ماذا يقول أهل الطائف وضحاياه وخوارجه بعد عشر سنوات (3)؟ فنيش: »الميثاق الجديد« ولّد شعوراً بوجود خلل بنيوي في النظام
إذا كان السلام الداخلي قد دجَّن »حزب الله« سياسيا فأدخله اعتبارا من انتخابات العام 1992 في بنية المؤسسات السياسية لدولة الطائف فإن العين متجهة اليوم صوب السلام الإقليمي الذي قد يجرد »حزب الله« من سلاحه العسكري ويدخله أكثر فأكثر في لعبة الأولويات الداخلية بعدما يكون همّه الأول، أي التحرير، قد تحقق، وبدور أساسي لمقاومته التي أكسبته هالة سياسية ومعنوية جعلته رقما صعبا في المعادلة الإقليمية. ما هي الأولويات الداخلية لهذا الحزب بعد التحرير، كيف كان ينظر إلى الطائف قبل عشر سنوات وكيف صار ينظر إليه اليوم، وأين تلتقي وتتعارض نظرة الحزب إلى هويته اللبنانية مع المشروع الإسلامي العام الذي يعتقد به ويناضل لأجله؟ في إطار ملف الأحزاب والطائف تحاور »السفير« في هذه الحلقة العاشرة عضو كتلة الوفاء للمقاومة وعضو المجلس السياسي ل»حزب الله« محمد فنيش: هناك ملاحظة عامة بأن »حزب الله« يبدو حذرا في الحديث عن الطائف وكأنه ليس معنياً به أبداً؟ يجيب النائب فنيش: هذا الانطباع ليس في محله. صحيح ان »حزب الله« لم يصنع هذا الاتفاق لكنه ساهم في صياغة التحول الذي حصل على صعيد الأزمة اللبنانية باتجاه إعادة تشكيل موازين قوى محلية وإقليمية أسهمت بإقرار الجميع بضرورة إقفال ملف الأزمة الداخلية بوجهها المحلي فقط، وإذا عدنا للأسباب والظروف التي حتمت تلك الضرورة الدولية والاقليمية والمحلية بالبحث في سبل إقفال الأزمة، نلحظ ان هناك دورا أساسيا لعبه »حزب الله« من خلال دوره الريادي في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي إضعاف دور التأثير الإسرائيلي في المعادلة الداخلية، عبر زعزعة ركائز، حاول العدو صنعها في الداخل، ما أدى الى إجهاض المشروع الإسرائيلي بتجلياته الداخلية، وسبق ذلك إلحاق هزيمة بالقوات المتعددة الجنسيات وفرض اندحارها من لبنان، ما أدى الى إضعاف النفوذ الأميركي وإلى فشل قوى النظام اللبناني بعد فقدانها الركائز الخارجية في تطويع القوى المحلية المناوئة، من دون إغفال حقيقة، ان الحرب الداخلية أصبحت حربا عبثية ومنهكة لكل أطرافها وبلا أفق وبلا جدوى، خاصة بعدما تفرعت عنها حروب إلغاء طاولت حتى أبناء المناطق المتجانسة سياسيا وطائفيا وحتى مذهبيا. في ظل هذه العوامل مجتمعة كان الطائف محطة لإنهاء الحرب الداخلية في ظل نوع من التوافق الدولي والعربي والمحلي عبّر عن نفسه في الأبعاد التي جسدتها وثيقة الطائف بشقها الإصلاحي الداخلي وبتطمين الفريق المسيحي الذي كان ولأسباب موضوعية يرفع شعار الخوف على الكيان. وتمثل هذا التطمين بالإقرار بنهائية الكيان اللبناني. كذلك كرست الوثيقة العلاقة مع سوريا وهوية لبنان العربية بصورة نهائية وأنهت النفوذ الإسرائيلي وامتداداته في الداخل اللبناني. اعتراض بلا ممانعة لماذا تحول »حزب الله« من معارض للطائف الى مدافع عنه؟ يقول فنيش: كان »حزب الله« من أوائل المبادرين إلى إجراء قراءة موضوعية نقدية تحليلية للطائف من خلال وثيقة مكتوبة، ولقد كان الحزب حاسما في موقفه المؤيد والداعم لوقف الحرب، وإرساء السلم الأهلي وقيام علاقات مميزة بين لبنان وسوريا. بالمقابل تحفظ الحزب على الصياغة الملتبسة لموضوع مقاومة الاحتلال واشترط في تعامله الايجابي مع موضوع نشر الجيش في بيروت الكبرى ونزع السلاح الداخلي بأن لا يمس أبدا سلاح المقاومة، واعتبر انه كان بالإمكان الإتيان بصيغة أكثر تطورا في موضوع الإصلاحات الداخلية، بحيث تتضمن آليات واضحة لتطوير النظام السياسي (مثال تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية التي حُدد موعد لتأليفها بعد أول مجلس نيابي على أساس المناصفة، ولكن من دون تحديد فترات زمنية للمرحلة الانتقالية) كما قلنا ان الطائف أعاد إحياء نظام المحاصصة الطائفية (صياغة جديدة للمشاركة وتوزيع الصلاحيات) وبالتالي فإن هذه الصيغة ستنتج تعددا في مواقع اتخاذ القرار، وهو تعدد نعتبره إيجابيا إذا حصل تعاون بين السلطات والرئاسات وسلبيا إذا حصل تنافر وتجاذب، وقد أثبتت التجربة التي مررنا بها طيلة السنوات العشر الماضية صحة القراءة النقدية التحليلية التي أجراها »حزب الله« للطائف. توحي تحفظاتكم بأن الحزب كان معارضا للشق الاصلاحي الداخلي للطائف؟ يقول فنيش: أي موقف اعتراضي للحزب من بعض بنود اتفاق الطائف لم يتحول الى موقف ممانعة من شأنه تعطيل الانتقال من حالة الاقتتال الداخلي الى حالة السلم الأهلي، لا بل كان الحزب مساندا لكل الخطوات التي تحققت للانتقال إلى مرحلة السلم الداخلي. هل يعكس موقفكم الحاسم برفض الاقتتال الداخلي في حينه أنكم كنتم تعتبرون الحرب هي حرب الآخرين على أرض لبنان؟ يجيب فنيش: أبدا، فنحن لا ننظر إلى المشكلة اللبنانية من خلال توصيف عام يجعلها حرب الآخرين بل نرى ان العامل الداخلي هو الذي شرع الباب أمام حضور العوامل الخارجية في الأزمة الداخلية وأخطرها العامل الإسرائيلي الذي سعى الى قيام نظام سياسي في لبنان مرتبط به من النواحي كافة. أنا أعتقد ان العامل المحلي له أهميته وتأثيره، لولا هذا العامل لما كانت هناك رعاية دولية إقليمية لانتاج صيغة توفيقية تحظى بموافقة الأطراف المحلية. الدولة والنظام قبل الطائف وفي ظل التهميش السياسي والاجتماعي تولد شعور لدى أبناء الطائفة الشيعية جعلهم في موقع ملتبس ازاء الدولة النظام السياسي السابق، أين هم الشيعة بعد الطائف؟ يجيب فنيش: ينبغي التمييز بين ثلاثة أمور: أولاً، الدولة ككيان للإنسان يجد فيه حريته وأمنه واستقراره وحقه بالتعبير. ثانياً، النظام السياسي الذي ينظم علائق الأفراد والمجموعات. ثالثا، الأشخاص القيِّمون على تحمل المسؤولية العامة في الأنظمة السياسية، فإذا ميّزنا بين هذه الأمور فلا نجد أن أحدا يرفض ضرورة وحتمية وجود مشروع الدولة، إذ لا إمكانية لوجود إنسان بلا مواطنية وبلا انتماء ولعل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وكل من هم بلا وطن هي خير دليل على معنى فكرة الدولة الانتماء وما يمكن أن يسبب ذلك من حروب سعيا من أجل الحصول على وطن وانتماء وهوية. ويضيف: لقد نما بعد ولادة الكيان اللبناني شعور بغربة بعض المناطق نتيجة عدم شمول أبنائها بالرعاية والسياسات التنموية التي تساوي بين المناطق والناس. هذا الشعور تولد عند شيعة الأطراف وعند غيرهم ممن أصيبوا بالتهميش (أبناء عكار على سبيل المثال لا الحصر). وزاد الطين بلة ان أبناء الجنوب تحملوا منذ العام 1948 تبعات وأوزار الصراع العربي الاسرائيلي ولا يزالون حتى اليوم ونما شعور بالحرمان السياسي لدى الشيعة أيضا نتيجة عدم مشاركتهم في اتخاذ القرار لأن معادلة الحكم السابقة كانت تقوم على ثنائية تتجاهل باقي الطوائف، وأدت هذه الثنائية الى تركيز الانماء في العاصمة وجبل لبنان وتجاهل المناطق الأخرى (البقاع، الشمال والجنوب). يتابع فنيش: اليوم لا نقول ان الطائف أوجد حلاً لهذا الشعور بل ولّد شعورا من نوع آخر، وهو الشعور بأن هناك خللاً بنيوياً في النظام، الذي ينتج أزمات سياسية ويولد شعورا لدى البعض بأنه ليس متساويا مع غيره من أبناء الوطن في الحقوق والواجبات كافة لا بل هناك إعادة إنتاج لاختزالات كان هناك شكوى منها في السابق. ما هو المقصود بالاختزالات؟ يرد فنيش: »اختزال الطوائف بمرجعيات واختزال المؤسسات بأشخاص، ولعل ما أدى إلى تفاقم الأمور أكثر بعد الطائف هو الممارسة السياسية للبعض على مستوى مؤسسات الدولة. هذه الاختزالات تؤكد أن المشكلة أعمق من أن تحصر بجهة أو فئة أو طائفة على حساب الآخرين. لقد حصل قدر من المشاركة ولكن ماذا عن الكفاءات في كل الطوائف والتي باتت تشعر اليوم نتيجة رسم سقوف طائفية معينة بعدم تكافؤ الفرص بين الجميع«. الطائفية السياسية إذاً »حزب الله« يرى ان هناك أولوية لإلغاء الطائفية السياسية؟ يقول النائب فنيش: عدم تحديد وقت لإلغاء الطائفية السياسية يولد خشية حقيقية من أن تصبح الصيغة الجديدة سقفا نهائيا للنظام السياسي. »الترويكا« ليست من إنتاج الطائف بل هي وليدة محاصصة لا بديل عنها في المرحلة الانتقالية لإشعار الطوائف بأن لها دورها في الصيغة الجديدة. نحن نأمل الاستفادة من تجربة تنفيذ اتفاق الطائف على مدى السنوات العشر الماضية من أجل إجراء التغيير المنشود وبناء دولة المواطنية وقد يشكل الإسراع في تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية مدخلاً ملائماً من أجل إزالة ما اعترض التسوية من خلل وثغرات، إذ ان إلغاء الطائفية السياسية يتيح الفرصة لكل القوى الفاعلة وبمختلف انتماءاتها الفكرية لكي تعبر عن برامجها المطروحة بهدف تحقيق مصلحة الوطن وأبنائه. البعض الآخر يطرح مخاوف ازاء شعار إلغاء الطائفية السياسية؟ يجيب فنيش بالدعوة الى موضوع إلغاء الطائفية من منظار وطني عام وليس من منظار فئوي. ويقول ان عدم تحديد وقت معين لإلغاء الطائفية السياسية هو الذي يهدد بالمزيد من الحروب والفتن بحسب تبدل أوضاع القوى الإقليمية والدولية المحيطة بلبنان، »وأي معالجات أخرى لن تلغي أبدا إمكانية تجدد الأزمات وعلينا الاستفادة من واقع أننا ما زلنا في مرحلة تطبيق اتفاق الطائف في ظل الرعاية الإقليمية (السورية) ولا أحد يدري كيف ستكون صورة الآليات الداخلية في المستقبل من دون مثل هذه الرعاية مع الأخذ بعين الاعتبار ان الأزمات حاصلة حتى في ظل وجود الرعاية الاقليمية اليوم«. وماذا بعد إلغاء الطائفية السياسية؟ يقول عضو كتلة الوفاء للمقاومة ان »حزب الله« يطمح الى تجاوز النظام الطائفي وبناء دولة المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، دولة المواطنية وليس السقوف الطائفية والمذهبية والمرجعيات. وطالما ان الآليات التي نص عليها الدستور هي المتاحة كان تعامل الحزب مع اتفاق الطائف هو تعامل من يبحث عن حلول بوسائل سلمية دستورية متاحة لتطوير النظام السياسي بالمشاركة مع جميع اللبنانيين ودائما بالاقناع والقبول. ولقد علمتنا التجربة ان التغيير مطلب ضروري ولا أحد يستطيع الوقوف بوجهه وإلا يتولد الانفجار، كما تعلمنا ان التغيير لا يمكن صنعه أبدا بالإكراه أو بالقوة«. المشروع الإسلامي وماذا عن التعارض بين الإقرار بنهائية الكيان اللبناني وبين المشروع الإسلامي العام الذي يؤمن به »حزب الله« (الجمهورية الإسلامية)؟ يقول فنيش ان لا تعارض بين الرؤيتين »فالإسلام هو عقيدة وحضارة وقيم ونظام حياة. الدين أطروحة للإنسان لتنظيم حياته وللمجتمع لتنظيم علاقات أفراده من خلال ضوابط تهدف الى تحقيق حرية الإنسان والعدالة على قاعدة التوحيد والارتباط بالله والشعور بالمسؤولية وبناء التصور الذي ينظر إلى الدنيا بأنها مرحلة للعبور الى الحياة الأخرى، وهذا التصور الفكري يصلح لكل إنسان بمعزل عن الحدود الجغرافية والقومية و»حزب الله« يسعى الى نشره والى تشكل قناعة بشرية به وبما تضمنه من مفاهيم وأحكام وتصورات. لكن الآليات والوسائل والأساليب متروكة للإنسان حتى تتعامل مع واقعه السياسي والاجتماعي على قاعدة احترام الآخر والإقرار بالتعدد الإنساني وحق الاختلاف. وبناء عليه فإن الطرح الاسلامي ليس مؤديا بالضرورة الى إثارة العصبيات الطائفية والغرائز إلا إذا أراد البعض مصادرة حرية الفكر وممارسة التضليل الفكري والابتعاد عن الموضوعية والواقعية والسقوط في منزلقات التزمت الايديولوجي لمجرد عدم قناعته بالإسلام«. ويضيف فنيش: الانتماء إلى الإسلام لا يعني معاداة المسيحية لأن الإسلام والمسيحية وسائر الأديان المساوية تنطلق من قاعدة واحدة أساسها الإيمان بالخالق وباليوم الآخر والبعد المعنوي للوجود وان افترقا حول تفاصيل هذه المفاهيم. والإسلام عندما يطرح كنظام حياة يشترك مع المسيحية في الخط العام الاعتقادي ولكنه لا يختلف معها في مجال تنظيم الحياة المنبثق عن أركانه. وإذ يشدد فنيش على وجوب أن لا تشكل العقائد حواجز وموانع تمنع تفاعل أفراد المجتمع الإنساني يقول: »لبنان بلد يضم تنوعا يغني الفكر والثقافة إذا حصل تعاون بين أبنائه على أرضية القيم والمصالح المشتركة وحفظ أمن المجتمع واستقراره«. الهوية الوطنية ويؤكد فنيش ان لا أحد بمقدوره أن ينزع عن »حزب الله« هويته الوطنية اللبنانية »وأنا بالضرورة أنتمي الى وطن ولا أستطيع أن أنكر هذا الانتماء الوطني ولكن لا يجوز أن يكون هذا الارتباط والانتماء قيدا على تطلعاتي الإنسانية الشمولية. الساحة اللبنانية كوطن ضرورة ولا يستطيع أحد تجاهل دور »حزب الله« في هذه الساحة وبالتالي ليس من تعارض بين عمل الحزب السياسي مع سائر القوى وبين إمكانية الاختلاف في القناعات والرؤى والمعتقدات، فلا أحد يستطيع أن ينكر على غيره قناعته وحقه في نشرها ومحاولة إقناع الآخرين بها ولعل هذه هي ميزة الساحة اللبنانية من خلال مناخ الحريات التي يسود فيها«. وهل ينطبق الحديث عن مشروع الإسلام على الساحة اللبنانية؟ يجيب فنيش: »لا أرى أي مانع إذا تحول المجتمع اللبناني الى الإسلام ان يعبر عن ذلك بنظامه الإسلامي وضوابطه. طبعا هذا على المستوى النظري وذلك لا يتحقق بالإكراه والاضطهاد وإلغاء الآخرين. ورسالتنا كانت وما تزال وستبقى رسالة تعاون وحوار وانفتاح على الآخر وهذا الأمر لا ينطبق على لبنان بل على كل المجتمعات الإنسانية«. المقاومة والدولة ما هو الأثر الفعلي لحركة المقاومة التي يقودها »حزب الله« على صعيد بناء الدولة؟ يجيب فنيش: »البعض يريد استغلال ما في الوطن من إمكانيات لصالحه ولغاياته السياسية والفئوية حتى لو كان ذلك على حساب مصلحة الوطن العليا وأمنه واستقراره، بينما المقاومة الإسلامية تضحي بخيرة أبنائها من أجل حفظ الوطن وسيادته وأرضه وناسه ووحدته. وأنا أعتقد اننا نحتاج في حياتنا السياسية الى نموذج المقاومة الذي لا علاقة له بالمنافع الخاصة أو بالعصبيات المذهبية، فالمقاومة لا تنتمي الى عصبية معينة بل الى مبدأ وعقيدة وهي فعل ممارسة لمصلحة الإنسان اللبناني بمعزل عن انتمائه الضيق«. ويضيف: المقاومة أحيت في نفوس اللبنانيين قيم التضحية والاستقامة والطهارة وسيرتقي التيار السياسي المعبّر عن حالة المقاومة لكي يكون القدوة في تأسيس مدرسة سياسية جديدة تضع الحسابات والمصالح الوطنية فوق أي اعتبار. لا يعني ذلك اننا لسنا حاضرين كحزب في القضايا الداخلية لكن الأولوية هي لحفظ الوطن.