ايلي سالم يتذكر: قصة المواجهة الأولى بين لبنان واميركا - قال لي شولتز : اسرائيل ربحت الحرب وعلى لبنان توقيع معاهدة سلام معها الاميركيون أبلغونا ان الأسد هو الذي وضع قرار قمة فاس الداعي الى ربط الانسحاب السوري بالانسحاب الاسرائيلي من لبنان (2 )
اميركيون يكتبون خطاب الرئيس
يستوجب سفر رئيس الجمهورية الكثير من التخطيط من قبل مساعديه. وعندما يكون المسافر رئيس جمهورية بلد يعيش حالة حرب تتضاعف مشكلات السفر. اذ يجب اختيار طائرة وحراستها وارسال فرق امن الى نيويورك وواشنطن وباريس وروما للاتفاق على التفاصيل الامنية مع قوى الامن في تلك البلدان. ويجب اختيار الوفد بدقة لارضاء جميع الاطراف او عدم تحديها على الاقل. ومن الضروري كتابة الخطب والتصريحات بعناية فائقة. وهناك دائماً مسائل البروتوكول التي لا تنتهي وكثيراً ما تبدو غير قابلة للحل. واكدت منذ البداية اعفائي من اي مسؤولية شكلية لاعطائي الوقت للتركيز على المواقف السياسية. وكان الرئيس طلب من مؤسسة استشارية اميركية مساعدته في كتابة خطابه الذي ينوي القاءه امام الجمعية العامة للامم المتحدة. وكان الجميل مؤمناً بضرورة الاستعانة بالمستشارين الاجانب. وارسلت المؤسسة التي كان مركزها واشنطن ممثلين عنها زاروا كل بقعة من لبنان تقريباً في محاولة لفهم الوضع المحلي وبيئة الرئيس والسياسة في البلاد لاختيار ما يجب على الجميل قوله او عدم قوله. ولم يكن هذا الامر سهلاً، اذ يقال ان اللبنانيين انفسهم لا يعرفون تماماً ما يجري في بلدهم، فكيف حال الاجانب؟
وبعد اسبوع من الجهد المستمر قدم المستشارون الاميركيون مسودة خطاب الى الرئيس فقرأها بسرعة وعلامات الامتعاض بادية على وجهه، اذ أحس ان الخطاب يفتقد الى الروح والتركيز، وكأنه مجموعة افكار لا يربطها رابط، وكان قلقاً لضيق الوقت. وطلب مني ان احاول كتابة شيء ما، فاعتكفت في مكتبي مدة ثلاث ساعات وعدت بمسودة جديدة قرأتها للرئيس فأعجب بها وتبناها كما هي من دون اي تعديل.
غادرنا بيروت صباح الاحد 17 تشرين الاول اكتوبر 1982 ووصلنا بعد ساعات الى مطار نيويورك حيث استقبلنا مدير التشريفات في البيت الابيض وسفيرا لبنان في واشنطن والامم المتحدة، وانتقلنا بالسيارة الى فندق "والدورف أستوريا" تحت حراسة مشددة واعطي كل منا شارته المميزة من قبل الحرس الاميركيين المخصصين لحماية الرئيس والوفد المرافق له. وعكست كل شارة مركز الشخص والى اي مدى يستطيع الاقتراب من اجنحة الرئيس. وعلى رغم تدفق مئات من اللبنانيين الى الفندق للقاء الرئيس الجميل وعرض ضيافتهم ومساعدتهم عليه، فقد حافظ الحراس على النظام وطبقوا التدابير الامنية بحزم. ولكن الرئيس كان سياسياً، يحب الجماهير ويلذ لمصافحة الوفود المتدفقة من الاميركيتين وكان يهرب من حين الى آخر من طوق حرسه الاميركيين كي يلتقي بحرية مع اللبنانيين والاميركيين من اصل لبناني الذين ملأوا اروقة الفندق.
بعد وصولنا الى نيويورك طلب السفير موريس درايبر، عضو فريق المبعوث الاميركي فيليب حبيب، لقاءً عاجلاً معنا. وكان وزير الخارجية الاميركي شولتز ارسل درايبر لابلاغنا رسمياً الموقف الذي اتخذه مجلس الوزراء الاسرائيلي في 10 تشرين الاول اكتوبر 1982 ومعرفة ردنا عليه. ويتلخص هذا الموقف في النقاط الست الآتية:
1 - تسعى اسرائيل الى عقد معاهدة سلام مع لبنان.
2 - تقترح حكومة اسرائيل بدء مفاوضات فورية في شأن انسحاب جميع القوات الاجنبية من لبنان.
3 - يكون ارهابيو منظمة التحرير الفلسطينية في وادي البقاع وشمال لبنان أول من يغادر لبنان.
4 - ينسحب الجيش السوري وجيش الدفاع الاسرائيلي انسحاباً متزامناً من لبنان.
5 - يسلم جميع اسرى الحرب والجنود المفقودون وجثث القتلى الاسرائيليون الى جيش الدفاع الاسرائيلي قبل انسحابه من لبنان.
6 - يتم التوصل الى ترتيبات امنية قبل رحيل القوات الاسرائيلية لتأكيد عدم استخدام لبنان مرة اخرى كقاعدة للاعمال العدوانية ضد اسرائيل.
وقمنا بابلاغ درايبر ان الموقف الاسرائيلي غير مقبول منا وان لبنان وضع اطر سياسة خارجية واضحة سنناقشها مع الرئيس ريغان والمسؤولين في الامم المتحدة.
وعلى رغم برنامج الرحلة المتطلب وجدنا الوقت كي يتمرن الرئيس على استعمال جهاز "التيليبرومبتر" شاشة قراءة لاعطاء أثر جيد في الجمعية العامة وقرأ الجميل خطابه امام الجمعية بشكل جيد وقوطع بالتصفيق مرات عدة من اعضاء الجالية اللبنانية الذين تجمعوا في الاروقة. وبعد اسابيع اخبرني والد الرئيس، الشيخ بيار، كم كان مسروراً ان يسمع ابنه يرتجل خطاباً باللغة الانكليزية. واضاف انه لم يكن يعرف ان لغة امين الانكليزية جيدة الى هذا الحد وان الاولاد يفاجئون اهلهم دائماً. وكنت سعيداً بكتمان الحقيقة وتأكيد انطباعه مما سره اكثر.
الجميل يؤنب السفير الليبي
وسارت المقابلات مع الامين العام للامم المتحدة بيريز دي كويلار ومساعديه ومدراء الوكالات التابعة للامم المتحدة على ما يرام، حيث دعموا موقفنا بشأن انسحاب اسرائيل من لبنان من دون شروط استناداً الى القرار المتخذ في 19 آذار مارس 1978.
وكان اللقاء مع السفراء العرب في الامم المتحدة لافتاً للنظر. فبعد ان اطلعهم الرئيس على الوضع في لبنان رفع كل منهم يده والقى الخطاب الذي تتوقعه منه حكومته. وعكست الخطابات شق الخلاف الشاسع في العقل العربي. اذ تم التلويح بالشعارات مع اظهار احترام قليل للحقائق، وكانت الخطب الموجهة الى البلد الام بالدرجة الاولى والينا ثانياً. وحث المندوب الليبي الرئيس على قيادة لبنان على الدرب العربي والتشديد على الهوية العربية. وكانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير. اذ ضرب الرئيس، الذي كان حتى ذلك الحين يستمع بهدوء ويسجل ملاحظات بيده، على الطاولة، مبعثراً الاوراق في أرجاء الغرفة وتاركاً علامات الصدمة والتعجب على وجوه السفراء الذين تخرجوا جيداً من بيروقراطياتهم وتلبسوا الالبسة البروتوكولية الفارغة. وانفجر الرئيس في غضب عارم مؤنباً السفير الليبي وغيرهم على آرائهم المتعالية ازاء لبنان. وحاضر فيهم مطولاً وبصوت عال قائلاً: "لبنان اكثر عروبة من اي من دولكم. وعروبتنا طبيعية وجزء من حياتنا، وليست ايديولوجية نبيعها ونشتريها في السوق. نحن شعب يقدس الحرية، وربما كانت لدينا وجهة نظر مبالغ فيها حيال كرامتنا واهميتنا الذاتية، ولكننا لا نتدخل في شؤونكم. لذلك يجب ان لا تتدخلوا في شؤوننا. ونحن لا نريدكم ان تعلمونا دروساً في العروبة". وصعق السفير الليبي مؤكداً انه لم يكن لديه نية في اهانة الرئيس او تعليمه درساً. ولكن الرئيس بدأ بتجميع اوراقه وأومأ اليّ والى غسان تويني سفيرنا لدى الامم المتحدة بالتحرك. وقال لنا: "يكفينا شعراً، فلنرحل".
بعث الرئيس ريغان طائرة خاصة لاحضار الرئيس الجميل والوفد المرافق له الى واشنطن. وصلنا الى العاصمة الاميركية مساء الاثنين 18 تشرين الاول اكتوبر 1982 واقمنا في فندق ماديسون. صباح اليوم التالي استقبلنا ريغان في البيت الابيض وكان جو اللقاء ودياً للغاية. وانتقلنا مع ريغان الى غرفة طعام العائلة تتوسطها طاولة افطار صغيرة. وبعد جلوسنا الى الطاولة، اشار ريغان الى لوحة جدارية في مواجهة الجميل وقال في لهجة مزاح: "هكذا أخرجنا الانكليز ذوي المعاطف الحمر من بلادنا". وقال الجميل: "نحن سعداء لوجود قوة عظمى صديقة لنا تساعدنا على اخراج اسرائيل كما اخرجتم ذوي المعاطف الحمر". واكد لنا ريغان تمسكه بمبادرته في شأن احلال السلام في الشرق الاوسط التي اعلن عنها في الاول من ايلول سبتمبر 1982 واكد ان السلام في لبنان هو الخطوة الاولى لتحقيق السلام في الشرق الاوسط. وقال ان الولايات المتحدة ستساعد لبنان ديبلوماسياً وانها لن تستطيع مساعدته اقتصادياً الا بشكل محدود. لكنه اضاف ان هناك اميركيين من اصل لبناني يعملون على تنظيم مساعدات للبنان من خلال استثمارات خاصة، وان العديد منهم من بين اصدقائه المقربين، مثل داني توماس ومايك حلبوتي. وكان ريغان يتحدث بشكل ايجابي ولكن دائماً في العموميات. فهذا اللقاء كان مجرد افطار للتعارف بالنسبة اليه ولتأمين جو نفسي ملائم تمهيداً لجولات العمل اللاحقة. فالعمل الجدي يجري اثناء هذه الجولات وليس خلال احاديث قرب المدفأة.
ويحضر الرئيس معه اثناء جلسات العمل الوزراء المختصين ومستشاريهم والمساعدين وكتبة المحاضر، وتصبح المواقف المسجلة على شكل ملاحظات التزامات. وفي مثل هذه اللقاءات تتحرك ماكينة الدولة ويتم توزيع المحاضر على مجلس الامن القومي في البيت الابيض ووزارتي الخارجية والدفاع والدوائر الاخرى المعنية.
انعقد لقاء العمل مع الرئيس ريغان بعد الافطار، وضم من الجانب الاميركي الرئيس ريغان ونائب الرئيس بوش ووزير الخارجية شولتز ووزير الدفاع كاسبار واينبرغر ومستشار الامن القومي كلارك ومساعده روبرت ماكفرلين ورئيس موظفي البيت الابيض ادوارد ميس ونائب وزير الخارجية كينيث دام، اضافة الى السفير موريس درايبر ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى وجنوب آسيا السفير نيكولاس فليوتيس والسفير الاميركي في بيروت روبرت ديلون ومدير وكالة التنمية الدولية ماكفرسون اضافة الى عدد من اعضاء مجلس الامن القومي وستة موظفين مسؤولين عن تسجيل المحاضر. واما عن الجانب اللبناني فحضر جميع اعضاء الوفد الرسمي اضافة الى سفيرنا في واشنطن خليل عيتاني.
تحدث الجميل بثقة مشيراً الى التزام الولايات المتحدة الاخلاقي بمساعدة لبنان، وقال انه ليس لديه اي شك في موقف الولايات المتحدة الاخلاقي ولكن لم يكن متأكداً اذا كان باستطاعتها تنفيذ تعهداتها. وتساءل عن مدى تجاوب اسرائيل مع الرغبة الاميركية. وعن مدى استعداد سورية للانسحاب في حال قبول اسرائيل الشروط الاميركية. وطرح موضوع موقف الاتحاد السوفياتي اذا لم يشارك مع اميركا في اخراج لبنان من محنته.
وطلب الجميل الدعم الاميركي لضمان الانسحاب غير المشروط للجيش الاسرائيلي واكد حاجة لبنان الى دعم الولايات المتحدة لفك ارتباط الاسرائيليين بلبنان عسكرياً وسياسياً وقال ان على الولايات المتحدة ان تعرف بوضوح ان حكومتنا لن تتخذ اي خطوة تهدد استقلال لبنان والوفاق الوطني فيه وعلاقاته مع العالم العربي. واكد حاجة لبنان الى مساعدة الولايات المتحدة في اعادة اعمار لبنان وتجهيز الجيش كي يستطيع المحافظة على السلام في البلاد بعد انسحاب القوات الاجنبية.
شولتز يتبنى موقف اسرائيل
وبعدما استمع الى الجميل حدد ريغان السياسة الاميركية ازاء لبنان على الشكل الآتي: "نحن نريد مساعدة لبنان على انهاء الحرب واستعادة استقراره. ونرغب في مساعدتكم قدر الامكان، ولكننا لا نريد ابقاء قواتنا عندكم فترة طويلة كي لا نعطي اي انطباع لاحد بأننا قوة محتلة. ويجب على القوات الاجنبية الانسحاب في اسرع وقت ممكن، ويجب ان يتم الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب مع مراعاة حاجات اسرائيل الامنية. ونرغب في مساعدتكم في اعادة الاعمار، ولكن مساعدتنا ستكون محدودة نظراً الى الوضع الاقتصادي الخطر الذي نواجهه. ونحن نتفهم جيداً موقفكم حيال المفاوضات مع اسرائيل والحاجة الى الحفاظ على الوفاق الوطني ورصيدكم في العالم العربي. ونحن سننصح اسرائيل بعدم الضغط عليكم بقوة او حثكم بسرعة على التفاوض بشكل يهدد وحدتكم الوطنية وعلاقاتكم مع العالم العربي".
وقلقت من تصريح ريغان عن الانسحاب الاسرائيلي "في ضوء حاجات اسرائيل الامنية" واكدت مرة ثانية موقفنا المطالب بانسحاب اسرائيلي شامل. وطمأنني ريغان في شأن هذه النقطة، وحثنا على مناقشة التفاصيل مع وزير الخارجية شولتز. وكان مهماً بالنسبة الينا سماع ريغان يردد باقتناع اهتمامنا بالحفاظ على الوحدة الوطنية وعلاقات جيدة مع العالم العربي. وكان لدينا منظور مختلف واهتمام كبير بالتفاصيل. وكان طبيعياً ان يكون منظور ريغان مختلفاً عنا وان لا يشغل نفسه بالتفاصيل.
ننظر كلبنانيين الى لبنان كغاية في حد ذاتها، ولكن واشنطن تنظر اليه كوسيلة سلام شامل في المنطقة وفي اطار مصالحها في الشرق الاوسط. اما نحن فنرى لبنان من وجهة نظرنا، كشعب مهجر وبلد مقسم واقتصاد متوقف وديموقراطية مهددة. وناقشنا التفاصيل مع شولتز ومساعديه. واوضح لنا شولتز ان الولايات المتحدة مهتمة بالقضية الكبرى، اي عملية السلام في الشرق الاوسط. وهي تريد ان يعيش لبنان مع اسرائيل في سلام، واذا لم يستطع لبنان التوصل الى معاهدة سلام مع اسرائيل الآن فيجب عليه فعل ذلك لاحقاً. ولان اخراج جميع القوات الاجنبية انجاز كبير، يتوجب على لبنان قبول تسويات لتحقيق هذا الهدف، ويجب على العرب دعم لبنان في ذلك.
وأخذ شولتز يشرح الاهداف الاسرائيلية الستة وبدا انه يؤيدها اذ اعتبرها ثمناً للانسحاب الاسرائيلي الكامل من لبنان. وشدد الوزير الاميركي على ان اسرائيل لن تنسحب من اية منطقة احتلتها الا بعد توقيع معاهدة سلام. واضاف شولتز ان اسرائيل لا تحب تدخل القوات الدولية في المنطقة الواقعة قرب حدودها، وانها تريد منطقة امنية تمتد من نهر الأولي شمال مدينة صيدا الى راشيا في الشرق على ان تتمركز القوات الدولية على ذلك الخط والى شماله، وليس الى جنوبه. وقال انه يمكن نشر لواء من الجيش اللبناني في هذه المنطقة الامنية اذ لا توجد حاجة الى عدد اكبر لان منظمة التحرير الفلسطينية انسحبت من هناك. وتريد اسرائيل اعادة الرائد سعد حداد، قائد جيش لبنان الجنوبي المتعامل مع تل ابيب الى الجيش اللبناني النظامي واعطائه مسؤوليات في الجنوب. كذلك ترغب اسرائيل في تطبيع العلاقات مع لبنان، وهذا يعني فتح الحدود وحرية مرور الاشخاص والبضائع عبرها. واكد شولتز ان هدف اسرائيل هو التوصل الى معاهدة سلام مع لبنان. واقترح شولتز ان نضع ورقة عمل للامور التي يمكن عملها وثم تنفيذها، مؤكداً انه كلما انسحبت اسرائيل بسرعة كلما كان ذلك أفضل. واعطى امثلة عما فعله الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان بالسكان هناك. ولاحظ ان اسرائيل اوجدت واقعاً جديداً على الارض وهي دائماً تفاوض على اساس هذا الواقع الذي يتغير دائماً لمصلحتها. وكان شولتز جاداً في عرضه، واراد في وقت واحد مساعدة لبنان على استعادة ارضه وتوسيع وجود اسرائيل "الشرعي" في المنطقة. وأراد ايضاً قيام مفاوضات ناجحة بين لبنان واسرائيل برعاية الولايات المتحدة تكون نموذجاً لاي مفاوضات مستقبلية عربية - اسرائيلية. وكان على علم بالمخاطر التي تهدد لبنان اذا حاول التوصل الى معاهدة سلام وتطبيع العلاقات مع اسرائيل، ولكنه شعر بأنه يستطيع مساندة لبنان من خلال دعم قوي. وكان شولتز يعتبر ان المنتصر يملي شروطه والمهزوم يقبل بها وصانع السلام يتوسط بين الاثنين. وفي هذه الحالة فان شولتز هو الوسيط بين اسرائيل "المنتصرة" ولبنان "المهزوم". وعلى رغم ان شولتز كانت لديه علاقات واسعة في العالم العربي الا انه لم يكن يدرك تماماً عمق الهوة بين العرب والاسرائيليين. فمنطق المنتصر والمهزوم الذي حدثنا به شولتز لا يمكن تطبيقه على النزاع العربي - الاسرائيلي. نحن كعرب لا نعترف بإننا مهزومون، ولو خسرنا بعض المعارك والحروب مع اسرائيل، لان المعركة، في نظرنا، مستمرة الى ان ننتصر ولو طال بنا الزمان.
لماذا جئتم الى اميركا؟
وتوليت مهمة الرد على شولتز وشرحت له طبيعة السياسة اللبنانية والاطار التاريخي لسياسة لبنان ومركزه في العالم العربي والعامل النفسي الذي يتحكم في العقل العربي حيال التعامل مع اسرائيل والذي نشكل نحن جزءاً منه. واعترفت بارتكاب اخطاء عندما سمحنا لمنظمة التحرير بإعطاء اسرائيل ذرائع لمهاجمة لبنان، "لكننا سنتدبر هذا الموضوع في المستقبل وسنطبق بنود اتفاق الهدنة بحزم". ولاحظت خلال شرحي هذا نوعاً من التفهم والتعاطف من قبل فيليب حبيب، ولكن شولتز كان متململاً. كان منطقه الخاص يسيطر عليه، وحدق في عيني في وسط الحديث وقال: "ايلي، يجب ان اذكرك بأن اسرائيل ربحت الحرب وانتم خسرتموها". واجبته قائلاً: "جورج، لم تكن تصغي الي، سأعيد ما قلته". وشرحت له الخطوط العريضة للسياسة الخارجية اللبنانية. وأصرينا على الانسحاب الاسرائيلي الكامل حسب قرارات الامم المتحدة. وكان الموقف الاميركي خلال ذلك اللقاء كالآتي: "افعلوا ذلك اذا شعرتم انك ستنجحون. لماذا اتيتم الى الولايات المتحدة اذا كان في وسعكم اخراج اسرائيل من خلال تصويت في الامم المتحدة؟ راقبوا سجل اسرائيل، هل انسحبت من اي مكان وفقاً لقرارات الامم المتحدة؟ اسرائيل تنسحب فقط على اساس محادثات ثنائية تقرر فيها وحدها مصالحها القومية. واذا اراد لبنان ان ينسحب الاسرائيليون من عاصمته وان تساعده الولايات المتحدة في ذلك، فالولايات المتحدة مستعدة لذلك".
وكنا محتاجين لمساعدة الولايات المتحدة خصوصاً انه كان لديها سجل في هذا المضمار لانها فاوضت على انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. ولكننا لم نستطع قبول الموقف الاسرائيلي او العرض الاميركي المتعاطف معه. واخبرت شولتز اننا لا نستطيع الموافقة على توقيع معاهدة سلام او تطبيع العلاقات مع اسرائيل ونعتبر ان علاقتنا مع اسرائيل تخضع لبنود اتفاق الهدنة الذي لا يزال سارياً على رغم الموقف الاسرائيلي ازاءه. ولا نستطيع دخول اية مفاوضات مع اسرائيل يمكن تفسيرها على انها قبول منا بتغيير في الحدود بيننا وبينها. واضفت اننا نعتبر العرض الاسرائيلي بخصوص اقامة منطقة امنية تمتد من الأولي حتى راشيا وانتشار القوات الدولية شمال هذا الخط نوعاً من التقسيم. واكدت انه يجب اغلاق الحدود بين لبنان واسرائيل وليس فتحها. وعندها سننشر جيشنا في الجنوب لتأمين الاستقرار ومنع اي تسلل عبر حدودنا المعترف بها دولياً. ويجب نشر القوات الدولية في الجنوب مع جيشنا للتأكد من تنفيذ قرارت الامم المتحدة. واوضحت اننا لا نريد محادثات مباشرة مع اسرائيل وان كل المناقشات معها يجب ان تتم من خلال لجنة الاتصال العسكرية اللبنانية - الاسرائيلية الموجودة اساساً. ويمكن توسيع هذه اللجنة او تشكيل لجنة مشابهة لها، ولكن من الضروري وجود طرف ثالث دائماً خلال اي مباحثات مع اسرائيل، على ان تكون الولايات المتحدة هذا الطرف. فهي وحدها قادرة على التأثير على اسرائيل بشكل فاعل. واكدت اننا سنتشاور مع القادة العرب قبل اجراء اية محادثات مع اسرائيل. واننا سنتباحث مع السوريين ومنظمة التحرير بشأن انسحابهم من لبنان. واضفت اننا معنيون ومهتمون بتوقيت هذه الانسحابات، وكلما كانت اسرع كان ذلك افضل لنا.
وفي تعليق على مسألة الانسحابات اخبرنا السفير درايبر ان الرئيس حافظ الاسد قال للولايات المتحدة ان القرار الذي صدر عن قمة فاس في ايلول سبتمبر 1982 يعني ان الانسحاب السوري من لبنان يتم بعد الانسحاب الاسرائيلي. وكان رأي درايبر ان صيغة قرار فاس هذا وضع نصها الاسد شخصياً، وقد تحفظ الوفد اللبناني انذاك على هذا القرار الذي ينص على الآتي: "ان المؤتمر يأخذ في الاعتبار القرار اللبناني بإنهاء مهمة قوة الردع العربية في لبنان. وستتفاوض حكومتا لبنان وسورية على ترتيبات لانهاء هذا التفويض في ضوء الانسحاب الاسرائيلي من لبنان". وقال لنا درايبر ان الاسد هو الذي اضاف عبارة "في ضوء الانسحاب الاسرائيلي من لبنان" على نص هذا القرار.
ونتج عن محادثاتنا الموسعة في واشنطن التي اتخذت شكل المواجهة الاولى بيننا وبين ادارة ريغان الاتفاق مع الاميركيين على بدء حوارات تمهيدية مع اسرائيل من خلال لجنة الاتصال العسكرية اللبنانية - الاسرائيلية بعد توسيعها وبوجود ممثلين عن الولايات المتحدة. على ان تكون المباحثات على اساس ان حدودنا غير قابلة للتعديل، وان موقفنا هو كما صرحنا عنه في واشنطن. ولن يفرض اي شيء علينا، وستؤيد الولايات المتحدة موقفنا الاساسي بأن اية مفاوضات يجب الا تهدد الوفاق اللبناني الداخلي ورصيد لبنان في العالم العربي. وفي حال جرت هذه المحادثات ستكون ورقة العمل كالآتي: "بحث ترتيبات انسحاب القوات الاسرائيلية من لبنان واعادة سلطة الدولة اللبنانية على كافة اراضيها".