الخبير اللبناني في علم القانون والاجتماع أنطوان مسرّة: لبنان لن ينتظم إلا بجوار أقل عدائية وأكثر ديمقراطية

النوع: 

حين يُبحر الخبير في علم القانون والاجتماع الأكاديمي أنطوان مسرّة، في أعماق الوضع اللبناني، يتراءى لنا كم أنّ الصورة قاتمة في لبنان، وإنْ كان يُحاذر الغوص في تفاصيل السياسة الداخلية بشكل مباشر، بوصفه عضواً في المجلس الدستوري، أعلى مرجعية دستورية في البلاد، بحيث يتطلّب منه مركزه أن يبقى بعيداً عن الاصطفافات على اختلافها. لكن ذلك لا يُثنيه عن الإشارة إلى أن لبنان، الكبير في دوره وتراثه وثقافته ودوره العربي، صغير في “لعبة الأمم” وأنه من المحزن أن البعض يلعب “لعبة الأمم” لأسباب شخصية وآنية ومصلحية مباشرة.

هو يلفت إلى أن أي نظام دستوري لا يستقيم في وضع الاحتلال، وأن تعطيل الآلية الدستورية بدأ منذ 30 سنة نتيجة استغلال التعددية في لبنان تمهيداً لضربها ولتوطيد أنظمة سلطوية، ما يجعلنا اليوم في حال اغتراب ثقافي وتدجين لقبول مصطلحات جديدة غير موجودة في أي منظومة حقوقية في العالم، معتبراً أن الهدف من الاغتيالات كان قتل القيادات وأصحاب الفكر، وأن الخطورة تكمن في غياب قيادات شابة يكون عندها وضوح في الرؤية ولديها ذاكرة حيّة.

مسرّة، الذي له عدة مؤلفات، جازم في أن لا مستقبل للدول العربية من دون إعادة مراجعة للمناهج الدينية والتعليمية والجامعية، وفي تحويل ذلك إلى سياسة عامة وليس مجرد محاولات، ولا بدّ تالياً من إعادة قراءة الأدب والتراث العربي الغني بالقيم، وليس كما يتمّ تصويره على أنه مليء بالعنف.

في قراءته أن “الربيع العربي” كسر جدار الخوف وهذه إيجابية، وبداية أمل، لكن يجب أن تستتبعه قيادات فكرية وسياسية بالتخطيط لنهضة ثقافية عربية. ومن يقول إن الثورات العربية فشلت، يجهل تاريخ الثورات أو أنه لم يدرسه في العمق، فجميع الثورات خلقت ديناميكية جديدة من دون أن تُغيّر بذاتها، كون التغيير عمل تراكمي. وإذا احتاج سابقاً إلى عقود، فإنه مع التطوّر التكنولوجي لن يحتاج إلى أكثر من سنوات محدودة لإحداث نقلة نوعية يمكن معها الرهان على الجيل الشاب.

وهنا نص الحوار:

*لنبدأ من توصيف ما يجري في لبنان، نحن نشهد تعطيلاً للآليات الدستورية عند كل استحقاق لمصلحة تكريس أعراف تعكس الاختلال الحاصل في موازين القوى راهناً، وهذا حال عملية تشكيل الحكومة اليوم، أي نهايات ننتظر؟

-حقيقة، هناك اعتبارات عدّة للتوصيف، أولاً: وضع لبنان يُشبه الوضع الذي كانت تعيشه سويسرا في الماضي، فهي لم تستقرّ ولم يَستقم نظامها إلا عندما أصبح جوارها أقل عدائية وأكثر ديمقراطية، وهذا الوضع لم يتوفّر بعد في الحالة اللبنانية. ثانياً، كان المفترض باللبنانيين، بعد تجارب الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان أن يتعظوا. هناك نوعان من اللبنانيين في لبنان، ليس “8 و14 آذار” بل لبنانيون تعلموا من الحروب، وآخرون لم يتعلّموا أو تعلّموا ويستمرون في ممارسات الماضي. وثيقة “إعلان بعبدا” التي أقرّت أيام الرئيس السابق ميشال سليمان تنص بشكل واضح على سياسة “النأي بالنفس” وقد وقعها الأفرقاء كافة لشعورهم أو اقتناعهم بتحوّلهم إلى ضحية وأداة في لعبة أكبر منهم. لبنان كبير في دوره وتراثه وثقافته ودوره العربي، ولكنه صغير في “لعبة الأمم”. المحزن أن البعض يلعب “لعبة الأمم” لأسباب شخصية وآنية ومصلحية مباشرة. وثالثاً، النظام الدستوري اللبناني ووثيقة “الطائف” والاختبار الدستوري اللبناني من أغنى الاختبارات في العالم، ولكن أي نظام دستوري، مهما كانت هويته، لا يستقيم في وضع الاحتلال. أقول ذلك لأن كثيراً من علماء الدستور يرمون المشكلة على الميثاق الوطني والدستور، وعلى الصيغة و “اتفاق الطائف”، ويتجاهلون ما حصل في لبنان من احتلال، ومختلف أشكال الاحتلال بالمعنى المعاصر اليوم.

*بمعنى أنه يمكن أن يكون احتلالاً بالوصاية وفرض النفوذ وليس من خلال التواجد على الأرض؟

-لا أعرف، هناك متغيّرات في الحروب بين الدول، وحروب بالوكالة. كتاب غسان تويني ليس عنوانه “حرب الآخرين” بل “الحرب من أجل الآخرين”. نحن ابتعدنا جداً عن كل المعايير في لبنان اليوم، والمسؤولية لا تقع فقط على ما يُسمى “الطبقة السياسية”، إنما أيضاً على المجتمع وعلى المثقفين والأكاديميين أيضاً، لأنهم لم يتعمّقوا بدراسة جذور الدستور اللبناني ووثيقة “الوفاق الوطني” و “اتفاق الطائف”. هناك اليوم عبارات تُستخدم غير موجودة في أي منظومة حقوقية في العالم مثل “ثلث”، “تعطيل”، “حصتي”، “حصتك”، “تنازل” و”تضحية”، هذه عبارات ليس لها مدلول علمي ولا دستوري. العودة إلى الدستور بالغة الأهمية. يوجد اغتراب ثقافي وتدجين لقبول مصطلحات جديدة وانحراف عن الأسس، والوسائل الإعلامية المتلفزة تعمّم أحياناً هذه الضبابية.

*ألا يساهم اختلال موازين القوى في خلق أعراف تسير في موازاة الدستور؟

- لا يوجد اختلال في موازين القوى. في كل بلدان العالم، هناك شيء اسمه أكثرية وأقلية، ومبادئ لفصل السلطات.

* لكن هذا لا ينطبق على الواقع اللبناني، ربما بسبب تركيبته الطائفية أو الانقسام العامودي الحاصل؟

-أنا أُقرّ بأن النظام اللبناني صعب، ولكن لا يجب أن ننسب التهمة إلى الطائفية التي لها شروط حقوقية، ولها نظام، ولبنان على مستوى المجتمع توصّل إلى درجة عالية من الانسجام خلافاً للخطاب السياسي الذي يُميّز بين المسلمين والمسيحيين، ولكن على مستوى المجتمع كثير من اللبنانيين المسيحيين هم أقرب إلى المواقف الإسلامية من المواقف المسيحية. والإعلام بدوره لا يُساعد في العودة إلى المعايير.

*أنت تقول أن المجتمع والمثقفين يتحمّلون جزءًا من المسؤولية، لكن كيف لهم أن يعملوا في ظل هذا التمترس الطائفي والانقسام العامودي في المجتمع، وعن أي مبدأ أقلية وأكثرية نتكلم. حكومتنا اليوم أشبه ببرلمان مصغر؟

- هذه أساساً لا وجود لها في العالم. المجلس النيابي هو الذي له صفة تمثيلية، أما الحكومة فصفتها تنفيذية. لكن نحن نعطي صفة تمثيلية بالمعنى البرلماني للحكومة. تعطيل الآلية الدستورية بدأ منذ 30 سنة نتيجة استغلال التعددية في لبنان تمهيداً لضربها ولتوطيد أنظمة سلطوية، لكن الضبابية تبدأ أولاً من العقول. الرئيس الأسبق فؤاد شهاب كان يقول دائماً: “اقرأوا ماذا يقول الكتاب” أي الدستور. اليوم لم نعد نسمع هذا التعبير! يجب أن يكون هناك دور لبعض رجال السياسة حتى يحملوا البوصلة، ودور للجامعيين والمثقفين الذين يساهمون أحياناً في هذه الضبابية لأنهم يدخلون في سجالات ليس لها علاقة بالدستور.

* لكن أليست تلك الضبابية والسجالات لخدمة أجندات سياسية بفعل تأثير تدخلات “الخارج” على “الداخل”؟

-طبعاً، ولكن الخطورة أن هناك محاولات لتدجين العقول حتى تقبل بممارسات لا علاقة لها بالدستور ولا بالنظام السياسي بشكل عام. نحن في حاجة لجهود الجمعيات والأحزاب لتوضيحها، وقد بدأ بعضها في هذه المهمة لكن وسائل الإعلام المتلفزة لا تساعد في ذلك.

* تضع اللائمة على وسائل الإعلام، ولكن ثمة مشكلة في مكان آخر، هل هي مشكلة أنظمة أم مشكلة مجتمعات لا تمتلك القدرة على خلق ديناميات تتحرّك من خلالها؟

- هي مشكلة شعوب تتوهّم بأنها تمارس المواطنية، ولكنها عملياً تمارس ذهنية “النقّ والتشكّي والتذمّر” وهذه ليست ممارسة مواطنية. هناك تيارات شعبوية تستعمل خطابات لا تستند إلى أي علم أو معرفة. قضية خطيرة أن تكون هناك فئة مؤدلجة وموهومة بشعارات شعبوية في بلد مثل لبنان فيه أكثر من 40 جامعة. ربما باتت هناك حاجة لأن نصل إلى الانحطاط كي تنشأ نهضة جديدة. البوصلة مفقودة والمجتمع لا يساعد على استعادتها.

* ألا توافقني الرأي بأن هناك انقساماً عامودياً يُصدّع المجتمع اللبناني والمجتمعات العربية؟

- لا… هذا الانقسام العامودي غير موجود في المجتمع اللبناني، يوجد تلاعب بالمشاعر وشعبوية وانقسام مُفتعل تغذّيه جهات خارجية وداخلية. هذا ينطبق أيضاً على المجتمعات العربية وبدأ بالوصول إلى المجتمعات الغربية نتيجة وسائل التواصل الاجتماعي ونتيجة تراجع مفهوم الرأي العام… هذه الظاهرة تتوسّع يوماً بعد يوم.

* إذن الحل يتمثل في الوصول إلى درجة الانحطاط التي تكلمت عنها؟

- آمل ألا نصل إلى هذه الدرجة. ولتلافيها يجب أولاً أن يكون عندنا وضوح في الفكر، لأن كل النزاعات والمصائب في العالم تبدأ بالفكر الملوث. يوجد اليوم فكر دستوري ملوث بحاجة إلى هيئات اجتماعية وجامعية وفكرية لتضع النقاط على الحروف حول المسلمات الأساسية للشأن اللبناني. ثانياً يجب تصحيح دور وسائل الإعلام، وخاصة المتلفزة، لأنها عادة ما تكون منبراً لنشر هذه الضبابية تحت غطاء البرامج المسمّاة حوارية بدلاً من تصويب المسار. أما ثالثاً فهم المواطنون (الذين يحاسبون) والذين جعلوا من الانتخابات النيابية الأخيرة منبراً للتعبير عن استيائهم من خلال امتناعهم عن التصويت. اللبناني الملتزم مع أحزاب عن وعيّ وإدراك شيء مهم وضروري، لكن الخطورة تكمن في المواطن المسيّر عبر شعارات شعبوية.

مكمن الخطورة أن هناك تراجعاً في إنتاج القيادات أو غياباً لها. اغتيال جبران تويني وسمير قصير وبيار الجميّل ومحمد شطح وغيرهم، ومحاولة اغتيال مروان حماده ومي شدياق، كان هدفه قتل أصحاب الفكر والقيادات. لكي تُنشئي قيادات جديدة، فإنك في حاجة إلى أكثر من ربع قرن. يجب اليوم أن تَنشأ قيادات شابة يكون عندها وضوح في الرؤية وعندها ذاكرة حيّة.

*ولكن المناخات غير مؤاتية لخلق قوة ناهضة ببُعد وطني، وهناك نوع من التسليم أو العجز؟

- حتى في الحياة الشخصية للإنسان، يمرّ بمراحل لا يكون فيها فعالاً نتيجة الأوضاع والظروف. على الأقل عليه أن يحافظ على وضوح الموقف. في لبنان هناك بعض الفئات عندها وضوح في الموقف وفئات أخرى عندها ضبابية وتتمتع بدعم من جهات مُستزلمة وغير واعية. وضوح الموقف هو بداية التغيير.

* المجتمعات العربية ليست في أفضل حال. هناك اليوم منطقة ملتهبة تترك آثارها على الشعوب؟

** المجتمعات العربية خلال ثلاثة أجيال على الأقل تعاني من معضلة ثقافية تربوية ضخمة جداً لا تحمل أبداً على الأمل في المستقبل. كل التغيّرات في العالم والثورات كان يتبعها تغيّر في الأنظمة التربوية، وهذا لم يحصل في أي من الدول العربية، ولا أحد يتكلم عنه. نحتاج إلى إجراء مراجعة جذرية، أولاً في مفاهيمنا للدين، وثانياً لمناهج التعليم في الجامعات والمدارس التي تنقل قيم السلطة والسلطوية والخضوع، وثالثاً، تحرير الجمعيات الأهلية وعدم إخضاعها للترخيص، وإلا لن يكون هناك مستقبل عربي، بل مزيد من التقوقع والتخلف.

* ولكننا نشهد بوادر لإعادة دراسة المناهج، الأزهر عقد مؤتمراً بهذا الخصوص وأعتقد أنه بدأ العمل؟

-البداية كانت في لبنان مع “خطة النهوض التربوي”. نعم الأزهر حاول عبر إقامة “مؤتمر الأزهر” في آذار/مارس 2017، وهو مؤتمر شاركت فيه مع 50 شخصية، لمناقشة “المواطنية والعيش معاً” وقد بدأ بتغيير برامجه، لكن هذا لم يتعمّم ولم يتحوّل إلى سياسة وطنية شاملة. حتى في تونس والمغرب لم يصل فيهما التقدم إلى المناهج التعليمية، لكن وضع تونس أفضل. لن يحدث تغيير عربي – مهما كانت الأوضاع الاقتصادية والتحوّلات العالمية – من دون مراجعة المناهج التربوية في الجامعات والمدارس بما فيها مراجعة طريقة تعليمنا للدين وللحريات الدينية. في الغرب بدأ التغيير من الحرية الدينية، وهذا لصالح الدين لأنه كان مدخلاً لتطوّره. الدين يُستعمل في الدول العربية لغايات سلطوية، لا علاقة لها لا بالإيمان ولا بالكتب المقدّسة. هناك مساع لكنها لم تصل بعد إلى سياسة عامة في التعليم.

*ستأخذ وقتاً لكي تتبلور؟

-إذا كانت هناك سياسة عامة على مستوى وطني فلن نحتاج لأكثر من 5 سنوات، لكننا نفتقدها، بل إن هناك معارضة لها.

*إلى أين نريد أن نصل بالتحديد مِن مراجعة المناهج التعليمية؟

-يجب مراجعة الأنظمة التعليمية. إذا قرأتِ كل مناهج التاريخ العربي والفلسفة والأدب العربي، كما هي مُلقّنة، وليس كما هي على حقيقتها، كلها فيها خضوع وتسلط، وليس فيها أشياء من الحرية. كل التراث العربي، في المدارس والجامعات، عند الفلاسفة والأدب والتاريخ، في حاجة إلى إعادة قراءة لاستنباط القيم في الحرية والفكر والاستقلالية.

*هل هي موجودة؟

-نعم موجودة، إذا طلبنا من أحدهم أن يقول بيتين من شعر المتنبي، فسيُخبرك عن “بيتين أو ثلاثة كلها عنف وضرب” ولكن إذا قرأنا المتنبي بعمق، لا نجده كذلك، حتى أبو نواس عنده أشعار روحانية، وابن رشد كذلك. يجب أن نعود لقراءة الأدب العربي. وهذا قامت به بلدان العالم بعد التغيّرات. لقد أعادوا قراءة التراث من جديد، لأن الأنظمة السلطوية تُعلّم التاريخ على طريقتها الخاصة، وتضبط هذا الشيء.

* ماذا سنستنبط من إعادة القراءة؟

-سنستنبط القيم الإنسانية التي كانت مطموسة على مدى أجيال، حتى الأدب الجاهلي فيه قيم إنسانية. سندفع غالياً أكثر إذا لم نقم بجهد تربوي ثقافي، لمراجعة المنظومة التعليمية برمتها. نحن شعوب متخلفة لأن آليات نقل القيم لا تنتقل من جيل إلى جيل، بل نُعيد التجربة نفسها.

* الإنسان العربي نراه خاضعاً، لماذا؟

-نحن خاضعون لأننا اعتدنا على الخضوع، وتربيّنا على الخضوع، وليس على “الطاعة” وأنا أحب كثيراً كلمة “طاعة”. يجب إعادة الاعتبار لها.

* لنشرح الفرق؟

-الفرق كبير جداً. كلمة “طاعة” تدهور معناها، نتيجة التربية المنفلشة. هناك بعض العائلات العربية تُربي أولادها على “حرية فالتة”، وهذه مسألة خطيرة جداً. اليوم المجتمعات العربية، بعد حوالي 30 سنة من الدورات على المواطنية والمجتمع المدني وما إلى ذلك، تعلّمت على “الشك والنقّ والتشكّي”. ذهنية “النقّ” ليست حرية وليست مواطنية. هي ذهنية خطيرة… لماذا؟ لأنها تؤسس لديكتاتوريات جديدة. ثم يأتي ديكتاتوريون جدد حاملين وعوداً للناس بغد مشرق، مستغلين “نقّ” الناس، فيوطدون الديكتاتورية على حسابهم ويوهمونهم بالتغيير. ظاهرة “النقّ والتشكّي” خطيرة ونشاهدها في مصر، بعد التغيير، والذي كان جهداً رائعاً، ولكن الناس أصبحوا معتادين عليها، والحُكم مهما كانت إرادته جيّدة، ليس بقادر على أن يقوم بالتغيير بسرعة وفجأة، يجب على الناس أن يقبلوا بتغيير تدريجي، ويدعموا مساعي السلطة. المواطنية فعل وفيها طاعة. لا يوجد نظام ديمقراطي ولا مؤسسة إلا وفي حاجة إلى طاعة، والمجتمع له قواعد.

*هناك حاجة لإجراء مراجعة شاملة للمناهج والمفاهيم والأبعاد الثقافية، ولكن أليست هناك مفاهيم جديدة بفعل الثورة التكنولوجية تحمل الكثير من التحدّيات والمخاطر اليوم؟

-هذا صحيح، ثمة ظاهرة عامة في بلدان العالم تأخذ أشكال طغيان الرأي على حساب الفكر نتيجة وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها، ونتيجة تربية تحررية منفلشة. عندنا اليوم آراء مبعثرة في الساحة العامة. هل يوجد اليوم في العالم رأي عام؟ هل يوجد رأي عام في فرنسا؟ هل يوجد رأي عام في أي بلد ديمقراطي؟ أنا أقول رأي عام عنده ركائز واضحة الرؤية، ويؤثر على الحكم؟ عندكِ آراء متشعبة منشورة على منصّات الكومبيوتر و “فيسبوك” وغيرها، وإذا أدليتِ بأي تصريح تأتي تصريحات مضادة، وتنتشر التصريحات. الرأي هو أدنى درجات الفكر. أنا لا أقول أن هذا رأيي… عيب. إنها فكرة عميقة وقمت بدراستها. اليوم هناك آراء منتشرة، وأنظمة سلطوية تستغلها. الأمثلة كثيرة في غير بلد عربي وغير عربي، “إما نبقى نحن في السلطة… وإما الفوضى!”، الأنظمة السلطوية اليوم تعرف أن ليس هناك بديل، لأنه لا يوجد رأي عام، هناك آراء مشتتة، فتقول للناس: “إما نحن وإما الفوضى”. الخيار بين السلطوية وإما الفوضى أمر خطير، لأن المسار الديمقراطي يُحدث عادة تحولاً سلمياً. لماذا “إما نحن وإما الفوضى؟”، لأن هناك آراء واستغلال آراء، ولا توجد قيادة للرأي. رأي من دون قيادة، وهذه خطيرة على مستقبل الديموقراطيات.

*مِن خلال متابعتك لمسار العقود الماضية، هل تعتقد أن المشهد العربي عموماً قاتم، أم أن هناك بصيص نور في نهاية النفق؟

-الإيجابية الساطعة تجلّت في ما يسمى “الربيع العربي” لأنه كسر جدار الخوف، وهو بداية الأمل، لكن يجب أن تستتبعه قيادات فكرية وسياسية بالتخطيط لنهضة ثقافية عربية.

* لكن نتائج “الربيع العربي” كانت مُخيّبة؟

-صحيح… تيجان فيصل تقول: “عندما يعمّ اليأس تزداد الحاجة إلى الذين لا ييأسون” لأن اليأس لا يُعالج المشكلة، بل يزيدها تشاؤماً وصعوبة. المتشائم قد يكون ذكياً، ولكنه كسول.

*كيف لنا أن نُعيد استثارة هِمم الناس في الدول التي شهدت “ربيعاً عربياً” في أعقاب ما عانته من أعمال قتل ودمار وتهجير؟

-يجب أن تعودي لإعطاء الأمل، عبر جمع النصوص والأعمال الريادية التي تُعيد الثقة. الجامعات والكتّاب عادة لا يفعلون ذلك، لأنهم يكتبون أطروحات ورسائل عن الأشياء السلبية، بدلاً من نشر الأعمال الإيجابية التي تحفّز الهمم.

*إخفاق أو فشل “الثورات العربية” هل كان نتيجة حتمية لغياب الخطة أو المشروع الواضح الذي تقوم عليه؟

-مَن يقول أنها فشلت، يجهل تاريخ الثورات أو أنه لم يدرسه في العمق، جميع الثورات خلقت ديناميكية جديدة، ولكن التغيير لم يأت إلا بعد سنوات وأحياناً بعد قرون. بمعنى أنه بعد وثيقة الـ “Magna Carta” (الميثاق الأعظم في بريطانيا) احتاجت الديمقراطية البريطانية إلى 100 عام للانبثاق. وفي فرنسا جاءت الديمقراطية بعد مرور 150 عاماً على الثورة. الثورات لا تُغيّر بذاتها. التغيير يكون نتيجة عمل تراكمي، لكن الآن مع التطوّر لا يحتاج التغيير إلى هذا الوقت الطويل، خاصة مع وجود سياسة تربوية جدّية، في الإمكان القيام بالتغيير في غضون سنوات معدودات، أو خلال جيل واحد. لا يجب أن ينتظر الناس التغيير من “الربيع العربي”. لا توجد ثورة في العالم قامت بتغيير سريع، لكنها تخلق ديناميكية جديدة يُستفاد منها في وضع سياسات التغيير.

الكاتب: 
رلى موفق
التاريخ: 
السبت, نوفمبر 17, 2018
ملخص: 
لم يتعمّقوا بدراسة جذور الدستور اللبناني ووثيقة “الوفاق الوطني” و “اتفاق الطائف”. هناك اليوم عبارات تُستخدم غير موجودة في أي منظومة حقوقية في العالم مثل “ثلث”، “تعطيل”، “حصتي”، “حصتك”، “تنازل” و”تضحية”، هذه عبارات ليس لها مدلول علمي ولا دستوري. العودة إلى