لقاء مع الدكتور خالد قباني حول الذكرى الرابعة والثلاثين لاتفاق الطائف

النوع: 

 

*المُحاورة: أهلا بكم مستمعينا الاعزاء إلى هذه الحلقة الخاصة، التي نجريها بعيدا عن حرب غزة وأحداث المنطقة، لمناقشة إتفاق الطائف في ذكراه الرابعة والثلاثين، مع منْ كان مشاركا فيه وهو الوزير السابق الدكتور خالد قباني أهل وسهلا بك.

- د.قباني:أهلا بك.

* المُحاورة: الحلقة اليوم مخصصة للحديث عن اتفاق الطائف، وهو الاسم التي تُعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وُضِعت بين الاطراف المتنازعة في لبنان، وذلك بوساطة سورية-سعودية وبرعاية أميركية ودولية في الثلاثين من أيلول/سبتمبر من العام 1989 في مدينة الطائف، وأقرّه لبنان بقانون تاريخ الثاني والعشرين من تشرين الاول/اكتوبر 1989 مُنهيا الحرب الاهلية اللبنانية، وذلك بعد أكثر من خمسة عشر عاما على اندلاعها.

بعد أربعة وثلاثين عاما على الاتفاق، ما الذي طُبّق وما الذي لم يُطبّق ولماذا؟ ما هي المعوقات أمامه، وهل ما زالت مفاعيله قائمة، أم أصبح بحاجة إلى تعديلات؟ هل كان الاتفاق فقط لوقفْ الرصاص والمدفع أم أكثر من ذلك؟ منْ هي الدول الراعية، وهل دخلت دول جديدة على المعادلة اللبنانية لتغيّر بنود هذا الاتفاق؟ هل تغيرت موازين القوى ولصالح منْ وعلى حساب من؟ ما هي نقاط الضعف في الاتفاق ولماذا لم يتم وضْع معايير أو إجراءات تطبيقية مرتبطة بفترات زمنية محددة؟ والسؤال الابرز منْ لا يريد تطبيق الطائف؟

فلنبدأ  دكتور خالد من هذا السؤال: هل كان اتفاق الطائف فقط لوقفْ الرصاص والمدفع أم أكثر من ذلك؟

- د.قباني: إتفاق الطائف تمّ أولا وأساسا بإرادة اللبنانيين. وهذا الاتفاق جاء إستجابة لصرخة اللبنانيين في كل المناطق اللبنانية: أنْ أوقفوا الحرب وأوقفوا الدمار والخراب وقتل الناس. هذا الاتفاق جاء بعد حرب أهلية بدأت سنة 1975 ولم تنته إلا بإقراره في 22 تشرين الاول سنة 1989 عندما وافق النواب في المجلس النيابي في آخر جلسة للنواب الذين كانوا في الطائف،  وذلك يوم السبت عند الساعة الحادية عشر إلا ربعا، برئاسة الرئيس حسين الحسيني حيث وبعد قراءة بنود الاتفاق في الجلسة النيابية تلك التي ضمّت إثنين وستين نائبا، وافق إثنان وخمسون نائبا على وثيقة اتفاق الطائف وجرى إقراراه. وقد تحفظ الدكتور حسن الرفاعي عليه ولم يرفضه. أمّا الذي رفضه فهما النائبان زاهر الخطيب وتوفيق عساف.

إن هذا الاتفاق جاء تلبية- أعود وأكرر- لمطلب اللبنانيين من أجل وقف الحرب و...

* المُحاورة:هو كان فقط لوقف الحرب؟ هو فعليا أصبح دستورا، وفيه بنود مطلوب أن يكون هناك إلتزام بتطبيقها. هل تقصد أن الحرب استمرت ولكن بشكل غير عسكري؟

- د.قباني: أنا قلت إن إتفاق الطائف هذا خلافا لما أُشيع في بعض الوقت، جاء تلبية لإرادة اللبنانيين بوقف القتال، لأن القتال وصل إلى مرحلة عبثية. فبعد مرور 15 سنة على الحرب، لم يستطع أي فريق من الافرقاء اللبنانيين أن ينتصر فيها. وقد استنفذ كل فريق منهم، كل طاقاته وإمكانياته إلى درجة كبيرة، وأصبحوا يشكلون خطرا على المنطقة، إن لم نقل على الامن والسلام الدولييّْن.

*المُحاورة: البعض يعتبر أن لبنان خلال الخمسة عشرة عاما كان ساحة لإرسال الرسائل بين الاطراف، وأنه كان يوجد أطراف غير لبنانية دخلت في المعركة كالطرف الفلسطيني والسوري وغيرهما. أنا أريد الكلام عن هذا الاتفاق بالتحديد. بمعنى عندما أوقفنا الرصاص هل أراد المتقاتلون اللبنانيون أن يبنوا البلد فعليا؟

- د.قباني: دخلتِ في الموضوع الاهم. ولكن فلنقل إن إرادة اللبنانيين في وقف القتال هي الارادة التي أثّرت في الموضوع، وهي التي طُبِّقت في نهاية الامر. تصوري كنت موجودا في مدينة الطائف وشاركتُ في اللجنة ال 17 التي سمّاها الرئيس الحسيني، وكنت موجودا وحضرت كل الجلسات وكل المحاضر كتبتها أنا في ذلك الوقت. وعندما أُقرّ إتفاق الطائف في تلك الجلسة الشهيرة عند الساعة 11 إلا ربعا، كان هناك تواصل مباشر بين النواب وبين كل السياسيين الموجودين على الساحة اللبنانية.

الكل بشكل أو بآخر كانوا مشاركين في إقرار هذا الاتفاق، لأن التواصل كان متوافرا فيما بين السياسيين والنواب.

إذًا عندما أُعلِن عن إقرار اتفاق الطائف عند الساعة الحادية عشرة إلا ربع، كان يومها يوجد شرقية وغربية، وكانت الحواجز التي تفصل بين الشرقية والغربية في العاصمة بيروت لا تزال موجودة. عند الساعة الحادية عشرة تماما من ذلك اليوم، لم تعد هناك حواجز، فُتحت المعابر واجتاح الشعب اللبناني كل الحواجز، ليؤكد أهمية هذا الاتفاق، وليؤكد أهمية العيش المشترك، وأن اللبنانيين بانتهائهم من الحرب، يريدون بناء دولة حقيقية قائمة على الحرية والمساواة. دولة تليق باللبنانيين. دولة قانون ومؤسسات ودولة حق. هذا ما كان يتوق إليه اللبنانيون من مختلف المناطق، سواء الذين شاركوا في الحرب أم الذين لم يشاركوا فيها. ومن حسن حظ  اللبنانيين أن إتفاق الطائف جاء في مدار عربي وإقليمي ودولي ملائم. ولكن لولا هذه الارادة الجامعة من قِبل اللبنانيين لما كان هذا الاتفاق على الاطلاق. عموما، كان هناك مناخ إقليمي ودولي بإطفاء بؤر التوتر في المناطق المختلفة في العالم. بؤر التوتر التي حوّلت ساحات بعض الدول الضعيفة والمنهكة والمنقسمة على نفسها إلى ساحات للتقاتل. ولكن تبيّن فيما بعد للدول الراعية لهذه الحروب العبثية التي كانت تجري، أنها لن تجدي نفعا، وأنه لا يمكن إطلاقا من خلال الحروب الاقليمية والحروب المحلية أن نصل إلى سلام، بل على العكس من ذلك. لذلك توافر مناخ ملائم لمجيء إتفاق الطائف في تلك المرحلة الزمنية التي شاركتْ فيها كل الدول.

*المُحاورة: هل صحيح أن تلك الدول الاقليمية والدولية هي التي كلّفت سوريا برعاية تطبيق هذا الاتفاق؟

- د.قباني: لم يكن هناك تكليف لا مباشر ولا غير مباشر. كان هناك جوّ عام.

*المحاورة: هل يعني ذلك أن اللبنانيين لا يعرفون تطبيق هذا الاتفاق لوحدهم، بحيث لجأت دول عربية وإقليمية إلى تكليف سوريا بمعنى ما للإشراف على عملية التطبيق؟

- د.قباني: لم يكن الامر فيه تكليف. كان هناك دعم عربي آت من جامعة الدول العربية، ولم يأت هذا الدعم من خلال تكليف دولة معينة كسوريا أو غيرها. هو إتفاق أتى تحت رعاية العرب. والقرار صدر عن جامعة الدول العربية في شهر أيار من العام 1989 في مجلس الجامعة حيث اتُّخِذ قرار بتشكيل لجان. اللجنة الاولى وهي اللجنة السداسية التي تشكلت من ستة وزراء خارجية، لم تصل إلى نتيجة، وكانت برئاسة الامير صباح الاحمد الصبّاح وزير الخارجية الكويتي آنذاك، الذي حاول أن يجمع كل الاطراف اللبنانية المتقاتلة مع المسؤولين اللبنانيين لوضع حلول لهذه الحرب وإنهائها، ففشل مسعى هذه اللجنة بعد  محاولات إستمرت لمدة ستة أشهر.

بعد ذلك تم تشكيل لجنة تتألف من ثلاثة رؤساء دول عربية، هم الملك فهد والملك الحسن الثاني والشاذلي بن جديد. وعلى هذا الاثر أُرسل الاخضر الابراهيمي إلى لبنان، ليتواصل مع كل القوى السياسية في لبنان، من أجل وضع حل لهذه الحرب اللبنانية، بعد التوافق مع كل الاطراف. وتمت الدعوة عند ذلك للنواب اللبنانيين إلى الانتقال لمدينة الطائف في المملكة العربية السعودية، من أجل إيجاد حل مناسب لوقف الحرب، وبالتالي إعادة بناء ما هُدِّم في لبنان.

*المُحاورة: دكتور خالد قباني، دعنا ندخل إلى بنود إتفاق الطائف، ما الذي تغير في الدستور اللبناني عمليا وتمّ تطبيقه في اتفاق الطائف، وما الذي لم يستطع لبنان أن يطبقه من هذه البنود ولماذا، هل كان هناك إستنساب فيه، أم كان هناك أولويات عند اللبنانيين للبدء بتطبيقها وفق هذا الاتفاق؟

- د.قباني: المشكلة أنه كان هناك معوقات في تطبيق إتفاق الطائف، منذ البداية. فبعد عودة النواب من الطائف وُضع بالاتفاق مع الاخضر الابراهيمي برنامج لتطبيق هذا الاتفاق، يبدأ أولا بإقراره من مجلس النواب، حيث دُعي مجلس النواب إلى مطار القليعات لأنه لم يكن باستطاعتهم الاجتماع في بيروت، وعقدوا اللقاء في المطار. والجلسة الاولى من هذا اللقاء عُقدت في الخامس من تشرين الثاني من ذلك العام، وأُقر إتفاق الطائف من قبل مجلس النواب بالإجماع. وبعد إقرار هذا الاتفاق حصلت جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية وفقا للاجندة التي وضعها رئيس مجلس النواب مع الاخضر الإبراهيمي ومع اللجنة الثلاثية. حيث تم انتخاب الرئيس رينيه معوض، وتم اغتياله في العام نفسه في 22 تشرين الثاني في ذكرى عيد الاستقلال. ثم جرى انتخاب الرئيس الياس الهراوي.

بعد انتخاب الرئيس الهراوي وفقا لجدول أعمال إنتخاب رئيس للجمهورية، تمَّ تشكيل حكومة في منطقة شتورة برئاسة الدكتور سليم الحص، وبعد الانتخاب كان من المفترض أن يتم وضْع مشروع قانون دستوري يُعدَّل فيه الدستور اللبناني، وفقا لوثيقة إتفاق الطائف. ولكن لم يوضع هذا المشروع إلا بعد مرور سنة على إقرار الطائف، فجرى وضع هذا المشروع بتعديلاته الدستورية، وقد كلَّفَنا الرئيس الحص به حيث تم وضعه بكل صدق وأمانة، وفقا لمندرجات وثيقة الوفاق الوطني الدستورية. وعند إنجاز هذا المشروع، حملتُه إلى الرئيس الحص الذي دعا إلى إنعقاد جلسة لمجلس الوزراء، حيت تمّت الموافقة عليه من قبل كل أعضاء مجلس الوزراء. بعد ذلك حوّل الرئيس الحص هذا المشروع إلى رئيس مجلس النواب حسين الحسيني الذي شكّل بدوره لجنة من النواب القانونيين بصورة خاصة، كان هناك بطرس حرب ونصري المعلوف، ومجموعة كبيرة من نواب ووزراء ضالعين في القانون الدستوري. وأنا قد دُعيت يومها إلى هذه الجلسة، وطرحتُ مشروع القانون الدستوري هذا على أعضاء  اللجنة وجرى نقاشه والموافقة عليه بدون أي تعديلات.

بعد ذلك دعا رئيس مجلس النواب إلى إنعقاد جلسة نيابية عامة في 21 أيلول 1990 لمناقشة التعديلات الدستورية التي أقرها مجلس الوزراء واللجنة النيابية المختصة، وبعد المداولة تمّت الموافقة على هذا المشروع باستثناء بند واحد.

* المحاورة: ما هو هذا البند؟

- د.قباني: البند المتعلق بالمادة 19 من الدستور المعدل التي تتعلق بصلاحيات المجلس الدستوري. ففي هذا المشروع ورد في المادة 19 إن صلاحيات المجلس الدستوري تخوله تفسير الدستور والنظر في دستورية القوانين والبت في النزاعات المتعلقة في الانتخابات الرئاسية والانتخابات النيابية. إعترض وقتها الراحل جورج سعادة على هذا البند المتعلق بتفسير الدستور وقال إن تفسير الدستور لا يجب أن تتولاه أي هيئة قضائية، وإن هذا التفسير يجب أن يبقى من صلاحيات مجلس النواب. آزره في هذا الموقف النائب بطرس حرب و...

*المُحاورة مُقاطعة: النائب بطرس حرب أيّد أن يكون تفسير الدستور من صلاحيات مجلس النواب؟

- د.قباني: نعم أيّد بطرس حرب جورج سعادة ضد إنتزاع هذه الصلاحية من مجلس النواب مطالبا بإبقائها للمجلس النيابي.

*المحاورة: نفهم من كلامك أنّ جورج سعادة وبطرس حرب، كانا مع أن يبقى تفسير الدستور من صلاحية مجلس النواب؟

-د. قباني: نعم صحيح.

*المحاورة: وما موقفك أنت دكتور خالد؟

- د. قباني: أنا مع أن يكون تفسير الدستور من صلاحيات المجلس الدستوري. ذلك لأن المجلس الدستوري هو هيئة قضائية عليا تستطيع بتجرد أن تبحث في المواضيع الدستورية بعيدا عن السياسة وعن أهواء أهل السياسة، في حين دلّت التجربة  خلال كل هذه الممارسات أنّ مجلس النواب- عندما طُرحت كل المشاكل عليه بغية تفسير الدستور- لم يستطع أن يفسر الدستور بما يؤدي إلى حل للمشكلات والنزاعات التي طرحتها المنظومة السياسية.

*المحاورة: حضرتك كنت في الإجتماعات التي شهدتها مدينة الطائف، هل كان النواب الذين ناقشوا هذه المادة مع إعطاء صلاحية تفسير الدستور إلى مجلس النواب، أم إلى المجلس الدستوري؟

-د. قباني: كانوا مع المجلس الدستوري، فقد وافق النواب المجتمعون في الطائف على هذا البند بالإجماع.

*المذيعة: ما الذي غيّر رأي البعض منهم عندما عادوا إلى لبنان؟

-د. قباني: مجلس النواب يتمتع بالسيادة، وبالتالي لا يجوز لأي هيئة حتى ولو كانت هيئة قضائية أن تراقب أعمال مجلس النواب، لأن هذا الموضوع يتعلق بالسيادة التي تعود لمجلس النواب الذي يمثل الشعب. فلا يجوز أن تكون هناك إرادة فوق إرادة الشعب أي فوق إرادة مجلس النواب الذي يمثل الشعب. كان هناك نظريات في ذلك الوقت. والمشكلة أن مجلس النواب يمثل قوى سياسية معينة، وبالتالي قد تأخذ الاهواء السياسية دورها في هذا السياق ويُفسَّر الدستور تفسيرا له طابع سياسي مصلحي يختلف بين القوى السياسية، ولا يمكن لهذه القوى أن تتوصل إلى نتيجة معينة أو إلى إجماع حول مفهوم معين لأي نص من النصوص الدستورية، وقد برهنت الاحداث خلال هذه الفترة الطويلة أن مجلس النواب غير قادر على أن يفسر الدستور بما يؤمّن الحق والقانون وبما يؤمّن المصلحة العامة.

*المحاورة: دكتور خالد، البنود الاساسية التي تم تطبيقها من اتفاق الطائف، أيّ منها هي الاساس باعتبارك، وهل طُبِّقت كما نص عليه الدستور وكما أراد المشرّع لها وكل الذين كانوا في اجتماع الطائف؟

-د. قباني: المشكلة ليست في إتفاق الطائف ولا في نصوص الدستور، المشكلة في تطبيق إتفاق الطائف. وذلك لأنه كان يوجد محاولات لإعاقة تطبيق هذا الاتفاق منذ البداية.

*المحاورة: من قبل من؟ من قبل الذين لم يوافقوا على اتفاق الطائف؟

-د. قباني: من قبل كل القوى السياسية التي كانت موجودة في الساحة.

*المحاورة: حتى الذين وافقوا عليه؟

-دكتور قباني: نعم حتى القوى التي وافقت عليه. وكان يوجد في الوقت نفسه إجتزاءً لاتفاق الطائف، لم يُطبق بكامله، بل طُبق بصورة مجتزأة. وما طُبِّق منه بصورة مجتزأة طُبِّق بطريقة تخالف أحكامه وتخالف روحه.

*المحاورة: ألا تعتقد أنه كان من الخطأ عدم تحديد مهل زمنية للتطبيق، ألم يكن ذلك من نقاط الضعف في اتفاق الطائف، بأنه لم يحدد مثلا مُهلا في موضوع قانون الانتخاب، وبموضوع إلغاء الطائفية السياسية وبموضوع مجلس الشيوخ، وباللامركزية الادارية؟ ألم يكن هناك في كل هذه البنود خطأ بعدم تحديد مهل زمنية معينة لتطبيقها؟

-د.قباني: كان من الممكن تحديد فترات زمنية معينة، لكنّ المشكلة ليست في تحديد المهل. المشكلة ليست هنا.

*المحاورة: أين هي المشكلة إذًا؟

-د. قباني: هناك إحترام للدستور وللأحكام التي وردت في هذا الدستور، وليس في كيفية التطبيق والالتفاف على الدستور. سأورد لك مثلا عن ذلك. في إتفاق الطائف حسب الدستور، عندما يتخذ مجلس الوزراء قرارا معينا، فإن هذا القرار يُرفع إلى رئيس الجمهورية، ويستطيع رئيس الجمهورية أن يعترض عليه خلال 15 يوما. والمفروض بالوزراء المختصين من الذين وافقوا على قرار مجلس الوزراء وينتظرون صدوره في مرسوم، الإعتراض لأنه لم يتم تحديد مهلة للوزراء، بل تم تحديد مهلة لرئيس

 الجمهورية. مثل هذه المهل ليست مشكلة دستورية، فقررات مجلس الوزراء هي قرارات مُلزِمة للوزراء، وليس الوزير مُخيّرا بين تطبيق القرار وعدم تطبيقه، ذلك لأن مجلس الوزراء هو الذي يتولى السلطة التنفيذية، من هنا فعندما تصدر قرارات مجلس الوزراء بالاكثرية، يجب فورا أن يتم تطبيقها، حيث يصار إلى إصدار مرسوم تطبيقي للقرار يوقّع عليه الوزراء المختصون، ويوقّع عليه رئيس الوزراء ويُرسَل إلى رئيس الجمهورية، وخلال 15 يوما يستطيع رئيس الجمهورية أن يرده إلى مجلس الوزراء للتأكيد عليه أو لأخذ رأي رئيس الجمهورية بشأنه.

المشكلة أنه لم يكن أحد من الوزراء يلتزم بالقرارات التي يُفترض أنْ تُتطبَّق فورا، لا أنْ تُوضع في جارور مكتب الوزير المختص. فإعداد المرسوم والتوقيع عليه ليس موضوعا إستنسابيا ولا يستطيع الوزير المختص أن يتنصل من تطبيقه بعد صدوره عن مجلس الوزراء بالاكثرية وإعداد مرسوم به والتوقيع عليه. فهوم ملزم به. هو بإمكانه أن يعترض ويستقيل من الوزارة.

*المحاورة: هذا إن كان لديه حسن نية؟

-د.قباني: هذا إذا كان يلتزم بأحكام الدستور وبالمبادىء العامة التي ترعى تطبيق الدستور، وهذا الامر يسري ليس فقط على الوزير المختص، بل يسري أيضا على رئيس مجلس الوزراء. تصوري أن البعض لم يعجبه مهلة ال 15 يوما التي أُعطيت لرئيس الجمهورية، ويتساءل كيف لا يكون للوزير أيضا مهلة مماثلة؟ الوزير بحكم الدستور ملزم بأن يطبِّق القرار ولا ينتظر  حتى مُضيّ المهلة المعطاة لرئيس الجمهورية، فإن لم يطبقه يكون مخالفا لحكم الدستور.

*المحاورة: فلنتحدث عن المخالفات التي تُرتكب على هذا الصعيد.

-د.قباني: هذه المخالفات التي تُرتكب، إمّا لها علاقة بعدم وجود ثقافة دستورية، وإمّا لها علاقة بنيّة مبيّتة بعدم إحترام الدستور وعدم تطبيقه. الوزير ليس فوق الدستور.

*المحاورة: وفي هاتين الحالتين مصيبة. برأيك المشرّع لبنود إتفاق الطائف، على ماذا اعتمد، على حسن النية أم على...

-د.قباني مُقاطعا: أكيد ليس على حسن النية، بل على التزام الوزير والتزام النائب والتزام رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية بأحكام الدستور، لأن هذه الاحكام هي أحكام عامة، وهي أساسية وجوهرية ومُلزِمة، لها علاقة بأصول العمل الدستوري، ولها علاقة بمصالح الناس وبالمصلحة العامة. اليوم أنت تعرفين أن مجلس الوزراء يصدر القرار الذي يريده، ولا يصار إلى عمل مرسوم له ولا يُوقَّع عليه. ويعتبر الوزراء أنفسهم أنهم فوق الدستور. فلنفترض أنه إذا وضعنا نصا دستوريا يقضي بإعطاء مهلة أسبوع أو أسبوعين للوزير لتطبيق قرار مجلس الوزراء، ولم يوقعه بعد مرور 15 يوما، فما العمل عندئذ؟ يعني حتى لو عدّلنا اليوم وجرى إعطاء الوزير هذه المهلة وظل على موقفه السلبي من تطبيق مرسوم القرار، فبماذا نكون استفدنا؟ وما العمل هنا؟

*المحاورة: يُقال من الوزارة أو...

-د.قباني مقاطعا: المشكلة هنا، فهل بظل مراكز القوى الموجودة في السلطة، وفي ظل الاكثرية التي تتحكم بال...

*المحاورة مقاطعة: هنا وصلنا إلى نقطة حساسة

-د.قباني: نعم هنا نكون رجعنا إلى المشكلة ذاتها. وبرأيي أنّ ما يحل المشكلة هو قناعة الوزير باحترام الدستور وبالتزام تطبيقه بعيدا عن مخالفته أحكام الدستور، فهو إن خالف الدستور لا ينبغي أن يبقى في الوزارة لحظة واحدة. ويكون أمامه خياران، إمّا أن يستقيل وإمّا أن يوقِّع ويُطبِّق، وليس له خيار ثالث. مثل هذه الحالات نراها كل يوم في حياتنا السياسية، ونرى كيف أن الوزير المختص لا يوقِّع على القرار الصادر عن مجلس الوزراء، ولا يوجد منْ يحاسبه، بسبب وجود مراكز قوى تتحكم بالعمل السياسي في لبنان وبالتوازنات وبأعمال الحكومات.  أنا مع إحترام الدستور والثقافة الدستورية. نحن دولة قانون لا دولة فوضى. نحن نعاني من الاستنسابية في ممارسة العمل السياسي لأهل السلطة، ومن عدم إحترام المصالح العامة ومصالح الناس وقضاياهم ومشكلاتهم. الوزير موجود ليخدم الناس لا ليخدم نفسه وحزبه وطائفته. كل مسؤول في العمل السياسي ذو منصب في السلطة، ينبغي له أن يحقق المصلحة العامة ويخدم مصالح الشعب. هل يوجد أحد من هؤلاء المسؤولين اليوم يفكر بمصالح الناس في ظل خلوّ سدة رئاسة الجمهورية منذ حوالى عام ؟

*المحاورة: ما هو الخلل الدستوري في هذا الاستحقاق ؟

د.قباني: هناك مفهوم سائد اليوم عند معظم السياسيين، أنّ لهم الحق في تعطيل الانتخابات، فلا يأتي النائب إلى مجلس النواب كي يكمل النصاب، كما أنه يمتنع عن التصويت في جلسة إنتخاب رئيس الجمهورية. هناك فهم سياسي وقانوني سائد، مخالف للقانون ومخالف لكل المبادىء العامة. النائب موجود كعضو في مجلس النواب، كي يطبّق الدستور، ولا يمكنه أن يعطّل الدستور، لأنه إذا عطّله يكون مخالفا..

*المحاورة: الذين يعطلونه يقولون إنّ هذا حق.

د.قباني: كلا هذا ليس حقا. بل إنّ حق النائب الدستوري هو في الإنتخاب، ولا يمكن لأحد أن يحرم النائب من حقه في أن ينتخب.

*المحاورة: أين هو النص الدستوري الذي يقول بإجبار النائب على الحضور والانتخاب؟

د.قباني: هذه بديهيات دستورية. فعندما يكون للمرء حق، فهو يلتزم به ويقوم به من غير أن يكون له مُوجِب معين. الدستور يعطي النائب الحق في أن ينتخب رئيسا للجمهورية. وهو حق دستوري ولا يمكن لأحد أن يمنعه من ممارسة هذا الحق، ومن المشاركة في جلسة الانتخاب. ثم إنّ هذا الحق يوازيه مُوجِب دستوري ووطني يملي على النائب الذهاب إلى جلسة الانتخاب وانتخاب من يشاء، لا يمكن للنائب أن يعطل هذا الاستحقاق، لأنه إذا عطّل الانتخابات ماذا يكون قد فعل؟ يكون قد خالف أحكام الدستور وعطّل إنتخاب رئيس للجمهورية. هذا الامر ليس إستنسابيا وليس تحكُّميًّا وليس مزاجيا على الإطلاق. الدستور  أوكل النائب أن يمارس هذا الحق لخدمة المصلحة العامة وخدمة الشعب وخدمة الدولة.

*المحاورة:هناك فئة تقول إن وثيقة الوفاق الوطني سميت بهذا الإسم لأنها نتيجة توافُق، وهذا التوافُق يرتدّ على كل شيء في

 هذه الدولة. يعني بدءا من إنتخاب رئيس الجمهورية الذي إن لم يكن توافقيا، لا يستطيع أن يحكم. إلى مسألة تشكيل الحكومة التي إنْ لم تكن توافقية، لا تستطيع أن تحكم. إلى المجلس النيابي الذي نراه اليوم مجلسا تعطيليا ولا يستطيع أن يحكم. ماذا عن هذا التفسير؟

د.قباني: وثيقة الوفاق الوطني التي تمَّ التصديق عليها، تحولت إلى نصوص دستورية ووافق عليها مجلس النواب بقانون دستوري. هذا النص الدستوري هو مُلزِم أم غير مُلزِم؟ هو ملزم لرئيس الجمهورية والنواب والوزراء. المادة 49 من الدستور التي هي أهم مادة في الدستور، ترعى انتخاب رئيس الجمهورية الذي هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يحافظ على الدستور وعلى وحدة لبنان وعلى سلامة أراضيه. يعني أنه مُوجِب على رئيس الجمهورية الحفاظ على الدستور. وإن لم يُصَر إلى تطبيق الدستور تحدث المخالفة هنا. إنّ القانون الاسمى الذي يُلزم الجميع به ينبغي أن يحظى باحترام الجميع وبتقدير الجميع، فهذا الدستور يمثّل روح الأمة، يمثّل روح لبنان، يمثّل الدولة وحقوق المواطنين. لذلك فالنائب عندما يُصوِّت في انتخابات رئاسة الجمهورية، ويصوِّت على أي قانون، يكون مُمثِّلا لشعبه. فالسيادة ليست للنائب، السيادة للشعب. النواب هم ممثلون للأمة،لا يمكنهم مخالفة أحكام الدستور ولا يمكنهم التصرف وفق أمزجتهم واستنساباتهم، وإلاّ يصبح الدستور كله إستنسابيا. هناك من يريد أن يصوّت وهناك من يريد أن لا يصوّت، وهناك من يريد أن يطبّق، وهناك من يريد أن لا يطبّق، أين دولة الدستور؟ أصبحنا في فوضى وهذا ما نعيشه اليوم. عندما تُلزم المادة 49 والمادة 73 رئاسة مجلس النواب لدعوة النواب إلى جلسة إنتخاب رئيس للجمهورية ضمن مهلة معينة حددها الدستور وهي مدة شهر على الاقل وشهرين على الاكثر.هذا ليس غير ملزم للنائب بل هذا ملزم له. لا يستطيع النائب أن يقول لرئيس المجلس لا أريد أن آتي ليس لي مزاج أو ليس لي مصلحة.

*المحاورة: أي ليس لدى النائب صلاحيات مطلقة ومتى أراد لا يأتي؟

د.قباني: نعم وليس الامر مزاجيا ممّا يخوّله أن يترك الجلسة متى شاء وأن يعطل النصاب ويعطل الانتخابات ويعطل الدستور. كيف يسير هذا المنطق هنا؟ في أي دولة في أي عالم يحدث ذلك؟ أين مصلحة الناس والشعب؟ النائب موكل بموجب الدستور. النائب وكيل لتمثيل الشعب، ليس في عدم الانتخاب. يحق للنائب أن ينتخب من يشاء، الشعب لا يُلزمه أن ينتخب فُلانًا أو عِلّانًا، له الحرية في اختيار الاسم. ولكنّه ملزم بأن ينتخب. حق الشعب عليه أن يمارس عملية الانتخاب، هذا ليس حق النائب الشخصي، الشعب أوكله بهذ الحق، وبالتالي لا يستطيع النائب أن يتصرف به أو يستنسبه أو يعطله. إن تعطيل الدستور هو مخالفة للدستور.

*المحاورة: دكتور خالد، لماذا لم يتم وضع قانون إنتخابي على الاساس الذي أقرّه إتفاق الطائف في البنود الاساسية، ولماذا لم يتم تشكيل هيئة لإلغاء الطائفية السياسية، ولماذا لم يتم تطبيق اللامركزية الادارية؟

-د.قباني: كل هذه الامور التي حصلت خلال كل هذه الفترة هي أخطاء. أول قانون إنتخابي وُضع في العام 1992، وحصلت  به أول إنتخابات نيابية بعد إقرار إتفاق الطائف، جرى فيها مخالفة للدستور ومخالفة لاتفاق الطائف. فإتفاق الطائف يقول

بالدائرة الانتخابية المحافَظة. أما الذي حصل آنذاك في تلك الانتخابات، فقد جرى تقسيم الدوائر الانتخابية خلافا للطائف. وبعض المحافظات قُسِّمت إلى أكثر من دائرة، وبعضها قُسِّم إلى دائرتين، يعني حسب المصلحة. وآخر إنتخاب حصل في العام 2022 والانتخاب الذي سبقه في العام  2018 كانا كارثة من الكوارث التي أدت إلى تشرذم المجلس النيابي، وبالتالي إلى ضرب وحدة مجلس النواب وشرعيته من خلال هذا القانون الذي لم تُراعَ فيه أحكام إتفاق الطائف ولا المبادىء العامة في صحة التمثيل النيابي، حيث جرى تقسيم الدوائر بشكل إعتباطي، وحصل ما حصل.

*المحاورة: التقسيمات في اتفاق الطائف كانت من خلال النسبية والمحافظة، صحيح؟

د. قباني: لا يوجد نسبية في اتفاق الطائف، بل الانتخاب هو على أساس المحافظة. لا مانع من بعض النسبية، لكنها طُبِقت بشكل طائفي وبشكل مذهبي، الامر الذي كان يدفع بالناخب بصورة تلقائية نحو الاختيار المذهبي والطائفي.

*المحاورة: إلغاء الطائفية السياسية، ومسألة مجلس الشيوخ، لماذا لم يتم في بنود الطائف تحديد وقت لتنفيذهما؟

-د. قباني: عندما وُضع إتفاق الطائف كنا آتين من حرب استمرت لمدة 15 عاما، وكان الوضع الطائفي وضعا محتدما عقب كل فترة الحرب الطويلة. وكاد لبنان أنْ يُقسَّم نتيجة هذه الحرب. فأتى الطائف بالمبادىء المتفق عليها وجاء في مقدمته بند إلغاء الطائفية السياسية كهدف وطني أساسي. هذا كان هدفا وطنيا أساسيا. لكنه لم يأت على ذكر التوقيت بما يخص تطبيقه. لم يُقَل غدًا نطبقه. لأنه كان معروفا أننا لا نستطيع تطبيقه بسرعة. إذْ كان أمام لبنان ضرورة عودة اللبنانيين إلى بعضهم البعض، وإعادة ثقة اللبنانيين ببعضهم البعض. كان الهدف الاساسي يقتضي العمل على تطبيق هذا المشروع وفق خطة مرحلية. بمعنى أن إتفاق الطائف وضع الهدف ووضع خطة منهجية لتطبيقه. المادة 95 وضع فيها المشرّعون نصوصا تنفيذية  من أجل إلغاء الطائفية السياسية، ولم يُترَك هذا البند للإستنساب، وتم فيها الاتفاق على تعيين هيئة وطنية، تتشكل من رئيس الجمهورية ومن رئيس مجلس الوزراء ومن بعض الشخصيات الفكرية والسياسية، لوضع دراسة من أجل تطبيقه.

*المحاورة: وقد تم ربط هذا البند بموضوع مجلس الشيوخ.

-د. قباني: نعم رُبطت المادة 95 بالمادة 22. جرى ربط إلغاء الطائفية السياسية بتشكيل مجلس الشيوخ. فالمادة 22 ذكرت بشكل واضح أنه عندما يتم إنتخاب مجلس النواب خارج القيد الطائفي وعلى أساس وطني لا طائفي، يُشكَّل فورا مجلس الشيوخ. هناك تزامن بين إلغاء الطائفية السياسية وبين تشكيل مجلس للشيوخ، وهذا التزامن هدفه أنْ يطمئِنَّ اللبنانيون. فعندما يُنتخَب مجلس النواب خارج القيد الطائفي، لا شك في أن بعض الطوائف ستأخذ حصة نيابية أكثر من طوائف أخرى. لذلك تطلّب الامر ضرورة وجود حماية للآخرين، من هنا فإن تشكيل مجلس للشيوخ يعطي هذه الطمأنينة للطوائف كي تكون هذه الطوائف هي القيّمة على صحة مسار البلد، وبحيث لا تضغط طائفة على طائفة، إذْ إن تشكيل مجلس الشيوخ يكون مناصفة بين المسلمين والمسيحيين كي تطمئن كل طائفة على وجودها وحضورها ومشاركتها في القرار السياسي. وقد أُعطيَ مجلس الشيوخ صلاحيات محددة، بحيث لا تتعطل مسيرة العمل الوطني، وتبقى تحافظ على الوحدة الوطنية وعلى العيش المشترك. فالعيش

 المشترك وفق اتفاق الطائف قد تم من خلال وضع الاسس والركائز والضمانات له، لكي يكون صمام الامان بين اللبنانيين.

*المحاورة: عندما لم يتم تطبيق هذه البنود وهذه الخطوات، بعد مرور كل هذه الأعوام، إلى أين أوصلنا إتفاق الطائف؟ هل أصبح هذا الاتفاق خارج زمنه، في ظل التطورات والمتغيرات التي حدثت على الارض؟ بحيث سمعنا بعض الاطراف السياسية   تدعو إلى إجراء تعديلات على هذا الاتفاق، أو الذهاب إلى طائف جديد.

-د.قباني: إتفاق الطائف أقر في 22 تشرين الاول/اكتوبر 1989. اليوم نحن في العام 2023، ورأينا أن اتفاق الطائف لم يُطبق بل اجْتُزئ وجرى تطبيق بعض بنوده. إذًا إنّ تطبيقه كان بصورة سيئة ومجتزأة ومخالفة لروحه الدستورية.

*المحاورة: إتفاق الدوحة ألا يُعدّ أول خرق للطائف على المستوى الدستوري، خصوصا أنه جرى تكريس الثلث المعطل داخل مجلس الوزراء، ومن ثمّ جرى تكريس وزارة المالية مثلا للطائفة الشيعية وتخصيص بعض الوزارات لطوائف معينة.

-د.قباني: إتفاق الدوحة بُنيَ عليه قواعد ومبادىء خارجة عن إطار الدستور كليا. وبرأيي أن إتفاق الدوحة هو إتفاق مؤقت وإستثنائي ولم يتحول إلى نصوص دستورية. هو مجرد إتفاق بين قوى سياسية معينة لحل مشكلة وأزمة سياسية موجودة في البلد. لم يكن هناك رئيس للجمهورية، كان يوجد فراغ في سدة الرئاسة، ولم يكن هناك مجلس للنواب، وكانت الحكومة بالتالي مستقيلة. كيف كان يمكن حل هذه الازمة؟ ذهبنا إلى إتفاق الدوحة لحل المشكلات التي تعطّل مسيرة البلد كله.

*المحاورة: لكنها أصبحت أعراف...

-د.قباني: لا ليست أعرافا على الإطلاق. العرف يلزمه مشروعية معينة، هذا ليس له شرعية وطنية.

*المحاورة: لكننا شهدنا كيف أن تشكيل الحكومات منذ العام 2011...

-د.قباني مقاطعا: دعيني أقل لك، كان هذا الامر واقعا مفروضا، والواقع لا ينشئ عُرفا. كان مفروضا بحكم عدم توازن القوى السياسية الموجودة في البلد، وتوازنات القوى هي التي حكمت البلد كل هذه الفترة، وهي لا تزال تحكم البلد حتى يومنا هذا. هذه التوازنات تخضع لا شك للتغيير وترتبط بتوازنات خارجية أيضا، تتحكم هي الاخرى بمسار البلد من أوله إلى آخره. لذلك فإن دستور الطائف لم يُطبّق في لبنان. أما إتفاق الدوحة فقد توصّل إلى ثلاثة بنود. البند الاول: إنتخاب رئيس للجمهورية. وقد جرى انتخاب الرئيس ميشال سليمان باتفاق محلي وعربي ودولي. البند الثاني: تأليف الحكومة كي تستطيع أن تسيّر الاعمال. والبند الثالث: إجراء الإنتخابات النيابية.

 وبانتخاب رئيس للجمهورية وبتشكيل الحكومة وبانتخاب مجلس نيابي آنذاك، إنتهى إتفاق الدوحة. ولم يتحول إلى نصوص دستورية. ولكن بحكم الواقع وبحكم توازنات القوى جرى ما يجري اليوم.

*المحاورة: كيف تفسّر ما جرى ويجري بعد الدوحة؟

-د.قباني: لقد رتبّوا خططهم بناء على هذا الاتفاق. وأول حكومة تشكلت بعد الدوحة، تم فيها تعيين 30 وزيرا بالاتفاق بين

 القوى السياسية. ما هو هذا الاتفاق؟ 16 وزيرا من الموالاة للأكثرية، 11 وزيرا لهم حق الفيتو، و11 وزيرا من المعارضة و3 وزراء لرئيس الجمهورية. ضربوا اتفاق الطائف وضربوا الدستور. وعندما تشكلت هذه الحكومة أبديتُ رأيي فيما جرى. فعندما يأخذ رئيس الجمهورية 3 وزراء ويعيّنهم هو، فلن يعود له مهابة لأنه من المفترض أن يكون حَكَما لا طرفا. فلأضرب مثالا  على ذلك، إذا كنا في اجتماع مجلس الوزراء ووصلنا إلى عملية التصويت على القرارات، فإنْ تعذّر حصول الاتفاق عليها، إما بالتصويت العادي وإمّا بأكثرية الثلثين، وصوّتت الاكثرية لمصلحة جهة معينة، وصوّتَ الوزراء الثلاثة التابعون لرئيس الجمهورية خلافا للأكثرية، أين تصبح مهابة رئيس الجمهورية هنا، وأين يصبح دوره وأين تصبح قيمته؟ لقد تمّ بذلك ضرْب مقام رئيس الجمهورية، هذا المقام الذي هو فوق كل الوزراء.هذا المقام الذي حفظه الدستور في المادة 49 فهو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، كيف يكون رمزا لوحدة الوطن وفي مجلس الوزراء هناك أشخاص يصوّتون معه وأشخاص يصوّتون ضده؟ الاكثر من ذلك، تصوري أن رئيس الجمهورية له 3 وزراء وهناك من عنده 5 وزراء و7 وزراء، هو يكون الاقل بالنسبة إليهم. هؤلاء الوزراء الثلاثة لماذا يأتون وماذا يفعلون أمام القوى السياسية الاكثر عددا في التمثيل الوزاري؟

*المحاورة: أفهم من حديثك كله، أنّ لا نص إتفاق الطائف ولا روحه قد جرى تطبيقهما؟

-د. خالد قباني:الدستور لم يتم تطبيقه، لأن اتفاق الطائف في بنوده الاساسية تحوّل إلى نص دستوري. إنهم لا يحترمون الدستور ولا يطبقونه. تصوري أنه بين العام 2014 والعام 2016 تركوا الدولة معطلة لمدة عامين ونصف العام، بسبب إرادة جهات معينة لفرض رئيس جمهورية معين.

*المحاورة: ونحن اليوم نعيش نفس الازمة.

-د. قباني: نعم اليوم تعاد نفس المسألة، بصرف النظر عن الاشخاص، أنا لا اتكلم على صعيد الاشخاص. اليوم مضت سنة على تعطيل عمل مجلس النواب وتعّذُر إنتخاب رئيس جديد للجمهورية. فأين الدستور؟

*المحاورة: هل نحن اليوم أمام مأزق يدفع بالامور إلى الذهاب نحو إتفاق طائف جديد؟

-د. قباني: إذا كنا لغاية اليوم لم نطبق اتفاق الطائف الذي مرّ عليه 34 سنة، ولم نجد بديلا له، فهل سيفيد إتفاق طائف جديد؟ أنا لا أدعي أن إتفاق الطائف مقدس، ولا أنه لا يقبل تعديلات عليه. لقد برهنت التجارب أنه بحاجة إلى تعديل ويجب تعديله.

*المحاورة: بما يتعلق بالمهل و...

-د. قباني: بما يتعلق بأي شيء يريدونه. أنا عندي رأي في هذا الشان ووضعت مشروعا لتعديلات دستورية أكثر من أي شخص آخر. وأهمها أنه يجب إعطاء صلاحية حل المجلس النيابي لرئيس الجمهورية. وذلك لسبب بسيط، وهو أننا أصبحنا في نظام ديمقراطي برلماني، وفي مثل هذا النظام هناك أكثرية تحكم وأقلية تعارض. اليوم لا يوجد أقلية تعارض وأكثرية تحكم. إن هذه القاعدة البرلمانية الديمقراطية في العالم كله، جرى إهدارها في لبنان، كوْن الحكومات التي تتشكل منذ أعوام هي عبارة عن

 مجلس نواب مصغّر، ولا يمكن في حكومة واحدة أن تجتمع أكثرية وأقلية. هذا ضرب لمبدأ أساسي من مبادىء النظام الديمقراطي البرلماني. فالحكومة يجب أن تكون متضامنة وزاريا. صحيح أن القرارات فيها تؤخذ بالاكثرية، لكنّ الكل يكونون ملزمين بها. إن التضامن الوزاري هو أحد أسس العمل الديمقراطي البرلماني.  ثم إنّ مجلس النواب بالعادة يقوم بدورين لا بدور واحد، يقوم بالدور التشريعي وبالدور الرقابي على سير عمل الحكومة، فكيف للمجلس النيابي أن يراقب منْ هو جزء منه ويمثّله في الحكومة؟ وأين يصبح دور المعارضة هنا؟ إنتسف دورها أيضا لأنها أصبحت داخل الحكومة.

لقد جرى ضرب كل الاسس وكل القيم وكل المبادىء الدستورية التي يقوم عليها النظام السياسي والنظام البرلماني في لبنان.

 أنا أعود وأؤكد أنني مع إجراء تعديلات في بنود اتفاق الطائف، وذلك بعد تطبيق ما لم يُطبَّق منه كي نعرف أين الصح وأين الخطأ. وأول تعديل كما ذكرت لك، ينبغي أن يكون إعطاء صلاحية حل مجلس النواب لرئيس الجمهورية، لأنه في دستور الطائف هو الحكَم بين الهيئات السياسية المتنازعة، وهو المرجعية الوطنية. فإذا لم يلعب دور الحَكم في الصراع السياسي وكان فريقا من الافرقاء، تصبح المواجهات ضده هو، مثلما حصل في آخر فترة. لقد أتى الطائف ليقول إن رئيس الجمهورية هو فوق النزاعات وفوق الصراعات، وله دور مهم جدا في تحقيق التوازن بين القوى السياسية.

نحن اليوم لو طبقنا إتفاق الطائف، لكان رئيس الجمهورية لولبَ الازمات السياسية وجامعا للأفرقاء المتنازعين في السياسة وداعيا للحوارات الوطنية التي تصحح المسار الوطني العام.

 

 

 

 

 

 

 

الكاتب: 
نجاة شرف الدين
التاريخ: 
الأحد, أكتوبر 22, 2023
ملخص: 
إذًا عندما أُعلِن عن إقرار اتفاق الطائف عند الساعة الحادية عشرة إلا ربع، كان يومها يوجد شرقية وغربية، وكانت الحواجز التي تفصل بين الشرقية والغربية في العاصمة بيروت لا تزال موجودة. عند الساعة الحادية عشرة تماما من ذلك اليوم، لم تعد هناك حواجز،