لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (17): أيُّ تَدويلٍ للبنان؟
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
“التدويلُ” ليسَ بدعةً مَشبوهة، ولا هو غريبٌ عن لبنان، فقد جرَّبهُ بعدما فُرِضَ عليه خلال حروبهِ المُستدامة، من أواسط القرن التاسع عشر إلى أيامنا هذه.
وعودةُ مرجعياتٍ لبنانية نافذة، في مقدَّمها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، إلى الحديث عن “مؤتمرٍ دولي” لإيجادِ حَلٍّ للأزمةِ اللبنانية المُستدامة، والمُتَعَدِّدةِ الأطرافِ والأوجُه، مردُّهُ إلى عَجزِ القوى السياسية المحلّية، أو عدمِ رَغبَتِها في التلاقي التلقائي، لوَضعِ الصِيَغِ المحلّية الكفيلةِ بمُعالجةِ الأزمة مُعالجةً جدّية تُغني عن الاستعانة بالخارج. لكنَّ أحدًا لم يَقُلْ للبنانيين كيفَ يكونُ ذلك، والأزمةُ في جذورها ناشئةٌ من الحربِ الأهلية المُستدامة، التي تُمسِكُ بزمامِ أسبابها ونتائجها جهاتٌ دولية لها أتباعٌ بين معظم القوى اللبنانية، بمَن فيها بعض المراجع النافذة المذكورة المُطالِبة بالحلِّ الوطني المُستقل.
ولعلَّ هذا التناقض، في المعنى والمبنى للطَرحِ الآنف، أو بين القصد والقدرة، ما يُفسِّرُ جُزئيًا طبيعةَ مَنشَإِ الأزمةِ اللبنانية في رَحمِ الحربِ الأهلية المُستدامة.
ففي هذا المسعى، أو الطَرح، لا يخرُجُ أصحابه، ومنهم البطريرك الماروني، عن السياقِ التاريخي للحرب الأهلية اللبنانية المُستمرّة من أواسط القرن التاسع عشر إلى اليوم، وهي حربٌ في كلِّ مراحلها استدعت تدخّلًا خارجيًا أو مؤتمراتٍ دولية.
حتى في مرحلةِ ما بعد الطائف، وهو بدوره مؤتمرٌ دوليٌّ بالتكليف، كان أبرزَ إفرازٍ له فقدان الاستقلالية اللبنانية بصورةٍ شبه كاملة، من خلالِ فَرضِ وصايةٍ خارجيةٍ مدعومةٍ بقواتٍ عسكرية غير لبنانية، (وصاية سورية–سعودية في البداية ثم وصاية سورية كاملة لثلاثة عقود)، ولا يُخفِّفُ من هذه الحقيقة اختيارُ شخصٍ لبناني الجنسية، ليُمثِّلً تلك التوليفة (مثلها في البداية رئيس الحكومة المُنتَدَب من مؤتمر الطائف، رفيق الحريري)، بل إنَّ رئيس الحكومة الآتي مع الوصاية الخارجية، يُثبتُ ويؤكّدُ عبثية أي دعوة لحَلٍّ لبناني نهائي على أيدي اللبنانيين أنفسهم.
إنَّ الوصايةَ السورية التي حَكَمَت لبنان من خلالِ فئاتٍ لبنانية نافذة وقوية، وما زالت حاكمة حتى الآن، لم تَخرُج بدورها عن إطارِ التسويات الدولية التي قرّرت مصيرَ لبنان منذ القرن التاسع عشر. فخلال حكم رفيق الحريري، تحت جناحِ الوصاية السورية، انعقدت مؤتمراتٌ دوليّة عدة من أجلِ لبنان، مُغَلَّفةً بأغلفةٍ اقتصادية، بها بدأت مسيرة الدين العام، وتسهيل عملية الاستدانة، من الخارج ومن الداخل، مما أوصل لبنان تاليًا إلى الانهيار الكبير القائم الآن.
فالدَينُ العام اللبناني، قبل المؤتمرات الدولية “باريس 1″، ثم “باريس 2″، و”باريس 3″، لم يكن يتجاوز الخمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فتصاعدَ بعد ذلك إلى أكثر من 150 في المئة من ذلك الناتج، (وهي نسبةٌ تُضاهي هبوط قيمة الليرة اللبنانية ثلاثين ضعفًا بين المرحلة السابقة لمؤتمرات باريس الدولية وابنها المسخ “سيدر 1” الذي بقي حبرًا على ورق). ولذلكَ من المُستَغرَب اليوم أن يَنظُرَ بعضُ اللبنانيين إلى دعوةِ البطريرك الماروني وكأنّها “بدعةٌ” تُخفي وراءها شيئًا مَشبوهًا، ولم يكن قد جفَّ بَعد حِبرُ اتفاقية رسم الحدود البحرية مع إسرائيل برعايةٍ دولية (أميركية). وقد عاد الوسيط الأميركي، الغني عن التعريف، آموس هوكستين، إلى بيروت في 6 آذار (مارس) 2024 لترتيبِ تفاهُمٍ جديد، مع أهلِ التَرسيمِ البحري، بشأنِ تَقويمِ الحدودِ اللبنانية البرّية مع إسرائيل، بهدفِ وَقفِ العمليات العسكريَّة، التي يقوم بها “حزب الله” على تلك الحدود، منذ بداية حرب غزَّة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
وربّما فاتَ البعضُ أنَّ إسرائيل، والقوى الداعمة لها، هما “التدويل”، أو أنَّ التدويل في قبضتهما. وبالتالي، فإنَّ نتيجةَ أيِّ مؤتمرٍ دولي بشأن لبنان في الوقت الحاضر، وربما إلى أجلٍ طويل في المستقبل، ستكون بطبيعتها مؤاتية للجوقة العالمية الدائرة حول “أوليَّة إسرائيل”. فأيُّ تدويل، في أيِّ أمرٍ، وإلى أمَدٍ غير منظور، ستكونُ إسرائيل فيه اليد المُحَرّكة في السرِّ والعَلَن.
فأيُّ مؤتمرٍ دولي بشأنِ لبنان، في إطار هذه التركيبة الدولية القائمة منذ عشرات السنين، يُمكِنُ أن يأتي بحَلٍّ جديدٍ ونهائيٍّ ينفي أسبابَ تلك الحرب، أو يأتي، على الأقل، بأفضلِ من مؤتمراتِ التدويل السابقة، منذ إقامة “نظام القائمقاميتين” في أواسط القرن التاسع عشر، الى “نظام الطائف” في أواخر القرن العشرين.
ويبقى السؤال: متى تنتفي الحاجة إلى التدويل في لبنان، وتكونُ أيّ دعوة إليه مُستَهجَنة ومُدانة؟
الجواب، عندما يُقرّرُ اللبنانيون، أو يقبلون، بقيامِ نظامٍ مدنيٍّ مُحتَرَمٍ يُجَفّفُ مُستنقع الحرب الأهلية، وينفي إمكانية قيام ميليشيات سياسية تتقاسمه في السلم، وتتناهشه في الحرب.