خالد قباني حاضر في المعهد الوطني للادارة: حين يسقط العيش المشترك يسقط لبنان ومعه دوره ورسالته

النوع: 

نظم المعهد الوطني للادارة في بعبدا، ندوة بعنوان: "اللامركزية الادارية والعيش المشترك"، حاضر فيها الوزير السابق خالد قباني، وهي الندوة الاولى في سلسلة ندوات دورة الاعداد الثالثة والعشرين، في حضور المدير العام للمعهد جمال زعيم المنجد، رئيس مجلس الادارة جورج لبكي، عضو هيئة مجلس الخدمة المدنية ورئيس ادارة الموظفين انطوان جبران، مفوض الحكومة لدى مجلس شؤون الدولة الرئيس عبد اللطيف الحسيني، مديرة "الوكالة الوطنية للاعلام" لور سليمان صعب، عضو هيئة مجلس الخدمة المدنية ورئيسة ادارة الابحاث والتوجيه ناتالي يارد، الرئيس الاسبق لمجلس شورى الدولة وعضو مجلس القضاء الاعلى غالب غانم، قضاة، موظفي مجلس الخدمة المدنية ومجلس شورى الدولة الوزير السابق سامي منقاره ومهتمين.

منجد

بداية كانت كلمة للبروفسور لبكي ، ثم تحدث المدير العام للمعهد الدكتور جمال منجد، فقال: "يطيب لنا اليوم، مع انطلاقة الندوة الأولى من سلسلة الندوات التثقيفية والحوارية المخصصة لدورة الإعداد الثالثة والعشرين، أن نرحب بكم في المعهد الوطني للادارة، في هذه الرحلة الطويلة التي نعرف أين بدأت دون أن ندري أين ستنتهي رغم كل الخطط التي نقوم بها، رحلة التنمية البشرية المستدامة، المفتوحة الآفاق، التي ستقودنا حتما إلى أماكن بعيدة ومتقدمة جدا من العلم والمعرفة، من المهارات وبناء القدرات، من التطوير والتحديث، على جميع المستويات".

اضاف: "منذ أربعة أعوام، ومن هذا المكان بالذات، حين كنا نخرج مجموعة من خبراء الآثار العاملين في وزارة الثقافة، بعد دورة تدريبية ممولة من الوكالة الفرنسية للتنمية آنذاك، وعدتكم يا معالي الوزير وقلت لكم ما يلي: "إن التحديات التي تنتظر المعهد الوطني للإدارة في الأعوام القادمة كبيرة، وكبيرة جدا، لذا علينا أن نكون القاطرة الأولى لسائر إدارات الدولة: واعين لدورنا الرائد، مبدعين في كل ما نخطط، خلاقين في كل ما ننفذ، جاهزين لدعم بناء القدرات البشرية في الإدارة العامة بما يتناسب والتحديات المستقبلية، محترفين في أعمالنا، مخلصين في أدائنا، قادرين على بناء غد أفضل لأبنائنا، لا أن يستسهل الواحد منا هجرة إلى الغرب، نسجل فيها نجاحات لغيرنا، فلبنان وإدارته وناسه الذين يستأهلون منا كل التضحية، يدعوننا كل يوم أن نكون روادا متميزين في كل منصب نؤتمن عليه، صغر أم كبر".

وتابع: "وها نحن اليوم أمامك يا معالي الوزير، وأمام هذه النخبة القيادية في الإدارة والقضاء والتعليم العالي والتدريب المحترف، ها نحن هذه الحفنة المتواضعة عددا وخلقا من الموارد البشرية المعطاءة بلا حدود، نبر بوعدنا لك، إذ حفظنا الأمانة، بعرقنا، بجهدنا، بدمنا. رعيناها أكثر مما نرعى أهلنا وأولادنا، حتى وصل المعهد إلى ما وصل إليه، إلى مكان متقدم جدا على خارطة إدارات ومؤسسات الوطن، في وقت يكاد يهوي أمامنا كل شيء".

وقال: "ها هو المعهد اليوم وقد حصل على شهادة أساسية من شهادات إدارة الجودة (الأيزو 9001) بعد مغامرة مضنية استمرت لأكثر من عامين. ها هو المعهد اليوم وقد أثبت نفسه بجدارة في تحضير برامج مبنية على مخرجات نريدها عالية القدرات في إداراتها، برامج متقدمة شكلا ومضمونا، تضاهي بشموليتها وجودتها ما يصنع في أرقى معاهد التدريب العالمية. ها هو المعهد اليوم وقد خرج مؤخرا مئات الموظفين في وزارة المالية في أقل من ثمانية أشهر، ليعودوا مثبتين إلى وظائفهم، سفراء للتنمية الإدارية والمالية أينما كانوا. ها هو المعهد اليوم وقد أنهى مرحلة أولى من دورة إعداد امتدت على مدى 567 ساعة في العلوم القانونية والسياسية والإدارية والاقتصادية والمالية والمحاسبية والضريبية ومنهجية البحوث العلمية والقانونية، وتتوج في هذه الأيام ببحث خاص لكل طالب، أي ما يعادل أكثر من ماستر بحثي في "القانون العام والإدارة العامة". ها هو المعهد اليوم يستعد لإطلاق مرحلة ثانية وأخيرة من دورة الإعداد هذه، ستمتد على مدى 579 ساعة في التنمية المستدامة وتكنولوجيا المعلومات واللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والإدارة الاستراتيجية الحديثة، وتتوج بعدها بتمرين عملي لمدة شهر كامل في إحدى الإدارات العامة، وبتقرير مفصل يربط الطالب فيه بين ما استفاد منه في أكثر من خمسين موضوعا (من مواضيع بناء القدرات الذاتية والإبداعية والمؤسسية) وبين متطلبات الإدارة التي احتضنته في هذا التمرين العملي، أي ما يوازي أكثر من ماستر عملي في "الإدارة الاستراتيجية الحديثة". وها هو المعهد اليوم يستقبل الندوة الأولى من سلسلة ندوات تثقيفية وحوارية ستمتد على مدى أشهر طوال، نستقبل فيها كبار الشخصيات وأهل الاختصاص، من لبنانيين وعرب وأجانب".

وقال: "طرحت منذ أيام على صفحتي الشخصية على الفايسبوك السؤال التالي: ما هو الفارق الأساسي بين رجل السياسة (Un homme politique) ورجل الدولة (Un homme d'Etat)؟ والإجابة كانت أن الأول يفكر في الانتخابات القادمة ولا يعمل إلا لكسبها، أما الثاني فيفكر في الأجيال القادمة ولا يعمل إلا لأجلها".

وأكد ان "صاحب ندوة اليوم هو رجل دولة نادر، غني عن التعريف، إذا حكم عدل، وإذا قال فصل، رجل إدارة ودبلوماسية وقضاء وسياسة وإنسانية، بل رجل نذر نفسه لخدمة الوطن والمواطن، دون تفرقة بين دين أو طائفة أو مذهب، ودون تمييز بين انتماء سياسي أو مناطقي أو فئوي، وفق معايير أخلاقية راقية قل نظيرها اليوم. هو رجل عصامي بكل ما للكلمة من معنى، بنى مجده بنفسه، دون أن يسعى يوما إلى المناصب التي أتت إليه حبوا، إنه القابض على جمرة الإصلاح الإداري".

وختم معلنا ان طلاب هذه الدورة أصروا بالإجماع أن يطلقوا عليها تسمية "دورة معالي الدكتور خالد قباني للإصلاح الإداري".

قباني

والقى قباني المحاضرة فقال فيها: "أدرك اللبنانيون في أعماقهم ومن خلال تجربتهم التاريخية الطويلة قيمة العيش المشترك في انتظام اجتماعهم السياسي ووحدتهم بحيث أصبح يشكل الضمانة الحقيقية لحريتهم وسيادتهم واستقلالهم. وجاءت مقدمة الدستور لتؤكد بكل بند من بنودها على اهمية العيش المشترك وتؤمن كل المقومات والضمانات لتحصينه وتعزيزه، فأرسى البند الأول منه القاعدة الأساسية للعيش المشترك مؤكدا أن لبنان وطن حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضا وشعبا ومؤسسات، وأن هذه الوحدة تتعزز بالإنماء المتوازن ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، وأن أرض لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين، وبالتالي فلا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".

واضاف: "الجدير بالذكر أن الاصلاحات التي تضمنها اتفاق الطائف، والتي أصبح معظمها جزءا من الدستور، جاءت لتحاكي هذه المبادئ الأساسية والجوهرية التي شكلت مقدمة للدستور، ومنها موضوع اللامركزية الإدارية، فنص اتفاق الطائف على اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون) وذلك لتمكين الجماعات المحلية من إدارة شؤونها الذاتية عن طريق مجالس منتخبة محليا (Autonomie) وبما يؤدي إلى مشاركة المجتمع المحلي في إدارة الشأن العام بهدف تحقيق الديموقراطية على الصعيد المحلي، كما هي على الصعيد الوطني، على أن يترافق هذا الأمر مع اعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصاديا واجتماعيا وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والاتحادات البلدية بالإمكانات المالية اللازمة".

وأشار الى ان "هذه الخطة تتطلب تجنيد جميع الطاقات والإمكانات البشرية وتهيئة الأطر الجغرافية المناسبة على مستوى الوحدات الإقليمية المختلفة لاستيعاب عملية التنمية الشاملة والمشاركة فيها، بحيث ينظر إلى إقليم الدولة كوحدة إنمائية متكاملة، وبما يحقق هدف الإنماء المتوازن، والذي يعتبر من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، ومن هنا يتبين ما للامركزية الإدارية من آثار إيجابية على العيش المشترك. وهي بهذا المعنى تشكل عنصر وأداة جذب وليس أداة طرد".

وقال: "على هذا الأساس سنبحث هذا الموضوع من خلال فصلين، نتطرق في الأول منه إلى اللامركزية الإدارية وأبعادها، وفي الثاني إلى مفهوم العيش المشترك، لينكشف أمامنا هذا الارتباط الوثيق بين اللامركزية الإدارية والعيش المشترك في إطار وحدة الدولة.

الفصل الأول: أبعاد اللامركزية الإدارية:

تنطوي اللامركزية الإدارية على جوانب وأبعاد، تظهر مضامينها وجوهرها وتساعد على فهم حقيقة مكوناتها، والتي عادة ما يتناولها الدارسون والباحثون من جانبها الإداري، في حين أن اللامركزية تتضمن ابعادا ثلاثة:

- البعد التنظيمي الإداري

- البعد السياسي الديموقراطي

- البعد الاقتصادي الإنمائي

أولا: في البعد التنظيمي الإداري للامركزية

ما من دولة في عصرنا الحاضر إلا وتعتمد نظاما لا مركزيا، على الصعيد الإداري، إلى جانب النظام المركزي. وتقوم اللامركزية على تنظيم الجهاز الإداري في الدولة بشكل يسمح بتعدد أشخاصها الإدارية على أساس إقليمي، ومؤداها استقلال جزء من أرض الدولة بإدارة مرافقه ويكون للشخص الإداري اللامركزي في هذه الحالة اختصاص عام بالنسبة لهذا الجزء المحدد من أرض الدولة.

ويفترض التنظيم الإداري تحديد العلاقة بين السلطة المركزية والسلطات اللامركزية المتمثلة بالمجالس المحلية، وبالتالي، توزيع الصلاحيات الإدارية بين السلطة المركزية، من جهة، والسلطات المحلية، من جهة ثانية، بما يحقق الاستقلال الذاتي للهيئات المحلية بإدارة نفسها بنفسها، دون المساس بوحدة الدولة، ذلك أن اللامركزية الإدارية وإن كانت تؤمن استقلالا ذاتيا للجماعات المحلية، إلا أنها تعيش في حضن السلطة المركزية، وعليه، يجب فهم اللامركزية على أنها ليست تبعية وليست استقلالا.

أ - ليست تبعية بكون علاقة الوحدات والمجالس المحلية بالسلطة المركزية ليست علاقة رئاسية ولا علاقة خضوع، وتاليا ليس للإدارة المركزية سلطة تسلسلية على الإدارة المحلية اللامركزية.

ب-ليست استقلالا بمعنى أن المجالس المحلية ليست سلطات سيدة (Pouvoirs souverains ) وهي لا تحدد لنفسها مجال اختصاصها أو صلاحياتها، بل يبقى هذا الأمر من اختصاص السلطة المركزية (السلطة التشريعية).

فالتبعية والسلطة الرئاسية يؤديان إلى إهدار مفهوم اللامركزية، كما أن الاستقلال يعني زعزعة وحدة الدولة الإدارية والسياسية التي حرص عليها اتفاق الطائف بالتأكيد على ان الدولة اللبنانية دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزية قوية.

وعليه، فإن هناك مبدأين أو قاعدتين تحكم البعد التنظيمي الإداري للامركزية:

-أولاهما الاستقلال الذاتي Autonomie للجماعات المحلية أي للهيئات اللامركزية بإدارة شؤونها الذاتية بنفسها، وهذا يعني إناطة هذه الهيئات بصلاحيات محددة ينص عليها القانون، تمارسها بالاستقلال عن السلطة المركزية، وتتخذ فيها قرارات نافذة بذاتها، إلا ما استثني منها بنص صريح، أي باختصار كلي، تتمتع الهيئات اللامركزية بسلطة التقرير، أي اتخاذ القرارات النافذة، بمعزل عن تدخل السلطة المركزية، مع ما يستتبع ذلك من تمتع هذه الهيئات بالشخصية المعنوية والاستقلالين المالي والإداري.

- وثانيهما احتفاظ السلطة المركزية بحق الرقابة على أعمال الهيئات اللامركزية، ضمانا لتحقيق المصالح العامة المحلية واحترام القانون، وذلك في إطار الحد الدنى الذي لا يهدر الاستقلال الذاتي الذي تتمتع به الهيئات المحلية.

واضاف: "يصطدم هذا التنظيم الإداري بمشكلات كثيرة ومعقدة يقتضي حلها، وذلك من خلال اعتماد تقسيمات إدارية مناسبة لأغراض الإدارة المحلية، ومنها:

- مشكلة تحديد عدد الوحدات الإدارية التي تضمها الدولة وحجمها ( محافظات، أقضية، بلديات،...)

- مشكلة تحديد مستويات الوحدات الإدارية اللامركزية، وهل تتكون من مستوى واحد، مثل البلدية في لبنان أو من عدة مستويات ( مجالس محافظات، مجالس أقضية- مجالس بلدية )، كما هو الشأن في فرنسا وبريطانيا.

- مشكلة تحديد أنسب وضع للعلاقات بين الوحدات، وهل يكون ذلك عموديا وعلى شكل تسلسل هرمي، أم أفقيا، بمعنى المساواة بين الوحدات.

- مشكلة توزيع الصلاحيات بين السلطة المركزية والسلطات المحلية وتحديد طبيعة العلاقة ومداها التي تجمع بين المركز والأطراف، والدور المعطى للسلطات المحلية.

ثانيا: البعد السياسي - الديموقراطي للامركزية

تقوم اللامركزية على مشاركة المواطن في إدارة الشأن العام، وبالتالي، فهي ترتكز إلى قاعدة ديموقراطية تقوم على مشاركة الأهالي في القرار وفي إدارة شؤونهم الذاتية بأنفسهم من خلال الانتخابات، وقيام الدولة بتعزيز المناخ الديموقراطي في البلاد وتوفير مناخ الحرية الذي يكفل التعبير عن إرادة المواطن وإطلاق قدراته وإمكاناته وملكاته الفكرية والانتاجية.

واشار الى ان "الانتخاب، على الصعيد المحلي هو شرط أساسي لتحقيق اللامركزية، لأن النظام اللامركزي هو امتداد للفكرة الديموقراطية على المستوى المحلي. هذا الانتخاب هو الذي ينمي مستوى معين من الثقافة الديموقراطية ويحقق قدرا من المشاركة الشعبية ويقوي الولاء الاجتماعي ويدفع المواطن إلى الاهتمام بالشؤون العامة وحمل المسؤولية.

وتابع: "يقول العلامة موريس هوريو Maurice Hauriou في هذا الصدد: "إن اللامركزية تنحو إلى خلق مراكز إدارية عامة مستقلة يعين أشخاصها عن طريق الجسم الانتخابي للوحدة الإدارية ليس بهدف اختيار أفضل السبل لإدارة الوحدات المحلية، وإنما من أجل مشاركة أكثر ديمقراطية للمواطنين. فالمركزية، من وجهة النظر الإدارية، تؤمن للبلاد إدارة أكثر حذقا وتجردا وتكاملا واقتصادا من اللامركزية. ولكن الوطن ليس بحاجة فقط إلى إدارة حسنة ولكنه بحاجة أيضا إلى حريات سياسية. والحريات السياسية تفترض مشاركة واسعة من الشعب في الحكم بواسطة الانتخابات السياسية والجمعيات السياسية. والناخبون كما وأعضاء المجالس لا تكتمل تربيتهم وثقافتهم السياسية إلا عن طريق الانتخابات المحلية وفي المجالس المحلية".

وقال: "فكما أن هناك ديموقراطية سياسية تقوم على مشاركة المواطنين في الحكم عن طريق الانتخابات، كذلك برز على الصعيد الإداري، ما عرف بالديموقراطية الإدارية التي تحقق مشاركة المواطنين على الصعيد المحلي في إدارة شؤونهم الذاتية بعيدا وبالاستقلال عن السلطة الإدارية المركزية. فاللامركزية بحد ذاتها نظام ذا طابع ديموقراطي، ولا سيما إذا نظر إليها من زاويتها التاريخية والاجتماعية والسياسية. وهي ليست نهجا أو أسلوبا من أساليب التنظيم الإداري فحسب، ولكنها موقع اجتماعي لممارسة الحريات الديموقراطية على الصعيد المحلي.

وتابع: "لعل ألكسي دو تو كفيل هو خير من عبر عن وجهة النظر هذه، حين اعتبر أن اللامركزية مؤسسة ديموقراطية ومدرسة للحريات السياسية. فالعلاقة بين اللامركزية والديموقراطية إذن هي علاقة عضوية وليست علاقة عارضة أو سطحية، وهذه العلاقة قد أفرزت علاقة أخرى متممة، وهي علاقة اللامركزية بالانتخاب نظرا لارتباط الديموقراطية بفكرة الانتخاب. وعلى هذا الأساس تحكم البعد السياسي الديموقراطي للامركزية فكرتان:

- فكرة المشاركة في إدارة الشأن العام الإداري عل الصعيد المحلي

- فكرة انتخاب الهيئات المحلية من قبل الجماعات المحلية".

وقال: "ثالثا: البعد الاقتصادي - الإنمائي للامركزية

لقد ذهبت مقدمة الدستور في تركيزها على الإنماء المتوازن للمناطق وأهميته في بناء الوطن ومستقبله، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، إلى حد اعتباره ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، ومن هنا نفهم عناية اتفاق الطائف برفع درجة اللامركزية الإدارية إلى مستوى القضاء.

والإنماء المتوازن للمناطق يفترض أمرين:

1 - دور أساسي للدولة في القيام بعملية الإنماء المتوازن يؤكد على وحدة الدولة والمجتمع ويؤمن التوازن بين المناطق والفئات الاجتماعية.

2 - دور للمناطق في عملية الإنماء يؤكد على مشاركة المناطق من جهة، وتكتمل بها الخطة الإنمائية الموحدة الشاملة للبلاد من جهة ثانية.

وينطوي هذا البعد الاقتصادي والإنمائي للامركزية على فكرة التضامن الاجتماعي وعلى فكرة العدالة اللتان تعتبران ركيزة أساسية من ركائز بناء الدولة ووحدتها والسلام الاجتماعي، فضلا عما تنطويان عليه من تعزيز وتحصين للعيش المشترك واستقرار النظام. ومقتضى هذا الإنماء المتوازن، أن ينظر إلى إقليم الدولة كوحدة إنمائية متكاملة، بحيث لا تنمو منطقة على حساب منطقة أخرى، ولا قطاع اقتصادي على حساب قطاع اقتصادي آخر، بل أن تأتي الخطة الإنمائية موحدة وشاملة للبلاد، وقادرة على تطوير المناطق اللبنانية قاطبة، وتنميتها اقتصاديا واجتماعيا، دون أن تغفل امداد البلديات والوحدات اللامركزية الإقليمية، بالإمكانات المالية اللازمة لتعزيز دورها ولتمكينها من مواكبة خطة الدولة الإنمائية الشاملة".

وأكد ان "قرار الإنماء، هو قرار سياسي، وهذا يعني أنه من مسؤولية الدولة، وعلى عاتقها تقع عملية البناء والإعمار والإنماء، ولكن هذه العملية لا تكتمل إلا بمشاركة المواطنين جميعا ومختلف القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في تحمل هذه المسؤولية. ولا يجوز إهمال البعد الاقتصادي في اللامركزية لأن هذا الإهمال يؤدي إلى التفاوت بين المناطق في حال عدم قيام السلطة المركزية بضبط عملية التنمية على المستوى الوطني. ففي وضع من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي يجب أن تتدخل السلطة المركزية لتحقيق المساواة والعدالة لضمان حد أدنى من المصالح العامة الحياتية، لأن الانسجام الاقتصادي هو اساسي وضروري للانسجام الاجتماعي. فكلما تعمقت المصالح المشتركة وتشابكت، وكلما تعزز التعاون بين القطاعات الإنتاجية المختلفة، وكلما قربت الوشائج بين المواطنين وشعر كل بحاجته للآخر، وكلما توسعت دائرة المجال العام وشارك الجميع في تنفيذ المشاريع التنموية العامة، وترافق مع إحساس بالمسؤولية العامة وبالدور، كلما أدى ذلك إلى تعزيز العيش المشترك وضرورته، وهذا ما تؤمنه اللامركزية الإدارية".

وأضاف: "الفصل الثاني: مفهوم العيش المشترك، جاء اتفاق الطائف في أعقاب حرب أهلية مدمرة، دامت أكثر من خمس عشرة سنة، قسمت البلاد وباعدت بين اللبنانيين وضربت الاقتصاد، وهجرت العائلات من قراهم ومدنهم، ودفعت باللبنانيين إلى الهجرة والانتشار في كل أصقاع الأرض، وخلفت الخراب والدمار في كل مكان من أرض لبنان، وأورثت الحقد والكراهية والجراح في القلوب والنفوس، وقضت على ما كان يجمع اللبنانيين من عيش مشترك، استظلوا تحت ظلاله الوارفة ردحا طويلا من الزمن، ونسجوا من خيوطه الذهبية، صيغة حياة فريدة، ونموذج دولة ديموقراطية، أساسها الشراكة والعدالة والمساواة والكرامة، والحرية".

وأوضح ان "اتفاق الطائف تمحور حول مسألة أساسية جوهرية، قامت عليها فلسفة اتفاق الطائف وهي العيش المشترك. فالعيش المشترك هو جوهر ولب اتفاق الطائف وهو الثابت في تاريخ لبنان السياسي الحديث الذي لم يتغير عبر الزمن، على الرغم من الحروب والصراعات والأزمات التي تعرض لها لبنان، بل كان يتجدد هذا العيش كلما تجددت فيه الأزمات والحروب، وكلما تعرض لبنان لخطر مدلهم، كان يخرج من حالة اللاوعي إدراك جماعي، يوقظ ضمائر اللبنانيين ويبصرهم بمصالحهم، أو كأن الإحساس بالخطر على الوجود وعلى المصير المشترك، يلعب دوره في إعادة التفاهم واللحمة بين اللبنانيين، فكانت المواثيق والعاميات ، ومن ثم الميثاق الوطني واتفاق الطائف".

وقال: "ورد في مذكرة بكركي الوطنية: "ليست مقولة العيش معا التي يتمسك بها اللبنانيون شيئا عرضيا أو شعارا مرحليا، إنما هي لب التجربة اللبنانية." جاء اتفاق الطائف، في مضمونه وأهدافه، لتأصيل وتعزيز مفهوم العيش المشترك، الذي يشكل الضمانة الحقيقية لوحدة لبنان واستقلاله وسيادته وحريته، ولوجود الدولة المركزية القوية، وكرد على كل محاولات تقسيمه أو تجزئته، بعد أن شهد تاريخ لبنان السياسي محاولات وتجارب يائسة لتفكيك الدولة وتفتيت العيش المشترك، ومنها الحرب الأهلية الأخيرة، ولذلك بلور دستور الطائف العيش المشترك في مبادئ وقواعد مؤسساتية دستورية راسخة".

وشدد على ان "قوة العيش المشترك انه يتماهى مع معنى لبنان، أي لبنان الحرية الذي يستطيع فيه المواطن أن يكون حرا، وأن يمارس إيمانه وعقيدته وقناعاته دونما قيود أو إكراه، ولبنان التسامح حيث الاعتراف بحق الاختلاف والقبول بالرأي الآخر، ولبنان الاعتدال، حيث لا تطرف ولا عصبية، ولبنان الرسالة والمختبر الحضاري للتعايش بين الأديان المختلفة".

وقال: "في ضوء هذه التطلعات والأهداف يجب النظر إلى دستور الطائف وتفسير مبادئه ونصوصه، والتي تجسدت في مقدمة الدستور، التي حددت ركائز وأسس العيش المشترك وسبل حمايته. ولذلك جاءت نصوص الدستور ترجمة لمفهوم العيش المشترك الذي يشكل جوهر الوجود اللبناني، وقوة الوطن اللبناني، بحيث يتحصن هذا العيش، من خلال قواعد دستورية تجلت في تنظيم السلطات وتوزيع الصلاحيات، لكي لا يبقى شعارا أو عنوانا لا أساس أو مرتكزات أو مقومات تصونه وتحميه. وتتلخص المقومات والمرتكزات الدستورية للعيش المشترك بالآتي:

1 - قاعدة المشاركة في الحكم: لقد هدف اتفاق الطائف من الإصلاحات السياسية التي تضمنها ان يحقق هدفين:

الاول: هو تأمين مشاركة مختلف الطوائف في الحكم (المواد 17 و 65 و 95 من الدستور)، وبالتالي اشتراكها في إدارة شؤون الدولة، وفي صنع القرار السياسي، حفاظا على الوفاق الوطني ولكي يلغي أي شعور لدى إحداها، بالعزلة أو بالتهميش أو بالإقصاء، والمشاركة في مسؤولية اتخاذ القرارات وما يترتب عليها من نتائج ومفاعيل، دون الخروج عن أصول ومقتضيات الحكم الديموقراطي البرلماني، وبعيدا عن الاستئثار أو المحاصصة أو التسلط أو التفرد بالسلطة، وبما لا يؤدي إلى تحول الأحزاب إلى أحزاب طائفية او أحزاب تدعي تمثيل الطوائف إلزاما في الحكم، خروجا على احكام الدستور. والثاني: هو عدم إقحام رئيس الجمهورية في الصراعات السياسية، سواء داخل البرلمان او خارجه، أو داخل السلطة التنفيذية. أراد الطائف ان يجعله فوق الصراعات والنزاعات، لكي يحافظ على موقعه الدستوري، ودوره كصمام امان للنظام، وكحكم في الصراع السياسي، في نظام ديموقراطي برلماني يقوم على التنافس الحاد بين القوى السياسية على السلطة. ولكي يستطيع أن يضبط آلة الحكم، فتبقى البلاد منضبطة في إطار الدستور والقوانين، حتى لا تتحول إلى حالة من الفوضى، فيكون رئيس الجمهورية هو المرجع وهو الحكم.

2 - قاعدة المناصفة في التمثيل السياسي:

استبعد الطائف قاعدة العدد باعتبارها المعيار الذي يبنى على اساسه الحكم او تقاسم السلطة او توزيع المقاعد في البرلمان أو الحكومة او في الإدارة، أي في التمثيل السياسي بوجه عام. ولم يجعل الحكم قائما على أكثرية عددية طائفية تحكم، وتتحكم في مفاصل الدولة ومؤسساتها أو بالقرار السياسي، واقلية طائفية تكتفي بمواقع معينة تتناسب مع حجمها العددي. أقر الطائف قاعدة المناصفة، بل المشاركة المتساوية في الحكم، دون النظر إلى أحجام الطوائف من حيث العدد، ووضع جانبا فكرة الديموقراطية العددية لصالح ديموقراطية المشاركة".

على هذا الأساس، أرست المادة /24/ من الدستور مبدأ التساوي بين المسيحيين والمسلمين في تكوين مجلس النواب، وعلى قاعدة النسبية بين طوائف كل من الفئتين، من جهة، والنسبية بين المناطق، من جهة ثانية، وبما يكفل تمثيلا عادلا للطوائف وللمناطق في الندوة النيابية، بحيث يكون المجلس النيابي المكان الآمن للعيش المشترك، ولمعالجة مشاكل هذا العيش وأزماته، بحيث يتجاوب ويتكامل مع التمثيل العادل في تشكيل الحكومة.

3 - قاعدة وحدة الهيئة الانتخابية: ويكتمل هذا المفهوم للعيش المشترك الذي تأسس عليه لبنان، باعتبار عضو مجلس النواب، ممثلا للأمة جمعاء، وفق ما نصت عليه المادة /27/ من الدستور، والتي تجسدت بالقاعدة الذهبية الثابتة في كل قوانين الانتحاب التي صدرت في لبنان، وهي قاعدة الهيئة الانتخابية الموحدة، وتقضي بأن ينتخب المرشح عن دائرة معينة من قبل جميع الناخبين المسجلين في هذه الدائرة الانتخابية، إلى أية طائفة انتموا، بما يعني أن النائب اللبناني لا ينتخب من أبناء طائفته بل من أبناء كل الطوائف المسجلين في الدائرة الانتخابية المرشح فيها. فلا ينتخب المواطن المسيحي المرشح المسيحي ولا ينتخب المواطن المسلم المرشح المسلم، تعبيرا عن إرادة اللبنانيين في العيش المشترك، الذي لم يعد قدرا محتوما، بل خيارا من خياراتهم الأساسية، وركيزة من ركائز بنيان الدولة ووجودها. وهذا ما يفسر القاعدة التي أكدت عليها مقدمة الدستور، وهي ان مناط شرعية أية سلطة هو في احترامها لميثاق العيش المشترك.

4 - قاعدة الإنماء المتوازن واللامركزية الإدارية الموسعة: لقد اعتبرت الفقرة "ز" من مقدمة الدستور ان الإنماء المتوازن للمناطق، ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا هو ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، نظرا لدوره في تقليص وردم الهوة في مستويات المعيشة بين اللبنانيين، وفي التخفيف من حدة التفاوت بين الطبقات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية، والتي تنعكس بصورة مباشرة على الوضع السياسي وإثارة النزاعات والخلافات، بما يؤثر على حالة الاستقرار في البلاد".

وتابع: "وتأكيدا على اهمية الإنماء المتوازن ودوره الإيجابي، فقد لحظ اتفاق الطائف ضرورة حضور الدولة وإداراتها على مستويات عالية في كل المناطق اللبنانية، وتوسيع صلاحيات ممثليها، في هذه المناطق، على مستوى المحافظات والأقضية، بما يعرف في العلم الإداري باللاحصرية الإدارية، كما نص اتفاق الطائف على توسيع نطاق تطبيق اللامركزية الإدارية على مستوى القضاء وما دون، بما يعطي للأهلين حق المشاركة في إدارة شؤونهم الذاتية من جهة، ويمكنهم من المساهمة في تنمية مناطقهم وأريافهم، بما يعزز خطة الدولة الإنمائية على مستوى الوطن، ويؤمن نجاح الإنماء المتوازن من جهة ثانية، وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، لأن العدالة هي من مقومات الحكم الرشيد وإحدى أهم ركائز الاستقرار في البلاد. كما يساهم في تحقيق الديموقراطية على الصعيد المحلي لأن اللامركزية الإدارية تشكل مدرسة للحريات وللثقافة الديموقراطية".

وختم: "لا مركزية إدارية إنمائية، من جهة، تعطي للأهالي حق المشاركة في إدارة شؤونهم الذاتية وتنمية مناطقهم، في إطار وحدة الأرض والشعب والمؤسسات، أي في إطار وحدة الدولة وقيام السلطة المركزية الجامعة بمسؤولياتها الوطنية، ومشاركة سياسية ديموقراطية حقيقية، من جهة ثانية، تقوم على مبادئ الحرية والحق والعدالة والمساواة في إطار نظام سياسي برلماني قائم على مبدأ الفصل بين السلطات والالتزام بالدستور واحترام القانون وتكوين للسلطات على أساس مبدأ السيادة الشعبية والتمثيل السياسي المرتكز على مبدأ الشرعية أي مبدأ الانتخاب الحر، المبني على قانون انتخاب يؤمن صحة التمثيل السياسي وفعالية هذا التمثيل، وانبثاق مجلس نيابي نتيجة انتخابات حرة ونزيهة، وقيام سلطة قضائية مستقلة، وإدارة كفؤة، حيادية وغير مسيسة، هي مقومات ومرتكزات تؤسس لعيش مشترك سليم ومعافى، بل لحياة طبيعية يسودها الأمن والأمان والاطمئنان. يتكامل الشأن الإداري الإنمائي والشأن الدستوري السياسي، ليشكلا معا نواة دولة مستقرة ومزدهرة وآمنة. وفي ذلك إعلاء للإرادة الوطنية الجامعة. فحين يتكامل الشأن الأول، بوجهه الاقتصادي والاجتماعي عبر تنظيم لا مركزي إنمائي، تحقيقا للعدالة، والشأن الثاني، بوجهه السياسي والدستوري، عبر انتخابات حرة ونزيهة، تأمينا للمشاركة الديموقراطية في الحكم، ويكون للمؤسسات دورها في القيادة وفي رسم السياسات العامة في إطار سلطة مركزية قوية وموثوقة، تنتظم أمور الدولة ويتعزز مفهوم الشأن العام ويطغى على الشأن الخاص، ويتحقق الاستقرار، وحينها يأخذ العيش المشترك معناه ومضمونه، ويصبح حقيقة وواقعا، صمام الأمان للكيان اللبناني ولوحدة الدولة واستقرار النظام، ويصبح هذا العيش المشترك، وهو جوهر وجود لبنان واستمراره، الضمانة الأساسية للحرية والسيادة والاستقلال، وحين يسقط العيش المشترك يسقط لبنان، ومعه دوره ورسالته".

التاريخ: 
الجمعة, أغسطس 21, 2015
ملخص: 
الجدير بالذكر أن الاصلاحات التي تضمنها اتفاق الطائف، والتي أصبح معظمها جزءا من الدستور، جاءت لتحاكي هذه المبادئ الأساسية والجوهرية التي شكلت مقدمة للدستور، ومنها موضوع اللامركزية الإدارية، فنص اتفاق الطائف على اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى