المتصرفية.. لحن جديد للفدرالية!
الحراك الخارجي بين دول اللقاء الخماسي مستمر، بل وناشط على أكثر من صعيد، وآخر مشاهده سيكون لقاء القمة المرتقب بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، على هامش «قمة العشرين» في الهند.
وإجتماعات المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا والسفير وليد بخاري، مع الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، والمستشار الرئاسي في الأليزيه باتريك دوريل، الجارية في باريس، تُمهد للقمة السعودية ــ الفرنسية المنتظرة في الهند، والتي سيكون الوضع اللبناني في بنودها الأولى، بعد المحادثة الهاتفية التي جرت بين الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي الأسبوع الماضي.
ولكن المشاورات المكثفة في الخارج، تُقابل بتعثر ومراوحة في الداخل، على إيقاع خطابات التصعيد والتشنيج، وما تحمله من معاندة ومكايدة في التعاطي مع الإستحقاق الرئاسي، وبقية الأزمات التي يتخبط فيها البلد، منذ أربع سنوات، دون الأخذ بعين الإعتبار المخاطر المحدقة بالوطن، وتداعياتها على الناس، نتيجة تراكم تداعيات الإنهيارات المالية والإجتماعية والمعيشية.
الديناميكية التي أطلقتها دعوة برّي «للحوار والإنتخاب»، برَدت حماوتها مع عودة النشاط إلى الإتصالات الخارجية، بعدما إستقطبت دعوة رئيس المجلس النيابي تأييد ٧٨ نائباً، من مختلف الطوائف، ومن معظم المناطق، الأمر الذي أضفى عليها طابعاً وطنياً شاملاً.
ليس من السهل توفير الإجماع المنشود حول «الحوار والإنتخاب»، ولو تم الإلتزام بالأيام السبعة، أو أقل من ذلك، لأن مُكوّناً مسيحياً رئيسياً، ممثلاً بالقوات والكتائب، ما زال يرفض مبدأ الحوار بالمطلق، قبل إجراء الإنتخابات الرئاسية، بحجة أن تجارب الحوار السابقة كانت من نوع «الضحك على الذقون»، ولم تؤدِّ إلى النتائج المتوخاة منها، وكانت آخرها طاولة الحوار في بعبدا، والتى أسفرت عن «إعلان بعبدا»، بموافقة وتواقيع كل الأطراف المشاركة، بما فيها حزب الله، والذي كان أول المتراجعين عن هذا الإتفاق الذي أكد على تحييد لبنان عن نيران ما سمّي زوراً «الربيع العربي»، والتي كانت وصلت إلى الجارة سوريا.
ولكن ميزان القوى الداخلي لا يميل لمصلحة الرافضين للحوار بالمطلق، حيث تضارُب وجهات النظر، وتعدُّد المواقف، والحسابات الإنتخابية والأنانية، تؤدي إلى شرذمة صفوف المعارضة، وإضعاف تأثيرها على مجرى التطورات والأحداث اليومية. في الوقت الذي إستطاع فيه محور الممانعة، ليس المحافظة على وحدة الموقف بين أطرافه وحسب، بل أفلح في إستقطاب مجموعات من المستقلين إلى جانب «الحوار والإنتخاب»، مستفيداً من تناقضات المصالح الآنية والشخصية بين بعض النواب المحسوبين على المعارضة، مما رفع تعداد النواب المؤيدين لدعوة برّي، وأدى إلى ضمور حجم الرافضين.
الواقع أن الخطاب السياسي المحلي يدعو للشفقة، لأنه يؤكد إفلاس المنظومة السياسية، وعجزها عن إدارة أزمات البلد، التي تحاول إخفاء هذا الفشل وذلك العجز بطروحات شعبوية إستهلاكية، أثبتت تجارب سنوات الحرب المريرة عدم واقعيتها، بل إستحالة تنفيذ مضمونها، وفي مقدمتها الفيدرالية.
الطريف أن بعض الأطراف المسيحية ترفع شعار الفيدرالية، كلما ضاقت عليها السبُل في المعمعة السياسية، أو وجدت نفسها بحاجة لجرعة من «شد العصب»، لتحسين مواقعها في بيئتها الشعبية، وكأن الناس من السذاجة بمكان حتى تنطلي عليهم مثل هذه الأساليب الغوغائية، وكأن مثل هذا الكلام لا يشكل تهديداً للمسيحيين أنفسهم، بقدر ما قد يشكل إنذاراً للمسلمين.
والأكثر طرافة أن النائب جبران باسيل أدخل لحناً جديداً على نغمة الفيدرالية، عندما طرح العودة إلى عهد المتصرفية، وإختصار لبنان الكبير بـ «الجبل الكبير»، وإقتصار الصيغة الوطنية على الموارنة والدروز من أبناء الجبل،كما كان عليه الوضع قبل وبعد مجازر ١٨٤٠ و١٨٦٠، حيث توافقت الدول الأوروبية مع السلطنة العثمانية على تعيين عثماني غير مسلم ولا عربي حاكماً لمتصرفية جبل لبنان.
يطرح رئيس التيار الوطني هذا الشعار، وكأنه هو الطرف الوحيد الذي يقرر مصير «دولة لبنان الكبير»، بمعزل عن الشركاء الأساسيين في الوطن. ولعله غاب عن باله أن اللبنانيين جميعاً، لا يملكون أمر التلاعب بكيانهم وحدود بلدهم، الذي كان وليد الإتفاقيات الدولية بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وخاصة إتفاقية سايكس ـ بيكو، السيئة الذكر، بين بريطانيا وفرنسا.
يُضاف إلى كل ذلك، أن عواصم القرار الدولي، وخاصة دول اللقاء الخماسي، ليست بوارد فتح ملفات الخرائط الشائكة، في هذه المرحلة على الأقل، وأن جلّ المطلوب من اللبنانيين الإنصراف عن مثل هذه الترهات، والسعي الجدّي لمعالجة مشاكلهم المزمنة، بأكبر قدر من التوافق الممكن في ما بينهم.
«مرتا مرتا، إنّكِ تهتمين بأمور كثيرة وتضطربين… إنما المطلوب واحدٌ».
وسلام على السيّد المسيح عيسى بن مريم.