الاستقلال المعلق.. الاستقلال المستحيل
مرت على لبنان في الساعات الماضية الذكرى الـ80 لإعلان نيله الاستقلال، وسط ظروف ومعطيات بالغة الصعوبة والغرابة، تحمل معها كل عناصر الاستقلال وفي الوقت عينه كل عناصر اللااستقلال والتخبط والضياع. ولعلها أكثر فترة في تاريخ هذه البقعة الجغرافية والسياسية المسماة لبنان تسيطر فيها حالة اللايقين لدى أغلب فئات المواطنين والاطراف المعنية والمتصلة بهذا البلد.
إذا كان الاستقلال، صفة تطلق على تمتع أبناء شعب أي بلد بحرية القرار والخيار والاتجاه، فيمكن القول إن هذه الحالة بعيدة جداً عن حالة الشعب اللبناني. إذ يمكن إطلاق على لبنان اليوم كل الصفات إلا صفة الاستقلال الوطني، فحالته الراهنة موضوعة بين أيدي نخبة من المافيات وأوصياء دوليين وإقليميين، هم يقررون بحاله وبأمره من مختلف النواحي، بعد الانتهاء من صراعهم ومواجهاتهم.
في الأساس، الشعب اللبناني لم يقرر صيغة لبنان الوطن، بل إن لبنان الحالي تشكل بفعل قرار ومصالح الانتداب الفرنسي البريطاني، في المنطقة. ولبنان الحالي بحدوده الراهنة ولد نتيجة سايكس بيكو.
أكثر من ذلك، فإن أساس النظام الطائفي والمذهبي في لبنان المتصرفية، كان نتيجة قرار مؤتمر دولي بعد فتنة 1840 و1860 .
الشعب اللبناني تعامل مع الوقائع التي وجد نفسه في خضمها. أو قبِل وتعايش مع الصيغة التي وُضع فيها، وأُسقطت عليه، وقام بالتأقلم وتطوير عيشه فيها.
حتى أن التوصل إلى صيغة الميثاق الوطني اللبناني عام 1943 ونيل الاستقلال عن فرنسا، كان نتيجة لنضوج وطنية لبنانية مسيحية - إسلامية، بتقاطع مع وطنية عربية محيطة، استفادت من التناحر والتنافس الفرنسي الإنكليزي للوصول إلى صيغة الحكم والاستقلال.
صحيح أن رجال الاستقلال، مسيحيين ومسلمين، قد شبكوا أيديهم بأيدي بعض لإنتاج تسوية الميثاق الوطني، لكن الأمر لم يتم بوحي لبناني صاف، بل نتيجة تقاطعات مصالح ورؤى محلية عربية دولية، أنتجت الاستقلال عن فرنسا وعن العرب.
المقصود في الكلام، هو أن استقلال لبنان كان على الدوام مسألة أو معادلة ناقصة وغير مكتملة العناصر، تماماً كما هي تجارب أغلب المجتمعات المتنوعة المختلفة والمتباينة، والواقعة على مفترقات وتقاطعات دولية حساسة.
الاستقلال الأول الذي ولد نتيجة تسوية بين سلبيتين (لا للانتداب ولا للوحدة مع العرب) سرعان ما واجه أول اختبار صعب عام 1958 في أول افتراق وتباعد وامتحان حاد للوطنية والاستقلال، نتيجة تنافر وتقاطع محلي إقليمي، حيث تم أول إنزال عسكري أميركي في لبنان، في عملية أطلق عليها "الخفاش الأزرق". وذلك بطلب من الرئيس كميل شمعون. فأصيب الاستقلال إصابة بليغة وعميقة. لم يشف منها إلا بعد تسوية إقليمية دولية أنتجت انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.
تم تركيز وتثبيت التسوية في اجتماع الخيمة التاريخي على الحدود اللبنانية السورية بين عبد الناصر وفؤاد شهاب في آذار 1959.
أساس التسوية التي نسجت في الخيمة أن لبنان دولة مساندة في المواجهة مع العدو الإسرائيلي، يتم احترام خصوصيته والحفاظ على استقلاله وحماية تركيبته الهشة والضعيفة. في المقابل، فهم لبنان أنه لا يمكن أن يكون خارج الإجماع العربي أو في مواجهته.
الطعنة العميقة لاستقلال لبنان المعد والمركب ولتلك التسوية، تلقاها بفعل انعكاس موازين القوى المحلية الإقليمية عليه وخضوعه لها، عبر قبوله باتفاق القاهرة العام 1969، حين مُنحت منظمات المقاومة الفلسطينية حرية العمل المسلح ضد إسرائيل انطلاقاً من لبنان.
هنا يمكن اعتبار أن الاستقلال الشكلي للبنان، الذي كان علق نتيجة إنزال "الخفاش الأزرق"، أعيد تعليقه ووضعه جانباً عبر "اتفاق القاهرة" وعمليات المنظمات الفلسطينية المسلحة ضد إسرائيل انطلاقاً من لبنان. حين انفجرت الحرب الأهلية والمواجهة الدموية الداخلية عام 1975، عبر شرارة عين الرمانة المشؤومة، كانت تمثل لحظة انفجار وتداعي الاستقلال الأول بصورة صارخة وحادة.
منذ ذلك التاريخ تم تقاسم لبنان بين والي عكا ووالي الشام وبينهما البندقية الفلسطينية، انطلاقاً من عملية دلال المغربي واجتياح العام 1978 وصدور القرار الدولي 425. الذي بقي حبراً على ورق حتى أجبرت المقاومة الوطنية المسلحة، الممثلة بحزب الله، اسرائيلَ على تنفيذه بالقوة والانسحاب هرولة من لبنان في أيار العام 2000.
بعد الأخوة والمونة العربية الشقيقة، تنامت منذ ذلك اليوم الإحاطة الإيرانية اللصيقة للبنان.
مرد هذا الكلام القول إن الاستقلال في لبنان مسألة نسبية وعملية مركبة، ولم تكن مرة معادلة أو مسألة مكتملة وناجزة، وفي أحسن الأوقات كانت معادلة تشاركية محلية إقليمية دولية. وعلى اللبنانيين الاعتراف والإدراك أن استقلالهم -ونتيجة لموقع لبنان الجيوسياسي- كان وسيبقى عملية ومعادلة مرتبكة ومطلوبة ومفقودة، وبحاجة إلى جهد وتعب وصراع ودم ودموع.
شهدت الحرب الأهلية اللبنانية محاولات عدة فاشلة لإعادة صياغة الاستقلال اللبناني وترميمه، إلى أن وصلت بنجاح إلى اتفاق الطائف، الذي شكل ذروة المحاولات الناجحة لإعادة صياغة عقد داخلي بين اللبنانيين، برعاية عربية معنية ومهتمة عموماً وموافقة وتغطية دولية شاملة. وهو الاتفاق الوحيد في المنطقة العربية الذي أعاد صياغة أسس كيان وصيغة عقد عيش مشترك لفئات متعددة متنوعة الأمزجة والرغبات، في مجتمع مركب في مكان جغرافي واحد.
الاحتقان والحشد العسكري الدولي الراهن في المنطقة والعالم يكشف عن لحظة تضمر وتتراجع فيها حتى القوى الإقليمية المؤثرة. وقد أظهرت تصرفات ومواقف أقوى قوتين إقليميتين في المنطقة، أي تركيا وإيران، مهابة واحتساباً وتحوطاً ورهبة دقيقة، للتطورات والمواقف، فكيف الحال إزاء لبنان.
وليس أدل على ارتجاج وتموج وهزالة وضعف الاستقلال في لبنان، سوى ما فاضت عنه زيارة الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين، وحديثه حمال الأوجه عن التهدئة والترسيم البري، قابله بعد أيام زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان وحديثه في المطار، محاطاً بممثلي حماس والجهاد الإسلامي، من دون علم أو موافقة الدولة اللبنانية، عن معاقبة إسرائيل على أفعالها.
فلا الموفد الأميركي طلب موافقة لبنان أو أخطره مسبقاً حول الحديث عن ترسيم برّي، ولا الوزير الإيراني المقدام، اهتم لموقف لبنان الشعبي والرسمي من اصطحابه وإحاطته نفسه بممثلي حماس والجهاد الإسلامي، أمام عدسات الكاميرا لدى وجوده في المطار.
من الصعب على لبنان أن ينعم بالاستقلال الناجز الكامل، في أي يوم من الأيام.
التجربة، تقول إن العيش والاستقلال، في هذا الوطن وحسب الممارسة، هي مسألة نسبية تحتاج باستمرار إلى إعادة اختراع وتحمل مستمر وابتكار يومي وصيانة دائمة ومتوالية ومثابرة. أما الاستقلال الثابت والدائم والمكتمل فهو معلق بصورة دائمة ومستمرة، ومسألة نسبية بل ومستحيلة.