ماذا بقي من «الطائف»... وهل «رماد» الثلث المعطّل يخبئ «نار» المطالبة بتغيير النظام؟

النوع: 

... في الجولة الثانية من الاستشارات، الأشبه بـ «المفاوضات» التي كان يجريها الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري لفت وجود ورقة مطبوعة على الطاولة أمامه، تشتمل على اسئلة كان يطرحها على الكتل البرلمانية، منها: هل نحن في لبنان أمام أزمة نظام أم أزمة ثقة بين الطوائف والمذاهب، هل حان الوقت لتطبيق ما لم ينفذ من «اتفاق الطائف» كتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وتشكيل مجلس للشيوخ وإقرار اللا مركزية الإدارية؟ إضافة إلى اسئلة أخرى تتناول «جوهر» الصراع الدائر حالياً حول النظام وآليات الحكم.

ففي ظل الجدل البيزنطي بين القوى السياسية اللبنانية حول الثلث الضامن أو المعطل، وما تخلله من مناورات بلغت ذروتها مع أحداث السابع من مايو 2008، التي أوصلت لبنان إلى باب الفتنة ليخرج بعدها من «الفردوس» القطري بـ «اتفاق الدوحة» الذي كرس حكومة الوحدة الوطنية، ومع إجراء الانتخابات البرلمانية في السابع من يونيو الماضي وما كرسته من انقسام على قاعدة الأكثرية والأقلية والدخول مجدداً في معضلة تأليف الحكومة، تعلو أصوات لدى بعض أطياف الموالاة، عن محاولة المعارضة تغيير بنية النظام اللبناني المأزوم أو الانقلاب التدريجي عليه، ما يعني التفلت من «اتفاق الطائف» الذي احتضنته المملكة العربية السعودية العام 1989 وتحول بعدها دستوراً طبق منه شيء ولم تطبق اشياء.

لا يزال المشهد السياسي الراهن ينذر بحال من التوتر يتداخل فيها المحلي مع الإقليمي. ورغم أن معضلة تأليف الحكومة تشكل ظاهرياً لُبَّ العقدة، إلاَّ أن الهواجس الأمنية والفتن المقنعة والمتنقلة على أرض لبنان، تشي بدورها بأن النظام يجتر أزماته ومرشح للدخول مجدداً في دائرة العنف. وإذا كان الحديث عن تغيير مرتقب في الدستور أمراً صحيحاً، فهذا يعني أن «الطائف» لم يعد قادراً على تلبية تقلبات المزاج والحراك السياسي السريع. وإذا استعدنا الحروب الأهلية التي شهدتها المجتمعات الاوروبية في القرون الوسطى والتي أفضت إلى الاستقرار وفصل الديني عن السياسي، نجد أن الحال اللبنانية لا تزال في عنق الزجاجة مع غياب العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، وبصرف النظر عن صوابية الحديث عن العلمانية ومدى قدرة البنية اللبنانية على تطبيقها، يبرهن التشنج المسيطر على قوى الرابع عشر، والثامن من مارس على هواجس متبادلة. وفي الوقت يطرح فيه الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله مسألة الدولة العادلة والقادرة، تتمسك الأكثرية البرلمانية بدولة القانون والمؤسسات، ما يؤشر الى أن الخلاف بين الفريقين لا يهدف إلى هدم الكيان اللبناني بل الى إعادة بلورته وفقاً لرؤية أشمل قد تتخطى الطائف لتنتج دستوراً جديداً.

وسط الصخب الدائر حول الثلث الضامن أو المعطل والمثالثة والمناصفة ومحاولة تعديل أو تغيير الطائف، طرحت «الراي» هذا الملف على أربعة معنيين هم: الوزير والحقوقي الدكتور خالد قباني، والوزير السابق الدكتور طراد حمادة، والنائب السابق محمد عبد الحميد بيضون، والدكتور الياس أبو عاصي الأمين العام لـ «حزب الوطنيين الأحرار».

قباني: اتفاق الدولة لم يكن بديلاً عن «الطائف»

خالد قباني

يعتبر الوزير في الحكومة المستقيلة خالد قباني من أكثر الذين واكبوا الإعداد لـ «اتفاق الطائف» ولصياغاته الدستورية، وهو كان أخيراً في قلب العاصفة التي هبت على لبنان منذ العام 2005، لذا فالحوار معه يكتسب أهمية خاصة.

• تطالب المعارضة منذ العام 2006 بالثلث الضامن تحت تسميات ومخارج مختلفة. ما الأهداف من وراء ذلك، وما الذي يقلق الموالاة من هذا الطرح؟

- نتيجة الفراغ الدستوري الذي حصل بعدم انتخاب رئيس جمهورية جديد بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق، ونتيجة استقالة بعض الوزراء في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة السابقة، ما أدى الى حصول جدل دستوري حول شرعية الحكومة ودستوريتها مع ما استتبع ذلك من توقف مجلس النواب عن العمل لمدة طويلة، جاءت الدعوة إلى لقاء في الدوحة من أجل حلّ هذه المشاكل، لا سيما بعدما حصل في 7 مايو 2008 من أحداث أليمة جداً كادت أن تتحول فتنة وتضرب الاستقرار الداخلي. انعقد هذا اللقاء بدعوة من المسؤولين في قطر وتمّ الاتفاق على أمور عدة أهمها: حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها القوى السياسية بنسبة 16 للأكثرية و11 للأقلية، و3 وزراء يختارهم رئيس الجمهورية، أي ما يعطي الأقلية ما سُميَّ في ذلك الوقت الثلث المعطل أو الضامن، الذي يحول دون تمكين الأكثرية من اتخاذ قرارات في الموضوعات الأساسية التي لا تحظى بموافقة الأقلية؛ إضافة إلى وضع قانون انتخاب جديد واجراء انتخابات نيابية على أساسه. وأكد «اتفاق الدوحة» وجوب التزام كل الأطراف التهدئة، وعدم اللجوء إلى العنف لحل القضايا الداخلية. هذا الاتفاق في رأيي كان تسوية سياسية لوضع استثنائي خطير، أي أنه جاء حلاً لمشكلة استعصت على الحل من خلال الحوار الداخلي بين القوى السياسية المختلفة، بحيث ينتهي مفعول الاتفاق بانتهاء تطبيق نقاطه الأساسية، للعودة بعد ذلك إلى تطبيق الدستور. وبالفعل التزم الأطراف الاتفاق عبر انتخاب رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، واجراء الانتخابات النيابية في 7 يونيو 2009 التي كانت انتخابات شهد الجميع على ديموقراطيتها. إذاً، استنفد «اتفاق الدوحة» كل مفاعيله، وانتهت المرحلة الاستثنائية التي أوجبت هذا الاتفاق، وهذا يعني أن «اتفاق الدوحة» لم يكن بديلاً من «اتفاق الطائف» ولم يأتِ ليعدِّل الدستور، وانتهى مفعوله بانتهاء تطبيقه، لذلك فإن ما يسمى الثلث المعطل هو وليد هذه الحال الاستثنائية التي تكلمنا عليها، والثلث المعطل ليس له أي سند قانوني أو دستوري، وعليه لا يمكن اعتماده ولا الإقرار به، لأن ذلك يشكل تجديداً للحال الاستثنائية التي خرج منها لبنان من جهة، ولأن الاستمرار في تطبيقه يشكل سابقة تخل بأحكام الدستور وتتعارض معه من جهة اخرى.

• كرس «اتفاق الطائف» المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، في حين تطرح المعارضة حالياً مسألة المثالثة. ما مخاطر هذا الطرح بالنسبة إلى التوازن السياسي بين الطوائف، وهل يمكن مستقبلاً تعديل الدستور أو حتى الانقلاب عليه نتيجة تحولات ديموغرافية أو أحداث عنيفة معينة؟

- لعل من أهم ما جاء به «الطائف» هو إقرار مبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين على صعيد التمثيل السياسي في مجلس النواب وفقاً للمادة 24 من الدستور، وأيضاً تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الحكومة وفقاً للمادة 59 من الدستور. وقد توافقت إرادة اللبنانيين من دون استثناء على هذه الصيغة، من دون التوقف عند العدد مستقبلاً، لأن ذلك يعزز العيش المشترك بين اللبنانيين ويطمئن الطوائف، خصوصاً المسيحية إلى وجودها ومشاركتها السياسية في الحكم أياً كان الوضع الديموغرافي، لأن العيش المشترك في لبنان في رأيي هو الضمان الحقيقي لاستقلاله وحريته وسيادته، وهو الذي يعطي للبنان دور الرسالة. وأستطيع أن أؤكد أن فكرة المثالثة غير مقبولة من اللبنانيين، علماً أنها طرحت بصورة عرضية نتيجة السجالات السياسية، لكنها فكرة مرفوضة ولم يعرها اللبنانيون أي اهتمام، وانتهت بانتهاء هذه السجالات. وأستطيع القول إن ما اتفق عليه في «الطائف» لجهة المناصفة يشكل ميثاقاً وطنياً أي عهداً بين اللبنانيين لا يمكن الإخلال به بأي طريقة ولا سيما من طريق تعديل الدستور.

• بصرف النظر عن حيثيات الثلث الضامن أو المعطل، هل تجد أن «الطائف» يقدم الإجابة عن كل الاشكاليات التي تعتري الصراع الطائفي- السياسي على مواقع القرار، وفي حال كانت هذه المسألة غير صحيحة ما أبرز الثغرات فيه؟

- أهمية «اتفاق الطائف» أنه أعاد إلى لبنان أمنه وسلامته، وأعاد اللبنانيين بعضهم إلى بعض، بعدما فرقتهم الخلافات وحل ببلدهم الدمار، وكادت الحرب الأهلية أن تنهي العيش المشترك، مقابل صيغ تقسيمية تنهي معنى لبنان ورسالته. ومن جهة اخرى فإن «الطائف» أراد أن يؤمن شراكة حقيقية في الحكم وفي صنع القرارات السياسية، نتيجة شعور الكثيرين بالغبن لعدم مشاركتهم في الحكم بصورة فاعلة. إذاً جاء «اتفاق الطائف» ليحقق شراكة الطوائف في الحكم، وقد وضع رئيس الجمهورية في مركز سامٍ ومتميز في هذا النظام السياسي، مجنباً إياه أن يكون فريقاً في الصراع السياسي، وأعطاه المكانة التي تجعله مرجعاً وطنياً في القضايا الوطنية الكبرى، وأعطاه دور الحكم في التنافس السياسي، باعتباره كما تنص المادة 49 من الدستور رئيساً للدولة ورمزاً لوحدة الوطن. وحتى لا يلجأ اللبنانيون إلى الشارع أو العنف لحل مشاكلهم الداخلية، ناط «الطائف» برئيس الجمهورية الذي يأتي في هيكلية البنيان الدستوري والسياسي فوق الصراعات والأحزاب والطوائف والانقسامات، أن يكون حكماً ومرجعاً ويؤمن انتظام عمل السلطات الدستورية، ويحافظ على الاستقرار في البلاد. بعد كل هذا، لا شك أن «الطائف» يمثل الصيغة الأمثل لإدارة الحكم في لبنان.

• هل الأزمة التي يعيشها النظام اللبناني بدءاً من حرب 2006 وأحداث 7 مايو وصولاً إلى «اتفاق الدوحة» تخفي في طياتها صراعاً بين الشيعية السياسية والسنية السياسية على إدارة البلاد؟

- ليس هناك صراع سني- شيعي في لبنان، ولن يقبل المسلمون سنة وشيعة ودروزا أن يدخلوا في صراع مذهبي، أو أن ينجروا إلى فتنة مذهبية أياً كانت الظروف والأحوال، وهم على دراية بأن أي صراع مذهبي من شأنه أن يدمر البلاد ويقضي على صيغة العيش المشترك، وهم مدركون تماماً خطورة الانزلاق في أي صِدام أو صراع من هذا النوع. هذا لا يعني أنه ليس هناك خلاف في وجهات النظر بين الأطراف السياسيين اللبنانيين حول كيفية معالجة بعض الأمور الأساسية أو حول بعض السياسات الأمنية أو الخارجية، لا سيما بعد التعقيدات التي حصلت إثر أحداث 7 مايو المؤلمة، وهذه الأمور يمكن أن تحل من خلال الحوار والتواصل الديموقراطي البنَّاء وليس عن طريق العنف، علماً بأن إسرائيل حاولت ولا تزال، وخصوصا أثناء عدوانها على لبنان أن تستنفر الطوائف بعضها على بعض، وأن تُثير فتنة داخلية بين السنة والشيعة من جهة، وصراعات طائفية بين المسلمين والمسيحيين من جهة أخرى، إلاّ أن موقف اللبنانيين وتوحدهم أسقط وأفشل مخطط الفتنة الذي كانت تسعى إليه إسرائيل.

 بيضون: الشيعية السياسية تريد فيديرالية الطوائف

محمد بيضون

الوزير والنائب السابق محمد عبد الحميد بيضون صوت شيعي من خارج الثنائية الشيعية المتمثلة بـ «حركة أمل» التي يتزعمها رئيس البرلمان نبيه بري و«حزب الله»، وغالباً ما يتميز تقويمه للحال التي بلغها لبنان بتحميله المسؤولية إلى ما يصفه بـ «الشيعية السياسية» وخياراتها الداخلية والإقليمية.

• حددت المادة 65 من الدستور اللبناني نصاب جلسات مجلس الوزراء بحضور ثلثي أعضائه على قاعدة اتخاذ القرارات بالتوافق، وإذا تعذر ذلك يعمد إلى التصويت بالنصف زائد واحد من الحضور. ما الذي يدفع المعارضة إلى توظيف هذا النص القانوني في شكل غير مباشر في سياق ما يعرف بالثلث الضامن أو المعطل؟

- يدور الصراع في لبنان حول صيغة إدارته بمعنى هل هي خارجية أم داخلية؟ طبعاً، اللبنانيون يريدون أن يكون الحكم من خلال المؤسسات الرسمية، ولكن هناك قوى من 8 مارس تصر على أن يُحكم لبنان من الخارج تحت عناوين مختلفة منها عنوان «سين - سين» أي سورية - السعودية، والمعروف أن أي أزمة يمر بها لبنان تفضي إلى توكيل سورية في الموضوع وهنا نعود إلى نقطة الصفر. إن الثلث المعطل هو صيغة جديدة لإدارة لبنان من الخارج الإقليمي، من طريق إدخال الشلل الى مجلس الوزراء ومن خلاله إلى جميع مؤسسات الحكم. وقد رفض الرئيس المكلف سعد الحريري موضوع الثلث المعطل فتم الانعتاق نحو صيغة ملطفة تقضي بأن يكون رئيس الجمهورية هو الضامن أو الضمان، وبذلك يصبح هناك نوع من حدود أمام الإدارة الاقليمية لتمر برئاسة الجمهورية وليس من خلال الحلفاء فقط. في النتيجة عندما تستقر الأمور في لبنان ويتم الاحتكام إلى الدستور ستسقط نظرية الثلث المعطل. لكننا حالياً في خضم صراع إقليمي يجعل عملية تطبيق الدستور أشبه بالسير في حقل الألغام، ولذلك نجد العراقيل والصعوبات أمام تشكيل الحكومة وكل هذه العراقيل غير دستورية.

• حين اتخذ مجلس الوزراء السابق قراره الشهير بفك شبكة الاتصال السلكية التابعة لـ «حزب الله» وقعت أحداث دموية كادت أن تدخل لبنان في دائرة عنف جديدة. هل تخوف المعارضة عموماً و«حزب الله» خصوصاً من تكرار التجربة هو الذي يدفعها إلى المطالبة بالثلث الضامن درءاً للفتنة؟

- لا أحد يفرض على أطراف 8 مارس اللجوء إلى العنف، لكن لدى لبنان مع أطراف المعارضة مشكلتين أساسيتين: الاولى، أن هؤلاء يرفضون الاحتكام إلى الدستور ويطرحون بدلاً منه نظرية حق كل طائفة من الطوائف الثلاث الكبرى بـ «الفيتو» على قرار الحكم، وهذا ما يسمى المثالثة. والمعروف أن «حزب الله» يطالب منذ بداية العام 2005 بالمثالثة كبديل من الدستور الحالي، والمثالثة تعني تحويل لبنان فيديرالية على الطريقة السويسرية أي كانتونات يدير كل منها شأنه؛ والمشكلة الثانية أن جماعة 8 مارس ترفض أي حوار سياسي، بل تضع موضوع الثلث المعطل مكان الحوار. وعملياً عندما يبدأ تشكيل الحكومة في أي بلد من البلدان يتم الاتفاق بين أطراف الائتلاف الحكومي على برنامج عمل سياسي يتضمن النظرة والحلول للمشاكل الأساسية، وفي لبنان ترفض المعارضة أي مناقشة سياسية خصوصاً سلاح «حزب الله». طبعاً، عقدت في قصر بعبدا طوال أكثر من عام جلسات حوار وطني لم تنتج شيئاً على الإطلاق، وهذا ما يؤكد أن 8 مارس ترفض الحوار السياسي وتحل محله موضوع القدرة على التعطيل، وهذا الأمر مخالف لكل منطق سياسي وللنظام الديموقراطي، لكنه منسجم مع الدور الإقليمي المعطى لقوى 8 مارس خصوصاً «حزب الله».

• أقر «اتفاق الطائف» صيغة الديموقراطية التوافقية، هل المطالبة بالثلث الضامن أو المعطل تمثل مساًسا بالدستور بهدف الانقلاب عليه كما تشير بعض أطياف الاكثرية؟

- يجب ألا ننسى أن «اتفاق الطائف» هو نظام برلماني ديموقراطي جمهوري، أي نظام دولة مركزية، في حين أن ما تطرحه الشيعية السياسية ممثلة بالرئيس نبيه بري و«حزب الله» هو إحلال نظام فيديرالية الطوائف بدلاً من الدولة المركزية. ومعنى هذا الأمر أن كل طائفة ترسم مع الوقت الحدود الجغرافية للدويلة التي تعيش فيها. والواضح اليوم أن لبنان باستثناء العاصمة بيروت يشهد نشوء ثلاث دويلات: دويلة شيعية في الجنوب والبقاع، ودويلة مسيحية بين كفرشيما والمدفون، ومحاولات لإقامة إمارة سنية في شمال لبنان. والحائر الأكبر في هذا التقسيم هو وليد جنبلاط الذي يطمح إلى حكم ذاتي داخل الكانتون الشيعي. المهم أن فيديرالية الطوائف التي تنادي بها الشيعية السياسية مناقضة مئة في المئة للدستور، الذي يتمحور حول مركزية الدولة، وهذا يعني أن انقلاب الأحزاب الشيعية ليس على «الطائف» فقط بل أيضاً على تعاليم السيد موسى الصدر. التجربة التاريخية علمتنا أنه مهما ضعفت الدولة المركزية ستبقى أقوى من الدويلات ودائماً سقطت الدويلات وبقيت الدولة. وقد مررنا سابقاً بتجارب رأينا فيها على سبيل المثال كمال جنبلاط وبشير الجميّل يطرحان مشروعات لاستبدال الدولة المركزية، لكن طرحهما سقط وبقيت الدولة وعلى الشيعية السياسية أن تتعلم من هذه التجربة.

• بعد حديثك عن فيديرالية الطوائف في رأيك هل أزمة تشكيل الحكومة تعكس صراعاً سنياً شيعياً؟

- الصراع القائم في لبنان هو صراع إقليمي- دولي، هناك المحور الإيراني ـ السوري الذي يعتبر أنه يخوض مواجهة مع المشروع الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وفي خضم هذه المواجهة يريد أن يضع يده على لبنان لأنه يعتبر أن الأطراف الاخرين أي 14 مارس منخرطون في هذا المشروع. وطبعاً المحور السوري الإيراني يعتبر أن كل محاولة لاستقلال لبنان هي محاولة موجهة ضد هذا المحور، لأنه يخسر ورقة نفوذ. ويا للأسف اتخذ هذا الصراع الإقليمي- الدولي في لبنان شكل الصراع السني-الشيعي، وهذا الأمر مسيء إلى الطرفين خصوصاً إلى «حزب الله» الذي تحول حزباً مذهبياً سلاحه سلاح حرب أهلية بدل مقاومة العدو الإسرائيلي، وكان سيئاً أيضاً إلى تراث الرئيس رفيق الحريري العروبي بامتياز والذي لم يدخل يوماً في صراعات مذهبية أو طائفية.

طراد حمادة: الديموقراطية التوافقية

موجودة في صلب «الطائف»

طراد حمادة

الوزير طراد حمادة سبق أن مثل «حزب الله» في الحكومة الأولى للرئيس فؤاد السنيورة، والتي كان استقال منها الوزراء الشيعة كتعبير عن أزمة متعددة البعد «انفجرت» في أحداث السابع من يونيو 2008 وأفضت إلى «اتفاق الدوحة».

• طرحت المعارضة الثلث الضامن منذ ما قبل أحداث السابع من مايو 2008. لماذا تمّ تداول هذا الطرح بدءاً بهذه المرحلة، وهل تتخوف المعارضة من تفرد بعض القوى الأخرى في القرار السياسي لذلك لجأت الى هذه الصيغة رغم عدم وجود نص حولها؟

- منذ العام 2006 تم تداول مسألة الثلث الضامن، على أساس أنه يحقق المشاركة في صنع القرار السياسي. ومن الناحية الدستورية هذا الطرح موجود في جوهر «الطائف»، وهو ما يسمى الديموقراطية التوافقية، التي تحولت بفعل سطوة الأكثرية ديكتاتورية تمنع المعارضة من ممارسة حقوقها في الاعتراض، وإنشاء ما يمكن تسميته حكومة الظل. مفهوم الديموقراطية يتأسس عموماً على التداول السلمي للسلطة، وهنا استحضر ما خلص اليها أحد الفلاسفة في اوروبا الذي تحدث عن الديموقراطية التوافقية، وأخذ لبنان نموذجاً مع بعض الدول الأخرى، وقد أشار إلى ثلاثة مبادئ بشأن هذه القضية هي: حقوق الفرد هي من حقوق الجماعات الطائفية أو الاثنية بمعنى أن الفرد يشعر بأن حقوقه محفوظة ومصانة حين تحفظ وتصان حقوق جماعته على قاعدة المشاركة في الحكم؛ الحكومة في الديموقراطية التوافقية هي صورة من البرلمان أي أن كل كتلة في المجلس النيابي يكون لها حجم التمثيل نفسه في السلطة التنفيذية؛ الفيتو هو الثلث الضامن. وفي هذا السياق، تحدث الدكتور غسان سلامة في كتابه «نحو عقد اجتماعي جديد» عن هذه النظرية المطابقة للوضع في لبنان، وفي رأيي أن فكرة الثلث الضامن هي فلسفة المشاركة في الحكم التي تؤمن التوازن في اتخاذ القرار خصوصاً في القضايا الكبرى.

• يرى البعض من قوى «14 مارس» أن المعارضة تريد إجراء تعديلات على «الطائف» أو تغييره. ما رأيك؟

- المعارضة لا تريد الانقلاب على النظام أو على «الطائف»، بل على العكس تتبناه بقوة. وسبق أن صرح السيد حسن نصر الله مرات عدة بذلك، من خلال مطالبته بتطبيق الدستور على قاعدة العيش المشترك، لكن البعض يحاول جعل «الطائف» بياناً لطائفته كما لو أنه مكرس لفريق معين. وفي رأيي أن بعض القوى السياسية اللبنانية تدعي الديموقراطية، ولكنها لا تقبل بأن يشاركها الآخر في السلطة، وهذا الأمر هو الذي زاد من حدة الخلاف بين ما يسمى الأكثرية والمعارضة الذي يبدو كثير التداخل والتشابك، نظراً للتحولات والانتقال من قبل بعض الافرقاء من جهة إلى أخرى، ومجدداً أكرر أن المعارضة تتمسك بـ«الطائف» ومطالبتها بالثلث الضامن لا تعني تغيير النظام.

• لو سلمنا جدلاً أن الطائفة الشيعية تشكل الأكثرية من الناحية العددية، هل يعني ذلك أن هنالك انعطافة مرتقبة في تقسيم السلطات الثلاث أقله في المدى البعيد؟

- لا يشكل أي تغيير ديموغرافي في لبنان خطراً على صيغة «الطائف» ما دام اللبنانيون متمسكين بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين، والنظام اللبناني عموماً لا يمكن أن يهتز أو يتغير جراء التحولات السكانية، بالإضافة إلى أن الشيعة هم مكوِّن أساسي في التركيبة اللبنانية ولا يسعون إلى الاستئثار بالحكم على قاعدة العدد، فهم يؤمنون بالعيش المشترك والحرية والتداول السلمي للسلطة بين كل الطوائف على أساس قيم حقوق الإنسان والمواطنة، وبهذا لا يمكنهم أن يشكلوا خطراً على أحد، والذي يخاف الله لا يخاف الناس سواء كثر عدد الشيعة أو انخفض.

• ما الذي يدفع قوى «14 مارس» إلى اتهام المعارضة بتغيير النظام والابتعاد من روحية «الطائف»؟

- المعارضة تريد المشاركة في إدارة النظام السياسي اللبناني للخروج من الأزمات المتفاقمة ولا تريد تبديل النظام، وهي تريد الاهتمام بشؤون الناس الاقتصادية والتنموية. من هنا يمكننا أن نفهم لماذا يطالب السيد حسن نصر الله ببناء دولة عادلة وقادرة ومقاومة. وتعقيباً على مسألة الديموقراطية التوافقية أريد التأكيد أن هذه المسألة تحتاج إلى دراسة من قبل أهل الاختصاص وإلاّ فسندخل في دورة عنف جديدة.

أبو عاصي: ما يفاقم الصراع على السلطة

إدارة ملفات لبنان من الخارج

إلياس أبو عاصي

الأمين العام لـ «حزب الوطنيين الاحرار» الدكتور الياس أبو عاصي يعبر في آرائه عن حركة «14 مارس» لا سيما الجانب المسيحي منها، وهو يحمل تالياً المحور السوري - الإيراني وامتداده الداخلي مسؤولية بلوغ الوضع في لبنان حدود الأزمة المتمادية.

• هل تعثر تأليف الحكومة يهدف إلى جعل الفيتو أمراً طبيعياً أو عرفاً يمكن أن تلجأ اليه بعض الأطراف السياسية اللبنانية في الحقبات الحرجة، وإذا كان هذا الأمر صحيحاً أين هي الصيغة التوافقية التي أقرها «الطائف»؟

- إذا كان هدف بعض القوى السياسية في لبنان شرعنة الفيتو، فإنه أمر خطير سينقل البلاد إلى نظام فيديرالية الطوائف، علماً أنه عملياً يطبق ولا تتم المجاهرة به. الديموقراطية التوافقية ترفض تهميش أي مجموعة مكوِّنة للكيان اللبناني، كما حدث مع المسيحيين أيام الوجود السوري الذين رفضوا الهيمنة السورية والمشاركة المشروطة والارتباط الإقليمي، لهذا تم إبعادهم عن الحكم بطريقة غير مباشرة. وعليه، الديموقراطية التوافقية هي ركيزة أساسية من ركائز الكيان اللبناني لكنها ليست الوحيدة، فإحدى الركائز تتمثل في الديموقراطية البرلمانية التي تتم من خلال الانتخابات. أريد الإشارة إلى أن النظام الديموقراطي يتأسس على المعارضة والموالاة، بمعنى أن المعارضة تحاسب وتستجوب وتطرح الثقة بالحكومة وتكون لها بالمرصاد، أما في الحال اللبنانية فالأمر معاكس ومتناقض تماماً مع هذه الآلية. والمشكلة الأكبر أن ملفات لبنان الداخلية تُدار من الخارج الإقليمي السوري أو الإيراني، الأمر الذي يعزز الصراع على السلطة بين الأطراف المتنازعين. والسؤال الأساسي: من يغطي هذا الصراع؟ إذا كانت التغطية إقليمية فستكون انعكاساته خطيرة على لبنان.

• كيف تقرأ الأحداث التي مر بها لبنان منذ العام 2006 في سياق الحديث عن أزمة النظام؟

- ليس أزمة نظام بل هناك «طائف» لم يطبق، وفي رأيي أن آلية إدارة البلاد من قبل بعض الأطراف هي التي توحي أن هناك أزمة حكم. إذا رجعنا إلى أحداث السابع من مايو يمكن أن نسجل ملاحظات كثيرة تتعلق بالسؤال المطروح، فمسألة أن سلاح «حزب الله» لن يتحول إلى الداخل سقطت وهي مقولة غير واقعية. «حزب الله» ينفذ ما كان يقوم به النظام السوري سابقاً، وهو قادر على المناكفة والتعطيل بشكل دائم، فكيف فسروا استعمال السلاح في تلك الأحداث؟ الجواب جاء من السيد حسن نصر الله حين قال «الدفاع للدفاع عن السلاح». إضافة إلى ذلك، فإن المقاومة ترتكز على خمسة أبعاد: الأول تقديس السلاح، الثاني التحالف مع ولاية الفقيه، الثالث الدخول في المحور السوري- الإيراني؛ الرابع العلاقة المتوترة مع الطوائف لا سيما الطائفة السنية؛ الخامس الدعوة إلى تغيير النظام العالمي بدءاً بأفغانستان والعراق، وهذا ما تدعو إليه إيران في صراعها مع ما تسميه الكفر والاستكبار الأميركي.

• هل تمسك المعارضة بخياراتها بشأن تشكيل الحكومة وما سبق ذلك من تجارب في خريف 2006 حين انسحب نواب «حزب الله» من حكومة السنيورة وعدم قدرة الأطراف اللبنانيين المتنازعين على الاتفاق، يمهد الأرضية لصيغة دستورية جديدة تتعدى «الطائف»؟

- لا يمكن الحديث عن تعديل «الطائف» لأنه عملياً غير مطبق، ومجدداً أكرر هل طبق «اتفاق الطائف»، ولماذا تتقيد به بعض السلطات السياسية ولا تتقيد به السلطات الأخرى؟ في رأيي أن هناك عملاً على تغيير النظام، وهنا تأتي قوة «حزب الله» في ذلك، خصوصاً أنه يملك السلاح وربما قد يستخدمه لقلب المعادلات الداخلية ولتثبيت ما يعرف بالهلال الشيعي، أو ربما لتغيير المناصفة خصوصاً أن قوى 8 مارس تدعو إلى المثالثة. وهذا الأمر خطير جداً وهو يكرس الفيديرالية، ويمنع تطبيق «الطائف» الذي أشار إلى إلغاء الطائفية السياسية أي انتخاب مجلس النواب خارج القيد الطائفي، وتأسيس مجلس الشيوخ. بالنسبة إلي أنا مع النظام العلماني على قاعدة إعطاء ما لقيصر لقيصر وما الله لله، ولكن العلمانية قد تشكل إحراجاً للمسلمين، فالإسلام لا يٌقر بفصل الدين عن الدولة والزمني عن الروحي، وقد يصلح «الطائف» إذا طبق لأن يكون ركيزة للوصول إلى دولة مدنية مع الحفاظ على التراث اللبناني المتمثل في الأديان والغنى الروحي.

الكاتب: 
ريتا فرج تحاور قباني وبيضون وحمادة وأبو عاصي
المصدر: 
التاريخ: 
الخميس, أكتوبر 1, 2009
ملخص: 
لا يزال المشهد السياسي الراهن ينذر بحال من التوتر يتداخل فيها المحلي مع الإقليمي. ورغم أن معضلة تأليف الحكومة تشكل ظاهرياً لُبَّ العقدة، إلاَّ أن الهواجس الأمنية والفتن المقنعة والمتنقلة على أرض لبنان، تشي بدورها بأن النظام يجتر أزماته ومرشح للدخول مجدداً