لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (23): رَفَضَ الدروزُ البروتستانتية فمَالَ الأميركيون إلى غَيرِهِم
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
مع خروجِ الجيش السوري من لبنان في العام 2005، ازدادَ اهتمامُ السفراء الأميركيين المُتعاقِبين لدى بيروت، (إلى جانبِ دولٍ غربيةٍ أخرى أبرزها بريطانيا وفرنسا)، بالجيش اللبناني، مما أعطى انطباعًا بأنَّ التدخّلَ الأميركي في لبنان بدأ في مرحلةِ ما بَعد الوصاية السورية. وقد كان ذلك التدخّل ملحوظًا، لأنه مكشوف، لكنّهُ في الحقيقة قديمُ العهد، وعلى موجةٍ مُختلفة من التدخّلِ الأوروبي. فهو اتَّخَذَ في البداية شكلَ “التبشير البروتستانتي” المقرون بخدماتٍ طبيَّة وتعليمية. وفي الأصل كانت غايةُ التبشير الأنكلو-ساكسوني في لبنان (الأميركي-البريطاني) من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، تحويلَ الدروز إلى المذهب البروتستانتي (مما يُفسِّرُ الدعم البريطاني للدروز، في حقبة حرب الجبل في العام 1860، وليسَ فقط لمُواجَهةِ التدخّلِ الفرنسي كما هو شائع).
بدأ الأمر بفتحِ مدارس الإرساليات التبشيرية البروتستانتية انطلاقًا من المناطق الدرزية في جبل لبنان، حيث قامَ المُبَشِّران الأميركيان الدكتور وليام طومسون والمُستَشرِق كورنيليوس فان دايك، بتأسيسِ مدرسة وعيادة طبيَّة في بلدة عبيه، وكذلك فَعلَ البريطانيون بتأسيسهم مدرسة سوق الغرب، كما تمَّ تأسيس “مدرسة الأميركان” في صيدا.
ولما فشلت الإرساليات الأنكلو–سكسونية في إغراء الدروز وتحويلهم إلى مذهبها اتجهت إلى استمالةِ أبناءِ الطوائف المسيحية الأخرى بنجاحٍ ملحوظ.
عندما وَصَلَ الدكتور طومسون إلى بيروت في أوائل العام 1833 كان هناك ثمانية مُبشّرين، توفي منهم اثنان، ورجعَ اثنان إلى أميركا، فلما حدث هذا التغيير في الاتجاه، اقترحَ طومسون إنشاءَ مدرسةٍ إنجيلية في بيروت في العام 1866 برئاسة دانيال بليس (أُطلق عليها في البداية اسم “الكلية الإنجيلية السورية”، ثم تحوَّل اسمها إلى “الجامعة الأميركية في بيروت” في العام 1920 بعد إعلان دولة لبنان الكبير، وأُقيمَت على أرضٍ اشتراها المرسلون الأميركيون من الدروز).
وقد ترك الدكتور طومسون أثرًا مهمًّا عن عمله في لبنان وتجواله في سوريا وفلسطين من مطلع أربعينيات القرن التاسع عشر، وهو كتابٌ يتضمّنُ انطباعاته وأوصافه لأحوال وعادات ومجتمعات السكان فيها بعنوان: “الأرض والكتاب”. وسوف أكتفي الآن بمقطعٍ من كتابه هذا حول لبنان للتأكيد بأنه لم يتغيّر شيءٌ في هذا البلد منذ ذلك الحين، فكتب يقول:
“يبلغ عدد سكان لبنان (الجبل) نحو 400 ألف نسمة يعيشون في قرابة 600 بلدة وقرية ودسكرة. هناك ديانات ومذاهب عدة تعيشُ مع بعضها، وتمارس خرافاتها الدينية المتضارِبة عن قرب، لكنَّ الناسَ لا يَأتلفون في مجتمعٍ متجانس، ولا يُكنُّون لبعضهم البعض مشاعرَ أخوية، فالسنَّة يُقاطِعون الشيعة، وكلاهما يكره الدروز، وأهل المذاهب الثلاثة يمقتون النصيرية (العلويين). أما الموارنة فلا يكنُّون محبةً لأحد، وهم بدورهم مكروهون من الجميع. والروم الأرثوذكس لا يطيقون الروم الكاثوليك، وكلّهم يبغضون اليهود. وهذا ينطبق أيضًا على الطوائف الصغرى في تلك البلاد. وليس بين كل هؤلاء رابطٌ مشتركٌ من الوحدة، كما إنّه ليسَت للمجتمع طبقات متواصلة تجمعه يمكن أن تُفتَحَ للعمل من أجل المنفعة العامة للجميع، بل هناك عددٌ لا حَصرَ له من النتف المتفرّقة، والصدوع، والفواصل، يجري عبرها تطويع الجمهور في حالةٍ من الفوضى الميؤوسة، وهي تكمن في كلِّ زاويةٍ من الزوايا الكثيرة للعداء المُتبادَل بينها جميعًا. إنَّ روحاً خارقة مُهَيمنة على الفوضى البدائية السائدة يُمكِنُ وحدها أن تُقيمَ الانتظام في مثل هذه الحالة الفوضوية، وتجعلُ تلك العناصرَ المتنازعةَ قابلةً للسلام والوئام. ولستُ أظنُّ أنَّ أيَّ بلدٍ آخر في العالم يَضُمُّ مثل هذا التعدّد من الفئات المتنازعة، وهنا تكمن العقبة الكبرى أمامَ أيِّ تهذيبٍ أو تحسينٍ عمومي ودائمٍ لهذا النوع من الحالات، ومن طبيعة الأخلاق، والتصوّرات. إنهم لن يستطيعوا أبدًا تشكيلَ شعبٍ موحَّد، ولن يأتلفوا من أجل أيِّ هدفٍ ديني أو سياسي مهِم. ولذلك سوف يبقون ضعفاء، وغير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، ومُعرَّضين دائمًا لغزوات ومظالم أجنبيَّة. هكذا كان الأمر، وهكذا هو الآن، وهكذا سيبقى الى أمد طويل طالما بقي الشعب مُنقَسِمًا ومُهمَّشًا ومُداسًا”.
ولَمَسَ الدكتور طومسون أنَّ الناسَ في هذه البقعة من العالم يحبّونَ المال إلى درجةِ العبادة، وأنهم أينما ذهبت تجدهم يطلبون المال، وقال إنهم ما كانوا ليرموا علينا السلام لو لم نكن نُقدّم لهم ولأولادهم خدمات تعليمية وطبيَّة.
وقال أيضًا، إن عشقهم للمال جعله على يقين بأن مجيء السيد المسيح إلى هذه المنطقة، دون غيرها من مناطق العالم، لينقذهم من عبادة المال!