ايلي سالم في «في حوار مع لبنان»: كواليس اتفاق الطائف والأدوار السعودية والسورية والإسرائيلية
لعل أحد أهم المصادر في البحث الأكاديمي الساعي لمعرفة الحقائق التاريخية ذات الأهمية بالنسبة للواقع الحالي للأحداث هي المذكرات والسيَر الشخصية التي كتبتها وتكتبها شخصيات بارزة لعبت أدواراً مؤثرة وتسلمت مناصب قيادية فاعلة ساهمت في توجه مجاري الأمور في جهة أو أخرى.
الدكتور ايلي أديب سالم، وزير خارجية لبنان ونائب رئيس الحكومة في عهد الرئيس اللبناني أمين الجميّل، الذي استمر في منصبه من خريف 1982 إلى 1988 لعب دوراً مفصلياً في وضع نصوص اتفاقية 17 أيار (مايو) 1983 واتفاق الطائف الذي وُقع في السعودية في نهاية ولاية الرئيس الجميّل والذي ما زالت الكثير من مفاعيله مطبقة حتى الآن في لبنان فيما جمّدت نصوصه الأخرى.
قرر الدكتور سالم، وهو حاليا في مرحلة التسعينات من عمره (ولد عام 1930) الإفصاح عن خفايا التوصل إلى هاتين الاتفاقيتين والعوامل التي أدت إلى التراجع عن الأولى ووضعها على الرف وتطبيق أجزاء كثيرة من الثانية والتحفظ على أجزاء أخرى منها تم تأجيل تطبيقها وخصوصاً في مجال إلغاء الطائفية في لبنان.
عنوان الكتاب هو: «في حوار مع لبنان… سيرة شخصية ـ سياسية». ويشمل تفاصيل عن نشأة كاتبه في بلدة بطرام (الكورة) شمال لبنان ودراسته العليا واستلامه مناصب أكاديمية بارزة في جامعات لبنان وأمريكا، بينها رئاسة جامعة البلمند في لبنان ومنصب عميد كلية الآداب والعلوم في الجامعة الأمريكية في بيروت والمحاضر الضيف في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية في العلوم السياسية وقضايا الشرق الأوسط وفي جامعات أخرى في أمريكا والعالم.
لعل أهم ما ساهم في نجاح دور سالم السياسي في لبنان كانت علاقته الشخصية الجيدة نسبياً مع الرئيس أمين الجميّل ومع قادة الولايات المتحدة في تلك الفترة وخصوصاً مع الرئيس رونالد ريغان وممثليه في المنطقة فيليب حبيب ومن بعده ريتشارد ميرفي ومع وزير الخارجية جورج شولتز. وهؤلاء كانوا أصحاب القرار في لبنان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. حسب قول سالم، فإن نجاح عملية إنجاز نص اتفاق الطائف بدأ في عام 1987 عندما اجتمع هو شخصياً في لندن مع رجل الأعمال اللبناني هاني سلام في العاصمة البريطانية وطلب منهما التوسط لدى الرئيس السوري حافظ الأسد لإقناعه بالقبول باتفاقية 17 أيار (مايو) 1983 بين لبنان وإسرائيل لحل أزمة لبنان بعد ما كان الأسد قد عارض تلك الاتفاقية.
وحصل (حسب الكتاب) اتصال من قِبل شخصية لبنانية ـ سعودية مقربة من الملك السعودي فهد آنذاك (رفيق الحريري الذي أصبح لاحقاً رئيس وزراء لبنان لفترة قبل اغتياله) بالوزير سالم، والتقى الحريري وسالم في مطار لارنكا في قبرص حيث أكد الحريري ان باستطاعة الملك السعودي في تلك الفترة فهد بن عبد العزيز إقناع الأسد بالقبول باتفاق الطائف إذا وردت فيه نصوص عن العلاقة الخاصة اللبنانية ـ السورية ومشاركة الأسد في أي قرارات لبنانية واتفاقيات مصيرية في لبنان قد تضر بمصالح وأمن سوريا وخصوصاً مع إسرائيل، وبينها الانسحاب السوري المعجل من البلد الجار.
وحصل لقاء الحريري ـ سالم في العاشر من حزيران (يونيو) 1987 ووافق الأسد على النص الوارد في الاتفاقية (التي دعمها الملك فهد) في 13 حزيران (يونيو) 1987 بعد ثلاثة أيام من اللقاء. وكانت القيادات السورية واللبنانية غاضبة وقلقة إزاء حادث أليم تم بالتزامن مع هذه المبادرات وهو اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رشيد كرامي أثناء انطلاقه للسفر من شمال لبنان في طائرة مروحية تابعة للجيش اللبناني مطلع شهر حزيران (يونيو) عام 1987. وهدد آنذاك (حسب ما ورد في الكتاب) الممثل الأمني للحكومة السورية في لبنان اللواء غازي كنعان السلطة اللبنانية بانها إذا لم تعثر على قاتلي كرامي وتعاقبهم فإن اتفاق إعادة الأمن إلى لبنان الذي سمي لاحقاً اتفاق الطائف لن يمر. (ص 118).
وبعد ذلك، عينت الحكومة الأمريكية السفير ريتشارد ميرفي كمبعوث لها في المنطقة، لبنان ثم سوريا لاحقاً للمساهمة بالتنسيق مع قيادتي سوريا ولبنان في اختيار رئيس جمهورية للبنان بعد إبرام اتفاق الطائف. وتم اختيار النائب مخايل الضاهر من عكار لملء هذا المنصب. ولكن جهات لبنانية فضلت خيارات أخرى فاستُبعد الضاهر.
ويذكر الوزير سالم انه تلقى اتصالاً من الأخضر الابراهيمي المشرف العربي الدولي على إبرام اتفاق الطائف طالباً منه نسخة عن المسودة التي تم التوصل إليها بين الحريري وسالم في لارنكا والتي قرر الابراهيمي اعتمادها في الطائف بعد إدخال تعديلات عليها. واجتمع الابراهيمي مع سالم ومهدي التاجر وهاني سلام والأكاديمي الفلسطيني البارز وليد الخالدي في لندن حيث تم تعديل وتنقيح الاتفاقية قبل عرضها على النواب اللبنانيين للتصويت عليها في الطائف. وشارك في إدارة وقيادة هذه الخطوة البرلمانية الهامة النائب الراحل حسين الحسيني، الذي كان رئيسا لمجلس النواب اللبناني في إحدى الفترات. كما شارك في عملية ترطيب الأجواء اللبنانية ـ السورية الصحافي والوزير الراحل غسان تويني، الذي كان في عداد وفد لبناني قيادي زار الرئيس السوري حافظ الأسد في دمشق، علماً ان اتفاق الطائف تم توقيعه وإبرامه في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 1989.
أما بالنسبة لاتفاق 17 أيار (مايو) 1983 فيطرح الدكتور سالم في هذا الكتاب موقفه بان هذا الاتفاق لم يتم بنيّة إحداث أي سوء للعلاقة اللبنانية ـ السورية ولا للتعرض سلباً لنفوذ الرئيس حافظ الأسد في لبنان، وان فحواه استندت إلى اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل لعام 1949 التي تم الاستناد إلى نصوصها لدى التوصل إلى اتفاق حدودي جغرافي بين لبنان وإسرائيل حول مناطق النفط والغاز المحاذية لجنوب لبنان في عام 2022. (ص 105 و106).
كما يؤكد سالم في الكتاب انه وخلال المفاوضات اللبنانية ـ الإسرائيلية للتوصل إلى اتفاق 17 أيار (مايو) كان هو شخصياً يتشاور مع الرئيس حافظ الأسد يومياً بكل ما يجري ولكن الأسد لم يقتنع بان مثل هذا الاتفاق كان مثمراً لا للبنان ولا لسوريا. وظن آنذاك وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتز بأن الأسد ربما أراد حواراً مباشراً سورياً أمريكياً حول الاتفاق ليضع عليه لمساته الأخيرة.
وعلى الرغم من أن مجلس الوزراء اللبناني تحت قيادة رئيس الحكومة شفيق الوزان وافق على نصوص الاتفاق ثم صوّت النواب في مجلسهم بالموافقة عليه بأكثرية 65 صوتاً من أصل 71 وبدأت التهاني تصل إلى القيادة اللبنانية من قيادات عربية ومن بينها السعودية، فإن شروط إسرائيل خلال المفاوضات وبعدها كانت (حسب سالم) تعجيزية، فكانت تطلب انسحاب سوريا عسكرياً من لبنان وإفراغ لبنان من قيادات ومقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية قبل انسحابها هي، كما طالبت بالإفراج عن السجناء الإسرائيليين لدى سوريا ولدى منظمة التحرير، وهما أمران لا يملك لبنان القرار فيهما بهذه السهولة.
حسب تحليل الدكتور سالم، فإن تطورات هامة حدثت خلال تلك الفترة، إذ توفي الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف في تشرين الثاني (نوفمبر) 1982 ففقدت سوريا قائداً سوفييتياً متحالفاً بقوة معها وصارت أكثر حذراً إزاء مثل هذه الاتفاقيات عموماً. كما أن العامل الثاني، برأي سالم، كان بداية عمليات تفجير المقرات والسفارات الأمريكية والفرنسية من جانب قوى لبنانية مرتبطة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ فجرت السفارة الأمريكية في بيروت في نيسان (ابريل) 1983 وفجر مقر «المارينز» الأمريكي في تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه ومقر القوات الفرنسية أيضاً وبدأت عمليات خطف شخصيات أكاديمية وصحافية وتبشيرية أمريكية وأجنبية تعمل في لبنان بالإضافة إلى حدوث عمليات تفجير ضخمة لمواقع إسرائيلية في جنوب لبنان. وبالتالي انتشر قلق لدى سائر الجوانب المعنية في هذا الاتفاق الذي ينص على انتهاء حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل، والتي طالبت إسرائيل بان يتم إبرامه في جامعة القدس وان يحضر المناسبة وزيرا خارجية لبنان وإسرائيل. وهذا أمر رفضه سالم نظراً لأن الحكومة اللبنانية لم تعتبر بان اتفاق 17 أيار (مايو) 1983 هو اتفاق سلام شامل بل اتفاقية لانسحاب إسرائيل من لبنان مرتبطة باتفاقية الهدنة معها لعام 1949.
ومن المطالب التعجيزية التي أضافتها إسرائيل لاحقاً بعد ما كان تم الاتفاق معها (كما ورد في الصفحة 90 من الكتاب) حق الجيش الإسرائيلي في التوغل في الأراضي اللبنانية وملاحقة المقاومين المعادين لإسرائيل وبقاء ألف عسكري إسرائيلي في جنوب لبنان، مع محطات مراقبة تابعة لهم. ويعرف خبراء المنطقة ماذا تعني هذه الأمور في ضوء ما حدث في الضفة الغربية وما يحدث حالياً في غزة!
وقد اجتمع الوزير سالم مع السفير السوفييتي في لبنان آنذاك ليعرف موقف موسكو فأوضح السفير سولداتوف بأن الاتحاد السوفييتي لم يكن ضد اتفاق 17 أيار (مايو) كاتفاق، ولكنه لم يحبذ أن تنجح الولايات المتحدة بمفردها ومن دون التنسيق مع موسكو في إنجاز اتفاق بنفس هذه الأهمية، وخصوصاً ان السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي في موسكو أي القائد الفعلي للبلد الذي حل مكان بريجنيف كان صقورياً إلى درجة أكثر من سلفه المتوفي وانه كان قائداً لوكالة الاستخبارات السوفييتية «الكي. جي. بي» قبل صعوده إلى مركز القيادة. وقد تسلم يوري أندروبوف منصبه في قيادة الاتحاد السوفييتي في أيار (مايو) 1983 وأعاد الثقة إلى العلاقة السوفييتية ـ السورية. (ص 102).
كما كان الأسد يصر على تعيين سالم في كل اللجان اللبنانية ـ السورية الساعية إلى التنسيق السياسي والأمني بين البلدين. إلا ان هذا التناغم لم يتواجد في علاقة الدكتور سالم مع نائب الرئيس السوري الراحل عبد الحليم خدام الذي كان (برأي الكاتب) مبالغاً في الانتقاد اللاذع للبنانيين عموماً ولقادتهم. ولكن، يؤكد سالم انه، وخلال زيارة كان يقوم بها في السنوات اللاحقة إلى باريس، زار خدام في المستشفى الذي كان يُعالج فيه قبل وفاته وتمازحا ثم افترقا بسلام.
القسم الأخير من الكتاب يتطرق لطروحات سالم لإنقاذ لبنان من أوضاعه السيئة الحالية وفي لبه نصائح أخلاقية للجميع للتمسك بالهوية اللبنانية.