إيلي سالم يتذكر : هذه حقيقة ما جرى بين اللبنانيين والاسرائيليين . الجميل تحرك على أساس وعد أميركي بسحب القوات الاسرائيلية والسورية والفلسطينية قبل نهاية 1982 (3)

النوع: 

 

ورقة شارون

عدت الى بيروت يوم الجمعة في 17 كانون الاول ديسمبر 1982 وتوجهت مباشرة الى مكتب الرئيس الجميل. وكان واضحاً عند دخولي اليه أن شيئاً غير عادي حصل. كان الجميل جالساً مع حبيب ودرايبر وتويني ووديع حداد مستشاره لشؤون الامن القومي. كان الجو قاتماً وحزيناً وصامتاً. سألت الجميل: "ماذا حصل؟". ونظر الرئيس الى حبيب ووجهه متجهم وقال: "أخبر إيلي كل شيء". وبدأ حبيب برواية ما حدث بينه وبين شارون بأسلوب مسرحي وقال: "لن تصدق هذا يا إيلي". كانت عيناه مركزتين عليّ ويداه تلوحان في الهواء وفمه يرتجف، وان لدي شك أن هذا مجرد تكتيك تفاوضي. وأكمل كلامه وقال: "وصلت الى إسرائيل كي أدافع عن موقفكم وواجهت شارون وقلت له ان اسرائيل يجب ان تخرج من لبنان بسرعة وأن لبنان لا يستطيع القيام بكل ما تطلبونه منه. وأشرت له أن اسرائيل يجب ان تتصرف بشكل يسهل رحيل السوريين والايرانيين والفلسطينيين. وكلما كان كلامي يزداد تشدداً كانت الابتسامة تزداد اتساعاً على شفتي شارون. وشعرت أنه يبيت لي أمراً ما، فهو يخبئ دائماً حيلة أو أثنتين وأنا حذر دائماً معه. وتركني اتكلم واتكلم. ولن تصدق ما قاله لي بعد ذلك. قال لي: "يا سيد حبيب، ليس هناك من حاجة اليك بعد الآن، ومهمتك انتهت. أنت تحاول الوصول الى اتفاق بين لبنان واسرائيل بشأن انسحابنا، وأنا لدي اتفاق من هذا النوع تفاوضت عليه سراً مع رئيس الجمهورية اللبنانية بواسطة صديق له". ومد شارون يده واعطاني هذه الوثيقة. خذها يا إيلي واقرأها. هل أنت على علم بها؟ وهل توافق على محتواها؟".

وصعقت لأني لم أعرف قط أن الرئيس كان يتفاوض على اتفاق مع اسرائيل من دون معرفتي. فالرئيس كان يعرف جيداً كم كنت حذراً ودقيقاً لدى التفاوض مع اسرائيل. واخذت الوثيقة وبدأت قراءتها. اما حبيب الذي شحنه كلامه لي ولم يعد قادراً على كبح نفسه فقال: "يبدو أنك لست في حاجة الي يا سيدي الرئيس. وأتمنى حظاً سعيداً لك ولشارون. أنا ذاهب الى المنزل". وبما انني لست من دون مواهب مسرحية، صرخت في حبيب طالباً منه أن يهدأ كي اقرأ ورقة شارون. وكنت غاضباً جداً كذلك. فورقة شارون هي عبارة عن اتفاق لبناني - اسرائيلي تم التفاوض عليه سراً من دون علم وزير الخارجية. هل استطيع الاستمرار في عملي؟ هل كانت هذه اشارة من الرئيس الجميل الي كي استقيل؟ هل كان الجميل متورطاً مع اسرائيل اكثر مما كنت أعرف؟ طافت كل هذه الافكار في ذهني وأنا أقرأ ورقة شارون. كانت الوثيقة مؤرخة في 14 كانون الأول ديسمبر 1982، وجاء فيها: "يوافق الطرفان على التوصل الى اتفاق في الشؤون الآتية: أ - تطبيع العلاقات. ب - ترتيبات امنية. ج - انسحاب القوات الاسرائيلية. وللوصول الى هذا الاتفاق يشكل وفدا لبنان واسرائيل لجنة تجتمع باستمرار حتى توقيع معاهدة سلام. وخلال ذلك الوقت ستكون الحدود مفتوحة أمام الاشخاص والبضائع. وستحافظ اسرائيل على منشآت للانذار المبكر تبعاً للترتيبات الأمنية، وستنفذ طلعات طيران استطلاعية فوق لبنان لمدة يتفق عليها. وأما عن الانسحابات، فيجب ان تغادر منظمة التحرير اولاً ويعاد الاسرى الاسرائىليون لديها ولدى السوريين، وينسحب الجيشان السوري والاسرائيلي انسحاباً متزامناً". وقلت لحبيب بعد قراءة ورقة شارون انها "غير مقبولة، فهي تذكر وفدين ونحن مصرون على ثلاثة وفود وعلى الوجود الاميركي في كل المحادثات. وهي تتحدث عن تطبيع علاقات ونحن لا نستطيع القيام بذلك. وتشير الى معاهدة سلام ونحن لا نستطيع التوقيع على معاهدة سلام إلا في اطار توافق عربي يحل المشكلة الفلسطينية ويبدد آثارها باسلوب عادل ومنصف. وهذه الاتفاقية تتحدث عن وجود اسرائيلي على أرضنا وفي اجوائنا وهذا انتهاك لسيادتنا وبالتالي غير مقبول. هذه محاولة فارغة لا قيمة لها وباطلة كلياً بالنسبة الي". كنت غاضباً ولم اخفِ ذلك، وارتاح حبيب عند سماع ما قلته. وأكد الجميل ان هذه كانت محاولة فقط لتسريع عملية التفاوض وأنه لم يوافق عليها ولم يأخذها على محمل الجد وأن شارون بالغ بها لأنه يريد نصراً لنفسه، ولم يكن في نيته ابداً الالتفاف على مهمة حبيب. ولرفع كل الشكوك طلب مني أن أصرح علناً هذه الليلة وأعرب عن دعمنا المستمر للجهود الأميركية الممثلة بمهمة حبيب. وحزّ في نفسي ان الرئيس لم يفسر لي لماذا تعاطى مع أشخاص معروفين بالتجارة وليس بالسياسة في عملية دقيقة كهذه ولم يطلعني على هذا المسعى، على رغم تأكيده انه ليس مسعى جدياً. وبقي هذا الألم العميق في داخلي فترة طويلة. ان محاولة فتح قنوات بديلة هو تكتيك ديبلوماسي مقبول، شرط ان يوافق على ذلك جميع الاطراف المعنيين وأن تكون هذه المحاولة متماثلة مع سياسة الدولة المعلنة. وتظاهرت أن كل شيء يسير على ما يرام لمصلحة التضامن، وأديت دوري جيداً خلال العشاء ذلك المساء في منزل الرئيس لاذابة الجليد الذي تراكم بين رئيس الجمهورية من جهة وحبيب ودرايبر وديلون من جهة اخرى.

كانت ورقة شارون خطأ ويجب علينا تجاوزها والسعي بخطى حثيثة ضمن خطوط سياستنا المعلنة التي يعرفها الاميركيون جيداً، وكما اتفقنا مع ريغان وشولتز وواينبرغر وكلارك. وعلى رغم اننا حاولنا نسيان ورقة شارون، الا ان الاسرائيليين لم ينسوها. واقترحوا ان نقبل ورقة شارون كأساس للمحادثات الثلاثية اللبنانية - الاسرائيلية - الاميركية ولكننا رفضنا هذا الاقتراح. ورد شارون مهدداً بأن يطلق العنان للدروز كي يتقدموا نحو منطقة الجمهور حيث تقع وزارة الدفاع على بعد كيلومترات قليلة من شرق بيروت، وأن يطلق الشيعة ويشجعهم على دخول بلدة الدامور جنوب بيروت، كأنه يملك القرار الدرزي والقرار الشيعي. وكانت تهديدات شارون لنا متواصلة، فهو كان يبعث رسالة، على سبيل المثال، بأنه في حال لم يقبل الرئيس الجميل ما يطلبه منه فسيحصر سلطته في القصر الجمهوري وفي الحديقة المحيطة به فقط. وسبقت هذه التهديدات المحادثات الثلاثية واستمرت خلالها. وكانت تتضمن اطلاق العنان للرائد سعد حداد قائد "جيش لبنان الجنوبي" الذي تتبناه اسرائيل في جنوب لبنان كي يدفع قواته الى مشارف مدينة صيدا والتهديد بتصعيد التوتر بين المسلمين والمسيحيين عن طريق عرض افلام في المخيمات الفلسطينية تصور رجال الميليشيا المسيحيين ينفذون المجازر ضد المسلمين في صبرا وشاتيلا، مع التعتيم الكامل على دور اسرائيل في تلك المجزرة.

ووافقت اسرائيل اخيراً على بدء المفاوضات معنا من خلال الفريق الثلاثي، بعد تدخل قوي ومباشر من واشنطن. لكن شارون أصر على شرطين: الأول أن تعقد الجلسة الافتتاحية في اسرائيل، والثاني الا يشكر الوفد اللبناني الولايات المتحدة على جهودها. وقبلنا أن تعقد الجلسة الأولى في مستوطنة كريات شمونة لأننا كنا نستعجل المفاوضات. وكنا وافقنا سابقاً على عقد اللقاءات في كريات شمونة في اسرائيل وفي خلدة في لبنان، بالتناوب. وحثنا الاميركيون على ألا نشكرهم لأنهم كانوا مستعجلين ايضاً بعد التأخير الذي حصل.

كيف بدأت المفاوضات مع اسرائيل؟

بدأت المحادثات اللبنانية - الاسرائيلية - الاميركية يوم الثلثاء في 28 كانون الاول ديسمبر بعد ثلاثة أيام من الموعد المرتقب لانسحاب جميع القوات الاجنبية حسب الوعود الاميركية التي تلقاها سركيس. وبدأ التفاؤل الذي سيطر في شهري تشرين الاول اكتوبر وتشرين الثاني نوفمبر يضمحل تدريجياً. واراد الاسرائيليون معاهدة سلام ورفضنا ذلك. وأصبح شارون "مؤذياً حسب كلام الاميركيين. وكان الأميركيون يأملون في أن تسير المفاوضات بسرعة، اذ توقعوا منا أن نكون أكثر مرونة وأملوا بممارسة نفود أكبر على اسرائيل. لكن المسألة لم تكن بهذه السهولة، فعلى رغم إننا كنا متحمسين لاخراج اسرائيل، لكننا لم نرد تحقيق ذلك بأي ثمن.

أصررنا على حضور الولايات المتحدة في كل المناقشات كشريك كامل يضمن تنفيذ الاتفاقات التي يتم التوصل اليها. وأرادت اسرائيل ان تخفف من اهمية الدور الاميركي وأن تحاصره قدر الامكان. وتفاوضنا مع اسرائيل تبعاً لمصلحتنا القومية، ولكننا كنا نراعي ايضاً مصالح سورية والعالم العربي ومكانة لبنان في المجتمع الدولي.

الاتفاق على جدول الاعمال هو الخطوة الاولى الصعبة في كل المفاوضات، ويحدد جدول الاعمال طابع المفاوضات ويفصح عن اهدافها ويظهر مواقع المرونة فيها. وانطبق علينا تماماً رد الجنرال ديغول على اتهام تشرشل له بأنه متصلب جداً، إذ قال :"كان عليّ أن أكون متصلباً لانني ضعيف الى درجة لا تسمح لي بأن أكون مرناً". ولم نكن الطرف الاضعف والبلد الذي دمرته الحرب وأضناه التدخل الخارجي فقط، بل كان علينا الاخذ في الاعتبار محيطنا العربي. ففي حال نجحنا سيوافق الجميع على ما فعلناه، واذا خسرنا سيلومنا الجميع، ومن يحدد النجاح؟ ذلك المفهوم الذي يرتبط في الزمان والمكان والذي يخضع لمنظورات مختلفة متغايرة لا نهاية لها؟ هل من المصلحة الوطنية التفاوض مع العدو او مقاومته بالقوة؟ وهل مصلحة لبنان الوطنية مستقلة ومنفصلة عن مصالح الدول العربية؟ واذا كانت هذه المصلحة منفصلة عن مصالح الغير، فهل يمكن التعاطي معها من دون اعتبار مصالحهم ومواقفهم؟ كل هذه الاسئلة مشروعة في السياسة وكانت تساورنا منذ البداية عند وضع جدول الاعمال. وانشغلنا من 20 كانون الاول ديسمبر عام 1982 عندما عقد اللقاء الثلاثي الاول حتى منتصف كانون الثاني يناير عام 1983 في وضع صيغة جدول الاعمال وفي الاطار القانوني الذي ستجري من خلاله المباحثات. وكانت علاقتنا مع اسرئيل خاضعة لاحكام اتفاق الهدنة الاسرائيلي - اللبناني الذي وقعناه معها في 23 آذار مارس عام 1949. وضمن هذا الاتفاق "حقوق كل طرف في أمنه وعدم خوفه من هجوم قوات الطرف الآخر المسلحة عليه…". وأشرفت على تنفيذ الاتفاق لجنة الهدنة الاسرائيلية - اللبنانية المختلطة المؤلفة من خمسة اعضاء برئاسة رئيس موظفي منظمة الاشراف على الهدنة يونتسو التابعة للامم المتحدة. وكان الاتفاق سارياً حتى "التوصل الى تسوية سلمية بين الاطراف". وهذه الاطراف "تستطيع مراجعة الاتفاق متى تريد" وكنا نهدف الى تعديل اتفاق الهدنة او مراجعة ترتيباته الامنية في المحادثات الثلاثية. ولكن اسرائيل كانت تدعي ان الاتفاق ميت، وارادت معاهدة سلام عوضاً عنه، ولذلك اصررت على ان يشمل جدول الاعمال موضوع تطبيق العلاقات بين الدولتين.

وتوصلنا اخيراً الى الاتفاق مع الاسرائيليين على النص الآتي: "تم الاتفاق على التعاطي مع نقاط ورقة العمل الآتية في آن واحد، في ضوء ارتباطها ببعضها البعض، وهي: انهاء حالة الحرب، الترتيبات الامنية، اطار العلاقات المتبادلة الذي يضم وقف الحملات الاعلامية العدائية وتبادل البضائع والمنتوجات وحركة الاشخاص اضافة الى وسائل الاتصالات الخ…، برنامج الجلاء،پالتنظيم الفوري للانسحابات ولشروط الانسحاب الاسرائيلي بما فيها الانسحاب الاولي، الضمانات المستقبلية. وعلى رغم ان هذه النقاط اقترحت على حدة من قبل اسرائيل ولبنان والولايات المتحدة، فقد اتفقت الوفود في المؤتمر على بحث هذه النقاط باسلوب مفتوح ومن دون تحيز او التزام مسبق بالنتيجة النهائية للمفاوضات. ويستطيع كل وفد بحث نقاط اضافية على تلك الموجودة في ورقة العمل".

 

 

3 محطات إنذار مبكر

أعطت هذه الصيغة كل وفد مرونة كافية لبحث أي موضوع "من دون التزام مسبق". لذلك قدم الفريق الاسرائيلي ورقة عمله التي أدرجت المواضيع الآتية: تطبيع العلاقات، الترتيبات الامنية، شروط انسحاب القوات الاسرائيلية. ورتبت ورقة العمل اللبنانية المواضيع المزمع بحثها كالآتي: جدول الانسحابات، ترتيبات فورية في شأن الانسحابات، التريبات الامنية، الاطار العام للعلاقات، وتحديد الدور الاميركي. وكانت النقطة الاساسية عند الاسرائيليين تطبيع العلاقات لانها ستؤدي الى الاستعاضة عن اتفاق الهدنة بمعاهدة سلام او ما يشابهها. ورفضنا هذه الفكرة وكل الصيغ والاشكال التي تقاربها. وكنت اتضايق من اعضاء وفدنا الذين كانوا يتصلون بي هاتفياً من كريات شمونة لسؤالي عما اذا كان لبنان يوافق على نقاط معينة كان من الواجب عليهم رفضها فوراً. وعلى سبيل المثال، إتصل بي رئيس وفدنا في 20 كانون الثاني يناير ليعرف موقفي من الاقتراح الاسرائيلي التالي: "يتم تشكيل لجان اتصال بين البلدين في انتظار اقامة علاقات ديبلوماسية بين لبنان واسرائيل، ويتمتع اعضاء هذه اللجان بالحصانة الديبلوماسية". وكانت الاتصالات الهاتفية داخل لبنان سيئة جداً منذ الحرب، وهي اسوأ بين لبنان واسرائيل. وربما لذلك اجبت وأنا اصرخ كي يسمع جوابي اولاً ولأخفف من غضبي ثانياً. وصرخت قائلاً: "هذا غير معقول". وصدمت لانه اتصل بي هاتفياً لان ذلك يعطي الاسرائيليين انطباعاً بأن هذا الموضوع قابل للنقاش في حين انه ليس خاضعاً للبحث ابداً وكان وفدنا يعرف ذلك، فلماذا يتصرف مندوبنا اذن بشكل يعطي الاسرائيليين فكرة بأن هذا الموضوع خاضع للبحث؟ فالجملة الاولى تمنح اسرائيل الاعتراف الديبلوماسي بها لموافقتها على المبدأ، اما الجملة الاخيرة فتؤكده. وتلقيت اتصالاً آخر بشأن صيغة كلامية اخرى مليئة بالاحتمالات وكانت: "سيطور لبنان واسرائيل علاقات ايجابية بينهما، وهذا يشمل وقف الحملات الاعلامية العدائية، خصوصاً لجهة تنامي العلاقات بين الدولتين". وذكرت الشخص الذي اتصل بي ان لا يناقش اطلاقاً اية صيغة حبلى بالاحتمالات وعرضة لتفسيرات واسعة.

وكنا جاهزين خلال المفاوضات للموافقة على انهاء حالة الحرب مقابل سلام مستقر ومضمون للبنان. لكن انهاء حالة الحرب شرط قانوني مثل اتفاق الهدنة ولا يحمل اي معنى او خلفيات خفية معه. وهو يؤمن نقطة ارتكاز للمستقبل اذا كانت الظروف الاقليمية تتطلب ذلك.

وأعلمنا حبيب أن الاسرائيليين يرغبون بإقامة ثلاث محطات انذار مبكر في لبنان تحت غطاء الترتيبات الامنية، وستكون الاولى في منطقة النبطية والثانية في جبل الباروك والثالثة على تلة شمال شرقي مدينة صيدا. واضاف ان اسرائيل تفكر بإرسال 250 جندياً الى كل محطة لحمايتها، وأنها تريد تعاون الجيش اللبناني والاسرائيلي للحفاظ على السلام في "المنطقة الامنية".

وأما عن العلاقات المتبادلة، فأوضح حبيب ان الاسرائيليين يرغبون بتطبيع العلاقات، ثم نظر الى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والي وقال: "حسناً، هذا هو الموقف الاسرائيلي، فما رأيكم؟". قلت لحبيب: "أنت تعرف موقفنا حيال هذه المسائل. اذا قبلنا هذه الشروط فهذا يعني اننا نتفاوض مع اسرائيل مباشرة. ان وقوف قوة عظمى الى جانبنا يجب ان يمنحنا الحماية التي نستحقها". واكدت بعد ذلك موقفنا من جميع المسائل وشددت على الأخطار الاقليمية الناتجة عن استعمال تلالنا استراتيجياً من قبل اي سلطة غير الحكومة اللبنانية. اذ تستطيع اسرائيل مراقبة جميع التحركات الجوية في شرق المتوسط من جبل الباروك، وتنال بذلك افضلية استراتيجية. وطلبت بعد ذلك من حبيب ان يرافقني في نزهة سيراً على القدمين. وسألته: "ماذا يحصل؟ ما هذه الشروط؟ وكيف تحملها الينا؟". واجاب حبيب بأنه لم يكن لديه اي خيار سوى ان يحملها، وانه مسرور لسماع ردنا الذي سيعطيه الدعم الذي يحتاجه. واشار الى انه سيقابل بيغن مرة اخرى ويستشير ريغان. وقال لي: "ان بعض اعضاء وفدكم ليسوا متمرسين بما فيه الكفاية يا إيلي. وعلى رغم انهم ذوو نوايا حسنة، الا انهم يعطون اشارات خاطئة". ولاني شككت في ذلك بعد الاتصالات الهاتفية التي تلقيتها امس، استدعيت اعضاء وفدنا وحذرتهم من المخاطر الناتجة عن رفع الكلفة مع الطرف الآخر. واكدت على ضرورة ابقاء الخطوط العريضة للسياسة الحكومية اللبنانية في ذهنهم، وان يتذكروا ان ما يقولونه لدى تناول القهوة قد يسجل في وقائع ومحاضر الجلسات ويؤثر على سياستنا. وطلبت منهم ان تكون كل مواقفهم حسب التعليمات المعطاة لهم.

وبدا واضحاً لي، مع استمرار المفاوضات، ان لبنان موحداً ذا سيادة ليس من أولويات اسرائيل. وسألت حبيب اذا كان ذلك من الاولويات الاميركية، فأكد لي ان الامر كذلك. ولاحظ حبيب في تقاريره اللاحقة عن اسرائيل أن عوارض نفسية بدأت تظهر على بيغن بينما ازدادت عدائية شارون. وكان حبيب على خلاف دائم مع شارون الذي كان ممتعضاً من التدخل الاميركي في مطامعه في لبنان، بينما كان حبيب مستاء من تصلب شارون الذي يهدد مهمته بالفشل. وحبيب لا يرضى بالفشل بسهولة، فهو بالكاد يتحمل أبسط الانتقادات من مساعديه.

إستمر شارون بزيارة اصدقائه في "القوات اللبنانية" وبعض رجال الدين الموارنة، وحاول من خلالهم ابقاء ضغط مستمر علينا للتعاون مع اسرائيل. وكانت رسالة شارون أن المفاوضات ستفشل وأن اسرائيل ستفعل ما في مصلحتها. وحاولت اسرائيل خلال المفاوضات وضع قيود على الجيش اللبناني في كل انحاء لبنان. وعلى سبيل المثال، اقترحت ان الجيش اللبناني يجب ان لا يمتلك اي اسلحة مضادة للطائرات، ربما كي لا يتدخل في خططها الرامية الى تحليق طائراتها في الاجواء اللبنانية عندما تشاء. وفي الواقع لم تثق اسرائيل بقدرة الحكومة اللبنانية على السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية وباقي المنظمات العسكرية، وظلت مصرة على اقامة محطات انذار مبكرة. لقد حاربت اسرائيل حرباً مكلفة وارادت ان تخرج منها باتفاقية ذات قيمة. وكانت الحكومة الاسرائيلية تحتاج الى اداة من هذا النوع كي تستمر، ولذلك قدمت ورقة شارون واصرت على معاهدة سلام. وامام الاصرار الاسرائيلي اقترحتُ على درايبر تغيير سير المفاوضات، وعوضاً عن الوصول الى اتفاقية في شأن ترتيبات امنية يجب تحويل كل لبنان الى دولة آمنة ذات جيش قوي يمنع اي نشاط موجه ضد أية دولة مجاورة. وعرضت اعلان حالة طوارئ لمدة ست سنوات لتثبيت سيطرة الجيش على لبنان من دون انتهاك حياتنا الاساسية ونظامنا الديموقراطي الدستوري. وفكرت انه بهذه الطريقة يمكننا سحب لبنان من الجبهة ووضعه في غرفة العناية الفائقة، فهو جريح الى درجة يحتاج معها الى علاج خاص كي يعيش. واكدت ان خطوات لبنانية جذرية من هذا النوع وحدها تؤمن الضمانات للجميع. وكنت لا ازال آمل في ان تنسحب اسرائيل على اساس القرار الرقم 425، من دون حاجة الى ترتيبات جديدة. كان درايبر متعاطفاً، واستمع الي جيداً، لكنه شدد مراراً على تصميم اسرائيل على الحصول على ورقة جديدة كثمن لانتصارها والا فهي لن تنسحب حتى من بيروت.

كان الموقف الاميركي واضحاً وثابتاً. اذا لم يتم التوصل الى ترتيبات امنية مرضية لاسرائيل فلن تكون هناك انسحابات. وقالوا لنا ان هذا ما تريده اسرائيل، وانهم سيفعلون كل ما في وسعهم لمساعدتنا على الحصول على اتفاق معقول قدر الامكان.

وفي اوائل شباط فبراير تلقينا تقارير عن انسحابات اسرائيلية محتملة من منطقة الشوف التي تسيطر عليها الطائفة الدرزية بقيادة وليد جنبلاط. واعلمنا درايبر بهذا الاحتمال، وحذرنا من تدخل بعض عناصر "القوات اللبنانية" لان ذلك قد يؤدي الى سفك الدماء.

وزعم جنرال اسرائيلي بارز يوم الاحد الموافق في 6 شباط فبراير عام 1983 ان الجيش الاسرائيلي عرض ان ينسحب من بلدة عاليه الدرزية الواقعة شرق بيروت وان يسلم السلطة هناك للجيش اللبناني الذي رفض هذا العرض. واتصل رئيس الجمهورية بي عند سماعه ذلك وطلب مني ايصال الرسالة الآتية الى درايبر: "اعلم السلطات الاسرائيلية بأنه في حال انسحاب الجيش الاسرائيلي من عاليه الليلة فالجيش اللبناني مستعد لدخولها غداً الاثنين في 7 شباط فبراير عند الساعة السادسة صباحاً". واستطعت الاتصال بدرايبر في منتصف الليل، ولكنه خابرني مرتين بعد ذلك الوقت ليعلمني بأنه لم يستطع الاتصال بالاسرائيليين. واتصل بي في تمام الثالثة صباحاً واخبرني انه تحدث مع وزير الخارجية شامير الذي اعلمه بأنه ليس لدى الجيش الاسرائيلي اية نية للانسحاب من عاليه في الوقت الحاضر. وأعدت تذكير درايبر بالسياسة اللبنانية ومفادها ان الجيش اللبناني مستعد لدخول اي جزء من لبنان تخليه القوات الاجنبية، وان الحكومة اللبنانية قلقة من القتال الحزبي والطائفي في المناطق الخاضعة للاحتلال الاسرائيلي لان المشاعر الطائفية يمكن استغلالها من قبل قوات الاحتلال. وكان الوفد الاسرائيلي يضغط علينا بقوة لتطبيع العلاقات، ولجأ الى الابتزاز لتأمين اتفاق. وكان التهديد بإثارة قتال طائفي في المناطق التي تسيطر عليها اسرائيل سلاحاً قوياً بيدها.

ولم يتغير موقفنا ازاء تطبيع العلاقات. وتحدثت عن هذا الموضوع في 14 شباط فبراير 1983 اثناء لقائي مع السفراء المعتمدين في لبنان. وقلت: "ان اسرائيل تصر على تطبيع العلاقات معنا، ولكننا نحن انفسنا غير طبيعيين، لا على الصعيد الداخلي ولا على الصعيد الخارجي، كي ننشئ علاقات طبيعية مع اسرائيل. ويجب ان تنتظر هذه المسألة التطورات الاقليمية. نحن مستعدون لبحث وقف الحملات الاعلامية المضادة وجاهزون للتحرك من عصر الشعارات الى عصر العقل. ونحن موافقون على الجوانب الانسانية للعلاقات التي كانت في ظل اتفاق الهدنة، ولكننا لا نستطيع ان نكون الوحيدين في العالم العربي في تطبيع العلاقات مع اسرائيل. ولا يستطيع لبنان فعل ما فعلته مصر، واذا كانت هي الاولى في تطبيع العلاقات فيجب ان يكون لبنان الاخير. لا يستطيع لبنان خسارة 21 دولة عربية شقيقة كي يربح اسرائيل، او ان يخسر روابطه التاريخية لربح روابط جديدة. ولا يمكن ان يخسر لبنان صادراته الى الدول العربية التي تشكل 59 في المئة من مجمل صادراته كي يربح سوق تصدير تمثل 5 في المئة من الصادرات. ان مسألة التطبيع بالنسبة الينا مسألة وجود، اي انها تهدد وحدتنا وعلاقاتنا العربية وبالتالي وجودنا. اما بالنسبة الى اسرائيل فهي مسألة كمية، اي اضافة دولة عربية اخرى وبنتائج مشكوك بها. ويحتاج لبنان، من بين جميع الدول العربية، الى عناية خاصة، وربما تحتاج كل الدول في الشرق العربي الى ضمانات دولية. وهناك حاجة الى ديبلوماسية جديدة تحافظ على الاستقرار في المنطقة تحت نظام جديد وبعد التوصل الى تسوية اقليمية عادلة".

الكاتب: 
إيلي سالم
التاريخ: 
الاثنين, فبراير 8, 1993
ملخص: 
إتصل بي رئيس وفدنا في 20 كانون الثاني يناير ليعرف موقفي من الاقتراح الاسرائيلي التالي: "يتم تشكيل لجان اتصال بين البلدين في انتظار اقامة علاقات ديبلوماسية بين لبنان واسرائيل، ويتمتع اعضاء هذه اللجان بالحصانة الديبلوماسية". وكانت الاتصالات الهاتفية داخل لب