كي لا تتكرّر مأساة لبنان ثلاث خطايا إستراتيجية مترابطة متكاملة خلال فترة شهر 3
1) تحوّل قرنة شهوان إلى «قرنة الشهوات».
2) التخلّي عن بند تسليم أسلحة الميليشات في القرار 1559.
3) الاتفاق الرباعي.
الرابط الواقعي بين هذه الخطايا الثلاث، هو إعطاء الأولوية المطلقة لغالبية أطراف مجموعة 14 آذار المُكَونة للتو، لسعيها المحموم وراء تحصيل أكبر قدر من السلطة، تحقيقاً لمصالح «زعمائها» الشخصية ورغباتهم.
في الوقائع، يمكن تدوين ما يلي:
1) على وقع اغتيال الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005، قدّم عمر كرامي استقالة حكومته في 28 شباط 2005. اُعيد تسميته لتشكيل حكومة جديدة في 10 آذار 2005. استقال مجدداً في 13 نيسان 2005. تشكّلت حكومة نجيب ميقاتي في 19 نيسان 2005 لمهمة وحيدة: إجراء الإنتخابات البرلمانية المحدد موعدها في 28 أيار 2005. انسحبت سوريا من لبنان في 26 نيسان 2005.
فهل كانت ثمة حاجة ملحّة إلى اجراء الإنتخابات البرلمانية في موعدها المحدد (on time) في هذه المرحلة من التحولات الإستراتيجية، أم كان من الحكمة تأجيلها بعض الوقت لإجراء تعديلات في قانون الإنتخابات، تسمح باعادة التوازن بين المكونات الطوائفية والوطنية بعدما أَخّل به عمداً المحتل السوري تحقيقاً لأهدافه الإستراتيجية والتاريخية في لبنان؟
بالتأكيد كلا، لم يكن أي حاجة إلى ذلك التَسّرع! لأن المهمة الأساسية (جلاء القوات السورية) كانت قد اُنجِزت، ولم يكن ثمة أي مجال للعودة بها إلى الوراء في ظل الوضع الدولي والإقليمي القائم آنذاك، إلّا إذا كانت مكونات 14 آذار لها حسابات أخرى، وإذا كان توجّسها من مكونات أخرى من 14 آذار، يطغى على عداوتها المستجدة لشركائها المضاربين السابقين (أي «حزب الله» وحركة «أمل») طيلة مرحلة الإحتلال السوري.
2) كانت حكومة كرامي قد تقدمت من البرلمان بمشروع قانون إنتخابات يعتمد على الدائرة الصغرى (القضاء)، «إرضاء» لغبطة البطريرك صفير»، في الشكل، وعملياً في الواقع، لإستمالة ميشال عون إلى حظيرة الرئيس إميل لحود وقوى الممانعة من خلال لقاءاته الباريسية مع إميل إميل لحود وكريم بقرادوني.
3) في بداية شهر أيار 2005، بعد ما أدّى دوره العرض المسرحي للأطراف السياسية كافة بإظهار التكامل في مواقفها بالرغم من تعارضها شكلاً، دورها، بات واضحاً ومقبولاً «من الجميع» أن تُجري حكومة ميقاتي الإنتخابات وفق قانون الـ 2000، أي قانون غازي كنعان، «المفصّل على القياس».
في الخلوة التي عقدها لقاء قرنة شهوان في 17 نيسان 2005 قبيل الإنسحاب السوري في 26 نيسان، بدأت تتوضّح معالم موقف غالبية تريد أن تلتحق بركاب الثنائي ألإشتراكي-المستقبل بإستسلام غير مشروط لقيادته. وكانت قيادة الثنائي معقودة لوليد جنبلاط الذي فرض نفسه قائداً أعلى لفريق 14 آذار، مستفيداً من خضوع أغلبية لقاء قرنة شهوان له (وقد حّولوه لقاء «قرنة الشهوات»). فأخذ يتنقل من عاصمة قرار إلى أخرى، مصطحباً معه هذا أو ذاك من قيادات «قرنة الشهوات»، للمطالبة بعدم تنفيذ البند الذي يدعو إلى «حل جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها»، في القرار 1559، معللاً موقفه بالقول أن هذا البند، إن نُفِّذ، يشكّل خطراً على النسيج اللبناني والعيش المشترك، ومطالباً أن يكون هذا البند بعهدة اللبنانيين. وفي الحقيقة، أن هذه المطالبة كانت المقدمة الضرورية لعقد الإتفاق الرباعي.
والبرهان على ذلك، أننا شاهدنا جنبلاط في إحتفال يوم التحرير في بنت جبيل في 25 أيار 2005 حيث قال نصر الله جملته الشهيرة «سوف نقطع اليد التي تمتد على سلاحنا». ولاقاه جنبلاط بالقول «إن حماية المقاومة هي حماية للذاكرة وحماية للوطن بعدما حققت هذا الإنجاز العربي والإسلامي الذي يتمثل بتحرير الأرض دون قيد أو شرط». ويعترف اليوم بعض شركاء جنبلاط بأن تبرير هذا الموقف كان مبنياً على تقدير آنذاك، تبيّن فيما بعد أنه كان خاطئاً على حد قولهم، أن لحزب الله وجه لبناني يجب المراهنة عليه. يا له من خطأ بسيط، ساهم بشكل ضخم بوضع لبنان على سكة المأساة الذي يعيشها اليوم، بدلاً من الإستفادة من زخم الوضع الدولي المؤاتي لإكمال مسيرة لبنان في تحقيق سيادته وحريته وتمكينه من بناء الدولة.
وكان لهذا التوجه لدى 14 آذار بإنتقاء حزب الله وأمل كشركاء شيعة، تداعيات سلبية على كل القوى الشيعية السيادية المناهضة لهما، إذ أنها لم تلقَ أي دعم من 14 آذار، لا بل نُبذت منها وبالتالي لم تتلقَ الدعم الكافي لتتمكن من تشكيل أي لقاء وازن يجمعها ويقوّي فعاليتها. وهنا لا بد من فتح هلالين لذكر كيف إستفاقت مؤقتاً 14 آذار في مناسبة ذكرى إغتيال رفيق الحريري في البيال بتاريخ 14 شباط 2011 على إثر إسقاط حكومة سعد الحريري في 12 كانون الثاني 2011 بإعلان إستقالة 11 وزيراً من ربع حزب الله ومؤيديه. فكان خطاب الحريري عالي النبرة تجاه حزب الله، ولأول مرة، كان أحد الخطباء من المعارضة الشيعية، الصديق المرحوم الدكتور محمد عبد الحميد بيضون.
وبعد أيام معدودة، التقيت سعد الحريري وتمنيت عليه أن لا تكون مشاركة محمد بيضون في المهرجان ظرفية، بل أن تكون فاتحة لعلاقات مستدامة مع المعارضة الشيعية مبنية على أرض صلبة وطنية سيادية.
في المقابل، تمسّكت الأقلية في لقاء قرنة شهوان، وكنت من أعمدتها، بضرورة إقرار قانون الـ 60 لما كان يمثل من تصحيح نسبي للتمثيل المسيحي بعد «تصحير» الساحة السياسية المسيحية في مرحلة الوصاية السورية، كما اقترحت التنسيق مع التيار الوطني الحر لتصحيح الخلل في التوازن المسلم-المسيحي والتوجه مجتمعين إلى التحالف الانتخابي السويّ مع الثنائي الإشتراكي-المستقبل، وذلك بالرغم من معرفة الجميع بما كان يحيكه عون مع قوى الممانعة. كما رفضت توجهات جنبلاط بما يخص الـ 1559 ومغازلته للثنائي الشيعي، وصولاً إلى التحالف الرباعي المشؤوم.
غير أن «الغولنة» السلطوية لأعضاء «قرنة الشهوات» المتوجسيين من عودة عون خوفاً من شراهته السلطوية، جعلتهم يدافعون دفاعاً مستميتاً عن توجهات جنبلاط بحجة واهية بأنه يحق لآل الحريري وشركائه أن يحددوا مسار الأمور لأنهم دفعوا الثمن الباهظ بإغتيال الحريري، وأن ليس علينا إلّا أن نواكبهم.
جرت الانتخابات وفقاً لقانون غازي كنعان، فخاضتها مجموعة 14 آذار، على قاعدة «التحالف الرباعي» المخالف للطبيعة، مُفرّطة بالظروف الدولية الإستثنائية الذي حظي بها لبنان للخروج من تحت سيطرة قوى الممانعة. ربح الثنائي الإشتراكي-المستقبل إنتخابياً، كما الثنائي الشيعي. وحصلت 14 أذار على 69 نائباً و 8 آذار على 57 نائباً (ومن ضمنهم 15 نائباً للتيار الوطني الحر بعد عقد تفاهم مار مخايل مع حزب الله في 5 شباط 2006). كما خاضت أطراف لقاء «قرنة الشهوات» الإنتخابات على لوائح مشتركة مع الثنائي الشيعي، بما فيهم قوات جعجع، وحصلت لوائحها على 30% من أصوات المسيحيين في حين حصدت لوائح عون 70 % منها.
إستياء البطريرك صفير من «قرنة الشهوات» بلغ حد أنه توّج عون قائداً للمسيحيين.
وأكملت 14 آذار طريقها وطريقتها الإنتهازية في التعاطي مع الظروف. فكان لنا أن نشهد مسرحية «إخراج جعجع من السجن بفضل جهودها المضنية»، في حين أنه كان أمر خروجه من المعتقل تحصيل حاصل بعد خروج سوريا-الأسد من لبنان.