ندوة حول اتفاقي القاهرة والطائف في جامعة الروح القدس
بتنظيم من مركز فينيكس للدراسات اللبنانية في جامعة الروح القدس- الكسليك وبدعوة من الجامعة وجمعية "ميموريا "، عقدت ندوة بعنوان "مفهوم السيادة الوطنية من اتفاق القاهرة 1969 إلى اتفاق الطائف 1989"، في أوديتوريوم جان الهوا، في حرم الجامعة في الكسليك.
قدم للندوة الدكتور الياس الياس من مركز فينيكس، ثم تحدث بإسم جمعية "ميموريا" رئيسها المحامي نعوم فرح طارحاً السؤال الأساسي: "هل أن اتفاقي الطائف والقاهرة الموقعين بعد سنوات على اعلان استقلال لبنان ساهما في تعزيز هذا الاستقلال وتحصين السيادة الوطنية أم العكس؟ وهل هذا الأستقلال، وفي ظل الإتفاقين المشار اليهما، الموقعين خارج الحدود وبرعاية واحتضانيين دوليين، أصبح مجرد ذكرى أم هو واقع وحقيقة؟ وكيف أصبح مفهوم السيادة الوطنية اليوم؟"
جاء السؤال بعدما عرض فرح تأثير التدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية على مرّ السنين بذريعة أو بأخرى في مسائل كان يفترض أن تكون الدولة اللبنانية وحدها بسلطاتها الدستورية صاحبة الإختصاص فيها. مما أدى الى تغيير في مفهوم السيادة الوطنية ومضمونها ونطاقها بحيث بات التخلي عن بعض الحقوق السيادية هو القاعدة والأساس. وقد كُرست تلك التدخلات في اتفاقيات يتم الإذعان لها من قبل الدولة اللبنانية، بتأييد من بعض المسؤولين فيها ومعارضة البعض الآخر.
وأضاف فرح: " إتفاق القاهرة-
وختم قائلاً "اللافت في اتفاقي القاهرة والطائف أن مصير الدولة اللبنانية وهويتها وتركيبة نظامها السياسي، والطائفي إن صح التعبير، حدد ورسم بكامل تفاصيله خارج الحدود اللبنانية، ما يطرح علامة استفهام حول هوية الحروب التي اندلعت في لبنان منذ عقود، وإذا كان من الجائز بعد اعتبارها وتسميتها "حروباً اهلية " في وقت أن العديد من الدول والتنظيمات غير اللبنانية شاركت في هذه الحروب ، ومن ثم قامت نفسها برسم الحلول ووضع الإتفاقات التي تلائم مصالحها، تحت ذريعة إنهاء هذه الحروب ووضع حد لها من خلال الإتفاقات التي اشرنا اليها. وهذا ان دل على شيء فهو يدل على عجز قسم من الطبقة الحاكمة بكل اطيافها واجيالها المتعاقبة، عن القيام بواجبها الوطني بتقرير مصيرها وادارة شؤون البلد الداخلية بنفسها، إن لم نقل عدم كفايتها أو غياب الإرادة لديها للقيام بذلك".
حبيقة
ثم تحدث رئيس الجامعة الأب البروفسور جورج حبيقة الذي قال: "بالنظر إلى بطاقة الدعوة إلى هذه الندوة، استوقفتني صفحتان من جريدة النهار، الأولى تعود للعام 1969 والثانية للعام 1989، ولا يخفى على فطن المعنى السياسي الذي يختزنه هذان التاريخان. ففي زمن "فلسطين أولاً"، عقد اتفاق القاهرة، وكان لبنان اول ضحاياه، فانتكست السيادة الوطنية، وتعطّلت مفاعيلها، وقسّمت المجتمع اللبناني المتعدد الانتماءات، إلى "طوائف أمم"، وانضوى تحت لواء الدفاع عن القضية الفلسطينية، عدد من الأحزاب السياسية اللبنانية والإقليمية، فانفرط العقد الاجتماعي اللبناني الهش والهجين، ودخل الوطن في أتون الحرب التي انتهت باتفاق الطائف عام 1989".
وأضاف: "من سخرية القدر، أنك تقرأ في مذكرات محمد حسنين هيكل، على سبيل المثال لا الحصر، أن الدولة المصرية، يوم تمّ عقد اتفاق القاهرة في الثالث من شهر تشرين الثاني من سنة 1969، لم تطلب من اللبنانيين هذا الحد من التجاوز لمفهوم السيادة الوطنية في سبيل القضية الفلسطينية، وإن كانت هذه الأخيرة محقة وطافحة بالمآسي وتستدعي بالتالي تعبئة عربية ودولية لإحقاق الحق. إذ بهكذا خطة عبثية وفاشلة مسبقا في الدفاع عن القضية الفلسطينية، نكون قد خلقنا قضية عربية أخرى، ليست أقل خطرا وإيلاما. ودهشت الناصرية من تصرّف جزء من اللبنانيين آنذاك وقد تجنّدوا، حتى الاستماتة، في الدفاع عن مشروع قيام كيان فلسطيني مسلح، ذات سيادة وقرار حر، مختلف جذريا عن تنظيم المخيمات الفلسطينية المسلحة في بلدان عربية أخرى. وإذا عدنا إلى مذكرات الرئيس الراحل شارل حلو في اللغة الفرنسية، لوجدناه يحاول بجهد عنيد الدفاع عن أنه لم يفرط قطّ بقسمه الرئاسي الذي يلزمه بالحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله وكرامته، عندما وافق على الصيغة الأخيرة لاتفاقية القاهرة. فهو يردّد باستمرار أنه كان يطلب من رئيس الوفد اللبناني قائد الجيش آنذاك أميل بستاني أن يضيف في الكثير من البنود "السيادة الوطنية اللبنانية". إن هذا الحرص على إنقاذ ما كان يمكن إنقاذه من مفهوم السيادة الوطنية يبين بشكل لا لبس فيه أن اتفاقية القاهرة، في مضمونها وأهدافها، إنما كانت نسفا ممنهجا ومتدرجا للدولة اللبنانية ومقوماتها. ومصداقا على ذلك ما حدث فعلا من حرب مدمّرة شاملة ومقوّضة للعقد الاجتماعي والسياسي اللبناني، وما استتبع في ما بعد من إلغاء كامل لمندرجات اتفاقية القاهرة من قبل المجلس النيابي اللبناني".
وأكد: "لقد خدشت السيادة الوطنية في لبنان مراراً. لكنها لم تنهزم وإن التوى عنقها فلم ينقطع، والفضل كل الفضل في استمرار إحياء مفهوم السيادة الوطنية كان دوما يرتبط باستعادة بنية: "النحن" اللبنانية، بعد كل أزمة ناتجة عن محاولة إحدى المكونات أن تستنجد بالغريب، أياً كان هذا الغريب، لتستقوي به على واحدة من مكونات الوطن أو عليها كلها مجتمعة".
وتابع: "فكما، في أوائل الاستقلال، اتخذت السيادة الوطنية موقفاً بين لاءين، لا للغرب ولا للشرق، نعم للبنان، ولئن استسيغ النقد يومئذ أن لاءين لا يصنعان بلدا، فقد حان الوقت لتقتنع العائلات الروحية اللبنانية من جديد أن استضعاف أيّ مكوّن من النسيج اللبناني، سيؤول بالضرورة إلى تصدع عام وشامل، وبالتالي إلى تآكل مفهوم السيادة وانهيارها. فالمناعة الوطنية لا تبنى على حطام أي مكوّن في البنية العامة اللبنانية. فعلى شاكلة الجسد الحي، أو أن تبقى جميع الأعضاء والخلايا في تكامل وظائفي، وبالتالي في كنف نظام مناعي رادع، أو أن تدخل مجتمعة في هدأة الاحتضار والتلاشي والموت".
وشدد الأب حبيقة في ختام كلمته على "أن مفهوم السيادة الوطنية في زمننا الحاضر لا يقوم البتة على التقوقع والانعزال، بل على التعاون والتعاضد، ضمن احترام كامل للمبدأ الفلسفي القائل: عليك أن تكون ذاتك لكي تكون مع الآخرين. وأختم بتحفيز رائع وشامل للبابا القديس يوحنا بولس الثاني الذي وضع رسولية الكيان اللبناني على منصّة المرجعية العالمية للدول المتعددة دينيا وثقافيا وعرقيا وحضاريا، إذ يقول فيه: "اسهروا، بكل ما أوتيتم من وسائل، على هذه السيادة الأساسية التي تملكها كلّ أمة بفضل ثقافتها الخاصة. حافظوا عليها حفاظكم على حدقة عيونكم، خدمة لمستقبل العائلة البشرية".
حلقتا نقاش
وانطلقت من بعدها حلقتا النقاش، فتحدث في المحور الأول حول اتفاق القاهرة كل من كريم بقرادوني وطلال سلمان وصلاح سلام، فيما عرض لاتفاق الطائف كل من ادمون رزق ومحمد قباني وجورج شرف.
وقد اتفق المحاضرون على أن مفهوم السيادة في لبنان لطالما بقي حبراً على ورق ومجرد كلمة مسطرة في اتفاقات ورقية.
الكلمة الأولى كانت للوزير السابق كريم بقرادوني الذي عرض كيف قدم رئيس حزب الكتائب بيار الجميل في تشرين الثاني 1969 إتفاق القاهرة على الحزب تحت عنوان "أهون الشرين" شارحاً أن الرئيس شارل الحلو أفهم الجميل أن المطروح يومها كان إما الموافقة على الإتفاق أو الحرب الأهلية. ويضيف بقرادوني:" فوافق الجميل بتحفظ، ومثله كميل شمعون فيما كان المعترض الوحيد ريمون إده الذي طالب بنشر قوات دولية على الحدود".
وبعد عرض مسهب للظروف التي أوجبت ابرام الإتفاق يومها والمسار الذي سلكته التطورات السياسية والعسكرية ختم بقرادوني طارحاً سؤالين: "هل صحيح أنه كان بقدرة جمال عبد الناصر أو برغبته إجبار ياسر عرفات على تطبيق إتفاق القاهرة لو بقي الزعيم المصري على قيد الحياة على ما يدعي شارل الحلو في كتاباته؟ والثاني: هل كانت الأمور تبدلت لو وافق فؤاد شهاب على انتخابه رئيساً للجمهورية في العام 1970 أو لو استمرت الشهابية في حكم لبنان؟ مضيفاً أن الجواب على هذين السؤالين يدخل في مضمار التكهنات والنظريات التي ليس بمقدوره الإجابة عليهما. مؤكداً بأنه على يقين أن اتفاق القاهرة شكل سبباً رئيساً من اسباب اندلاع حرب لبنان سنة 1975".
ثم تحدث الصحافي طلال سلمان فتوقف عند انقسام اللبنانيين "حتى ولو كانوا ضمناً متفقين "فهم مع الوحدة الوطنية ولكنها سرعان ما تتشقق وتنفجر إذا طرح موضوع العلاقة مع "الغير" أياً كان. فيصعب إجماعهم ويسهل تقسيمهم، فالولاء للطائفة او للزعيم يباعد بينهم الى شفا الإقتتال. وختم سلمان بأن النقاش حول اتفاق القاهرة اليوم متأخر جداً "فلا اللوم يغير ولا التأييد يفيد".
أما الصحافي صلاح سلام فتناول في كلمته محاور ثلاثة. فعرض للأوضاع السياسية والأمنية المتأزمة التي أدت إلى عقد إتفاق القاهرة والمفاوضات التي انتهت بتوقيعه ومفهوم السيادة والتجاوزات المدمرة للإتفاق منتهياً إلى التأكيد على أن هذا الإتفاق كان "شراً لا بد منه بسبب تصدع الجبهة الداخلية عند أول منعطف خلافي سياسي مما شرع الباب أمام الأطراف الخارجية لاستغلال الضعف اللبناني المزمن على نحو ما هو حاصل اليوم".
في المحور الثاني وتحت عنوان مفهوم السيادة في اتفاق الطائف حرص الوزير السابق إدمون رزق في عرضه على الإشارة بالأصبع الى تضافر "الذين عارضوا وثيقة الطائف فعملوا على اخفاء ايجابياتها والذين استغلوها باساءة تأويلها وتشويه تطبيقها، والإمعان فيها تحريفاً وتعتيماً لعرقلة المسار نحو الدولة المرتجاة".
وبعد عرض الظروف الداخلية التي أدت إلى التوجه الى الطائف، أكد رزق أن لبنان ما كان ليحتاج لهذا المؤتمر لو لم يتم عمداً وقسراً تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية قبل 23 ايلول 1988. فجاء الطائف، يتابع رزق، "محاولة على حدود اليأس لإنقاذ الكيان اللبناني بارساء نظام وفاقي لجمهورية ذات خصوصية تعددية موحدة في شرق أحادي كلي".
وختم مشدِّداً على أنه بعد 28 عاماً من إقراره "لا يزال الطائف من دون تطبيق. وليس من محط أمل بالمستقبل سوى الجيل الجديد ومحاسبة الشعب للسلطة من خلال الإنتخابات النيابية المقبلة".
الوزير خالد قباني قدم قراءة شبه قانونية لاتفاق الطائف وما أقره من قواعد ومبادىء أساسية في الحكم وانتظام السلطات ليخلص "إلى أننا تخلينا عن سيادتنا، وحتى عندما جاءتنا فرصة لنثبت أننا نحرص عليها ترددنا وتخاذلنا، لأننا اعتدنا على الوصاية، واستسهلنا أن نكل إلى غيرنا أمر إيجاد الحلول لمشاكلنا وقبلنا أن نتخلى عن قرارنا الوطني. فقبلنا أن يبقى منصب رئاسة الجمهورية شاغراً مدة أكثر من سنتين تعرض فيها وطننا إلى شتى أنواع المخاطر والتهديد، وانتظرنا أن يأتي الترياق من الخارج وارتضينا بذلك، لنعود ونتباكى على السيادة والأستقلال".
وتابع قباني: "المشكلة تكمن فينا، لا في الطائف ولا في الدستور، بل نحن المسؤولون، ولكن المشكلة أننا لا نقر بمسؤوليتنا عما يحدث لنا، وتتوالى الأحداث والأزمات على لبنان ونستعيد المواقف ذاتها، لأننا ما بنينا دولة ولا احترمنا دستوراً أو قانوناً. ثم ختم متسائلاً: هل نريد أن نعيش في وطن سيد حر مستقل، أم نريد أن نعيش في ظل دويلات متناحرة ومتنازعة تحت وصايات خارجية، هذا هو السؤال الكبير؟"
وختاماً تحدث البروفيسور جورج شرف فرأى التباساً في الطائف في ما يتعلق بالشراكة السيادية. إذ وضع مساراً دستورياً لإلغاء الطائفية السياسية يؤدي إلى ضرب أحد الأسس الكيانية المؤسسية للسيادة في مجتمعنا المركب، ما قد يفتح الباب أمام "استئثار سيادي "لإحدى الجماعات يدخل البلد مجدداً في حال من عدم الإستقرار. لكنه يلاحظ بالمقابل، استحداث مجلس الشيوخ الذي بتكوينه وصلاحياته استعادة لهذه الشراكة".
ورأى شرف في الخطاب والممارسات التوافقية الراهنة وفي الحرص على التمثيل السياسي – الطائفي المتوازن، في قانون الإنتخاب، وعلى التوازن في الإدارات... محاولة للعودة الى استقرار نسبي بين الجماعات وهو ضرورة لعلاقاتها الإيجابية. ويضيف شرف "ان اعتماد صيغة النظام البرلماني (وفق المنطق الأكثري) لا يستجيب للضرورات التوافقية في المجتمع المركب ويرى ضرورة قيام اعراف دستورية تشكل تصحيحياً عملانياً لهذا التوجه، مثل الترويكا الرئاسية على سبيل المثال التي تشكل نموذجاً لهذا التصحيح من حيث انها اعادت رئيس الدولة الماروني الى صلب القرار السياسي الذي اخرجه الدستور منه. إذ لا يمكن ان نتصور في واقع لبنان بقاء ممثل إحدى الطوائف الأساسية خارج آلية القرار".
وتجدر الإشارة إلى أن المحور الأول المتعلق باتفاقية القاهرة أداره الاعلامي أنطوان سعد فيما أدار المحور الثاني حول اتفاق الطائف الإعلامي جوني منير.