لا يكونن المحسن والمسيء في منزلة سواء». جعجع ضد المقاطعة وكشف قائد القوات اللبنانية سمير جعجع الذي كان في البداية يفكر في امكانية المشاركة في الانتخابات، للمدير العام السابق للأمن العام زاهي بستاني أن بعض معاونيه نقلوا اليه أن الأميركيين مع المقاطعة، فأجابه بستاني: «أنا لا أركن الى سياسة الأميركيين، لأن ما خبرته هو أنها تتأقلم مع الظروف وتتغير وفق مجرى الأحداث»، وتتوافق خبرة المدير العام السابق للأمن العام مع الخلاصة التي توصل اليها سفير لبنان السابق لدى واشنطن عبد الله بو حبيب: «يأخذ الأميركيون، في البداية، مواقف تنسجم مع المثل التي يؤمنون بها، ولا تتعارض مع مصالحهم، فان كانت غير قابلة للتنفيذ، تراجعوا عنها شيئاً فشيئاً الى حد المطابقة مع الأمر الواقع الذي تفرضه القوى المؤثرة على مجرى الأحداث. لبنان مهم بالنسبة الى الولايات المتحدة ولكن ليس الى الحد الذي يجعلها تورط قواها وقدراتها الذاتية في سبيل تحقيق ما تريده له. قال الأميركيون للمسيحيين ان قانون الانتخاب مجحف وغير عادل، وقالوا لهم الحق معكم لكنهم لم يكونوا على استعداد لتوظيف قدراتهم ليصححوا الوضع». اقتراحات بالعصيان المدني تلقى السيد البطريرك، غداة انتهاء العمليات الانتخابية، كل أنواع الاقتراحات والنصائح التي تراوحت بين الاسراع الى ترتيب الأمور مع سوريا وصولاً الى متابعة سياسة المقاطعة حتى العصيان المدني، اذا اقتضى الأمر. في الثاني عشر من تشرين الأول، نقل النائب ادمون رزق الى البطريرك صفير تمنياً من المرجعية الشيعية السيد محمد حسين فضل الله بأن يراعي في هذه المرحلة، بشكل خاص، الاعتدال المعروف عنه لئلا تقوم ردود فعل سلبية تعطل الدور الحواري لبكركي، لأن صمودها يعطي لبنان المنعة والمساس بها اسقاط للبنان، فلا يذهب الى أبعد مما ذهب اليه في المعارضة». فطمأن البطريرك الماروني النائب رزق وعبره المرجعية الشيعية الى أنه لن يذهب الى أبعد. ثم قال نائب جزين انه سيلبي دعوة وزير الاعلام السوري محمد سلمان لزيارة دمشق معتبراً أنه من الطبيعي أن يكون موقف بكركي من ضمن مواضيع الحديث. وسأل عما اذا كان سيد بكركي يود القاء الضوء على نقطة معينة. فقال البطريرك: «لا بأس، موقفنا المعلن هو موقفنا الذي ليس لنا سواه». الـحلقة الثانية الـحملـــة السوريـــة عـــلـــى صفير