لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (28): الديبلوماسي البُوذي
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
بَعدَ سُقوطِ الوِحدَةِ السورية-المصرية، عام 1961، وتَفَكُّكِ “الجمهورية العربية المُتَّحدة”، ارتفعَت وَتيرةُ التدخّلِ المصري-الناصري في الشأنِ اللبناني عمّا كانت عليه أثناء الوجود المصري في سوريا.
بل إنَّ المُمارساتَ التي كانت سائدةً في زمنِ حُكم عبد الحميد السراج باسم عبد الناصر، بعدما انتقلَ من وزارةِ الداخلية إلى رئاسةِ المجلس التنفيذي السوري، ظلَّت كما هي من حيثُ اعتمادِ بقايا الخلايا الناصرية التي كانت تابعةً له في عملياتٍ أمنية داخل لبنان، خصوصًا بعدَ الصراعِ المصري–السعودي على اليمن أيام حُكم الملك فيصل بن عبد العزيز، والإعلانِ عن مشروعِهِ إقامة حلفٍ إسلامي لمُقاومةِ المَدِّ الناصري والقوميّةِ العربية التي نادى بها.
وقد ظهر ذلك جليًا من اغتيال الصحافي المعروف كامل مروة، صاحب جريدتَي “الحياة” و”دايلي ستار”، الذي تبنّى فكرة الملك فيصل إقامة حلف إسلامي، وما استتبعه ذلك من حملاتٍ إعلامية مُوَجَّهة ضد الحالة الناصرية. فقد تمَّ اغتيالُ كامل مروة على أيدي بقايا خلايا السَرَّاج في لبنان.
لكنَّ مرحلةَ التحضيرِ في زمن الوحدة المصرية–السورية لإشعالِ الحَربِ الأهلية المُصَغَّرة في لبنان (المُسَمّاة “ثورة ” 1958)، تُشيرُ إلى المدى الذي ذهبت إليه الأجهزة الناصرية في دمشق في عملياتها الأمنية على الأراضي اللبنانية.
وقد كشف سامي جمعة قصّةَ تَجنيدِ القنصل العام البلجيكي في دمشق، لوي دو سان، لتَهريبِ السلاح والذخائر والمتفجّرات إلى لبنان بسيارته لأنها تتمتّعُ بالحصانة الديبلوماسية، فلا تخضع للتفتيش على المراكز الحدودية اللبنانية.
والقنصلُ البلجيكي هذا وصفته مجلة “تايم” الأميركية في ذلك الوقت بأنه “المليونير الغريب الأطوار”، وأثناء خدمته الديبلوماسية في دمشق، تعارف مع سامي جمعة، وتطوّرت علاقتهما إلى درجةِ “الصداقة الوثيقة”. والقنصل البلجيكي دو سان اعتنقَ الديانة البوذية، وكان شديدَ العداء للسامية، ويستمتعُ برياضة “اليوغا” وبتمارين التأمّلِ الفكري.
قام سامي جمعة بترتيبِ لقاءٍ بين القنصل البلجيكي وعبد الحميد السرّاج، فأُعجِبَ القنصلُ بالسرّاج إلى درجةِ أنه وعده بمساعدته بأيِّ شكلٍ في “الحربِ ضدّ الغرب واليهود”.
ولكي يتأكّد السرّاج من وقوف القنصل البلجيكي عند كلامه، طلبَ منه إذا كان من المُمكن استخدام سيارته الديبلوماسية لنقل شحنةٍ مُستعجلة من المواد إلى “المقاومة” في بيروت. وتفاجأ السرّاج بقبول القنصل البلجيكي، بل بترحيبه، بهذه المهمة. وهكذا قامت سيارة دو سان الديبلوماسية برحلاتٍ عدة عبر الحدود اللبنانية إلى بيروت مُحَمَّلةً بالأسلحة والذخائر المُرسَلة من السرّاج إلى مقاتلي شهاب الدين في بيروت.
لكنَّ المخابرات البريطانية عَلِمَت بالأمر، فأبلغت الدوائر الأمنية اللبنانية. ولدى مرور السيارة الديبلوماسية على الحدود، وهي مُتَّجِهة في رحلتها المُعتادة يقودها القنصل بنفسه (أواسط أيار/مايو 1958)، أوقفها الأمن اللبناني وجرى تفتيشها، فوجد المفتّشون في صندوقها ثلاثة وثلاثين بندقية رشاشة، وثمانية وعشرين مسدسًا، وحوالي 15 ألف طلقة من الذخيرة، وقنبلة واحدة موقوتة.
وقد اعتقلت السلطات اللبنانية القنصل العام البلجيكي، وجرت محاكمته في بيروت، وصدر بحقه حكم بالإعدام، خُفّضَ تاليًا إلى عشرين سنة من السجن، لكن بعد انتخاب فؤاد شهاب، قائد الجيش اللبناني آنذاك، رئيسًا للجمهورية، بتوافق مصري–أميركي، طلب منه عبد الناصر شخصيًا أن يُطلِقَ سراح القنصل البلجيكي، فأطلقه، وانتقلَ إلى سوريا وبقي فيها حتى وفاته في العام 1995 في بلدة “بملكا” بالقرب من مدينة طرطوس على الساحل السوري لجهة حدود لبنان الشمالية.
ويصفُ سامي جمعة حالة “الانفلاش” التي انحدرت إليها المخابرات السورية في حربها اللبنانية، خلال سَعيِها إلى تقويضِ حكم كميل شمعون بأيِّ طريقة، بحيث وقعت فريسةَ جماعاتٍ من المحتالين، كما قال، كانوا يأتون ويزعمون بأنهم يُمثّلون مجموعاتٍ من المقاتلين في مختلف المناطق اللبنانية، فيجري توزيع السلاح عليهم لهذه الغاية، لكنهم كانوا يبيعون تلك الأسلحة للانتفاع بثمنها، أو لتبديده على موائد القمار!
ويُمكِنُ تصديق هذه الرواية، قياسًا على ما شاهدناه أثناء انخراط المقاومة الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية الكبرى التي انطلقت عام 1975، عندما جرى توزيع السلاح الفلسطيني على كلِّ عابرِ سبيلٍ في لبنان، فلم يبقَ شابٌ من أتباع “الحركة الوطنية” اللبنانية إلّاَ ونالَ قطعةً من السلاح، سواء كان مُقاتلًا أو غير مقاتل، بالإضافة إلى التنفيعات المالية لأعدادٍ كبيرة من العاملين في السياسة وفي الإعلام وغيرهم من المتنفذين.
وما زالت الحكاية هي …هي!