ايلي سالم يتذكر الأسد : اهتم بأمر واحد فقط هو إقامة علاقات مميزة بين لبنان وسورية( 13)
يتحدث الدكتور ايلي سالم نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اللبناني السابق، في هذه الحلقة الثالثة عشرة من مذكراته التي تنشرها "الوسط"، عن مطالب الرئيس حافظ الاسد في لبنان وعن الاتصالات السرية بين الاسد والرئيس امين الجميل للتوصل الى اتفاق بينهما.
وقد شغل ايلي سالم منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية اللبناني في عهد الرئيس الجميل وكان مستشاره للشؤون السياسية والاتصالات العربية والدولية. وشارك سالم طوال عهد الجميل من ايلول - سبتمبر - 1982 الى ايلول - سبتمبر - 1988 في صنع القرارات السياسية التي اتخذت خلال هذه الفترة. وفي الاتصالات المختلفة اللبنانية - العربية واللبنانية - الدولية، واطلع على مجموعة كبيرة من الاسرار المتعلقة باسرائيل ومخططاتها في لبنان، وبسورية، وبالولايات المتحدة والدول الكبرى الاخرى وبالفلسطينيين، والايرانيين، وبدول عربية اخرى لعبت ادواراً مختلفة في الساحة اللبنانية. من هنا اهمية مذكراته هذه التي تكشف اسراراً ومعلومات جديدة ليس فقط عن لبنان وصراعات القوى المختلفة فيه، بل ايضاً عن منطقة الشرق الاوسط. وقد حصلت "الوسط" من الدكتور ايلي سالم على حقوق نشر مذكراته هذه، على حلقات، في المجلة. وفي ما يأتي الحلقة الثالثة عشرة من هذه المذكرات:
في مطلع 1989 كان واضحاً ان نفوذ سورية في لبنان اصبح كبيراً، خصوصاً بعدما "نفضت" الولايات المتحدة يدها من هذا البلد، بينما راحت ايران تدعم مواقعها فيه عن طريق "حزب الله". اما الجهود العربية والدولية فقد تركزت على فتح باب الحوار بين الرئيس اللبناني أمين الجميل والقيادة السورية.
في الثاني من نيسان ابريل 1986 اطلعني العماد ميشال عون قائد الجيش على رسالة مؤرخة في الثامن والعشرين من آذار مارس 1986 تحمل توقيع اللواء سعيد بيرقدار قائد القوات السورية في لبنان يتهم فيها الجيش اللبناني بقصف المواقع السورية ويحذر بأنه سيضطر الى دخول المنطقة الشرقية الخاضعة لسيطرة الجيش اللبناني والشرعية الدستورية، اذا تكررت تلك الحوادث. وأطلعني عون ايضاً على الجواب الذي يقترح ارساله. ووجدت ذلك الجواب استفزازياً وخطراً. واقترح الرئيس الجميل ان يبعث رسائل الى رؤساء الدول العربية عن طريق الامين العام للجامعة العربية الشاذلي القليبي. لكني من جهتي اقترحت عدم اقحام الزعماء العرب في هذه المسألة، لا سيما ان رسالة من الرئيس اللبناني لا تحظى بتأييد المسلمين السنّة في البلاد ولا برضى السوريين لا يمكن ان تحقق النتائج المنشودة. ورأيت ان الرد الديبلوماسي قد يكون اكثر فائدة أو اخف ضرراً على الاقل. وكان العماد عون يعتقد ان في وسعه الوقوف في وجه الجيش السوري الى فترة تكفي لاستدرار عطف الغرب وتأييده. لكني لم اوافق على هذا الرأي. وفي النهاية ارسلنا رداً ديبلوماسياً الى اللواء بيرقدار، ولم ينفذ التهديد السوري. غير ان حوادث القصف والاختطاف مضت على وتيرتها المعهودة في انتظار انفراج المأزق السياسي. ولتحقيق هذا الانفراج كان يتعين علينا، كما اقترحت دمشق ان نقبل "الاتفاق الثلاثي" بتعديلاته التي لا تمس جوهره.
وكان ريتشارد مورفي مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط ينصحنا عن طريق السفير بارثولوميو بعقد مؤتمر مسيحي لتقرير التعديلات التي سيقبلها الجميل. غير ان المسيحيين آنذاك كانوا منقسمين على انفسهم ولم تكن لهم قيادة تجمعهم، اذ كان سليمان فرنجية يتزعم مسيحيي الشمال، اما مسيحيو المنطقة الشرقية فكانوا منقسمين بين موال للكتائب ومنتم الى "الاحرار" أو "القوات اللبنانية" أو جناح الرئيس الجميل. وفي الجنوب كان المسيحيون في معظمهم موالين للواء انطوان لحد بحماية الاسرائيليين والبطريرك الماروني خريش كان "متقاعداً" ومعتكفاً، وانتخب مكانه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي لم يكن معروفاً قبل ذلك.
ولم تحظ فكرة عقد مؤتمر مسيحي بالموافقة واستبدلت باجراء مشاورات مع الزعماء المسيحيين تمخضت عن تعديل "الاتفاق الثلاثي" وأرسلت تعديلات الاتفاق الى رئيس وزراء بافاريا شتراوس يوم السادس من ايار مايو عام 1986 ليتولى تسليمها الى السوريين. ولم تنجح مساعينا في الاتصال بالسوريين وارسال التعديلات اليهم. وكلما كان السوريون يمعنون في تجاهل المسيحيين، كان كميل شمعون وسمير جعجع يزدادان اصراراً ومعارضة. ولم تكن اسرة الرئيس الجميل اقل تصلباً وتحدياً من موقفها ازاء سورية والقاء اللوم عليها في شل فاعلية الرئاسة اللبنانية وإحباط خطوات الرئيس احباطاً كاملاً.
وكانت مهمتي هي حماية الرئيس الجميل من هذه الاجواء وجعله ثابتاً على المسار العقلاني في مضمار التعامل بانصاف وبشكل علني مع سورية التي لم تكن صاحبة النفوذ فحسب، اذ اصبح لها مصالح في لبنان كانت عازمة على حمايتها. وكان رأيي يميل الى حماية هذه المصالح على يد حكومة قوية يعتمد عليها في لبنان وضمن اطار علاقات ودية ومميزة مع جارته. ففي وسع سورية ان تثير حفيظة اللبنانيين وكأنها لم ترتكب شيئاً، اذ انها هي الطرف الاقوى. اما لبنان فلا يتمتع بهذه الميزة. وفي الأول من آب اغسطس 1986 أفصح الرئيس الجميل في خطابه لمناسبة يوم الجيش عن آرائه الخاصة بالاصلاحات، ودعا مجلس النواب الى الاجتماع على الفور وتطبيق تلك الاصلاحات بموجب مواد الدستور وقال ان تلك الاصلاحات تحظى باجماع واسع النطاق، وهي تشمل الآتي:
< لبنان وطن متكامل. ليس جزءاً من اية دولة ولا متحداً مع اي دولة ويتمتع بالسيادة على اراضيه كلها.
< هوية لبنان عربية صرفة والتزامه بمحيطه العربي التزام كامل.
< حكومة لبنان جمهورية، ديموقراطية، برلمانية يتساوى فيها الجميع.
< انهاء الصراع العسكري وبسط سيطرة الدولة على أراضيها جميعاًَ.
< الالتزام بحرية الاعمال والتجارة.
< انتهاج اللامركزية الادارية على نطاق واسع.
< اقامة علاقات مميزة مع سورية.
< تعبئة الجهود الديبلوماسية لتطبيق قرارات الامم المتحدة الخاصة بجنوب لبنان.
< الانتقال التدريجي من النظام الطائفي الى نظام غير طائفي.
< تحديد مسؤوليات الرئاسات الثلاث الجمهورية، النواب، الوزراء. ورئاسات اجهزة الدولة التي سيتعين انشاؤها.
< اقامة توازن بين الصلاحيات والمسؤوليات.
< مراعاة مشاركة الطوائف في الحكومة من جهة ومبدأ الدولة الموحدة من جهة اخرى.
وللبدء بهذه العملية الاصلاحية كما ينبغي، اقترح الجميل ان يعقد البرلمان اجتماعاً على الفور ويطرح تعديلاً دستورياً من شأنه أن يقسم مقاعد مجلس النواب بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين. وعين رئيس الوزراء رشيد كرامي، مستجيباً مباشرة لاقتراح الرئيس، لجنة سداسية لدراسة الاقتراحات المطروحة جميعاً وتقديم خطة اصلاحية الى البرلمان خلال شهر. وبعث مستشاره الدكتور جورج ديب لتسليم الرسالة التالية الى نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام ومضمونها انه بوصفه رئيساً لوزراء لبنان فهو رئيس لوزراء البلاد بمسلميها ومسيحييها وان عليه لذلك ان يتحلى بالاعتدال في المواقف وانه ينظر الى مبادرة فتح الحوار هذه بعين الجد، ويرغب في معرفة رأي خدام فيها. وأجاب نائب الرئيس السوري برسالة مضمونها ان سورية تؤيد أي حوار لا سيما اذا كان تحت اشراف رشيد كرامي، وان لدى السوريين اهتمامين اثنين لا غير وهما ان لا عودة الى صيغة 1943 السياسية وأن لا تطغى اي فئة في لبنان على الفئات الاخرى.
وأعرب المفتي الراحل حسن خالد يومها عن رغبته في ان يرأس الرئيس سليم الحص اللجنة السداسية لتبني مقترحات الرئيس. وأبلغ احد المبعوثين قوله: "قصتنا كقصة البدوي الذي أقسم ان يبيع جمله بقرشين حين مرض ابنه. لذا ذهب الى المفتي كي بجد له مخرجاً من مأزق هذا القسم، فقال المفتي: هذه مسألة بسيطة، اعرض الجمل للبيع بقرشين واعرض معه القطة للبيع بدينارين وضع شرطاً على ان من يرغب في شراء الجمل يجب ان يشتري القطة معه أيضاً". وبهذا وجد المفتي مخرجاً و"باع" مقترحات الرئيس مع لجنة كرامي. وأشاد سفيرا مصر والجزائر في بيروت بخطاب الرئيس الجميل، وأبلغاني ان زعماء السنة يؤيدون بقوة ما جاء فيه، وطلب السفير الاميركي في دمشق من السوريين ان يبحثوا مقترحات الرئيس الجميل بصورة جادة.
الصاروخان الجامحان
في تلك الاثناء كان السفير البابوي في دمشق يطلع وزير الخارجية السوري فاروق الشرع على آراء المبعوث البابوي سيلفستريني بشأن الازمة اللبنانية والاصلاحات اللازمة لانهائها. وجمعت تلك الآراء في مذكرة من صفحتين، وعرضت على انها آراء تحظى باجماع كبير في لبنان. ومنها اعادة بناء الكيان اللبناني كدولة مستقلة ذات سيادة وهوية مميزة. ولهذه الدولة ان تختار بحرية اقامة "علاقات خاصة" مع سورية تحددها الاتفاقات الثنائية التي تحترم استقلال الدولتين وسيادتهما. ويجب سحب القوات الاجنبية كلها من لبنان كي يتسنى لحكومته بسط سيطرتها على كامل التراب الوطني. كما يجب ان تراعي الاصلاحات المقترحة الخصائص السكانية للبنان والهياكل الاجتماعية لمواطنيه ونظام التعايش الطائفي فيه. ويجب تطبيق الاصلاحات وفقاً لاحكام الدستور، كما يجب احترام الهوية التاريخية للبنان ونظام التعددية فيه، وحرية افراده والمجموعات التي تكونه. ويجب المحافظة على الحريات الديموقراطية للأديان والتعبير عن الرأي والملكية الخاصة، كما يجب حماية نظام توزيع الرئاسات الثلاث بين الطوائف الثلاث الاكبر في البلاد. ويجب ان يكون عدد المسيحيين والمسلمين في كل من مجلسي النواب والوزراء متساوياً. ويوصى بإنشاء المؤسسات الكفيلة بتوسيع قاعدة المشاركة في السلطة ودعم مبدأ اللامركزية.
ووعد الشرع بدرس المذكرة البابوية مع الزعماء اللبنانيين، ووصلت مهمة سيلفستريني عند هذه النقطة الى طريق مسدود. وحين لم يستجب السوريون لمقترحات المبعوث البابوي تركز الاهتمام في الآراء التي طرحها الرئيس الجميل وفي الاسلوب الذي اختاره كرامي لمتابعة تلك الآراء، فبعد تجربة اللجنة السداسية، غيّر الرئيس كرامي رأيه وحوّل مجلس الوزراء برمّته الى "لجنة اصلاحية".
ودعا الرئيس الاسد زعماء المسلمين اللبنانيين الى دمشق وأعرب عن تأييده لخطوات كرامي شريطة ان "يبقى الحوار المقترح في روح الاتفاق الثلاثي". وكانت "روح" الاتفاق "ونصه" مرتبطين اساساً بهوية لبنان وبعلاقته مع سورية. واجتمعت الحكومة، او بتعبير أدق مجلس الوزراء الذي كان يعقد اجتماعاته برئاسة كرامي لا الرئيس الجميل الذي كان يقاطعه رئيس الوزراء وجميع الوزراء المعتبرين حلفاء لسورية بوصفه "لجنة اصلاحية" للمرة الاولى في الثاني من ايلول سبتمبر 1986، واختار مجلس الوزراء وفق الاعراف المتبعة اثنين من اعضائه سليم الحص وجوزيف الهاشم لاعداد مسودة "الميثاق الوطني" كتمهيد لتطبيق الاصلاحات الجديدة. لكنهما لم يُعدّا شيئاً. وحين التقى الرئيس الاسد المبعوث الاميركي ريتشارد مورفي اوائل ايلول سبتمبر 1986 أعرب عن شكه في قدرة حكومة كرامي على التوصل الى اتفاق. وقال الرئيس السوري ان تشكيل تلك الحكومة في حد ذاته لا يساعد في الاتفاق على الاصلاحات. وكان الاسد على صواب. ففي الجلسة الاولى لمجلس الوزراء اللبناني اعلن كرامي ان علاقات لبنان بسورية يفترض ان تكون "مقدسة" واحتج كميل شمعون على ذلك. وكان واضحاً أن مجلس الوزراء لم يكن المحفل المناسب لاجراء نقاش عقلاني في شأن الاصلاحات. وأبلغ كرامي مستشار الرئيس الجميل محمد شقير ان جهوده ستبوء بالفشل، وقال ان الحص يأتي بالمفاجآت على الدوام وان شمعون اصبح طاعناً في السن ويحب التلاعب بمشاعر الجماهير. وأضاف متسائلاً كيف يمكن للمرء ان يجري حواراً في هذه الاجواء؟ فالتمثيل المسيحي ضعيف والطرف الاسلامي صعب لأن فيه "الصاروخين الجامحين" نبيه بري ووليد جنبلاط ومعهما الحص. وفي منتصف ايلول سبتمبر تبلغنا ان كرامي يئس من احتمال التوصل الى اتفاق عن طريق مجلس الوزراء، وان يأسه على حد قوله، مرجعه الاكبر العقبات التي كان شمعون يضعها امامه باعتراضه على ان يكون لبنان ذا هوية عربية وان تقوم بينه وبين سورية علاقات مميزة. يضاف الى هذا ان شمعون، الذي كان يقارب الخامسة والثمانين من عمره، وجد نفسه متعباً وفي حاجة الى اجازة طويلة في اوروبا. وهكذا يتضح ان رشيد كرامي كان يقترب من نهاية الطريق التي سُدت في وجهه.
فيما كان كرامي يواجه هذا الوضع اليائس وصل ماكس شتراوس، نجل فرانس - جوزيف شتراوس يرافقه البروفسور شوللر الى بيروت واثقاً من نجاح مهمة شتراوس. وما كان علينا سوى ان نتعاون مع البروفسور شوللر في تشذيب مقترحاتنا الاصلاحية وجعلها اكثر حيوية واكثر قبولاً لدى سورية. وأبلغنا شتراوس الابن ان مقترحات الفاتيكان لم تكن حسنة الصياغة ولن تلقى رداً ايجابياً من دمشق. وكان شوللر ذا شخصية متميزة وأكاديمياً غريب الطباع، وضريراً يكاد يكون فاقد البصر ويقرأ بمساعدة عدسات نظارة معقدة التركيب. وبعد بضعة ايام من البحث والتأمل دخل عليّ في مكتبي وهو يصرخ: "وجدتها". وسألته: "في لبنان؟" وأجبت نفسي: مستحيل، ما هي؟ فقال: "التمثيل النسبي برلمان مؤلف من 70 في المئة من المسلمين و30 في المئة من المسيحيين، ومجلس شيوخ ذو سلطات اكبر وعلى اساس التساوي مناصفة بين الطائفتين، اضافة الى رئاسة مارونية مرسخة، ولديّ الكثير فأنا بروفسور وعندي الكثير من الافكار ولا سيما في ما يتعلق بالمجتمعات التعددية، ومجال تخصصي هو القانون الدستوري وأرغب في العمل معك". وقلت له انني سعيد بلقائه وانني استاذ جامعي مثله وانني اتطلع الى اقامة تعاون وثيق معه خلال الفترة التي سيقضيها معنا. وأخذ يعمل بجد ودأب كأي بحاثة الماني في العصور الوسطى وكان يحرق نفسه بين الكتب ونصوص القوانين والمقترحات الاصلاحية محاولاً التوصل الى الصيغة السحرية التي ستفك رموز المعضلة.
وبعد المزيد من التأمل عاد شوللر الى مكتبي بأفكار جديدة منها ان رئاسة الجمهورية تترك للمسيحيين شريطة ان تكون تارة لماروني وتارة ثانية لمسيحي آخر بحيث يضمن الموارنة تسلم سدة الرئاسة بين فترة رئاسية وأخرى. ويضاف الى منصب رئيس الوزراء منصب نائب رئيس الوزراء ويترك هذان المنصبان للسنّة والشيعة بالتناوب مرة كل سنتين خلال فترة أربع سنوات. كما كان شوللر يفكر في احداث مجلسي نواب، احدهما طائفي والآخر غير طائفي. وشجعته على المضي في هذا التفكير المبدع خلال محادثاته معنا ومع اللبنانيين من مختلف الطوائف والاتجاهات قبل ان يتقدم بتوصياته النهائية الينا. وكان متعاوناً الى اقصى الحدود وتواقاً الى المساعدة. وكان في وسع المرء ان يلمس تفاخراً عظيماً لديه وهو يسعى الى ايجاد صيغة سياسية من شأنها ان ترضي الاطراف المعنية جميعاً.
ماذ يريد الأسد؟
في هذه الاثناء تلقينا نصيحة من شخصية عربية تربطها علاقات جيدة بالاسد بأن يقوم الرئيس الجميل بلفتة ايجابية وعلنية تجاه الرئيس السوري وجاءت الفرصة لذلك يوم 23 ايلول سبتمبر 1986 في ذكرى انتخاب الجميل رئيساً للجمهورية.
وكان الرئيس سيخطب في حشد كبير تجمع في بلدته بكفيا. وتجهز مساعدوه العسكريون والامنيون وكان هناك حشد قدر بأربعين الف شخص للاستماع الى خطاب الرئيس معظمهم من الموارنة الذين جاؤوا من القرى المجاورة. ومع ان اعداداً كبيرة منهم كانت معادية للسوريين فقد صفق الجميع وهتفوا عالياً حين طلب الجميل مساعدة "أخي الرئيس حافظ الأسد". وبعد هذا الخطاب تم ابلاغنا ان الاسد يرغب في ان يتلقى رسالة من الجميل يشير فيها الى التزامه بالاصلاحات وبإقامة علاقات طيبة مع سورية، ورفض الجميل ارسال رسالة. واجتمعت "بالوسيط العربي" بيننا وبين دمشق فذكر لي انه التقى الاسد قبل ايام وأبلغه ان الجميل "يحبه ويرغب في التعاون معه". وسأل الوسيط العربي الاسد: "هل تحب الرئيس الجميل وهل ترغب في التعاون معه، فأجاب: نعم بالتأكيد. فقلت: في هذه الحال ينبغي ان تجتمعا معاً وتنهيا التقاتل في لبنان وتضعا البلاد في الطريق نحو السلام. فأجابني الاسد: لا مشكلة بالنسبة اليّ في ذلك، فأنا استطيع ان أرفع الهاتف واتصل بالشيخ امين وأدعوه الى اجتماع غداً. ولكن حرباً دامت اثنتي عشرة سنة لا يمكن ان تنتهي في اجتماع واحد بين رئيسين مهما طال اجتماعهما. والشيخ امين يعرف نقطة ضعفي تجاهك وكان حكيماً حين طلب منك التوسط للوفاق. فقد حاولت الولايات المتحدة وفرنسا والفاتيكان وألمانيا الغربية في حينه وجهات اخرى احلال الوفاق لكننا لم نستجب. اني مستعد للتعاون، لكني احتاج الى ضمانات ملموسة ومحددة. دع الجميل يعطيني بديلاً عن الاتفاق الثلاثي. هذا الاتفاق ليس اتفاقي أنا، بل توصلت اليه ثلاثة اطراف لبنانية. واني اهتم بأمر واحد لا غير وهو اقامة علاقات مميزة بين لبنان وسورية. ولست اريد التدخل في النظام اللبناني المعتمد على القطاع الخاص فتغيير هذا النظام يعني الاساءة الى روح لبنان. العلاقات المميزة امر مهم لكل من سورية ولبنان لأن امامنا عدواً مشتركاً هو اسرائيل. اسرائيل خنجر في خاصرتي ولا أريد خنجراً آخر في لبنان وسورية ليست تونس او المغرب كي تكون علاقات لبنان بي كالعلاقات مع تونس او المغرب. فإذا تحركت الاحداث في بيروت فهي تتحرك في دمشق ايضاً. وأمن سورية لا يمكن فصله عن امن لبنان والعكس بالعكس. ونحن نريد ان يكون لبنان مستقلاً وذا سيادة ومرتبطاً بعلاقات مميزة مع سورية".
هذا ما قاله الاسد للوسيط العربي. وقد ابلغنا هذا الوسيط ان الاسد يريد من الجميل رسالة خطية تحتوي على المطالب التي يريدها. وبعث الجميل بعد فترة عن طريق الوسيط برسالة الى الاسد لكن الرئيس السوري لم يكن راضياً تماماً من مضمونها لأن الجميل طالب في رسالته هذه باتفاق بديل عن "الاتفاق الثلاثي". واكد الجميل ايضاً في رسالته استعداده للعمل في شكل وثيق مع الرئيس الاسد في حل الصراع داخل لبنان والصراعات الاقليمية الاوسع نطاقاً. وأظهرت الرسالة تقديراً للأسد ولدور سورية في المنطقة. وهي حددت مبادئ الاصلاح الأساسية مشيرة الى هوية لبنان العربية ووحدة اراضيه وتقاسم طوائفه السلطة والمساواة بين ابنائه والى "الحاجة الى ميثاق وطني جديد ودستور جديد". وتطرقت الرسالة الى "مقاومة" الاحتلال الاسرائيلي" وجاء فيها ان لبنان "لن يكون مقراً أو ممراً لأي نشاط معاد لسورية". وأن لبنان يحتاج الى مساعدة سورية للتغلب على ازمته وان الرئيسين سيتفقان على طبيعة تلك المساعدة وسيصوغان شكل الاتفاقات بين "حكومتينا" ضمن اطار "العلاقات المميزة بين لبنان وسورية". وأضافت الرسالة ان هذه العلاقات ترمي الى "ترسيخ استقلال كل من البلدين وسيادته ووحدة اراضيه". ونوّهت رسالة الجميل أيضاً بالحاجة الى "التعاون في المسائل التي تتعلق بأمن بلدينا والتنسيق في مواقفنا على الصعيدين الاقليمي والدولي". وقبل ان نسلم الرسالة الى الرئيس الأسد، عرضناها على البطريرك صفير والرئيس الاسبق كميل شمعون. ووافق كلاهما على مضمونها. وأبلغني الرئيس انه اطلع سمير جعجع ايضاً على محتواها. ورأى الجميل ان هؤلاء الزعماء الثلاثة أمدوه بالتأييد الماروني الذي يحتاج اليه.
وكان الاسد على حق، اذ كانت الرسالة تخلو من أي جديد وكل ما فيها كان الجميل ذكره من قبل. وربما كانت لهجة الرسالة وحدها أقوى. واذا كان الرئيس السوري يرغب في احلال تسوية واجراء اصلاحات في لبنان، فالرسالة تطرح ذلك. وأصر الوسيط على عقد لقاء قمة بين الاسد والجميل، غير ان الاسد فضّل المفاوضات عبر الممثلين الشخصيين للرئيسين. فاقترح الوسيط، من دون مشاورات مسبقة، ايلي سالم ممثلاً للرئيس الجميل وأديب الداوودي، سفير سورية لدى منظمات الأمم المتحدة في جنيف ممثلاً للرئيس الأسد، على ان يلتقيا سراً في سان موريتز في سويسرا وفي خلوة قصيرة هناك. ووافق الأسد. واستدعى الاسد الشرع وأبلغه انه وافق على المباحثات بين سالم والداوودي، وطلب من الشرع ان يتصل بالداوودي في جنيف ويبلغه بالقدوم الى دمشق لتزويده تعليماته قبل ان يلتقي سالم في سان موريتز. وقال الاسد: "لا أريد دعايات. اريد ان تكون هذه العملية طي الكتمان حتى نتوصل الى اتفاق". وكانت مفاوضاتنا الحساسة مع الاسد في تلك المرحلة تجري في غمرة الجفوة بين سورية من جهة وأوروبا والولايات المتحدة من جهة ثانية بسبب حادثة نزار الهنداوي. وكانت بريطانيا اتهمت الهنداوي بالتآمر لتفجير طائرة تابعة لشركة الطيران الاسرائيلية "العال" كانت ستقل 375 راكباً. وأدت الحادثة الى ابعاد لندن السفير السوري لديها متهمة اياه بأنه كان وراء مؤامرة الهنداوي. وأقدمت الولايات المتحدة من جهتها ايضاً على سحب سفيرها من دمشق كتعبير عن الاحتجاج واتهمت سورية بارتكاب اعمال ارهابية. وأخذت واشنطن ودول المجموعة الاوروبية تبحث في اتخاذ اجراءات اخرى ضد سورية.
وبعد اسبوع من تسليم رسالة الجميل السرية الى الاسد، افادت صحيفة "السفير" اللبنانية نقلاً عن مسؤول سوري ان الجميل بعث رسالة الى الاسد لم تتضمن افكاراً جديدة. وأثار ذلك القلق والشكوك لدى الرئيس، وظلت تلك الشكوك تساوره طيلة شهر كانون الأول ديسمبر 1986 وحين ابلغه الوسيط العربي ان الاسد اقترح اجراء المباحثات في دمشق بدل سان موريتز، وان الجانب السوري سيمثله كل من وزير الخارجية فاروق الشرع، ورئيس الاستخبارات السورية في لبنان العميد غازي كنعان ووليد المعلم كأمين سر. أخذ الجميل يشتبه في ان العملية كلها ستواجه المماطلات. ومع هذا قال للتاجر ان ايلي سالم سيرافقه العقيد سيمون قسيس، رئيس الاستخبارات العسكرية اللبنانية والدكتور نقولا نصر كأمين سر. وفي الثالث من كانون الثاني يناير 1987 تم ابلاغنا ان المباحثات المقترحة ستبدأ في مكتب الشرع يوم الاثنين الخامس من ذلك الشهر.
صيغة اتفاق
المعروف ان اقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم. لكن هذه القاعدة لا تنطبق دائماً على نقطتي دمشق وبيروت، ولا سيما في فصل الشتاء اذ تقطع الثلوج الطريق البرية الرئيسية بينهما وتجعل الغيوم الكثيفة من المستحيل على المروحيات العسكرية ان تطير في اتجاه معروف. فبعد محاولات جريئة لاختراق الغيوم وإثر مناشدات عدة للطاقم، عادت المروحية التي كانت تقل وفدنا المفاوض اخيراً ادراجها صوب البحر وأخذت تسلك الطريق الطويلة الى دمشق عبر حمص. واستقبلنا في المطار مسؤولون من رئاسة الجمهورية السورية ومن وزارة الخارجية ونقلنا الى فندق ميريديان في دمشق لننال قسطاً من الراحة. وكان في جناحي من اطباق الضيافة ومظاهرها ما جعلني استبشر خيراً منذ البداية ونحن ضيوف الحكومة السورية. فان لم تكن سورية دولة غنية الا ان حفاوتها بالغة والخدمات التي تقدمها لضيوفها ممتازة ورغبتها في تأمين راحتهم اصيلة.
فاروق الشرع ديبلوماسي رقيق ومتواضع لا يحب التظاهر ويؤدي مهامه بمستوى المنصب المرموق. استقبلني بابتسامة عريضة وتقدم مني موشكاً ان يرحب بي على الطريقة العربية التقليدية بالاحتضان والتقبيل، وسهلت من جهتي المهمة عليه مصافحاً اياه بحرارة. استهل الشرع الحديث بالقول ان "القيادة" اجتمعت وعينته مع كنعان مفاوضين عن سورية و"قبلت" سالم وقسيس مفاوضين عن لبنان مرشحين من قبل الرئيس الجميل. وعرضت مطولاً الفلسفة السياسية للبنان ومكانه الفريد في العالم العربي وشخصيته العربية وروابطه مع سورية وإصراره على الاستقلال والسيادة وخصائص الديموقراطية اللبنانية. وتحدث الشرع "رسمياً" على اساس انه "وسيط وفاق"، وبهذا فقد كان ينقل موقف "المعارضة" للرئيس الجميل. ونوهت بأن "المعارضة" تصر على تنفيذ بنود "الاتفاق الثلاثي". وكان طبيعياً ان يبدأ الاجتماع الأول من الصفر. وزرت بعد ذلك نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام الذي أبلغنا انه سيتابع المباحثات عن طريق "القيادة" لأن الشرع سيرفع تقريره مباشرة اليها. لكن الشرع رفع تقريره في الواقع الى خدام الذي نقله بدوره الى الرئيس الأسد. وبدا خدام كالمعتاد متألقاً ومحرضاً المشاعر والافكار ومرحاً وليس مجرد ناقل حريص للرسائل. وهذه المرة استقبلني بالسؤال: "كيف حال بيت حماك؟"، ويعني الاميركيين لأن زوجتي اميركية الاصل.
وقبل اجتماعنا التالي مع المفاوضين السوريين التقيت نبيه بري في مقره بدمشق كي اطلع على مطالبه منه مباشرة. فقال ان تلك المطالب تنحصر في منح السلطة التنفيذية لمجلس الوزراء برئاسة رئيس الجمهورية من دون صلاحية التصويت، او احداث منصب نائب رئيس الجمهورية على ان يشغله شيعي يتمتع بصلاحية توقيع كل المراسيم التي لا تصدر عن مجلس الوزراء. ويجب ان ينتخب رئيس الوزراء من قبل البرلمان وان لا يرأس مجلس الوزراء الا خلال جلسات التشاور التي لا تتخذ فيها قرارات. وأعرب بري عن رغبته في اقامة نظام علماني في لبنان دفعة واحدة لكنه لم يكن متأكداً مما اذا كان اللبنانيون على استعداد لتقبله.
واتفقنا في سلسلة متتابعة وسريعة من الاجتماعات مع الشرع وكنعان على المبادئ الاساسية التي وضعناها في شكلها النهائي ضمن وثيقة بعنوان: "مبادئ الميثاق الوطني"، وحملت تاريخ 22 كانون الثاني يناير 1987. وكانت وثيقة مقتضبة من اربع صفحات اعتبرها الشرع بداية رائعة من شأنها ان تفضي الى عقد اجتماع قمة بين الرئيسين الاسد والجميل يتبعه مؤتمر صحافي في "القاعة الدمشقية الكبرى". واتفقنا على التشاور، كل مع جماعته، نحن مع قادة المنطقة الشرقية والسوريون مع المعارضة اللبنانية. وقلت للوزير الشرع انني اضمن له تأييد الطرف اللبناني، وأجابني ان يضمن الشيء نفسه من طرفه، وأضاف: "سنتشاور مع حلفائنا المهمين فقط، والا فاننا لن ننتهي". واتفقنا على النقاط الآتية:
1 - لبنان بلد مستقل وذو سيادة، وهو عربي الهوية والانتماء وتربطه بسورية علاقات متميزة.
2 - اتخاذ كل الاجراءات الكفيلة بتحرير الجنوب اللبناني بما في ذلك "اجراءات الخطة التي تبناها مجلس الوزراء في 5/3/1984 ... والتي تنص على واجب الحكومة اللبنانية في احلال الاستقرار في الجنوب ومنع التسلل عبر حدوده.
3 - الغاء النظام الطائفي "خلال فترة محددة". وإنشاء لجنة وطنية للاسراع في ذلك.
4 - حتى يتم الغاء الطائفية، يتساوى المسلمون والمسيحيون في نسبة التمثيل داخل البرلمان ومجلس الوزراء والمناصب العامة والمنظمات المقترحة التالية: المحكمة الدستورية، المحكمة العليا والمجلس الاقتصادي والاجتماعي.
5 - تناط السلطة الاجرائية في مجلس الوزراء وينعقد المجلس برئاسة رئيس الجمهورية من دون حق التصويت. وتحدد صلاحيات الرئيس بوصفه: "رئيس السلطة التنفيذية ورمز الوحدة الوطنية". وتحدد أيضاً صلاحيات رئيس الوزراء وكيفية تعيينه كما يلي:
< اما ان يرشح الرئيس رئيس الوزراء "بعد اكمال مشاورات برلمانية وسياسية".
< او ينتخب رئيس الوزراء من قبل البرلمان، ويشكل مجلس الوزراء "بالتشاور بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء".
6 - يتقاسم المسلمون والمسيحيون عضوية البرلمان مناصفة على ان توزع المقاعد بالتساوي حسب التمثيل النسبي لكل من الطائفتين. ويزاد عدد مقاعد البرلمان وطرح عددان تراوحا بين 108 و120 مقعداً. لكن العدد النهائي ترك مفتوحاً ليتفق عليه الرئيسان الاسد والجميل. وينتخب رئيس البرلمان لفترة سنتين قابلة للتجديد.
7 - اعادة توحيد الجيش على الأسس الوطنية الجديدة المذكورة في هذه الوثيقة.
8 - يجب تطوير نظامي التعليم الخاص والعام بحيث يرسخان الوحدة الوطنية.
9 - انهاء حالة الحرب وفق الخطوات التالية:
< الاتفاق على وقف نهائي وشامل لاطلاق النار.
< جمع الاسلحة.
< حل الميليشيات.
< إعادة جميع المهجرين منذ عام 1975 الى مناطقهم وبيوتهم.
< وضع الخطط لتنفيذ ما سبق.
< من الضروري الربط بين انهاء القتال والتقدم بالاصلاحات لاعطاء الوثيقة ميزتي التكامل والمصداقية.
< طلب مساعدة سورية في تحقيق هذه الاهداف.
التقيت السفير البابوي انجيلوني والبطريرك الماروني صفير، والتقى الرئيس الجميل كلاً من ميشال عون وجعجع. وقرأ الوثيقة لعون في حضوري يوم العشرين من كانون الثاني يناير 1987 واعتبرها عون مرضية. وقال الجميل ان موقف جعجع كان مماثلاً مع بعض التحفظات اذ لم يكن جعجع راضياً عن عبارة "الهوية العربية" للبنان، وعن سحب سلطة التصويت من يد الرئيس كما اراد استعمال عبارات اوضح في ما يتعلق باللامركزية. ووافق السفير البابوي على نص الوثيقة من دون تردد. ورغبة مني في المحافظة على السرية كنت أقرأ الوثيقة وأبحثها مع من أبحث فقرة فقرة لكني لم اوزع نسخاً منها. وعلق السفير البابوي انجيلوني بعد ان قرأنا الوثيقة معاً بقوله: "لا استطيع ان اصدق اذني. هذه وثيقة ممتازة واني اهنئك عليها والموارنة اغبياء ان لم يؤيدوها وبحماسة. وفي الواقع فان البند الخاص بتقاسم السلطة يمكن ان يكون أقوى صياغة وينبغي ان يفضي ذلك الى حل منصف، وعلى الموارنة ان ينظروا الى الأمام. وقلقي الوحيد هو موقف القوات اللبنانية". اما البطريرك صفير فبدا مسروراً لكل بند من بنود الوثيقة. وحين وصلنا الى البند المتعلق بمنصب الرئاسة صرخ: "ما هذا، الرئيس لا يستطيع ان يصوّت؟" وعندما شرحت له موقف المعارضة والاهمية الحقيقية لمسألة التصويت، او عدمه، قال صفير: "حسناً، خذوا منا حق التصويت لكن لا نزال نرأس مجلس الوزراء. اظن ان على المرء ان يدفع شيئاً لمسايرة التغييرات".
وأضاف البطريرك: "بارك الله فيك، امض على بركة الله وأرجو ان ينجح هذا الاتفاق".
وبحثت الوثيقة على انفراد ايضاً مع كميل شمعون وأحسست اننا على وشك ابرام اتفاق مع سورية، وأردت ان تساعدنا الولايات المتحدة لدى الاسرائيليين في مسألة الجنوب. وسألت السفير الاميركي جون كيلي عما اذا كانت واشنطن مستعدة لتقديم المساعدة. وخشي ان يكون الطلب معناه المساعدة لدى سورية، فأجاب: "لا تريد الولايات المتحدة ان تتورط ولا يمكن اعتبارها مسؤولة عن مباحثات دمشق وعواقبها". وحاولت الديبلوماسية الاميركية ابريل غلاسبي، التي كانت حاضرة، ان تلمح بالاشارات والهمسات والضحكات الخفية الى ان الولايات المتحدة ربما تستطيع المساعدة لدى الاسرائيليين في مرحلة ما، وهذا كان قصدي. ولم تكن تلك فترة سعيدة بالنسبة الى الاميركيين في لبنان. ففي 24 كانون الثاني يناير 1987 اختطف ثلاثة مدرسين اميركيين في كلية بيروت الجامعية. وردت الولايات المتحدة باعلانها ان "جوازات السفر الاميركية لم تعد صالحة للسفر الى لبنان". وكان اعضاء مجلس الشيوخ يحضون وزير الخارجية الاميركي جورج شولتز على اغلاق السفارة الاميركية في بيروت وتوصية الاميركيين في لبنان جميعاً بالعودة الى بلادهم. ودهشت كثيراً حين سمعت جورج شولتز يتحدث عن بيروت على انها مدينة "الطاعون". وشكوت للسفير كيلي استخدام هذه العبارات، فشولتز من دون سواه ينبغي ان يكون مطلعاً بشكل افضل على معاناة هذه العاصمة المنكوبة.
وحين اصبحت بين ايدينا وثيقة الثاني والعشرين من كانون الثاني يناير اضحى لدينا امل في فتح صفحة جديدة بين الرئيسين الجميل والاسد من خلال مؤتمر القمة الاسلامي الذي كان سيبدأ بعد ذلك بوقت قصير في الكويت.