موت "الطائف" واحتضار الدستور: من يجرؤ على تحمّل العواقب؟
لا يزال الطائف يشكّل عقبة أساسية لقيادات وجماعات سياسية في الداخل اللبناني، والأهمّ أنّه بدأ يشكّل عقبة لقوى خارجيّة، لا ترتدع عن مخالفة القواعد الدستورية اللبنانيّة. والذي يساعد على محاصرة الطائف بعد أربعة وثلاثين سنة على إقراره، هو تبدّل موازين القوى الأمنية والديموغرافيّة، والإصرار الحثيث لبعض الدول على تعديله، أي لتغيير شكل النظام، بالرغم من أنّ مجلس الأمن يكرّر بشكل إنشائي المطالبة بتطبيق الطائف – ليس من باب الحرص على الدستور طبعاً بل كوثيقة تدعو لنزع السلاح خارج إطار الدولة.
تمّ بناء الطائف على أسس جوهريّة، تمّت مراعاة بعضها، وتمّ التغاضي قصداً عن بعضهاالآخر، حتّى تناسى الحكّام أنّ عدم تطبيق الطائف يشكّل انتهاكاً للدستور الذي يعبّر عن روح الجماعة. ارتكز الطائف على الهوية الثقافية اللبنانيّة التعدّدية، وعلى المناصفة ما بين المسيحيين والمسلمين في الحكم، وعلى مبدأ إلغاء الطائفية السياسية، وعلى تحريم التقسيم والتوطين ونبذ الفيدرالية، وعلى نزع سلاح الميليشيات وحصر السلاح بيد الدولة وحدها فتبسط سيادتها على كافّة الأراضي.
من الويلات التي أصابت الطائف
عجز الطائف عن تأمين نظامٍ يضمن السيادة اللبنانية الداخلية والخارجيّة. على مستوى السيادة الداخليّة، لم تلتزم كافة الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية بقرار تسليم سلاحها للدولة؛ بل تمّ تسليح بعضها وشرعنة بعضها الآخر، وكأنّ الطائف لا يستطيع بناء الدولة القادرة، فتمّ تصويره مثالاً للدولة العاجزة. على مستوى السيادة الخارجيّة، أهمّ ما كان يُنتظر من اتفاق الطائف، انسحاب الجيش السوري من لبنان ووضع حدّ للوصاية. لقد تمّ انسحاب أربعين ألف جندي سوري بعد ستة عشر عاماً على إبرام الطائف، ولكن تحت ضغوط مجلس الأمن وليس تطبيقاً للاتفاق. إلّا أنّ الاستلشاق بالدستور، أدّى إلى إعادة دخول مليونين ونصف مهاجر سوري إلى لبنان بلباس مدنيّ!
تتعرّض الدولة لاعتداءات عسكرية إسرائيلية بشكل دائم فيما نظام الردع غير كافٍ بسبب عدم الموافقة على تسليح الجيش كما يجب وبسبب عدم حصريّة المرجعية الأمنيّة، حيث خضع قطاع الأمن والدفاع للمحاصصة، وصولاً إلى محاولات حثيثة لوضع اليد سياسياً على قيادة الجيش اللبناني، لكي يصبح أداة سياسية مطواعة لمشاريع مشبوهة. إنّ ضرب السيادة اللبنانية، شكّل أول مسمارٍ في نعش الطائف.
أمّا لناحية عمل المؤسسات الدستوريّة، فأمعنت القيادات السياسية بالتطبيق الاستنسابي والاكتفائي والكيفي للدستور، حتّى توصّلت إلى ابتداع أعراف دستورية جديدة، كديمقراطية التعطيل، وديمقراطية التغيُّب، وديمقراطية الفراغ. ابتدع الطائف نظاماً دستورياً يقوم على المشاركة والشراكة بحسن نيّة، فتمّ استبداله بنظام الشركة القائم على تجميع المكاسب على أنواعها. المؤسف، أنّ نقطة ارتكاز نظام الطائف كانت دائماً خارج الحدود. والمحزن، أنّ آلية الرقابة الدستورية التي وضعها الطائف، خضعت للتسييس والتعطيل، حتى لم تقبل السلطة السياسية بإعطاء المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور كما جاء في وثيقة الوفاق الوطني، وصولاً إلى عدم إقرار مشروع استقلالية القضاء حتى يبقى مرفقاً خاضعاً للسلطة التنفيذية، خلافاً لمبدأ فصل السلطات.
خَلَقَ أداء القيادات السياسية الميليشياوي الإلغائي، صراعاً ما بين ميثاق العيش المشترك وبين إلغاء الطائفية السياسية، فكانت نقطة الانطلاق، تهميش شريحة كبيرة من اللبنانيين وإقصائها بالقوّة عن الحكم، ووضع قانون انتخابات عشائري يؤجّج الصراعات المذهبية ويشّجع الفساد. فبدلاً من إنشاء مجلس للشيوخ، تمّ إنشاء مجالس تنفيعات يؤمّن تمويل بعض الميليشيات المسلّحة والميليشيات المدنية في الحكم.
قتل الطائف عمداً
يقوم الطائف على أربع ركائز رئيسة: انتظام عمل المؤسسات الدستورية، ميثاق العيش المشترك، ضمانة موازين القوى، وحصر السلاح بيد الدولة. إنّ تضارب مصالح الدول الراعية للطائف واختلافاتها على وقع حرب الخليج الأولى، أدّت إلى تلزيم لبنان لنظام الوصاية. استفاق عرابو الطائف متأخرين، حيث لم يعد ينفع تطبيق الدستور، إذ ارتكزت موازين القوى على معيار السلاح، وبعد سقوط نظام الوصاية لجأت القيادات السياسية ضائعة لتطبيق الدستور عبر منهج الاختلاف المشترك، القائم على تفسير اعتباطي للعيش المشترك يقوم على ديمقراطية هجينة: الديمقراطية الإجماعيّة، كشكلٍ من أشكال الديمقراطيات الصّوَريّة لنظام الحزب الواحد. يتضارب نوع هذه الديمقراطية وروح الدستور، فنتج عنها معادلة جديدة: الإجماع مقابل التعطيل والإجماع أو الفوضى. الإبقاء على هذه المعادلة، أوصل إلى إفراغ المؤسسات الدستورية، وإلى تفكّك أصول الدولة حتى اندحارها. ولمّا شكّل الدستور عقبة جوهريّة تمّ تعليق تطبيقه، وبدأ يحتضر حتى تمّ إفساده بتشريعات إجماعية قائمة على الصفقات والمحاصصة.
نحو طائف جديد؟
لا يصلح الطائف كنظام حُكمٍ لمجتمع جديد قائم على موازين قوى جديدة، بسبب الوجود الطارئ والمستدام للمهاجرين السوريين الذي يؤثر على التوازنات الديموغرافية. إنّ فرض جماعة كبرى غير لبنانيّة يتعدّى عددها نصف سكان لبنان، يؤسس حتماً لنزاع سنيّ شيعيّ لا تحمد عقباه، ويعود لبنان ساحة حرب تحت عناوين عدّة، أبرزها: استنهاض أكثرية سنيّة بوجه نفوذ حزب إيران. هذا النزاع سيؤدّي إلى تشتيت الساحة السنية اللبنانية وتقسيمها حتى الزوال، في حين أنّ المسيحيين سيدفعون كما دوماً فاتورة السيادة والحريّة. إنّ استغلال الهويّة الطائفية لهذه الجماعة التي استقرّت في لبنان بغطاء دولي قلّ نظيره، لا يشكّل حلاً للإحباط السنيّ - بالرغم من الصلاحيات الواسعة التي وهبها الطائف لرئيس الحكومة السنّي، علماً أنّ دروس الحرب التي بنيت عليها وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) لا تؤمن بحلّ موضوع السلاح خارج إطار الدولة بالسلاح، وكيف إذا كان أيضاً غير لبناني؟ إنّ توطين المهاجرين السوريين في لبنان خلافاً للدستور يشكّل آخر مسمارٍ في نعش الطائف. عندما يموت الطائف، ليس بالمستطاع خلق طائف جديد، حيث أنّ لبنان يشهد عقداً اجتماعياً جديداً قائماً على تركيبة مجتمعيّة سياسيّة جديدة وفقاً لمعيار اندماج الشعب السوري، حتى تطبيق مقولة شعب واحد في بلدين وصولاً في المستقبل إلى شعب واحد في بلدٍ واحد. ضمن فيدرالية؟!
من يجرؤ على تحمّل عواقب اغتيال الطائف الذي يؤدي إلى الموت السريري للدستور اللبناني؟ إنّ قتل الهويّة الثقافية اللبنانية بهدف التقسيم عبر التوطين، سيحقّق مآرب الدول العدوّة التي تسعى إلى شطب بلد الرسالة والحوار عن الخارطة، خصوصاً أنّه قد تمّ وضعه خارج خطوط التجارة العالميّة الصينية والأميركية، حتّى ينتهي تقسيم الدويلات في مناطق النزاع التي أصبح لبنان من ضمنها! وما زال بعض الساذجين لا يبرحون يحاولون اقتراح أسماء مُطيعة للرئاسة اللبنانية فيساهمون بتعبئة الفراغ المطلوب.