لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (36): العلاقاتُ المَشروطة
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
إنَّ ما جرى في لبنان صيف العام 1958 أثبتَ أنَّ هذا النوعَ من الاضطرابات الدامية يُفرِزُ أسوأَ قادةٍ لأسوَإِ مُتحارِبين. وقد تأكّدَت هذه الظاهرة في الاحتراب الداخلي، الذي استمر داميًا ومُدمّرًا من منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى مطلع التسعينيات منه.
قد يكونُ من الأهمّية بمكان مُقارنةُ الحالة اللبنانية مع تجارب أخرى مُماثِلة في العالم أكّدَت أنها تُفرِزُ أسوَأَ العناصر البشرية وأشدّها إجرامًا، على صعيد القيادات في غُرَفِ العمليات، وبين المقاتلين في الميدان، هذا فضلًا عن الاغتيالات، واستباحة الحرمات الدينية والإنسانية.
تبقى الحقيقة في ذلك كله الضحيّة الأهم، ففي الحروب الأهلية التي نشبت في أماكن أخرى، وُضِعَ لها حَدُّ فاصلٌ يَمنَعُ تكرارها، من خلال المصارحة وإظهار الحقيقة، والاعتراف بها، والمباسطة الصريحة، والالتزام بعدم العودة إلى العنف، بذلك كله تتم المصالحة على الصعيد الوطني، حول المسؤولية الجماعية والفردية عن كل ارتكاب جرمي للجماعات والأفراد، بهدف فرز الفئات التي تجاوزت الحدود المقبولة تجاه المواطنين العُزَّل والممتلكات العامة، والفئات التي قاتلت على الجبهات من غير أعمال فتكٍ انتقامية خارجة عن المألوف.
بعد هذا الفرز يكون أيُّ قانونٍ للعفو انتقائيًا، وليس عموميًا، يشمل الصالح مع الطالح. فالعفو العمومي في أعقاب الحروب الأهلية، يُشَكّلُ بذرةً أساسيةً من بذور تجدُّدها، لأن ذلك بمثابة مكافأة للإجرام، وهو يُسجّلُ سابقةً من حيث إزالة الروادع المانعة.
الحقيقة المخفيَّة في الحرب الأهلية اللبنانية المُستَدامة، أنها وإن كانت حالة لبنانية خالصة، إلّا أنَّ في دوامها عُنصرًا خارجيًا مُتَعَدِّد الأطراف، ولهذا كان من السهل إخفاء المسؤوليات في النهاية، وطمس معالم الأسباب التي أطلقتها. فالدول الأوروبية بالدرجة الأولى هي المحراك المزعزع للاستقرار اللبناني، قبل تسلل الولايات المتحدة إلى المشهد اللبناني واحتلالها موقع الصدارة. إذ إنَّ العلاقة الأميركية من الأساس، أي قبل اعترافها باستقلال لبنان عام 1944، كما مرَّ، كانت علاقة مشروطة. أما علاقات الدول الأوروبية المشروطة مع لبنان، فقد جاءت متأخّرة، وذات طابع مالي، وبعد فوات الأوان.
لقد أغرقت تلك الدول الحكومة اللبنانية، في مرحلة رفيق الحريري بعد “الطائف”، بالديون، من خلال “مؤتمر باريس”، الأول والثاني والثالث، لكنها افترقت عن هذا النهج بعدما اتجه لبنان إلى الانهيار والإفلاس، على شفا الاضطراب الأهلي، فأبدلت اسم المؤتمر التمويلي للحكومة اللبنانية إلى “سيدر 1” (6 نيسان/أبريل 2018)، بدلًا من “باريس 4″، (هو الأول في عهد سعد الحريري، بينما “باريس 3″، والأخير تحت هذا الاسم، فكان في عهد حكومة فؤاد السنيورة بعد الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في العام 2006).
السببُ المُوجِب الذي أعلنته الدول الأوروبية تمويهيٌّ وغير جدّي. فقد قالت في شروط علاقتها المُستَجِدَّة إنَّ أيَّ قروض، أو مساعدات أو عطاءات أوروبية للبنان، سوف تكون مشروطة بتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية اللازمة، لأنَّ الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان غير قادرة، أو غير راغبة، في القيام بأيِّ إصلاح.
فإذا كانَ هذا هو السبب، وقد يكون كذلك، فإنه يطرحُ من جديد أسئلة مُحرِجة على الأوروبيين، لأن شَرطيَّتهم المُستَجِدّة غير مُقنعة، كون أسبابها الموجبة ليست جديدة على الإطلاق، وهي قائمة منذ ما قبل الحرب الأهلية، بل كانت من أسبابها الخلفيَّة في ذلك الوقت.
على افتراضِ أنَّ الأوروبيين كانوا جاهلين، أو غافلين، عن حقيقةِ الطبقة السياسية، كموجبٍ شرطي، وهو أمرٌ غير قابل للتصديق، فلماذا تهاوَنَ الأوروبيون في الضغط على الطبقة السياسية اللبنانية، وهم يعرفون مُسبَقًا أنها غير قادرة، وغير مؤهّلة، للقيامِ بأيِّ إصلاحٍ جذري، أو حتى هامشي، سواء على الصعيد السياسي أو في المجال المالي والاقتصادي؟
كان الأوروبيون يعرفون، من قبل مؤتمر “سيدر 1” أنَّ الدولةَ اللبنانية سائرة في طريقِ التفكّكِ والانهيار، ولا تخفى عليهم الأسباب الحقيقية للوضع الراهن، ودورهم التاريخي المُستَمِر المؤدّي إليه. فقد نشرت مراكز الأبحاث الغربية دراساتٍ تؤكّدُ أنَّ لبنان باتَ أحد ثلاثة بلدان نزلت بها أفدح أزمة اقتصادية منذ القرن التاسع عشر. وهذا يعني أنَّ لبنان بات أمامَ خطرٍ وجودي داهم، لأنَّ المُماطلة في المعالجة الجديَّة، الداخلية والخارجية على السواء، زعزعت أُسُسَ الكيان، وفاقمت الأزمة، وبالتالي، قلَّت الفُرَص للمُعالجة الناجعة، أو حتى للترقيع.
يعودُ جانبٌ من هذا الخطر الداهم إلى إخفاءِ حقيقة الحرب الأهلية، والتغطية على نتائجها المؤدّية إلى الانهيار:
أوّلًا، لأنَّ النظامَ القائم يمنعُ الوصولَ إلى أيِّ حقيقةٍ في لبنان. وثانيًا، لأنَّ الوضعَ اللبناني بكامله، يُعاني من التجزئة والتشظّي. وثالثًا، لأنَّ الاهتمامَ الأوّل لقوى الأمر الواقع في الداخل، ولقوى التدخّل من الخارج، هو استغلالُ الحوادث لصالحها، وليس معالجة الأسباب الفعلية.
هذا النوع من المعالجات لا يمكن أن يأتي لصالح عموم الشعب اللبناني على نحوٍ حاسمٍ يُلغي التركيبة المُوَلِّدة للحروب الأهلية.