ماذا يقول أهل الطائف وضحاياه وخوارجه بعد عشر سنوات؟(1) سيناريو أميركي ولاعبون لبنانيون وعرب...وغيرهم
يحتاج الحديث عن الطائف قبل سنوات عشر الى شحذ الذاكرة: بيروت مقسمة يوحدها شريط الموت الدامي المتنقل في كل حي من أحيائها. حكومتان تديران دفة صراع لا أحد يملك الإذن برسم خواتيمه. ميليشيات مسلحة. جيش مقسّم. مجلس نيابي بقي موحدا ولكنه محروم من حقه بأن ينتخب رئيسا للجمهورية البلا رئيس. في 23 أيار 1989، شكلت القمة العربية المنعقدة في الدار البيضاء لجنة ثلاثية قوامها قادة المغرب والجزائر والسعودية واعطتها صلاحيات مطلقة لحل الأزمة اللبنانية. بدا واضحا ان القرار العربي جاء بإيعاز أميركي وضمن حسابات دولية وإقليمية وتصفية حسابات مع قوى مؤثرة في ساحة لبنان والمنطقة تمهيدا لرسم توازنات جديدة ترتبط بالسيناريو الأميركي لحل أزمة الشرق الأوسط. وبين بيان اللجنة الثلاثية العربية في الأول من آب 1989 الذي حمَّل سوريا مسؤولية وصول عملها الى طريق مسدود وبيانها الثاني في 15 أيلول 1989 الذي تبنى وجهة نظر دمشق بشأن العلاقات اللبنانية السورية وحمّل ميشال عون مسؤولية عرقلة الحل المطروح، انبرت محطة سياسية عسكرية عكستها المواجهة التي شهدتها بلدة سوق الغرب، ولم يكن أحد يتصور يومها أن هذه البلدة الجبلية الخلابة ستتحول الى محور دولي اقليمي تُرسم فيه خطوط حمراء بتاريخ الثالث عشر من آب 1989 وتنطلق منه في الوقت نفسه إشارة خضراء للاقلاع نحو الطائف. اثنان وستون نائبا من اصل تسعة وتسعين نائبا بعضهم كان فارق الحياة، اكتمل نصابهم في تمام الساعة الثانية عشرة والدقيقة السابعة عشرة من ظهر الثلاثين من أيلول 1989 في قصر المؤتمرات في مدينة الطائف التي كانت تسمى »مدينة الاجتماعات الصعبة«، ففيها تصارع مرارا وزراء منظمة »الاوبيك« وقادة دول مجلس التعاون الخليجي، وفيها انعقد مؤتمر القمة الاسلامية في العام 1981 وفيها فاوض الدبلوماسيون السوفيات خصومهم المجاهدين الافغان، وفيها أيضا وُلدت صيغة الحل لأزمة لبنان التي انطلقت شرارتها الأولى في 13 نيسان 1975. وأمام البيرق السعودي الأخضر والعلم اللبناني، أمضى نواب مجلس العام 1972 ثلاثة وعشرين يوما وهم يحاولون رسم الصورة الموعودة لوطن »الجمهورية الثانية« الآتي تحت مظلة »اللجنة الثلاثية« التي قالت لهم في يوم الافتتاح بلسان الملك فهد: »الفشل ممنوع والفجر اللبناني آت لا ريب فيه« (كان قد ردد العبارة نفسها الرئيس صائب سلام). اللاعبون الدوليون والاقليميون والمحليون شاركوا جميعا في ولادة الطائف بشكل مباشر وغير مباشر، حتى ميشال عون الذي قرر معاقبة النواب على ما فعلوه بتلويحه بحل المجلس النيابي، ولكن التعهد الدولي والاقليمي بالتنفيذ أكسب النواب شجاعة المغامرة فعاد منهم من عاد وقرر بعضهم أن يبقى في الخارج ولا سيما بعض اعضاء فريق »نواب الشرقية« ممن نُسفت منازلهم او سياراتهم وحوصرت منازلهم بالدروع البشرية. لم تدم ولاية رينيه معوض سوى سبعة عشر يوما اعتبارا من الخامس من تشرين الثاني 1989، وخرّ صريعا على بعد ثوان من القصر الحكومي في الصنائع وبقي الفاعل مجهولا. وفي غمرة الارتباك انتُخب الياس الهراوي رئيسا للجمهورية وبدأت مسيرة تنفيذ الطائف محكومة بواقع استمرار تمرد ميشال عون وتردد الأميركيين، حتى حصول غزو العراق للكويت في الأول من آب 1990 وانضمت سوريا الى التحالف الدولي فأصبحت أكثر تحررا من الضوابط الدولية. ولم يدرك ميشال عون تلك المتغيرات المتسارعة فدفع الثمن في 13 تشرين الأول 1990. بعد ازاحة عون، نشأت معادلة سياسية داخلية جديدة تميزت برعاية سورية كاملة لا اعتراض دوليا عليها، كما تميزت باستنكاف الجزء الأكبر من الجمهور المسيحي ولا سيما فئة الشباب التي استطاع ميشال عون دغدغة مشاعرها بشعاراته غير الواقعية، فإذا بها تُهزم، ويشعر المنجذبون اليها بهزيمة احتاجوا الى وقت طويل للاستفاقة منها. بالمقابل تحقق للجمهور الإسلامي العام مطلب المشاركة، وجاء تطبيق اتفاق الطائف ليُشعر فئة ما بأنها »فئة منتصرة« وفئة أخرى بأنها مهزومة. وعلى مدى عشر سنوات تعرف اللبنانيون الى ست حكومات والى عهدين وثلاثة مجالس نيابية، ولم يكن موقفهم العام موحدا إزاء ما اتُّخذ ويُتخذ من خطوات، فهل يصح اليوم أن نسأل عن موقف الرأي العام اللبناني إزاء الطائف بالأمس واليوم، وهل كان التنفيذ سليما وهل نعتبره حلا نهائيا، وما هو الموقف من إلغاء الطائفية السياسية وتعديل الدستور واعطاء صلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية؟ من الواضح ان لا مزاج لبنانيا واحدا إزاء اتفاق الطائف نصا وتنفيذا، ولعل بورصة الانشداد الطائفي والمذهبي هي »بيضة القبان«. أما العبور الى الدولة فيحتاج الى تبيان لغة المصالح بين الدولة من جهة وجمهور الطوائف من جهة ثانية. لقد كان المسيحيون يعتبرون قبل الطائف ان النظام السياسي القائم يعطيهم امتيازات تجعلهم كأقلية في المشرق يطمئنون الى الآخر، سواء أكان عربيا أم إسلاميا، وكانوا أيضا يعتبرون موقعهم وامتيازاتهم هي الضمانة للحفاظ على الكيان في مواجهة الآخرين الذين كانوا ينشدون الوحدة مع الجوار. بعد الطائف سقطت هذه الأرجحية وسقطت معها بنية سياسية نفسية عمرها حوالى نصف قرن، وتقدم الآخرون عبر جسر الطائف لمحاولة ايجاد لغة جديدة بينهم وبين »الدولة الجديدة«. هل نزع الطائف صفة الغبن عن جمهور أم انه حوّلها الى جمهور جديد؟ هل ما طبق كان »النسخة الأصلية« للطائف أم كان نسخة غير أصلية فيها من الإضافات ما كان كافيا للانقلاب على الطائف؟ هل نحن أمام محاولة انتاج هيمنة طائفية متجددة أم أن هناك من يريد العودة الى الوراء، وما هو موقف الراغبين بالعبور الى المستقبل؟ ما هو موقف حملة الأيديولوجيات الاشتراكية والقومية والوحدوية والسورية والإسلامية؟ هل استطاع الطائف ان يدجّنهم فطارت الطموحات والاحلام وأصبحوا لا يملكون سقوفا فوق السقف اللبناني الذي تتقاسمه »منازل كثيرة«؟ اليوم، يحتفل لبنان بمرور عشر سنوات على ولادة الطائف، بينها تسع سنوات ارتبطت بالعهدين الأصلي والممدد لالياس الهراوي، وسنة واحد ارتبطت بالعهد الذي دشنه اميل لحود في الثالث والعشرين من تشرين الأول 1998. كيف أمضى لبنان هذه السنوات؟ ماذا أنجز وماذا لم ينجز؟ كيف تصرف الرؤساء وهل تمكنوا من ارساء دعائم الصيغة السياسية الجديدة؟ أين هي الشخصيات التي أنتجت الطائف؟ من بقي منها ومن ذهب ضحية ما صنع بنفسه؟ من هم الذين انخرطوا في جمهورية الطائف بعد ولادتها؟ من أكمل في القطار ومن نزل منه؟ تفتح »السفير« ملف الطائف بدءا برأي الناس حول الاتفاق وتنفيذه ومستقبله في هذه الحلقة الأولى. اختارت »السفير« عينة من اللبنانيين من جميع المناطق والطوائف (725 شخص) ولا سيما حملة الشهادات الجامعية وطلاب الجامعات وطرحت عليهم ثمانية أسئلة حول اتفاق الطائف، وأظهرت الاجوبة ان 51،45$ يؤيدون اتفاق الطائف اليوم مقابل 2،38% يعارضونه وامتنع عن الاجابة 65،17% ممن شملهم الاستطلاع. وردا على سؤال: »هل كنت مع الطائف أم ضده قبل عشر سنوات؟« أجاب 65،53% انهم كانوا يؤيدونه وقال 51،25% انهم كانوا معارضين له وامتنع عن الاجابة 82،20%. وأظهرت الاجوبة ان 37،9% يرون ان تنفيذ اتفاق الطائف كان سليماً وبالمقابل يرى 10،73% ان التنفيذ لم يكن سليماً (51،17% لا جواب). ويعتقد 06،10% ممن شملهم الاستطلاع ان الطائف هو حل نهائي ويعارض ذلك 51،77% وقال 41،12% ان لا جواب عندهم. وأيد 96،40% تعديل الدستور لصالح إعطاء صلاحيات اكبر لرئيس الجمهورية، بينما عبَّر 72،47% عن رفضهم لذلك (31،11% بلا جواب). وأيد 31،79% من المشمولين بالاستطلاع إلغاء الطائفية السياسية في لبنان وعارض ذلك 96،16% ولم يعط 72،3% أي جواب. وبيّن الاستطلاع ان 31،47% يؤيدون إنشاء مجلس للشيوخ نص عليه اتفاق الطائف وعارض ذلك 20،34% (48،18% بلا جواب). وذكرت نسبة 65،69%انها تعرض مضمون اتفاق الطائف وفي المقابل أكدت نسبة 44،27% انها لا تعرف مضمونه وبقيت نسبة 89،2% بلا جواب. ويظهر الاستطلاع تراجع نسبة المؤيدين للطائف من 65،53% قبل عشر سنوات الى 51،45% حالياً. بالمقابل، ارتفعت نسبة المعارضة من 51،25% الى 2،38%. وتقاطع هذا المؤشر مع قول 51،77% ان الطائف ليس حلاً نهائياً للبنان. ويظهر الاستطلاع ان هناك ما يشبه الاجماع اللبناني بأن تنفيذ اتفاق الطائف لم يكن سليماً وذلك بمعزل عن الهويات المناطقية او الطائفية للمشمولين في الاستطلاع. واذ أظهر الاستطلاع تراجع التأييد العام لاتفاق الطائف فإن المناطق التي يغلب عليها الطابع المسيحي (زغرتا، بشري، البترون، جبيل، الكورة، كسروان) كانت أكثر ميلا لمعارضة الطائف اليوم، أكثر مما كانت عليه قبل 10 سنوات، وبدأ المشمولون بالاستطلاع في هذه المناطق تحديداً الاكثر حماساً لتعديل الدستور وإعطاء صلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية، وقابل هذا »الحماس المسيحي« رفض في المناطق ذات الغالبية الاسلامية لأي تعديل دستوري يعطي رئيس الجمهورية صلاحيات اكبر. وقد سحب الموقف الطائفي نفسه على قضية إلغاء الطائفية السياسية. وبالاستثناء منطقة قضاء الكورة (قد يفسر الامر بحضور الحزب السوري القومي الاجتماعي في هذه المنطقة وهو حضور يكسر حدة الموقف الطائفي) فإن نسبة المؤيدين في المناطق ذات الغالبية المسيحية لإلغاء الطائفية كانت أقل من خمسين في المئة وخصوصا في جبيل وكسروان ولم تنخفض نسبة التأييد لإلغاء الطائفية الى أقل من ثمانين في المئة في المناطق ذات الغالبية الاسلامية ولامست في أحيان كثيرة عتبة المئة في المئة. ولوحظ ان نسبة القائلين بأن الطائف ليس حلاً نهائياً (51،77%) لم تكن متفاوتة مناطقياً بل كانت النسب متقاربة في المناطق الاسلامية والمسيحية. ولم يأخذ التأييد لإنشاء مجلس للشيوخ (31،47%) أي طابع طائفي باستثناء حماس اكبر للامر في منطقة الشوف (المعارضة له كانت صفر بالمئة).
أجرى الاستطلاع: مراسلو »السفير« في المناطق.