أربعون الحرب الأهلية اللبنانية ( ملف شارك فيه عدد من الكتّاب)
تُستعاد الحرب الأهلية اللبنانية إنطلاقاً من حاضر يُذكّر بها، في الغالب. وهذا ما يبدو مفارقاً، طالما أن هذه الاستعادة تؤكد إستمرارية الحدث. في الذكرى الأربعين على إنطلاقتها لا تبدو الحرب الأهلية هذه بعيدة، عن فاعليها، كما عن متخيليها، أقله في ظل وجود آلاف المخفيين قسراً، منذ بدئها إلى الآن. وفي كل الأحوال يبدو تذكر الحرب، سنوياً، طقساً من طقوس الجماعات، في محاولتها تبرير وجودها وضمانه. في ما يلي مقالات نُشرت في "المدن" تتذكر وتتخيل هذه الحرب.
في ذكرى تلك الصدفة!
ساطع نور الدين | الإثنين 13/04/2015
الهاشتاغ الذي اطلق في الذكرى السنوية الاربعين، بعنوان "تعلمنا- من- الحرب- الاهلية"، جمع الكثير من المتابعين والقليل من المبدعين في انتاج افكار جديدة تقاوم ضحالة الثقافة السياسية اللبنانية التي كانت على الدوام عصية على التركيب والتحليل، وفاضحة للّغة المحكية التي تعجز عن تركيب جملة سياسية واحدة مفهومة. ويستوي في ذلك الساسة الذين تخونهم معارفهم، مع الاعلاميين الذين ينحط مستواهم، مع العامة الذين يعجزون عن صياغة موقف واحد غير ترديد الشعار الازلي "وينيي الدولة"..
ثمة جهد اضافي يبذل هذه السنة من اجل تنشيط الذاكرة التي ضعفت اكثر من اي عام مضى، فقط لأنها تراكم ذكريات أفظع توفرها الوقائع والصور الواردة من سوريا او العراق او اليمن او ليبيا او غيرها من البلدان التي حلت عليها اللعنة نفسها. لكنه جهد مفتعل، يغلّب الفولكلور والزجل على الهدف الفعلي من استعادة تلك الذكرى على أمل التحرر منها. وهو ما يبدو انه مستحيل طالما ان المخيلة اللبنانية ما زالت قادرة على استحداث أسباب للانشطار الى نصفين: نصف مستعد للموت من اجل قضية ما، ونصف ثان مستعد للموت ضد القضية نفسها. وهي لم تستكشف فكرة الحياد التي لم يدركها اللبنانيون يوما ولم يقدروا أهميتها الا بعد فوات الاوان.
ما زال يمكن الادعاء ان الخطوة الاولى في استعادة الذكرى وفي تحرير الذاكرة هي التسليم بانه لم يبق من الفلسطينيين والسوريين والاسرائيليين وغيرهم من الذين ساهموا في اشعال تلك الحرب سوى رواسب، لا يمكن ان تكون سبباً كافياً في تجديد الصراع الاهلي. الحرب السورية الراهنة التي تقسم اللبنانيين اليوم بين فريق مستعد للموت من اجل بشار الاسد وبين فريق مستعد لقتله او على الاقل لتمني موته، هي فرصة للتخلص من آخر أسلحة الحرب وبرامجها ورموزها، لكنها فرصة قد لا تنجح، لان الصراع السوري هو الى حد ما شأن محلي لبناني اكثر مما كانت القضية الفلسطينية او الخطة الاسرائيلية. واياً كانت نتيجة ذلك الصراع فانه سيساهم حتما في تغيير جذري في صيغة لبنان السياسية التي جرى اشتقاقها في اواسط القرن الماضي في ظروف عربية مشابهة.
في الاستعادة الراهنة خلل متوارث، ينسحب من الشارع الى النخب، في التعاطي مع الذكرى وموضوعها. لعل الاوان لم يحن بعد للبحث في عيوب النظام اللبناني التي كانت ولا تزال مصدر الحرب، او العيش على حافتها كما هو الحال اليوم، لكن اي خطوة في هذا الاتجاه، مهما كانت متواضعة، او أي وعد في هذا السياق مهما كان خيالياً يمكن ان يخدم الذاكرة، التي تعيش هاجس حرب اخرى بطوائف ومذاهب وادوات مختلفة، لكن بالاساليب نفسها التي كانت جوهر "اللبننة" وتراثها المقيم. ثمة حاجة ملحة الى تعطيل ذلك المسار الذي يقود المسلمين اللبنانيين الى انتحار جماعي، ويدفع المسيحيين اللبنانيين الى هجرة جماعية. ثمة حاجة الى اسقاط تلك الفكرة المجنونة التي تقول ان خلاص لبنان يكون بالخلاص من متطرفيه. هؤلاء ليسوا قلة، ولم يكونوا يوماً اقلية، وهم يحققون الان مكاسب يومية، يغذيها التورط في الصراع السوري، ما يزيد من صعوبة تصور شكل لبنان المستقبل وتحولاته الديموغرافي المرتقبة.
المجازر العربية المروعة تبرر القول ان الذكرى الاربعين للحرب الاهلية اللبنانية صارت بعيدة جدا، وهي على وشك السقوط في النسيان، الذي يفسح المجال لسد فراغ الذاكرة بنموذج جديد، لان الجمهور اللبناني يثبت كل يوم انه لا يزال يتمتع بالاستعداد اللازم للحرب، أي حرب، ولا يزال يعتبر ان أصوات الرصاص والانفجارات هي نشيده الوطني الاثير وموسيقاه الشعبية العذبة، ولا يزال يعتقد ان ما حصل في مثل هذا اليوم من العام 1975 كان مجرد صدفة..كان يمكن تفاديها.
في شقاء النزول من البوسطة
هدى بركات | الإثنين 13/04/2015
أعرف أنّ ما تقوله لي ديمة صحيح. لكنني أعاند وأكابر، وقبل أن تتابع أستبق نصائحها بالإعتصام بأحقيّة المعاندة. وكالعادة أبدأ جملتي بـ "في هذا العمر يحقّ لي..." وكالعادة تستنكر ديمة لجوئي إلى حجّة "العمر" الذي أفترض أنه يمنحني عفوا وحججا وسماحا عن مساوئي. تجيبني دفاعا عن نفسها، لخوفها من أن أكون قد أصبحت فعلا في "ذلك" العمر، هي الخائفة من عمري مثلي.
الآن أحبّ كثيرا أغلاطي. أحبّ أن أتبنّاها بدل أن أصحّحها. بعض مساوئي صار يشبهني كولد لي. وأن أغيّر فيها بات يشبه أن أتنكّر لدور الأمّ السامي، بحسب التعاليم. كأنّ غربة ما ستتسلّل إلى كياني حالما أبدأ بتصحيح أغلاطي، نفسي، غربة ستقع على أجزاء قضيت عمرا أشدّها إلى بعضها وأشكّ في التصاقها الناجز. قرّرت، ربما بدافع التعب، أو الكسل، أنّي أكثر ضعفا من عمليات التصحيح، وأنّي، هكذا، أفضّل سلوك البغل الذي يحرن ويقف ليدقّ حوافره في الأرض. ويبغّل. ولا يعود لحبل الرسن ولا لمن يشدّ به إلاّ المزيد من الثبات وضرب الحافر عند كلّ نترة ساعد أو قضيب على الرأس. ويوما قال لي فؤاد إنّه، كلّما دعاه أولادُه للتفهّم والتسامح - مع الآخرين أو إلى ما إلى هنالك من الأفكار الإنسانوية - أجابهم تفهّموا أنتم وتسامحوا كما تريدون، أنا فاتني ذلك الأوان الصالح، ولم يعد لتسامحي أو لتفهّمي أصلا أيّ تأثير... فؤاد لبناني أيضا.
شيء يشبه أيضا أن تخون تراثك. تراثك الشخصي، وأيضا تراثك الوطني، أو القومي. لماذا؟ لماذا تراني أتنكّر لكلّ ما يجمعني بأهلي وعشيرتي وبني أمّتي، على ما تعلّمنا عن جبران. لماذا أطلع منهم وأخرج عليهم، فيما لم يتبقّ بيننا سوى القليل القليل الذي، لو احتُسب فعلا لما وزن سوى وزن الهباء المنثور. و.. كم خروج على جماعته يلزم الفرد كي يدّعي أنّه "شباب" وأنّ السير عكس التيّار واجب، أخلاقيا وسياسيا و.. حضاريا، لتصحيح المسارات ونقد الأخطاء. ولماذا لا نستهدي بحكمة العمر التي تحيل الكهول والشيوخ إلى "رجعيين" بالضرورة. ضرورة التعب، واقتراب أجل يستأهل بعض الراحة الكسولة، إذ يرى المستسلم إلى هناء رجعيّته أنّه لن يكون بأيّ حال هناك للأحتفاء بأيّام الإنتصار واستطعام حلاوة ثمرات الحصاد حين يأتي الحصاد. بعد موته.
لماذا ذلك الإستكبار، وتلك العنجهيّة؟ إنّه أشبه بكره الذات. أن تسعى إلى عكس ما يسعى إليه العالم. العالم اليوم طائفي وغرائزي ومتعصّب وعنيف، وفاسدة أطعمتُه ومياهه وبحوره وهواؤه. فاسدة حتّى حروبُه التي لن تجد فيها جبهة واحدة تقبل بمثلك. فماذا يعني أن تفتح جبهة على نفسك لتصحّحها؟
حين أدافع عن أخطائي ومساوئي، أريد أن أخترع لغة أقنع فيها إبنتي بالإبتعاد عن تغيير ما لا يعجبها في هذا العالم، وهو لا يعجبها، خاصّة منذ أصبحت ديمة أمّا. أريد اختصار عذاباتها وتقنين رشح العالم إلى داخلها. أريدها أن تنتظم في صفوف اليائسين، هؤلاء الواقعيين الذين يمارسون الرياضة يوميا بأسلوب جدّي ومثابرة. يأكلون "بيو" ويشترون ال"غادجت" ويفاخرون بانصرافهم عن كلّ ما يكدّر المزاج.
أمّا قوتي الحقيقيّة في عنادي وتبنّي نفسي المليئة بالشوائب فهي لا شكّ تعود إلى أربعين عاما. من أيّام البوسطة – الشهيرة - التي لم ينزل منها أحد وأنا أشدّ للنزول كلّ صباح. كنت أشدّ للنزول. علام؟ أسأل نفسي اليوم؟
ماذا وجدتِ على قارعة الطريق؟ ماذا جنيت؟ فيما الناس تهزج بالأغاني على المقاعد الأهليّة الجلدية الحنونة؟ وفيما البوسطة سائرة من أربعين عاما بقوّة الحياة الدافعة ذاتيا؟
من عين الرمّانة الخضراء إلى عيون زمزم في اليمن السعيد. السعادة كلّها!
عيد البوسطة
محمد حجيري | السبت 11/04/2015
كانت الحرب فداحتنا المميتة، ولم تبدأ يوم بوسطة عين الرمانة
بعد مرور أربعة عقود على بداية الحرب الاهلية اللبنانية (13 نيسان 1975)، وربع قرن على انتهائها (1990)، لا يزال السؤال نفسه: هل انتهت الحرب؟ وكيف نؤرخ لها؟ هل "علمنا وذقنا"(*) من حرب بوسطة عين الرمانة؟
أربعة عقود على بداية الحرب، ذكرى بعيدة لكنها قريبة جداً وشديدة الوطأة، انتهت لكنها استمرت في لغتنا وسلوكنا ومنازعاتنا السياسية ومتاريس منابرنا الاعلامية. قلنا وغنينا "تنذكر ما تنعاد"، لكن، في الواقع، تكررت الحرب مرات مدة، رفعنا شعار "كي لا ننسى" لكن النسيان وعدمه لم يكونا أكثر من لعبة انتقائية محكومة بالتوظيف السياسي، وحتى شعار "الغفران" لم يكن إلا خطاباً من خطب الهيمنة على السلطة، وليس نتيجة احساس بالذنب وتأنيب الضمير.
أربعة عقود على بداية الحرب، إذا فنّدنا سنواتها وأيامها، سنخجل من زمن الأجساد المسحولة والذبح على الهوية، إذا استذكرنا السبت الأسود وحرب الجبل وصبرا وشاتيلا و"حرب السنتين"... سنجد أنفسنا أشد وحشية من الدواعش. غلاة السلاح في لبنان كانوا يقتلون باسم "القضية" والدواعش يقتلون باسم "الدين"، والنتيجة بلا ريب واحدة. حبذا لو كان توفر اليوتيوب في زمن الحرب اللبنانية لظهّر توحش الفئات المتحاربة التي تزعم أنها ترشح زيتاً الآن. والمشكلة ليست في الحرب وأيامها فحسب، بل في أن قادتها تسيدوا على البلد في زمن السِّلم وصاروا أيقوناته الممجدة، وباتت غزواتهم مقدسة، وأصبحت الحرب بالمعنى العام مناسبة فولكلورية، اذ نحتفي بالبوسطة وصورها ونبتعد عن القضايا التي فتكت بنا، نتهرب من قضية المخطوفين.
أربعة عقود على بداية الحرب، وبقي كل شيء حول تأريخها موضع خلاف ووجهات نظر، من القول إنها "حرب داخلية مئة في المئة"، الى اعتبارها حرباً كولونيالية، ومن توصيفها بأنها حرب طائفية الى اختصارها بالقول إنها "حرب الآخرين على أرضنا" بحسب غسان تويني. وأياً يكن التوصيف، كانت الحرب فداحتنا المميتة، الحرب اللبنانية لم تبدأ يوم البوسطة، بل حين شُرّع السلاح لتحرير فلسطين، في البداية بالغ اليسار في شعارات التغيير و"البرنامج المرحلي" للحركة الوطنية، سموا المنازعات "ثورة" هدفها التغيير إلى أن وقف الشاعر محمد العبدالله على سطح احد المباني وقال "إنها حرب أهلية أيها الرفاق". اليمين لم يكن أقل فداحة، خاض حروباً وارتكب مجازر في تل الزعتر وغيره وسمى حربه "مقاومة"، كان يعيش فوبيا الغرباء من الفلسطيني إلى السوري واليساري.
بين "ثورة" اليسار و"مقاومة" اليمين، قتلت الحرب كل الأحلام، تركت المجال الواسع لمشاريع الخراب وإقامة الكانتونات والدويلات وخطوط التماس والمحميات، منذ انهارت الحركة الطالبية وانتقلت من الجامعات الى الخنادق، صار لبنان في المأزق الدائم وتبخرت اطر التواصل بين مكوناته، خصوصاً أن المنازعات والأزمات اللبنانية المتكررة جعلت الحرب حاضرة في نفوسنا وفي يوميتنا وأفكارنا.
أربعة عقود على حرب البوسطة، احتفظنا بصورة البوسطة ونسينا أسماء القتلى فيها، بل طبقنا مقولة ستالين "المجزرة مسألة عدد"، ونستذكر الحرب فنقول 15 عاماً، عدد القتلى فيها 150 ألف شخص، وعدد المخطوفين 17 ألفاً... لا ضرورة للعودة الى الحرب الأهلية الطويلة لنقول "تنذكر ما تنعاد"، علينا أن نعود الى الزمن القريب لنتحسس واقعنا أكثر. إذا تخطينا مواسم الحرب اللبنانية الاسرائيلية وما جلبته لنا من ويلات ومآس، نتذكر حرب جرود الضنية العام 2000 والاغتيالات السياسية من رفيق الحريري الى محمد شطح، ومعارك نهر البارد والجامعة العربية و7 آيار، معارك جبل محسن وباب التبانة وعبرا وعرسال، من دون أن ننسى الاشكالات في القرى والأحياء من حي الشراونة إلى الرويس ومار مخايل.
لطالما وُصفت الحرب اللبنانية بأنها "حروب الصغيرة"، وما جرى خلال سنوات ما بعد الطائف هي حروب صغيرة أيضا، وإن بمراحل متباعدة متفاوتة، لا يجب أن نستسهل بها. حرب صغيرة في عرسال بدأت معالمها مع الأزمة السورية، ولم تنته مع معركة الجيش اللبناني والمسلحين في آب الماضي، كانت نتيجتها حتى الآن مقتل نحو سبعين مدنيا عرساليا -لبنانيا وبعض المفقودين، وأكثر من ثلاثين عسكرياً وضابطاً و25 مخطوفا من الجيش والقوى الأمنية في جرود عرسال، وعشرات الجرحي (ولا ننسى اعداد القتلى من النازحين السوريين). لم ننتبه كثيراً إلى أن عدد القتلى تراكم، منهم من قتل في كمائن عشائرية ومنهم من ذهب ضحية تبادل القصف بين الجيش ومسلحي داعش والنصرة، أو بقصف طائرات النظام السوري، هذا عدا عن أن عائلة فقدت أربعة من اطفالها دفعة واحد بصاروخ عرف مصدره لكن الدولة تجاهلته، تعددت أساليب القتل والنتيجة واحد.
حرب صغيرة في عرسال كان نتيجتها خطوط تماس وقطع طرق وخطف وكمائن وتهجير ونزوح، هناك عشرات العائلات التي هجرت أمنياً من مناطق قريبة من مشاريع القاع وجوسيه والقصير، وهناك عشرات العائلات التي رحلت قسرياً من عرسال الى زحلة وبيروت وإقليم الخروب، هذا عدا عن إفرازات الحرب ونشوء العصابات واللصوص والفوضى والتبدل السلوكي لبعض لشبان وتنامي انتشار السلاح. تركت الدولة اللبنانية الأمور تسير بفوضاها وصارت تحصد النتائج السيئة، وصارت صفة الإرهاب تطارد كل عرسالي، لمجرد انه عرسالي.
حتى لا نتحدث عن الحرب التقليدية واحصاءات القتلى فيها، هل نتذكر ان معارك نهر البارد سقط فيها 170 عسكريا عدا المدنيين؟ هل نتذكر انه في يوم 7 آيار "المجيد"، بحسب تسمية حسن نصرالله، سقط أكثر من 80 قتيلا؟ هل نتذكر أن جولات الحرب تجاوزت العشرين بين باب التبانة وجبل محسن؟ وهل نفكر قليلاً لماذا فجأة انتهت خطوط التماس بين المنطقتين؟ هل من أحد أحصى عدد القتلى من المواطنين العابرين الذي ذهبوا ضحايا عمليات الاغتيال السياسي في بيروت والمناطق؟ أليست الاغتيالات السياسية ذروة الحرب الأهلية؟
أربعة عقود على بداية الحرب اللبنانية، ذكرى بعيدة لكنها مع الحروب الاقليمية المستفحلة، باتت كأنها البارحة.
خط تماس "السوديكو"
هدى حبيش | الإثنين 13/04/2015
تركت الحرب أثرها في بعض المباني التي باتت تعد من تراث بيروت كمبنى بركات (Getty)
لم تكن مناطق عديدة في لبنان معروفةً إلى ان بدأت الحرب الأهليّة. ففي الحرب قُسّمت المناطق بحسب الطائفة المهيمنة فيها وبدأ رسم خطوط التماس. وعلى الرّغم من مرور 40 سنة على بدء الحرب، وتغيّر معالم مناطق كثيرة، إلا أن قصص هذه المناطق ما زالت محفورةً في أذهان سكانها. وهذا ما يمكن ملاحظته في منطقة الـ"سوديكو" مثلاً التي نالت شهرةً خلال الحرب، لتشكيلها وقتذاك خط تماس ممتداً بين أحياء عديدة.
وفي تعريفه المنطقة، يقول مختار محلّة الباشورة مبارك بيضون أن "منطقة السوديكو عرفت في الأوساط اللبنانيّة خلال الحرب أكثر مما عرفت قبلها. وهي منطقة واقعة في وسط بيروت تصل منطقتين ببعضهما هما بيروت الشّرقية والغربية اللتان عرفتا أيضاً خلال الحرب". وفي المنطقة عينها، كان "خط بشارة الخوري" أو "أوتوستراد السوديكو" أو ما يسمى اليوم بـ"الياس سركيس" الممر الوحيد بين المنطقتين، الذي كان يسلكه السكان في فترات وقف إطلاق النار ليعود ويغلق حين تعود الاشتباكات، كما يشرح بيضون.
لذلك، ذكرت مسرحيات عديدة لفيليب عقيقي وغيره، في مراحل لاحقة، منطقة السوديكو. فيذكر بيضون عبارة "سوديكو بوم بوم" التي رُدّدت في إحدى المسرحيات. ويروي أن "العديد من أهالي المنطقتين لم يتركوا مساكنهم حتى سنوات الحرب الأخيرة وكانوا يعبرون الممر. وأذكر أستاذاً شهيراً للّغة الفرنسية يدعى وديع الكيك، وقد كان مسيحياً من سكان شارع مونو. كان يجتاز المعبر يومياً ليصل إلى العامليّة حيث يدرّس اللغة الفرنسية، وفي مرة أصيب برجله. كما أن طلاباً كثيرين أصيبوا أثناء اجتيازهم الممر للوصول إلى مدارسهم، ومنهم اثنان من أصدقائي في المدرسة".
قبل الحرب
على الرّغم من وحشيّة الحرب اللبنانية، يعتبر بعض اللبنانيين أن الفترة السابقة على الحرب تفوق الفترة اللاحقة عليها استقراراً وخيراً. ويقول عفيف غدار (77 سنة)، وهو من سكان منطقة رأس النبع، أن "حياتنا قبل الحرب كانت جيدة جداً. فالعمران كان أجمل أما اليوم فهو أشكال ألوان. كما شهدت منطقة رأس النبع قبل الحرب تعايشاً إسلامياً- مسيحياً. أما عندما ترك المسيحيون المنطقة انتزعت لإنو نحن مننزع كل شي".
ويذكر بيضون بعض معالم المنطقة قبل الحرب ومن ضمنها "خط طريق الشام"، الذي كان يشكل حينها خطاً أساسياً لأنه الطريق الوحيد الذي يصل إلى بوليفار كميل شمعون ومن ثم الى كاليري سمعان. كما تميّزت تلك المرحلة بالسكّة الحديد، التي توقفت في العام 1958، وكانت تمر من منطقة السوديكو وتصل إلى ساحة الدباس والبسطة وبشارة الخوري وتلف إلى ساحة رياض الصلح. ويروي بيضون أنه "قبل الحرب عرفت المنطقة رجل بوليس يدعى أبو وجيه، كان يرعب الناس جميعاً ويُنظّم السير وفقاً لخبرته بدون الإلتزام بإشارة السير، وهو أشهر من أن يُعرَّف".
خلال الحرب
كانت الحرب قاسية على السوديكو. وعلى الرّغم من شدّة القنص على هذه المنطقة، لم يترك جميع السكان بيوتهم. أما من كان لديه بديل منهم، فقد "كان يذهب إلى مناطق بعيدة عن خطوط التماس كمنطقة الأوزاعي وتل الزعتر وبرج حمود وغيرها، لأنها مناطق فقيرة ورخيصة"، وفق بيضون. أما من كان مضطراً للعيش على خطوط التماس فكان يعيش بحذر. ويقول بيضون أن "طريق الشام كان خالياً، اذ انه شارع عريض ولم يكن فيه كثافة سكانية، وكان محاطاً بالمقابر التي ما زال الكثير منها موجوداً الى اليوم. أما السكان فكانوا يقيمون خلف المقابر وفي منطقة رأس النبع. وكان طريق الشام ممراً يُحافظ عليه الجيش اللبناني لأنه منطقة إدارية تتمركز فيها وزارة الصحة، مخابرات الجيش والمستشفى العسكري". ويذكر بيضون أنه "في العام 1986 كان في شارع المعرض امرأتان ايطاليتان مسنتان، واحدة اسمها فاندا والأخرى رندا، تعيشان في بيتهما على الرغم من وجود هذا الخط المُميت".
بعد الحرب
ويقول بيضون أنه بعد الحرب ظهرت العديد من الأبنية الجديدة كـ"مربع السوديكو". لكن الحرب تركت أيضاً أثرها في بعض المباني التي باتت تعد من تراث بيروت كمبنى بركات (بيت بيروت)، الذي سيصبح لاحقاً موقعاً سياحياً مهماً. أما اعادة إعمار المنطقة وازدهارها فقد كانا نتيجة فراغ المنطقة وافتقادها الى الكثافة السكانية ووجود مساحات واسعة وخالية فيها، مما أدى إلى استقطاب السكان والمستثمرين، كأن تتحول بعض البيوت القديمة إلى مقاه.
بيد أن اختلاف أسلوب الحياة لا يعني بالضرورة تغير سكان هذه المنطقة. ويقول محمد القاروط (60 سنة) أن الحرب "خلّفت تراثاً للمنطقة كمبنى بركات الأصفر والمباني المجاورة له، وهي مبانٍ أثرية، حجارتها مشغولة باليد. أما نحن فقد عدنا الى حياتنا القديمة بعد الحرب".
ويقول رستم بيضون (63 سنة) ان "ما اختلف اليوم هو ظهور المطاعم والنوادي الليليّة، خصوصاً في شارع مونو. فقبل الحرب كانت منطقة السوديكو مليئة بمتاجر الثياب، أما بعد انتهاء الحرب فقد زادت المطاعم. لكن نمط الحياة الاجتماعية والإختلاط في المنطقة يعود إلى ما قبل الحرب. أما الأمر الذي أدى إلى هذا الإزدهار والإختلاط، بعد الحرب، فهو اكتشاف الناس أنه ليس لهم سوى بعضهم".
"تلفزيونات الحرب".. خطاب "الجماهير الخاصة"
حنين شبشول الثلاثاء 14/04/2015
"تلفزيونات الحرب".. خطاب "الجماهير الخاصة"
أربعون عاماً مضت على ذكرى إنطلاق الحرب الأهلية اللبنانية ولا يزال اللبنانيون يعانون من نتائجها، لدرجة التساؤل إذا كانت هذه الحرب قد انتهت فعلاً. لكن الأكيد أن أوضاعاً كثيرة تغيرت بعد الحرب. ومن أبرز القطاعات التي شهدت تغيراً كبيراً الإعلام المرئي والمسموع، خصوصاً المحطات التلفزيونية.
في العام 1959 أنشئت أول محطة تلفزيونية في لبنان بإسم "شركة التلفزيون اللبنانية" (تلة الخياط)، وفي العام 1961 أنشئت محطة ثانية بإسم "شركة تلفزيون لبنان والمشرق" (الحازمية). على ان المحطتين كانتا ملكاً للقطاع الخاص، لكن بإشراف الدولة اللبنانية. لكن مع اندلاع الحرب الأهلية، انقسم تلفزيون لبنان، في محطتيه، على نفسه، كما كانت حال بيروت، فأصبحت القناتين 7 و9 (الناطقة بالفرنسية) لسان حال بيروت الغربية "المسلمة". أما القناتان 5 و11 فقد نطقتا باسم قوى بيروت الشرقية "المسيحية"، وذلك على الرغم من توحيد المحطتين في شركة واحدة بإسم تلفزيون لبنان، منذ العام 1976، في عهد الرئيس الياس سركيس، وبمناصفة في الملكية بين القطاعين العام والخاص.
وبعدما كان "تلفزيون لبنان" التلفزيون الوحيد، والحائز على نسبة مشاهدة مرتفعة بطبيعة الحال، تراجعت هذه النسبة بشكل كبير بفعل سيطرة وسائل إعلام خاصة بدأت بالظهور منذ أواخر الثمانينات. ففي العام 1985 أُنشئت "المؤسسة اللبنانية للإرسال" (أل بي سي) "على هامش ميليشياوي"، وفقاً للمدون خضر سلامة، وكانت وقتها "مشروعاً قواتيّاً بحتاً". ومع مرور الوقت، ونهاية الحرب الأهلية، شهد البلد طفرة إعلامية واسعة استفادت من جو السلم والتوسع العالمي الاعلامي والتقدم التكنولوجي. فإنشئت محطات لبنانية عديدة، معظمها، إن لم تكن جميعها، ذات وصمة سياسية أو طائفية أو حزبية. يفسر الشاعر والإعلامي جوزيف عيساوي ذلك بـ"حاجة رجال الأعمال إلى استثمارات في القطاع التكنولوجي التلفزيوني الذي كان في حالة نمو. وكذلك حاجة أهل السياسة إلى منابر تساعدهم على إيصال أفكارهم". وعلى رغم وجود قانون يتيح لشركة "تلفزيون لبنان" احتكار البث إلى العام 2012 "سُمح بنشوء هذه المحطات إلى أن رأى النظام الحاكم حاجة لضبطها، وضبط الخطاب السياسي وتحاصص الإعلانات بين السياسيين الذين يملكون غالبية هذه المحطات".
عيساوي، الذي كان يقدم برنامج "بدون كرافات" في محطة "SIGMA"، يعتقد أن الهدف من وراء إنشاء هذه المحطة كان هدفاً ربحيّاً لا سياسيّاً. اذ اشترت مجموعة من رجال الأعمال (معتز الصواف، باسم زيادة وغيرهما) هذا التلفزيون. وكان أول تلفزيون في الشرق الأوسط متخصصاً في نوع معين (الفيديو كليب العربي والأفلام العربية)، إذ "كانت فكرة سباقة آتية من الغرب". تقنياً، لم تكن هذه المحطة بحجم محطات أخرى في حينها مثل "المستقبل" والـ"أل بي سي" وتلفزيون لبنان، لكنها "كانت تغطي بشكل خاص العاصمة وبعض المناطق، حتى أن التغطية كانت تصل أحياناً إلى الساحل السوري".
وعن سبب إقفالها، يقول عيساوي لـ"المدن" أن الحكومة اقترحت على المحطات أن تترشح للفئة الأولى، التي يُسمح لها بالبث السياسي، أو للفئة الثانية التي يُحظر عليها ذلك."وفي ما يشبه الخدعة لم تُعطَ التراخيص وقتها لأي محطة من الفئة الثانية، واكتفت الحكومة بإعطاء تراخيص لخمس أو ست محطات تلفزيونية من الفئة الأولى".
وفي أواخر العام 1991 انطلق تلفزيون ICN (الشبكة المستقلة للإعلام)، الذي رأس مجلس إدارته هنري صفير. وقد كان هذا التلفزيون يمثل التيار المسيحي المعارض لحكومة الرئيس رفيق الحريري. وبحسب صفير، فإن المحطة قد تعرضت للإقفال مرتين بقرار من مجلس الوزراء. "تم إحضار 400 عسكري وأربع دبابات في المرتين، حتى بعد قرار المحكمة بإعطائنا الحق في المتابعة"، يضيف صفير. وكان التلفزيون، وفقه، قد نال ترخيصاً في أيام الرئيس سليم الحص، لكن الترخيص عاد ليُسحب في العام 2003 في عهد الوزير غازي العريضي، بـ"حجة عدم دفع الضرائب والرسوم المترتبة علينا".
ويشير رئيس المجلس الوطني للإعلام عبد الهادي محفوظ، في حديث لـ"المدن"، أن "غالبية المؤسسات المرئية اليوم لا تدفع الضرائب بحجة أنّ القطاع المرئي يعيش وفقاً للقانون من مصدرين: الإعلان والصناعة الدرامية. وفي حين أن الصناعة الدرامية لا تأتي بالربح، لم يتجاوز المردود الإعلاني للعام 2014 الـ40 مليون دولار، وهذا لا يكفي مؤسسة واحدة. في حين تقدر الخسائر بحوالي 70 مليون دولار". ومن تلفزيونات تلك الفترة "المشرق"، الذي كانت تملكه "رابطة الشغيلة" ويمثل مجموعات "يسارية"، و"CBN" لبيار عازار، وهما قد اتحدا لاحقاً تحت إسم "UTV" (شبكة المشرق المتحدة)، ونالا ترخصياً في عهد الرئيس سليم الحص. ثم سحب الترخيص لاحقاً لـ"عدم دفعها الضرائب"، وفق محفوظ.
ويقول سلامة لـ"المدن" إنّ هذه التلفزيونات، التي أنشئت بين أوائل الثمانينات وأوائل التسعينات، والتي لم تستمر طويلاً، "كانت إجمالاً تلفزيونات سياسية مباشرة وتعبوية"، وتراوحت فترة بثها بين 12 إلى 18 ساعة، اذ لم تكن فكرة البث لمدة 24 ساعة معروفة بعد. وكانت غالبيتها تبث الموسيقى مع نشرات أخبار وبرامج فنية متواضعة جداً، "أي أنها كانت أقرب إلى إذاعة راديو مع بث تلفزيوني". لكن مهمتها الأساسية كانت سياسية، عبر مخاطبة الجمهور المباشر في المنطقة المُسيطر عليها من قبل حزب معين. "وهي الثقافة التي أرستها الحرب الأهلية واستمرت مع دمج التلفزيونات وحصرها في عدد معين. اذ استمرت هذه التلفزيونات الكبيرة السبعة في انتهاج الثقافة نفسها: التوجه إلى جمهور محدد جغرافياً وطائفياً"، يؤكد سلامة.
وقد كان هناك عدد من المحطات التي أنشئت في سنوات الحرب الأخيرة، خصوصاً بعد الاجتياح الاسرائيلي، إذ افتتح القوميون العرب تلفزيون "لبنان العربي" لفترة وجيزة. ومن الأمثلة على هذه التلفزيونات، تلفزيون "السنابل" الذي أنشئ في بداية التسعينات. "المحطة كانت عبارة عن غرفة في جبشيت في جنوبي لبنان، مع معدات متواضعة جداً، ويتألف طاقمها من ثلاثة أشخاص"، على ما يقول الصحافي علي بدرالدين، الذي كان مسؤولاً عن صياغة التقارير وكتابة النصوص في المحطة. وكان "هدف هذه المحطة ثقافياً وفنياً. إذ كان بثها يقتصر على عرض بعض الأفلام، بالإضافة إلى تصوير بعض التقارير في الحقل أو في مكان عام، وبثها إلى المناطق الجنوبية خصوصاً". وقد أقفلت هذه المحطة بعد أن كانت، وفقه، "تنال استحسان غالبية سكان الجنوب، وبعد تعرض مبنى مجاور لها للقصف الإسرائيلي، ولم تكن هناك إمكانيات مادية لترميمها، وهي التي كانت ممولة ذاتياً".
لكن صفير، من جهته، يرى أن سبب إنشاء هذه التلفزيونات يعود إلى إرادة البعض بـ"التخلص من الحرب الأهلية". واذا كان صفير يعتقد أن الحرب لم تنته بعد، فإنه يضيف أن الديمقراطية في لبنان "تخضع لديكتاتورية الاعلام، والاعلام نفسه يخضع لدكتاتورية المال". في السياق نفسه، يؤكد محفوظ أن "القطاع المرئي يتجه الى الموت، والحل يكمن في دمج المؤسسات المتعثرة، وإنشاء مدينة إعلامية، وإعطاء قروض للمحطات لإحياء القطاع. خصوصاً أنّ دور الإعلام يرتبط بالوظيفة التي تُعطى له. فتاريخ الاعلام سلبي في ما يخص الحرب لكونه كان جزءاً منها، بدل ان يكون ناقلاً لها".
وسط بيروت.. ممر لجزيرتين
علي فحص | الثلاثاء 14/04/2015
كأن وسط البلد، مركز التراث البيروتي، تحول الى ديكور مصطنع (Getty)
لم تعد بيروت كما هي، مستلقية على حافة المتوسط، وصرخة العرب في زمن القمع. لعل ذلك ما يتفق عليه معظم الكتاب والروائيين اللبنانيين. فبيروت الصغيرة بحجمها، والتي وقفت حاملة كل أحلامها قبل 40 عاماً، تنتظر اليوم الصدمة، ولا تعرف أين تهرب. مع ذلك، يسيطر الشعور بالعار والذنب على معظم من عايش الحرب، ويسلط جبروته على أغلب التاريخ المكتوب. ويمكن ان يحكى الكثير عن المدينة التي "قدّر لها أن تعيش وتعود الى الحياة مهما كان"، كما وصفها الجغرافي إليزيه روكلو. وفي كل قيامة لها تعود بطلّة أخرى، ولكنها هذه المرة مُحيت.
لكن الحديث هنا ليس عن أحيائها الشعبية، أو أزقتها، التي امتنعت عن الارتباط بالعمران السينمائي الطاغي على وسط المدينة، بل عن هذا الوسط، نفسه، الذي كان محور تألقها قُبيل الحرب. كل من عايش "المدينتين"، بيروت الستينات، الحيوية والمختلطة والمفتوحة للجميع، بحسب الباحث الاجتماعي سمير خلف، وبيروت الحاضر الرمادية بسطحيتها، يصدمه هذا التحول. المدينة المعاصرة، في زمن الشرق الأوسط التقليدي، تغيّرت معالمها ووظيفتها، وأصبح مصيرها مبهماً.
اختفاء الاقتصاد الشعبي
في التصور المُدني، عالمياً، يحوز وسط المدينة الحيز الأكبر من النشاط الاقتصادي، مستفيداً من قربه الجغرافي من جميع المناطق. وبيروت، ذات المساحة الصغيرة، التي تكاد تكون أشبه بضاحية عاصمة أجنبية، ليست بعيدة عن هذا التصور. يتحدث الكاتب اللبناني سمير قصير، في كتابه "تاريخ بيروت"، عن النقلة الاستهلاكية التي عاشها سكان بيروت في ستينات القرن الماضي، حيث أصبحت جزءاً من السوق والثقافة العالميين. وذلك يرجع إلى عوامل عديدة منها اعتماد لبنان سياسة اقتصادية حرة، وتطبيقه السرية المصرفية والأهم من ذلك استعانة الدول الغربية ببيروت كمدينة منفتحة وآمنة في منطقة إقليمية مشتعلة.
عليه، فقدت السلطة المحلية قدرتها على السيطرة على الاقتصاد، في ظل حضور رؤوس الأموال الكبيرة وتوافد رجال الأعمال العرب، ناهيك عن تشبث البرجوازية اللبنانية بالسوق. مع ذلك حافظ التجار اللبنانيون الصغار على مساحة لهم، كما في الأسواق الشعبية. وكان وسط المدينة، يضج بالحياة، بمحاله الشعبية، ومكانه الوسطي. كل ذلك انتهى بعد إعادة الإعمار، فإختفت رؤوس المال الصغيرة، وأبعد اللبنانيون عن الوسط لتحتله فروع شركات أجنبية، ومكاتب أخذت من رونق المدينة كل ما تملك.
يتذكر بحسرة أبو أيمن "أيام العز"، ومحل الأدوات المنزلية الذي كان يملكه في وسط بيروت. فالرجل الذي يناهز اليوم السبعين، أسقطته الحرب وأخذت منه إرثه عن أبيه. "تركنا كل شيء عند اندلاع الحرب، ورغم محاولتنا الصمود فشلنا، ويا ليتنا لم نستسلم. عندما عدنا كان كل شيء خراباً". يشرح أبو أيمن كيف كان السياح يأتون بكثرة، وكيف أن مردود العمل كان كافياً لاطعام عائلة مؤلفة من ستة أفراد. أما الآن فالمحل اختفى، "أخذنا تعويضاً، ولكن من أجل ماذا؟ اضطررنا ان نبيع الخراب، ولم يكن باستطاعتنا ان نعيد إعمار أي شيء".
بيروت "المدن الصغيرة"
لا تقتصر التغيّرات على الاقتصاد فحسب، وليس هذا ما أسقط المدينة في هاوية التبعية بعد الحرب. في مكان آخر، كانت بيروت توصف بالملتقى. لكن، بعد الحرب، سُرقت منها كل الصفات. وانقسامها إلى شرقية وغربية، لم ينته عند توقيع إتفاق الطائف، وهذا أكيد. خط التماس الذي رسمته الحرب، وحدت من خلاله حياة اللبنانيين وتنقلهم، تشعب ليصبح خطوطاً.
وبالاضافة الى ما عاشه وسط البلد من تمويه سينمائي في عمرانه، فإن الاصطفافات الطائفية والسياسية حولت بيروت الى "مدن صغيرة" على حد وصف الكاتب يوسف بزي. وهو يرى ان أحياء بيروت أصبحت مدناً بحد ذاتها، "ذات أسوار افتراضية"، فانتشرت المحال والمتاجر، داخل كل حي، في محاولة لتأمين الاكتفاء الذاتي وتجنب الارتباط الاقتصادي الاجتماعي بالأحياء الأخرى. مدن، وان تقاربت جغرافياً، إلا أنّ اللافتات السياسية تخط حدودها الوهمية، وبذلك انتقلت المدينة من مركزية الوسط التجاري والاجتماعي الى ما يشبه الاتحاد البلدي القروي. فالمناطق التي لا تبعد عن بعضها إلّا مسافة صغيرة، صارت ذات "سينوغرافيا مختلفة".
في السياق نفسه، حافظت المدينة على خط التماس التاريخي، حيث أصبح وسط البلد ممراً بين جزيرتين، كما يصفه بزي بقوله "عندما أمر من الحمرا إلى الأشرفيّة عبر جسر الرينغ – فؤاد شهاب، أدرك أن الناس هكذا، يروحون ويأتون من الشرق إلى الغرب وبالعكس دون المرور بتلك الجزيرة".
ثقافة اللااختلاط
بالاضافة الى السياسة، فإن ما ساهم في تحول وسط البلد الى "نكرة اجتماعية"، يتجنب الناس المرور فيه هو افتقاده لبعده الثقافي والترفيهي. تشهد سنوات ما قبل الحرب على تعدد صالات السينما في بيروت عموماً، ووسط البلد بشكل خاص. مثل "كابيتول"، "شهرزاد"، "ريفولي" ومسرح "شوشو". لكن هذه المطارح، الثقافية، لم تجد لها مكاناً في حلة الوسط الجديدة، وأخذت معها ما كان يعرف بالدمج الديموغرافي للوسط. ولعل المفارقة المُقلقة، بقدر تعبيرها عن حالة بيروت، ترتبط بتحول ازدحام السير بعد انتهاء عروض الأفلام في الصالات الى ازدحام بين عالمي المدينة، الشرقي والغربي.
كل ما ذكر يبقى على المستوى المادي من التغيير، ويمكن ملامسته عند المرور في بيروت. لكن الحرب أدرجت أيضاً واقعاً جديداً، هو الفقدان الاجباري للذاكرة. جيل اليوم لا يعرف ما كانت عليه بيروت قبل أربعين عاماً، ولا يجد ما يعيده الى جدلية بيروت اليسارية- الرأسمالية، كما أبدع في صياغتها مارون بغدادي في فيلمه "بيروت يا بيروت". كأن وسط البلد، مركز التراث البيروتي، تحول الى ديكور مصطنع، ينحت في ذاكرة الناس بيروتاً أخرى، ويحبس واقعها وتاريخها في النسيان.
الذكرى الـ40: محاربون سابقون من أجل السلام
وليد حسين | الإثنين 13/04/2015
مقاتلون سابقون شاركوا في الحرب الأهلية 1975-1990 وانغمسوا في أوحالها. اختبروا قذاراتها وساهم كلّ من موقعه في تأجيجها انتصاراً لصدقية مقاصد الفريق الذي ينتمي إليه. اندفعوا بشراسة لإلغاء الآخر، العدو المفترض، جسدياً ومعنوياً انطلاقاً من ادعاء الحقيقة المطلقة وحمل القضية العادلة. وبين تأنيب الضمير والنقد الذاتي، وجدوا، بعد انتهاء الحرب، فرصاً ومواضيع مشتركة بهدف التلاقي. أعادوا قراءة التجربة السابقة واتحدوا لـ"القتال" ضد الحرب واحتمال تجدّدها. وها هم اليوم، في مناسبة الذكرى الأربعين على اندلاع الحرب اللبنانية، يطلقون مساء اليوم، جمعية "محاربون من أجل السلام" التي عملوا على تأسيسها منذ حوالى سنة تقريباً.
تواصلت "المدن" مع بعض هؤلاء المقاتلين السابقين الذين احتلّوا مناصبَ قيادية عُليا ووسطية في بعض الميليشيات اللبنانية ونقلوا تصوّرهم عن الواقع الحالي، انطلاقاً من تجربتهم السابقة. جَمعهم العمل على تعزيز السلم الأهلي لا سيّما بعدما أجمعوا على أن التجربة تقول إنّ الحرب لا تستطيع تحقيق أهداف أي طرف من الأطراف بل تؤدي إلى دمار البلد والعودة به إلى الوراء. لكن كيف كان ينظر هؤلاء إلى الطرف الآخر؟
اعتبر القيادي الوسطي في "منظمة العمل الشيوعي" سابقاً، فؤاد الديراني، أنّ مشاركته في الحرب أتت عن قناعة بأنَ الأطراف الأخرى تمثّل المشروع الانعزالي المُعبَّر عنه حينها بالمارونية السياسية. وبالتالي هؤلاء هم الأعداء الذين يتحيّنون الفرصة للانقضاض عليهم كونهم يحولون دون تحقيق الوطن العلماني الديموقراطي المنشود. كما اتفق كل من "مسؤول القوات المركزية وعضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي سابقاً" زياد صعب، و"قائد كتيبة المدفعية في الحزب التقدمي الإشتراكي سابقاً" بدري أبو دياب، مع الديراني، مضيفّين بأنّ "نظرة العداء إلى الطرف الآخر كانت نابعة من ادعائنا امتلاك الحقيقة المطلقة التي تبرّر إلغاء الآخر مادياً ومعنوياً". أما بالنسبة إلى "نائب رئيس جهاز الأمن والاستخبارات في القوات اللبنانية سابقاً" أسعد الشفتري، فالآخر بالنسبة إليه "كان المسلم المصنّف بنظره مواطناً من الدرجة الثانية، الذي لا يؤمن بلبنان ككيان بل يسعى إلى تأسيس الأمة الإسلامية، ولم يتوانَ عن الاستعانة بالفلسطيني كي يغيّر النظام. هذا الأمر ولّد شعوراً عميقاً بكره هذا الآخر، ترافق مع رغبة في الانتقام".
بين الأمس والحاضر
هل ثمة عناصر تشابه بين الأمس والحاضر تشكّل أرضيّة لتكرار تجربة الحرب؟ أجمع المقاتلون السابقون على أنّ الظروف الحالية أخطر بكثير من السابق، مكتفين بالتلميح من دون الدخول بالتسميات. رأى صعب إنّ الصراع في السابق كان بين مشروعين سياسيّين مستمدّين من منظومتين عالميّتين، الرأسمالية والإشتراكية، بينما الواقع اليوم قائم على انقسام مذهبي حاد. بالإضافة إلى أنّ الواقع الاقتصادي الاجتماعي الراهن مختلف تماماً إذ وصل مؤشّر الفقر إلى معدّل أدنى ممّا كان عشية الحرب. في السابق كانت الأحزاب السياسية سيّدة الموقف أما اليوم فالأحزاب ليست أكثر من ميليشيات للطوائف.
وأضاف الديراني أنّ "الاستقطاب السياسي الحاد يقوم اليوم على مخاطبة الانتماءات الأولية والغرائز والتخويف من الآخر وتصويره بأنّه يهدّد مصير المجموعات الأخرى. وعلى مستوى الأطراف السياسية "هناك من ينادي بالدولة ويطرح شعارات فارغة فقط بهدف حشر الطرف الآخر، ومن ينادي بمحاربة إسرائيل رافعاً شعارات مغرية بهدف التغطية على هيمنته على مفاصل البلد". أمّا الشفتري فيعتقد أنّ "الاختلاف بين الماضي والحاضر طفيف، زاد فيه عدد القبائل المتصارعة لا أكثر ولا أقل. أحزمة البؤس والفقر مثل طرابلس وغيرها ما زالت منتشرة وتشكّل أرضاً خصبة ممكنة لانتشار الإرهاب والعنف مثل السابق. وما زال اللبنانيون، أو شبه المواطنين اللبنانيين، يفضّلون انتماءاتهم العائلية والقبلية على الانتماء إلى الوطن. وتملك جميع الأطراف السياسية مراجع خارجية تستخدمها في معاركها الداخلية، كما في السابق".
بدوره، رأى أبو دياب أنّ "بعض العوامل التي أدت إلى الحرب سابقاً مثل الفقر وعدم وجود تنمية وعدالة اجتماعية ما زالت قائمة. كما أن الدولة لم تُقدِم على معالجة انتشار أحزمة الفقر والحرمان في العديد من المناطق، الأمر الذي سهّل على القوى المتطرفة مثل "داعش" وغيرها عملية استقطاب المؤيدين في فترة وجيزة. والأخطر من ذلك، أنّ القوى السياسية حالياً تبذل جهدها لتجييش الناس بهدف عدم التلاقي وخلق مناطق معزولة طائفياً عن بعضها البعض، وذلك خدمةً لمصالحها في عملية تقاسم المغانم في البلد".
جهل الآخر وعبثية الحرب
لكن كيف يجلس أعداء الأمس مع بعضهم البعض اليوم؟ هل في مقدورهم إقناع "أعداء اليوم" بعدم الإنزلاق إلى حربٍ أهلية جديدة؟ أجمع "المحاربون من أجل السلام" على أن جهل الآخر كان الأساس في استفحال العداء ما حال دون تلاقيهم خلال الحرب، فيما جمعهم النقد الذاتي لهذه التجربة. وأوضح كل من الشفتري وأبو دياب أنّ "اكتشاف الآخر دفعهما للتعرّف على البعد الإنساني لديه بمعنى وجود أحلام وهواجس وهموم مشتركة". أما صعب فقد انطلق بتجربته "من عبثية الحرب وأهمية اتفاق الطائف لوقفها وضرورة البدء بمصالحة وطنية تشمل الطرف الآخر". فيما اعتبر الديراني أنّ "البحث عن المشترك هو ما جمع بينهم وذلك من أجل ترسيخ السلم الأهلي، لاسيّما أنهم اكتشفوا من خلال التجربة أنه من غير الممكن إجراء التغيير المنشود بواسطة الحرب واستخدام العنف".
لا يتوهّم أحد من مؤسسي جمعية "محاربون من أجل السلام" أنّ نشاطهم سيحول دون انزلاق اللبنانيين نحو الحرب، لأنهم يدركون أنّ قرار الحرب والسلم مرتبط بالخارج واللبنانيين بيادقه. لكنهم في الوقت ذاته، يتفاءلون من خلال تحرّكهم على الأرض مع بقية جمعيات المجتمع المدني وطلاب الجامعات وجيل الشباب، بأن العمل على الحؤول دون تحوّل هؤلاء وقوداً لنيران حرب محتملة، ممكن. فالجميع نَشَط بعد الحرب في الجمعيات الأهلية المختلفة ولمسوا رغبة كبيرة وتجاوباً لدى الأجيال الجديدة المعرّضة للتحريض المذهبي والطائفي لجهة ضرورة حل الخلافات بينهم من طريق الحوار. لكن صعب أوضح بأن "العمل في مجال الجمعيات في إمكانه تجنيب الفئات المستهدفة إمكانية حمل السلاح أو استخدامه. أما عملية تجنب وقوع الحروب المستقبلية فيبقى مرتبطاً بالعمل على إرساء أسُس للمصالحة الحقيقة بين اللبنانيين لم يقدم أحد على وضعها بشكل جدي بعد".
بدت معالم الحرب واضحة ونافرة في ملامح هؤلاء المقاتلين القدامى، لا سيّما أنهم عايشوا مفاصلها وتقلبّاتها واختبروا فظاعتها. وهذا ربما يفسّر مدى شراستهم في العمل على التحذير من مخاطر العودة إليها. لكن الواقع الحالي، وباعتراف الجميع، ما زال يشكّل بيئة حاضنة لآلاف الأشخاص الذين يشبهون ما كانوا عليه كمقاتلين سابقين في زمن الحرب. ليس هذا فحسب، بل أنّ المجتمعات المحيطة بهم ما زالت تنظر إليهم كأبطال، رغم محاولاتهم الدائمة بالقول إنهم قاتلوا في المكان الخاطئ، كما لفت أبو دياب. فهل يا ترى سيصغي الجيل الجديد لنداء "النقد الذاتي"، أم سيمتثل لصوت قرقعة طبول الحرب ويرى السلاح زينة للرجال؟
عن الجمعية
أشارت أمينة سر جمعية "محاربون من أجل السلام" ليال أسعد، عبر "المدن"، إلى أنّ الجمعية تضم مقاتلين وقادة عسكريين من كافة الأطراف السياسية التي شاركت في الحرب الأهلية اللبنانية، بالإضافة إلى بعض المتطوّعين المدنيين. تهدف إلى نشر ثقافة السلام وتوعية الجيل الجديد على مخاطر الحرب وذلك عبر نقل تجربة هؤلاء المحاربين القدامى في الحرب. كما تهدف إلى تعزيز السلم الأهلي من خلال تبني الحوار وسيلةً لحل النزاعات. هذا بالإضافة إلى إبراز فكرة استخدام العنف والحرب لتحقيق الأهداف المرجوة لا تؤدي إلا إلى المزيد من الخراب والدمار، انطلاقاً ممّا اختبره هؤلاء المقاتلون بشكل ملموس.
خلال الحرب الأهلية.. "إقتصاد الأفراد" كان أفضل
خضر حسان | الإثنين 13/04/2015
"يا ريت بترجع... ما كان بيفرق معنا شي". تنحصر رؤية خالد للحرب الأهلية بصورة الشاب الذي يحمل كلاشنكوف وعلبة سجائر، ولا يأبه لشيء، لا لتأمين منزل أو لقمة العيش. ورغم سطحية الرؤية، إلا ان نظرة إبن الـ 23 عاماً، لحرب أهلية لم يعشها، قد لا تكون خاطئة، أو بأسوء الأحوال، يمكن التفكير فيها.
خالد لم يعرف الحرب الأهلية سوى عبر الصور القديمة وحكايات الأهل. وفي سرد الحكايات، لم يمر على مسمعه تأفّف الراوي من الوضع الإقتصادي، أو من عدم توفر المال، بل جلّ ما كان يسمعه، هو إصابة شخص برصاص قنّاص، فيما كان يعبر المتاريس ليشتري ربطة خبز، والخبز كان متوفراً في معظم أوقات الحرب!
روايات المرحلة الممتدة من العام 1975 الى العام 1989 لا تحمل تفاصيل مأساة إقتصادية، تحديداً على مستوى "إقتصاد الأفراد"، بمعنى انّ الشباب في تلك المرحلة لم يشعروا بالضغوط الإقتصادية التي يشعر بها شباب اليوم، حتى بالنسبة للمتزوجين وأرباب العائلات، أما الخطر الأبرز يومها، فكان الخطر الأمني وليس الإقتصادي. حيث يرى محمود الهاشم (كان مقاتلاً في الحرب) ان السياسة المسيطرة أثناء الحرب هي "سياسة الموت بالنار وليس بالإقتصاد. فكانت الأموال موجودة حتى في عزّ الحصار الإسرائيلي الذي لا ينفصل عن سياق الحرب الأهلية. نعم كانت هناك صعوبات، لكنها صعوبات فرضها الوضع الأمني، ولم تكن صعوبات إقتصادية بحتة". أمّا سبب توفر المال، فكان عبر "أموال منظمة التحرير التي كانت في البنوك وفي السوق اللبنانية، ومن مختلف الجهات التي كانت تضخ أموالاً للأحزاب". وعن الأوضاع اليوم يقول محمود لـ "المدن": "الحرب قاسية لكن ما نعيشه اليوم أصعب. اليوم نعيش أزمة إقتصادية لم نشهدها في فترة الحرب، فيومها كانت الحياة الاقتصادية شبه طبيعية، فداخل المنطقتين الشرقية والغربية كانت الحركة عادية، لكن اليوم الوضع العام سيء، والحرب أصبحت حرباً باردة مذهبياً وإقتصادياً".
الطمأنينة الإقتصادية في تلك المرحلة كان يعكسها حال الشباب، فالغالبية العظمى منهم كانت "مرتاحة ولا يشغل بالها التفكير بالمستقبل، فالأموال متوفرة والقدرة الشرائية مرتفعة"، على حد تعبير حبيب عيسى الذي كان مقاتلاً شاباً في الحرب.
حال الإرتياح المادي لدى الشباب كانت تأتي عبر توفر المال وانخفاض الأسعار مقارنة مع أسعار اليوم. ولعلّ انخفاض الاسعار وارتفاع القدرة الشرائية، هما كلمة السر بالنسبة لإقتصاد الأفراد حينها، لأن المتطلبات ما زالت نفسها حتى يومنا هذا. وينفي عيسى في حديثٍ لـ "المدن" مقولة أن "المتطلبات اليوم اصبحت أكثر وهي التي اثرت على الاقتصاد"، فبرأيه أنّ "الشاب الذي يقبض 1000 دولار اليوم لا يكفيه راتبه ليصرف كما كنا نصرف نحن في فترة الحرب، مع ان المتطلبات بقيت كما هي". ويضيف عيسى: "كنّا نقبض حوالي 25 ليرة يومية من الأعمال الحرّة، كنا نروح على المنارة ونشرب دخان (سجائر) وبيرة ونشتري اشياء كثيرة بـ 10 ليرات".
بالتوازي مع البحبوحة التي ينعم بها الشباب، كانت مرحلة الحرب تحمل في طياتها صور الفساد السياسي، المستمر حتى اليوم، والمسؤول عن الأزمة التي نعيشها. ومن وجهة نظر الخبير الإقتصادي غالب أبو مصلح، فإن الوضع الإقتصادي في فترة الحرب كان سيئاً جداً. أما الأموال التي كانت متوفرة، فخطورتها، بحسب أبو مصلح، تكمن في انها "كانت لتمويل الحرب وليس الإنتاج"، ولولا وجود أموال الأحزاب المنتشرة في السوق، لكان الوضع إنكشف أكثر.
وبعرض بسيط للوضع القائم حينها، يشير أبو مصلح خلال حديث لـ"المدن"، إلى أنّ "انهيار الليرة كان واضحاً جداً، وتأثرت به العائلات، خصوصاً عائلات الموظفين. فالموظف الذي كان يتقاضى راتبه الشهري او تلقى تعويض نهاية خدمته بالليرة اللبنانية، وجد أن هذه الأموال تبخّرت، والليرة لم يعد لها قيمة". ولا يوافق أبو مصلح على وجهة نظر الشباب حول اقتصاد الحرب، لأن الشباب "كانوا مقاتلين في الأحزاب، ولا يرون الوضع الاقتصادي العام، وكل ما كانوا يحتاجونه هو الأكل والشرب والسلاح، وهو أمر كانت توفره الأحزاب".
ولإنهيار قيمة الليرة أسباب كثيرة، منها الإجراءات الإعتباطية التي كان يمارسها المسؤولون من دون مراعاة أدنى قواعد المالية العامة. وعلى سبيل المثال، يذكر أبو مصلح أنّ "رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل فرض على البنك المركزي ضخ مبلغ 5 مليارات ليرة كتمويل للدولة، وبعدها هبط سعر النقد". لكن الواقع السوداوي حينها كان يتخلله ثقب أبيض لناحية الدين العام، فالدين في فترة الحرب لم يتجاوز "الـ 1.7 مليار دولار، واخذ بالإرتفاع مع مجيء (الرئيس رفيق) الحريري الذي اعتمد سياسات انفاقية من داخل الموازنة وخارجها، واعتمد على الديون، وكان يعتبر ان وجود الدين ليس مشكلة طالما انه يساهم في اعمار البلاد. لكن ذلك لم يكن صحيحاً". ويعتبر أبو مصلح ان "نهج الحريري ما زال قائماً، والدولة اليوم لا تقدّم اي خدمات تناسب حجم الإنفاق وحجم الديون المترتبة على لبنان بحجة المشاريع الانمائية، فما صُرف على تحسين الكهرباء والمياه منذ العام 1992، يفوق قيمة تأمين هاتين الخدمتين بمعدل 24 ساعة". ويخلص أبو مصلح الى ان "الوضع القائم سيستمر لأن هناك طبقة من الأشخاص في الدولة تمارس فساداً أكبر من الفساد الذي كان قائماً في الحرب، وفي المقابل، لا وجود لأحزاب تحمل برنامجاً تغييرياً حقيقياً، فالأحزاب انهارت في الحرب وتحولت الى ميليشيات غير قادرة اليوم على تقديم الحلول".
لا شيء يشي بعودة الوضع الإقتصادي الى ما كان عليه في الحرب. فعلى أقل تقدير، المشهد الطبقي تغيّر كلياً، فالفقراء ازدادوا فقراً اليوم، وقلّة من الأثرياء تحكم البلاد عبر شبكة مصارف وشركات كبرى. أما الحديث عن عودة الى ما قبل الـ 75، فهذا الحلم الأصعب بالنسبة الى جيل لم يعش الحرب الأهلية وما قبلها.
والصعوبة هذه تتحول الى دمعة وعيون تسرح بصورة معلقة على الحائط لـ "ساحة البرج" بالأبيض والأسود، لأنها تذكّر أبو ربيع، الرجل الستيني، بأيام "العصر الذهبي لبيروت، حينها كان ما حدا يسمع بالدولار، كانت الليرة اللبنانية تحكي كل اللغات، وكان كل شي متوفّر والناس ما تسأل عن المصاري".