إيلي سالم يتذكر : خدام قال لي : اميركا تريد انشاء حلف عربي ضدنا لكن سورية تعرف كيف تواجه "الغول" الاميركي (7 )

النوع: 

 

يتحدث الدكتور ايلي سالم، نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اللبناني السابق، في هذه الحلقة السابعة من مذكراته التي تنشرها "الوسط"، عن فشل الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي وتراجع الولايات المتحدة عن تعهداتها وعن التهديدات التي وجهها وزير الخارجية السوري آنذاك السيد عبدالحليم خدام الى الاميركيين.

وقد شغل ايلي سالم منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية اللبناني في عهد الرئيس الجميل، وكان مستشاره للشؤون السياسية والاتصالات العربية والدولية. وشارك سالم طوال عهد الجميل من ايلول - سبتمبر - 1982 الى ايلول - سبتمبر - 1988 في صنع القرارات السياسية التي اتخذت خلال هذه الفترة، وفي الاتصالات المختلفة اللبنانية - العربية واللبنانية - الدولية، واطلع على مجموعة كبيرة من الاسرار المتعلقة بإسرائيل ومخططاتها في لبنان، وبسورية، وبالولايات المتحدة والدول الكبرى الاخرى، وبالفلسطينيين، والايرانيين، وبدول عربية اخرى لعبت ادواراً مختلفة في الساحة اللبنانية. من هنا اهمية مذكراته هذه التي تكشف اسراراً ومعلومات جديدة ليس فقط عن لبنان وصراعات القوى المختلفة فيه، بل ايضاً عن منطقة الشرق الاوسط. وقد حصلت "الوسط" من الدكتور ايلي سالم على حقوق نشر مذكراته هذه، على حلقات، في المجلة. وفي ما يأتي الحلقة السابعة من هذه المذكرات:

بعد رفض الرئيس حافظ الاسد الواضح والقاطع للاتفاق اللبناني - الاسرائيلي، تخلى جورج شولتز وزير الخارجية الاميركي عن وعوده السابقة لنا بشأن انسحاب القوات السورية من لبنان. فلم يعد شولتز يقول ان الولايات المتحدة ستعمل على اقناع الرئيس الاسد بسحب قواته من لبنان، بل اصبح يقول ان الولايات المتحدة ادت دورها في التوصل الى اتفاق مع اسرائيل يضمن الانسحاب الكامل للجيش الاسرائيلي وان المهمة الآن تقع على عاتق العرب للتوصل الى اتفاق مع سورية في شأن انسحاب قواتها من لبنان. وكان شولتز يقول ان الولايات المتحدة ستساعد في هذه المهمة بالطبع، لكن دورها لن يكون فاعلاً كما كان بالنسبة الى اسرائيل، خصوصاً ان سورية لا تقيم علاقات تجارية مع الولايات المتحدة ولا تتلقى اية مساعدة منها يمكن استعمالها كوسيلة ضغط. وعلى رغم ذلك راهنت الولايات المتحدة على ان سورية تريد الحوار مع واشنطن حول لبنان وشؤون شرق - اوسطية اخرى، ولذلك فهي مستعدة لقبول تسوية حيال الاتفاق وسترضى بالانسحاب من لبنان.

وبدأت الحكومة اللبنانية تتحرك عربياً لمواجهة الموقف السوري الرافض وخطط اسرائيل لتقسيم لبنان الى كانتونات. وشددنا خلال اتصالاتنا العربية على اننا لن نطبع علاقاتنا مع اسرائيل. وسعينا الى تأمين عقد قمة عربية لمناقشة الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي لكن جهودنا لم تثمر.

وفي هذا الاطار ابلغنا مسؤول عربي كبير ان الملك الحسن الثاني طلب من الرئيس الاسد قبول الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي المؤدي الى اخراج القوات الاسرائيلية من لبنان. وجرت اتصالات عربية عدة مع الاسد، لكن سورية ظلت تعارض الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي.

وتوتر الوضع العسكري في الساحة اللبنانية، خصوصاً في منطقة الشوف، وانفجرت في صيف 1983 حرب الجبل، واخذت القذائف تتساقط على القصر الجمهوري.

يوم 11 ايلول سبتمبر 1983 اتصل العماد ابراهيم طنوس قائد الجيش اللبناني بالقصر الجمهوري وابلغ الرئيس امين الجميل ان جبهة سوق الغرب ستنهار، وان على الجميع مغادرة القصر الى كسروان "لانها منطقة آمنة". لكن الجيش اللبناني تمكن من منع القوات الفلسطينية واللبنانية المتحالفة معها من السيطرة على سوق الغرب.

اما في الشوف فقد غلبت "القوات اللبنانية" على امرها. وصار قادتها الذين لم يكونوا مقربين من رئيس الجمهورية يتصلون بنا يائسين، ولكنه لم يستطع مساعدتهم. اذ لم يرد ارسال الجيش اللبناني لانه لن يدخل اية منطقة من دون اتفاق سياسي بين مختلف الاطراف.

وفي ذلك الحين شعر شفيق الوزان بضعف الحكومة التي يرئسها وعدم فاعلية الالتزامات التي قدمت لنا لتأمين انسحاب القوات غير اللبنانية. وقال لي: "سجل يا إيلي في مذكراتك ان القوى العظمى اتخذت قراراً جدياً بتحرير لبنان من القوى الاقليمية المتصارعة على ارضه وطلبت من البابا تنفيذ هذا القرار!". وفي هذه الاجواء أبلغني الوزان انه عازم على الاستقالة من منصبه اذ كان السوريون يعارضونه، وبدأ يخسر شعبيته داخل طائفته، وشعر بأنه تحمل ما يكفي من المضايقات من دون ان يرى اي مخرج للوضع. ولم تكن المفاوضات في دمشق لمصلحته، فالسوريون لم يقبلوا به في مؤتمر الحوار الوطني الذي اصبح الآن نقطة الاهتمام ومحور العمل السياسي اللبناني.

 

واحترم الرئيس الجميل رغبة الوزان بالاستقالة لكنه طلب منه ترك الاستقالة في يده كي يقبلها في الوقت المناسب.

وفي اجواء من التشاؤم سافرت الى نيويورك في اواخر ايلول سبتمبر 1983 لالقاء خطاب امام الجمعية العامة للامم المتحدة والاجتماع بوزراء خارجية الدول المعنية بالوضع في لبنان. وقد رفض وزير الخارجية السوري السيد عبدالحليم خدام الاجتماع بي في نيويورك اذ تلقى تعليمات من دمشق بعدم التقاء اي مسؤول لبناني الى ان يتم الغاء الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي.

يوم 3 تشرين الاول اكتوبر 1983 التقيت في مقر السفارة المصرية في واشنطن الرئيس حسني مبارك في حظور وزير الخارجية المصري كمال حسن علي. وأسفرت الاتصالات والجهود المختلفة عن عقد مؤتمر الحوار الوطني في جنيف في نهاية تشرين الاول اكتوبر 1983.

في 21 تشرين الاول اكتوبر اعلمني القائم بالاعمال السويسري ان الرئيس السويسري بيار أوبير سيكون سعيداً بدعوة الرئيس الجميل لعقد مؤتمر الحوار الوطني في جنيف، وان الجميل سيكون ضيفاً على أوبير خلال يومي 29 و30 تشرين الاول اكتوبر، وسيفتتح مؤتمر الحوار الوطني اعماله يوم الاثنين في 31 تشرين الاول اكتوبر. وتركزت كل النشاطات السياسية على المؤتمر المقترح. وكنا نتوقع منه ان ينهي الازمة ويأتي بصيغة تؤمن الانسحابات وتعيد السيادة والاوضاع الطبيعية الى البلاد.

عمليتان انتحاريتان… ومؤتمر جنيف

وصل السفير الاميركي الجديد ريجينالد بارثولوميو الى بيروت يوم السبت 22 تشرين الاول اكتوبر وفي اليوم التالي قام رجلان بعمليتين انتحاريتين غيرتا منحى سياسة الولايات المتحدة في لبنان. اذ قاد احدهما شاحنته المفخخة نحو مقر قوات "المارينز" الاميركية قرب المطار، وادى الانفجار الناتج عن ذلك الى مقتل 241 جندياً اميركياً. واما الثاني فقاد شاحنة مماثلة نحو مقر قوات المظليين الفرنسيين مما سبب مقتل تسعين مظلياً فرنسياً. واحدثت العمليتان صدمة بين افراد "القوة المتعددة الجنسيات" وصلت بتأثيرها الى عواصم الدول المشاركة فيها. وكان ذلك نذير بداية سيئة للسفير الجديد بارثولوميو. وعلى رغم ان رد الفعل الرسمي الاول من واشنطن كان متحدياً، "وان الولايات المتحدة لن يرهبها العنف"، لكن عملية تقويم جديدة للسياسة الاميركية في لبنان بدأت منذ ذلك الحين. وساد الاعتقاد بأن اصوليين ينتمون الى "حزب الله" قاموا بهاتين العمليتين.

كان الرئيس الجميل يستمتع بالمفاجآت ويعيش عليها. وعندما كانت لديه مفاجأة جيدة، كان يتصل بي ويخبرني عنها وينتظر ردي على ذلك. وفي الصباح الباكر من يوم الجمعة 28 تشرين الاول اكتوبر 1983، اخبرني انه سيلتقي الرئيس الاسد في اليوم التالي. كان ذلك خبراً مهماً لان العلاقات السورية - اللبنانية توترت منذ توقيع الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي. وكانت الخطة تقضي بأن يتوجه الجميل الى دمشق حيث سيكون الاسد بانتظاره هناك مع وفد تشريفات كامل.

لكن قبل هذه الزيارة بساعات طلب المسؤولون السوريون تأجيلها واقترحوا على الجميل الغاء الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي قبل التوجه الى دمشق.

وهكذا توجه الجميل على رأس الوفد اللبناني الرسمي الى جنيف من دون ان يلتقي الاسد. كما توجه الى جنيف ايضاً رشيد كرامي ومجموعة من القيادات اللبنانية البارزة. ومثّل سورية في مؤتمر الحوار الوطني وزير خارجيتها خدام، وممثّل المملكة العربية السعودية الامين العام لوزارة الخارجية آنذاك. وكان الاميركيون، والبريطانيون، والفرنسيون، والايطاليون، والسوفيات، والمصريون موجودين جميعاً في اروقة المؤتمر كي يلقوا بثقلهم ويتابعوا الاحداث في محاولة للتأثير بها. اما السويسريون فكانوا متواجدين بتحفظ وحذر كخبراء في المصالحة وحل النزاعات بين الدول ومستعدين للمساعدة عند وجود اية عقبة اذا طلب منهم ذلك. وكانت تدابير الامن السويسرية شديدة واضطر المشاركون الى العبور خلال آلة للكشف عن السلاح مثل تلك الموجودة في المطارات. وكان بعض المشاركين يحملون مسدسات، وُطلب منهم بتهذيب ترك سلاحهم قبل الدخول الى قاعات المؤتمر، لكن العديد من المشاركين كان من زعماء الميليشيات الذين لم يعتادوا ان يتكلم معهم احد عن سلاحهم حتى ولو بتهذيب مطلق. ولذلك كثيراً ما كانوا يتضايقون، وهدد بعضهم بالخروج والانسحاب من المؤتمر بسبب هذه المسألة. وجاء بعض النواب اللبنانيين الاثرياء الذين لم يكن لديهم شيء آخر يفعلونه لحضور المؤتمر من اجل ان يظهروا في الصور التذكارية. أما المهاجرون اللبنانيون المتجولون في اوروبا فإنهم وجودوا في مؤتمر جنيف فرصة للمشاركة في صنع التاريخ وجاؤوا بأعداد كبيرة.

وأسفر مؤتمر جنيف عن "تجميد" الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي. وقد ابلغني ديبلوماسي اميركي خلال انعقاد هذا المؤتمر: "يجب مواجهة الواقع. الغاء الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي سيضايقنا ويثير حفيظة الاسرائيليين، وهذا ليس جيداً بالنسبة اليكم. واذا طبق الاتفاق فسيضايق ذلك السوريين، وهذا ليس في مصلحتكم ايضاً. وافضل شيء يمكن عمله هو تجميده والتوصل مع حكومة جديدة الى حلول جديدة للمشكلة". وتم تفسير الكلام الاميركي على انه يجب تعديل الاتفاق خلال المؤتمر، وبدأت تتوزع اقتراحات بتعديل الاتفاق على المشاركين. واقترح المبعوث الاميركي فيربانكس ان يناقش المشاركون الاصلاحات ويؤجلوا البحث في موضوع الاتفاق. وهكذا بدأت اللهجة الاميركية الجديدة تؤثر على سير الاوضاع. وادى اقتراح فيربانكس الى غضب الرئيس الجميل لانه لم يستشره بشأن ذلك. ورفض اللقاء مع فيربانكس، واضطررت من جديد الى التدخل للتقريب بينهما. وكان كل من الجميل وفيربانكس يقول بأن لديه كل الحق بالغضب، وانه يعمل بأفضل شكل ممكن تحت ضغوطات كبيرة. وكان تعديل فيربانكس كالآتي: "ستراجع حكومة لبنان اتفاق ايار مايو 1983 مع الاخذ في الاعتبار استقلال لبنان، وسيادته، واهتمامات جيرانه الامنية المشروعة، والاتفاقات السابقة التي ابرمها لبنان مع الدول العربية". ومنذ بداية المؤتمر قال الجميل للحاضرين ان الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي مجمد حتى ايجاد بديل عنه، وبعد مناقشة هذا الموضوع، تبنى مؤتمر جنيف القرار الآتي: "في ضوء الظروف التي رافقت توقيع 17 ايار مايو 1983، والتعقيدات الدولية التي قد تنشأ نتيجة استمرار الوضع الحالي، يدعو المؤتمر رئيس الجمهورية اللبنانية الشيخ امين الجميل الى اتخاذ تدابير للقيام بالاتصالات الدولية الضرورية بهدف انهاء الاحتلال الاسرائيلي، وضمان سيادة لبنان الكاملة على جميع اراضيه". وأكد الجميل انه يعرف كيف يفعل ذلك، ورد عليه الرئيس السابق سليمان فرنجية وقال: "فليكن الله معك، لديك كارت بلانش". وهكذا صار لدى الرئيس تفويض لايجاد بديل لاخراج اسرائيل من لبنان. وهذا يعني انه سينبغي عليه بحث هذا البديل مع الولايات المتحدة، الدولة الوحيدة القادرة على العمل مع اسرائيل لتأمين انسحابها من لبنان.

اميركا تدرس الانسحاب

عند عودتي من جنيف الى بيروت زارني السفير السوفياتي وكان غاضباً من الحشود البحرية الاميركية في شرق البحر الابيض المتوسط. وكان ريغان يشعر بالارتياح بعد عملية غرانادا، وكان يهدد الذين فجروا مبنى المارينز حيث سقط عدد كبير من الجنود الاميركيين. وابلغني السفير بأن للاتحاد السوفياتي مصالح في المنطقة يريد حمايتها، واعرب عن رغبته في معرفة موقف لبنان من الحشود الاميركية. وابلغته بأن من المحتمل ان تكون تلك الحشود جزءاً من استراتيجية تتجاوز لبنان وانه لا بد ان الحكومة السوفياتية تعرف عن ذلك اكثر مما تعرفه الدولة اللبنانية. ومع ذلك، اردت ان اوضح شيئاً وهو ان اي لجوء الى القوة، سواء من جانب الولايات المتحدة او من الاتحاد السوفياتي او من اسرائيل سيكون على حساب لبنان. ولذا، فإننا نعارض اللجوء الى القوة لحل النزاعات في المنطقة جملة وتفصيلاً.

ومهما يكن من امر، فقد كان العنف ضارباً اطنابه في كل مكان. فالسوريون يطاردون ياسر عرفات ويسعون الى اخراجه من مخيم البداوي شمال طرابلس، بينما لجأ اتباعه الى طرابلس. وكانت القوات السورية تقصف قوات عرفات في طرابلس، مما اشعل النار في مصفاة النفط قرب المدينة. وكانت مجموعة انتحارية نسفت مقر القيادة الاسرائيلية في صور مما اسفر عن مقتل عدد كبير من الجنود الاسرائيليين. وردت اسرائيل على ذلك بإغلاق "حدودها العسكرية" عند نهر الاولي، وطردت موظفينا الحكوميين من الدوائر الرسمية في صيدا ووضعت مكانهم موظفين موالين لها. وكان الجنود الاسرائيليون يطلقون النار على اي شخص يثير الشك، وبالتالي عاثوا فساداً في صيدا وضواحيها.

كانت حكومة شفيق الوزان قدمت استقالتها وعلى رغم ان رئيس الجمهورية لم يقبل استقالتها رسمياً، فقد فقدت فاعليتها. واراد شفيق الوزان اما ان يخرج من المعمعة واما ان يشكل حكومة جديدة تضم شخصيات قوية من المعارضة، وبالتالي توفير قدر من الحماية السياسية والشعبية للحكومة. وعندما شعرت ان الوزان اصبح تعباً وسريع الانفعال، رأيت انه يمكن الطلب من رفيق الحريري ان يؤلف حكومة جديدة. ولم يكن رئيس الجمهورية معترضاً على هذا الرأي، الا انه لم يكن مهيأ نفسياً لتغيير الحكومة. وكان يريد في المقام الاول تحقيق انجاز ما يعزز من سلطته في مرحلة ما بعد جنيف.

في 8 تشرين الثاني نوفمبر التقيت ورئىس الجمهورية السفير بارثولوميو وطلبنا منه ان يعمل على تحديد موعد لعقد اجتماع بين الجميل والرئيس ريغان. فتساءل بارثولوميو موجهاً كلامه الى رئيس الجمهورية عما يمكن ان يقوله ريغان له؟ وقال بارثولوميو ان ثمة اتفاقاً بين اطراف ثلاثة وانه لا يمكن لريغان ان يفعل شيئاً من دون موافقة اسرائيل. واضاف قائلاً ان المباحثات يجب ان تكون بحضور الاطراف الثلاثة وليس مع ريغان. ثم قال لرئيس الجمهورية انك اذا رغبت في مناقشة مسائل اخرى مع ريغان. فعلى الرحب والسعة بطبيعة الحال. فانزعج رئيس الجمهورية من هذا الموقف اذ كان قطع على نفسه تعهداً في المؤتمر وكان يريد ان ينفذ ما التزم به. ومن الغريب انه كان يأمل في ان تكون لدى ريغان صيغة سحرية للحل. وبعد كثير من الاخذ والرد والمداولات جرى تجديد موعد لعقد اجتماع بين الجميل وريغان في الاول من كانون الاول ديسمبر 1983.

كان رئيس الجمهورية يفكّر باجتماع آخر ايضاً. اذ هو حاول مصادقة حافظ الاسد الا انه فشل في ذلك وكان يرغب بزيارة دمشق ليبحث مع الاسد في مصير الاتفاق. فمن دون الاسد لا يمكنه ان يطمح الى تحقيق اجماع وطني وتوسيع قاعدة الحكومة. وكان الجميل يثق كثيراً بقدرته على الاقناع ويعوّل على الاجتماعات الشخصية وعلى قدرته على اقناع محادثيه بوجهة نظره. ولا بد ايضاً انه استشعر تحولاً في السلطة في لبنان، حيث اتضح ان كفة سورية اخذت في الرجحان. وتقرر عقد اجتماع مع الاسد في 14 تشرين الثاني نوفمبر 1983.

 

لكن قبل ساعة من الموعد اتصل خدام بالجميل وابلغه ان الرئيس الاسد مريض وانه نقل الى المستشفى وانه يرغب فعلاً في الالتقاء به وانه طلب منه اثناء نقله الى المستشفى ان يتصل بالجميل شخصياً ويشرح له سبب التأخير ويزيل اي سوء تفاهم قد ينشأ بسبب الالغاء. وابدى عبدالحليم خدام استعداده للحضور الى بيروت لمقابلة رئيس الجمهورية يوم الاربعاء 16 تشرين الثاني نوفمبر. وكنا تواقين الى لقائه واستقصاء سبل جديدة معه لحل الامور.

استقبلت خدام في ضهور الشوير وهي آخر بلدة كانت القوات السورية مرابطة فيها ورافقته الى بعبدا. واخبرني انه اجريت للرئيس الاسد عملية لاستئصال الزائدة وانه يقضي فترة نقاهة، وسيستأنف عمله بعد اسبوعين، وان زيارة الجميل ستتم بأسرع وقت ممكن.

وقال خدام ان الاميركيين ابلغوا السوريين بأن القوات الاسرائيلية ستنسحب على اساس ترتيبات امنية فقط، وانه لن تكون لاسرائيل مكاسب اخرى. واضاف ان من حق اسرائيل ان تحصل على ضمانات امنية، الا انه ليس من حقها ان تبعث رسالة جانبية وتربط انسحاب قواتها بانسحاب القوات السورية. ومضى الى القول ان على لبنان وسورية ان يتعاونا من الآن فصاعداً في حل جميع المشكلات، حتى تلك المتعلقة بالاتفاق. واضاف ان على الجميل ان يتوقف في دمشق في طريقه الى واشنطن وان يتوقف ثانية بعد عودته من واشنطن، لان من شأن ذلك ان يجعل التنسيق بينه وبين حافظ الاسد تنسيقاً كاملاً. فارتاح رئيس الجمهورية لهذا الاقتراح لانه كان حريصاً على التنسيق مع سورية. كان الجو ودياً فرأى رئيس الجمهورية ان من المناسب اجراء مصالحة بين الوزان وخدام.

قال رئيس الجمهورية سنتناول الغداء في بيتي واريد ان ينضم الوزان الينا. فأجاب خدام ان الوزان وكامل الاسعد خط احمر ولا يمكن ان يلتقي بهما. فقال له الجميل ليس لك خيار في ذلك، وانه لا بد من حضور الوزان. الا انه تشبث بموقفه قائلاً ان وجود الوزان سيحرجه وانه ليس مخولاً من الرئيس الاسد ان يجتمع به، فكرر الجميل القول انه لن يترك لخدام الخيار في ذلك فصمت خدام وشعر بالقنوط. عندها طلب رئيس الجمهورية مني ان اتصل بالوزان وادعوه ففعلت. وُسرّ الوزان واستوضح مني مرتين كي يتأكد من انه لم يكن هناك خطأ في الموضوع. سار الغداء على ما يرام وتعانق خدام والوزان كصديقين قديمين الا ان نظرة الشك لم تفارق عين خدام، وعند انتهاء الغداء رافقت خدام الى ضهور الشوير وسرنا على الاقدام في البلدة يحيط بنا من كل جانب عشرات من الجنود السوريين بكامل اسلحتهم، فالوزير ركن اساسي في النظام السوري لا يجوز تعريضه للخطر في تلك المنطقة الحدودية.

كانت زيارة خدام مبادرة لتهدئة الاوضاع، الى ان يتماثل الرئيس الاسد للشفاء. وغني عن البيان ان التكهنات عن صحة حافظة الاسد ملأت لبنان والعالم العربي.

وفي ظل جو التنسيق المنبثق عن اجتماع بعبدا، ذهبت الى دمشق في 26 تشرين الثاني نوفمبر والتقيت الوزير خدام في المطار وكان الاسد لا يزال يقضي فترة نقاهة، ولم يكن من الممكن ان يزور الرئيس اللبناني دمشق قبل اجتماعه مع ريغان في غضون بضعة ايام. وحثني خدام على تذكير الاميركيين بأن الاتفاق يتعارض مع رسالة بعثت بها الحكومة الاميركية الى سورية في 10 حزيران يونيو 1982 واقتصرت على اشتراط انسحاب القوات الاسرائيلية من لبنان مقابل ترتيبات امنية فقط. واضاف انه اذا كانت الولايات المتحدة تعتزم الضغط على اسرائيل كي تهاجم سورية فإنها مخطئة، لان من شأن خطوة من هذا القبيل ان تعزز من الوجود السوفياتي في المنطقة وتقوي من الموقف العربي المعادي لاميركا. واشار الى ان سورية تفضل ان تحتفظ بحريتها في العمل ولا ترغب في الوقوع في يد الاتحاد السوفياتي. وعقب قائلاً انه اذا كان على سورية ان تختار بين اسرائيل والاتحاد السوفياتي فستختار الاتحاد السوفياتي من دون تردد. واردف يقول ان سورية تحترم جورج شولتز، وقد يشعر شولتز بأن اسمه اقترن بذلك الاتفاق، ولكن هذا لا يهمّ كثيراً، فالمهم هو ان يبقي شولتز على الحوار السياسي النشط مع سورية ولبنان من اجل التوصل الى اتفاق واجماع جديدين، ومن ثم الانتقال الى حل المشكلات الواحدة تلو الاخرى.

كان هذا ما قاله لي خدام. لقد عبر عن موقف متشدد بلهجة ديبلوماسية من دون ان يتنازل عن مثقال ذرة. وكان حريصاً على الالتقاء بي بعد زيارة الجميل واشنطن لتنسيق الجهود ورسم خطى المستقبل.

وفي واشنطن، اكتشفنا، بعد محادثاتنا مع ريغان ونائبه جورج بوش وشولتز وكبار المسؤولين الاميركيين، ان الولايات المتحدة تريد الانسحاب من لبنان، بعد فشل الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي. وعين ريغن مكفرلين مستشاره لشؤون الامن القومي كما اختار دونالد رمسفيلد وزير الدفاع السابق مبعوثاً خاصاً له الى لبنان.

ورمسفيلد شخصية مثيرة للاهتمام، فقد علمت فيما بعد ان الاسد سأله، حين كان يناقش معه موضوع الانسحاب السوري من لبنان: "ما الذي يجعلني اتحدث اليك؟". وأجاب رمسفيلد بلا تردد: "سأصبح رئيساً للولايات المتحدة ذات يوم وعندها لا بد ان تتكلم معي". كان رمسفيلد على دراية بالاهمية الاستراتيجية للشرق الاوسط بفضل تجربته في وزارة الدفاع، الا ان من الطبيعي ان معرفته بلبنان وسورية كانت محدودة ان لم نقل معدومة. وكان اول اجتماع بيني وبينه اجتماعاً عادياً. فقد كان مستمعاً جيداً ومتواضعاً في استقصاء المعلومات وواثقاً من قدرته على رسم الخطط السياسية استناداً الى تلك المعلومات.

تهديدات خدام

لدى عودتي من واشنطن، اتصلت بالوزير خدام لاطلاعه على ما تم في الزيارة. قابلت خدام في دمشق في 9 كانون الاول ديسمبر 1983 ونقل الي تحية من الرئيس الاسد وقال انه كان بوده استقبالي لو لم يكن يقضي فترة نقاهة. ابلغته اننا تباحثنا في جميع البدائل في واشنطن، ولكننا لم نتوصل الى نتيجة، وان رمسفيلد سيناقش تلك البدائل معه. اما البدائل التي ناقشناها فهي:

< انسحاب القوات الاسرائيلية انسحاباً كاملاً على اساس اتفاقية الهدنة.

< تعليق اتفاق 1983 واعادة التفاوض بشأن البنود الخاصة بالعلاقات المتبادلة.

< اضافة بند الى الاتفاق ينص على انه اذا ظهر تعارض بين الالتزامات الواردة في الاتفاق واي التزام يتعهد به لبنان في الجامعة العربية. فإن الالتزام الوارد في الاتفاق يعد لاغياً.

< تعديل الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي على نحو يكون مقبولاً لدى لبنان وسورية واسرائيل. وقلت له حرفياً ما ذكره لنا الاميركيون: "ان مشكلتكم ليست مع اسرائيل بل مع سورية، واذا كنتم تفكرون في الغاء الاتفاق فعليكم ان تعلموا ان اسرائيل ستلغي استقلال لبنان". وقال لنا الاميركيون ان سورية تضع الولايات المتحدة في مأزق وان الولايات المتحدة لم تعزز علاقتها بإسرائيل حديثاً الا نتيجة للسياسة السورية. ولم يكونوا راضين عن سورية بشكل عام لان سورية تضع الكثير من العراقيل. واطلعت خدام على كل شيء بالتفصيل، وكان مرتاحاً لعرض الموقف الاميركي بموضوعية من دون مواربة، واشاد بمؤهلاتي الاكاديمية، وكأنه يتمنى علي الرجوع الى الجامعة الاميركية.

في كانون الاول ديسمبر 1983 اتصل الجميل بالملك الحسن الثاني وطلب مقابلته بصورة عاجلة. ثم ذهب بمفرده يوم الخميس 15 كانون الاول ديسمبر وكنا نتوقع ان يعود في اليوم التالي. وفي مساء يوم الجمعة اتصل بي العقيد سيمون قسيس وسألني عن مكان وجود رئيس الجمهورية، قائلاً ان الرئيس غادر المغرب الا انه لا يعرف الى اين توجه من هناك. ودخل مستشار الجميل الدكتور وديع حداد الى مكتبي وقد اعتراه القلق وقال انه سمع لتوّه من الاذاعة الاسرائيلية ان طائرة الرئيس اللبناني حطّت في طرابلس الغرب. وحيث أننا كنا قطعنا العلاقات الديبلوماسية مع الجماهيرية الليبية فإن الدكتور وديع حداد اعتقد ان طائرة الرئيس ارغمت على الهبوط هناك. فسارعت الى الاتصال برئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب وقرينة رئيس الجمهورية، ثم اتصلت هاتفياً بالملك الحسن الثاني فأكد لي الملك ان الرئيس بخير وانه رتب لاجتماع بينه وبين العقيد معمر القذافي، وللحفاظ على سلامة الرئيس اوفد مستشاره الخاص احمد بن سوده لمرافقته. وبعد ذلك بساعة اتصل الملك الحسن بي وقال ان الرئيس اللبناني والقذافي عقدا اجتماعاً استغرق خمس ساعات وان الرئيس سيتوجه بعد الاجتماع الى باريس ومن ثم يصل الى بيروت في اليوم التالي.

وعندما عاد الجميل الى بيروت ابلغته انه يؤسفني ان يزور ليبيا في المرحلة الراهنة. فمن ناحية، سيكون للزيارة اثر داخلي سلبي، ولا سيما لدى الشيعة الذين يظنون ان السلطات الليبية مسؤولة عن خطف وتغييب وربما قتل موسى الصدر، ومن ناحية اخرى، فإنه اثار قدراً من القلق في العالم عندما انقطع الاتصال بطائرته. وقلت له انه كان من المحرج بالنسبة الي، باعتباري وزيراً للخارجية، ان اتصل بالملك الحسن لكي اسأل عن مكان وجود الرئيس، حيث ظهرت بمظهر الجاهل ان لم يكن بمظهر من لا علاقه له بالرئيس. قال انه شعر بأن زيارته لليبيا كانت بمثابة قفزة نوعية وانه ترك اثراً ما في نفس مضيفه وانه يأمل في ان يتوقف القذافي عن تمويل معارضيه في الداخل. وبحثت انا ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الوزان عن وسيلة لتبرير تلك الزيارة امام مجلس النواب ورأينا ان نضعها في اطار مؤتمر جنيف، لانه بالنظر الى ان لليبيا مقاتلين في لبنان فقد زار الرئيس ليبيا ليتباحث مع العقيد القذافي بشأن سحب مقاتليه من لبنان في ضوء مباحثات جنيف. الا ان اي نائب لم يقتنع بهذا التفسير.

في كانون الثاني يناير 1984 وخلال احد اللقاءات قال لي خدام: "ان الحكومة السورية درست الالتزام الاميركي تجاه لبنان ووجدته منقوصاً. ان المسؤولين الاميركيين قصيرو النفس، وسورية لن تسهل الامور للولايات المتحدة في لبنان، وهي تريد أن تثبت ان الولايات المتحدة فشلت في لبنان. وفي اية حال، فإن الولايات المتحدة ستجمد سياستها في لبنان خلال العام 1984 لانه عام انتخابات". واضاف خدام: "ان الولايات المتحدة تريد تطويق سورية، لكننا نعرف كيف نواجه "الغول" الاميركي، سواء في لبنان او الاردن او في منظمة التحرير الفلسطينية. ان الولايات المتحدة تسعى الى تقوية مصر والاردن وياسر عرفات وتشكل منهم تحالفاً ضد سورية، ولذا فإن على سورية ان تحمي نفسها وتبقي الجبهة اللبنانية مفتوحة حتى لا تربح اميركا. هذا هو موقف سورية الاستراتيجي. وهي مستعدة لمساعدة لبنان على صعيد الامن الداخلي وعلى الصعيد الاقتصادي. ولا بد من الغاء الاتفاق اللبناني- الاسرائيلي الذي تم التوصل اليه برعاية الولايات المتحدة ولا ينبغي الاكتفاء بتعديله وعندئذ فقط ستتشكل حكومة وحدة وطنية".

الكاتب: 
إيلي سالم
التاريخ: 
الاثنين, مارس 8, 1993
ملخص: 
عند عودتي من جنيف الى بيروت زارني السفير السوفياتي وكان غاضباً من الحشود البحرية الاميركية في شرق البحر الابيض المتوسط. وكان ريغان يشعر بالارتياح بعد عملية غرانادا، وكان يهدد الذين فجروا مبنى المارينز حيث سقط عدد كبير من الجنود الاميركيين. وابلغني السفير