السنيورة وراهنية شيحا: تلازم الحرية والثقة في دولة المواطنة

النوع: 

 

ان تتعارض نظرة ميشال شيحا للبنان والدستور (وهو واضعه) والقوانين ولمفهوم الثقة كأساس لعلاقة المواطن بالدولة مع حال البلد اليوم ومن يتولى شأنها ليس بالأمر الغريب. المصادفة هي فقط بتزامن الاحتفال بتسليم جائزة شيحا السنوية مع ما افرزته الانتخابات وكأن المنظمين كانوا على علم مسبق بما ستؤول اليه من تباعد في الثقة بين اللبنانيين ومن سيمثلهم في البرلمان الجديد. وقد أقامت "مؤسسة ميشال شيحا" احتفالا في فندق بريستول في بيروت، سلمت خلاله "جائزة ميشال شيحا" للعام 2018 التي منحت لـ9 طلاب فازوا في المسابقة التي نظمتها المؤسسة باللغات الثلاث العربية والفرنسية والانكليزية، وشارك فيها اكثر من 350 طالبا من الصفوف الثانوية ينتمون الى اكثر من 39 مدرسة رسمية وخاصة من مختلف المحافظات اللبنانية، كان عليهم الاختيار بين موضوعين تضمنا اقوالا لميشال شيحا وتفسير النص المختار.

حضر الاحتفال رئيس المجلس السابق حسين الحسيني، رئيس الحكومة الأسبق فواد السنيورة، النائب هنري حلو، نائب رئيس "مؤسسة ميشال شيحا" الوزير السابق ميشال الخوري، الوزير السابق ميشال اده، المدير العام لوزارة التربية فادي يرق، مدير الاعلام في رئاسة الجمهورية رفيق شلالا، كريمة المؤرخ ميشال شيحا السيدة مادلين شيحا حلو، وعدد من الشخصيات الرسمية، السياسية، الثقافية، مديري المدارس المشاركة وعائلات الطلاب.

افتتاحا، القت عضو المؤسسة السيدة ايزابيل ضومط سكاف كلمة تطرقت فيها الى المسابقة، وقالت: "إنها مسابقة مفتوحة لتلامذة الصفوف الثانوية؛ وقد تميزت هذه السنة بمشاركة قياسية وهذه السنة اقترحنا على المتسابقين موضوعين محورهما واحد: الثقة. ميشال شيحا كتب سنة 1951: "إن الضائقة التي تعاني منها البشرية جوهرها انهيار الثقة؛ وإن تعميم الشك يفتت السلام؛ وإن انتشار الريبة يؤدي الى الإنهيار". ولم يطل به الأمر قبل أن يزيد سنة 1952: "لنعيد بناء الثقة، وسوف تمشي الأمور؛ لبنان، في تنوعه الفريد، الإقتصاد ليس أساس المشكلة فيه، بقدر ما توجد هناك ثقة بالإدارات الرسمية وبالدولة".

الموضوع بدا راهنا في سنة الإنتخابات هذه؛ فيما الصراعات الداخلية وظاهرة الفساد وانعدام الإستقرار السياسي، تنخر ركائز البلاد. وكشفت سكاف ان التلاميذ المشاركين سئلوا ما إذا كانت هذه الأفكار التي قدمها شيحا قبل ستين سنة، لا تزال صالحة للتطبيق في لبنان المعاصر؟ وهل لديهم ثقة بالطبقة السياسية في هذه الجمهورية؟ باذ النسبة لشيحا إعادة بناء الثقة تضاهي تثبيت الديموقراطية؛ وبالتالي انهيار هذه الثقة يعادل انقطاع العقد الإجتماعي، وانتصار الريبة وانتشار الفوضى. ان إعادة بناء الثقة تعادل رفع قيمة الأماني الشعبية، والشعور بالكرامة عند الناس؛ المصالحة مع مؤسسات الحكم واحترام التقاليد الراسخة وتنوع الثقافات. انخرط الشباب المشاركون في هذه الموضوعات، وأبدوا آراءهم منتقدين النظام القائم؛ معبرين عن طموحاتهم بالنسبة لمستقبل لبنان".

مادلين حلو

ثم ألقت كريمة شيحا السيدة حلو كلمة تحدثت فيها عن ميشال شيحا الانسان، "الذي لم يكشف ابدا عن الجانب المؤثر والعاطفي من شخصيته العائلية، حيث كان أخا وزوجا استثنائيا". وأضافت أنها كانت محظوظة كونها ابنته، "هو الأب الذي لا مثيل له بين الآباء، والذي برغم الأيام والليالي التي كان مأخوذا فيها باهتمامات كبيرة، متعلقة ببلد في مرحلة الولادة، وبرغم التزاماته وانشغالاته الكثيفة بالقراءة، والابحاث المختلفة، فإن شيئا لم يكن يمنعه من الاهتمام بعائلته". وأضافت: "كان ميشال شيحا مدرستي، ومعلمي"، وذكرت كيف كانت ترافقه إلى مكتبه حيث كان يعطيها دروسا وفروضا لتحضيرها، تغطي البرنامج الدراسي، مستعيدة أيضا بعض ذكرياتها معه، وخصوصا حبه للطبيعة، ورحلاتهما المشتركة لاستكشافها. وعن شخصيته، ذكرت انه "كان واسع الثقافة، شديد الاهتمام بالآخرين، وصاحب طيبة تنطوي على ذكاء وكرم".

شبلي الملاط

والقى البروفسور شبلي الملاط كلمة حول اهمية تعدد اللغات في ثقافة ميشال شيحا والدور الاساسي للثقة في المجتمع والحياة. وقال: "إن القليلين فقط يعرفون ان شيحا كان ناشرا لصحيفة باللغةالانكليزية". وشدد ملاط على "ان امتلاك اللغات قد يكون احد ابرز انجازات لبنان، فليس هناك من بلد يملك القدرة على التآلف مع ثلاث لغات: العربية، الفرنسية والانكليزية، وهذا بالضبط ما يعبر عن ارث ميشال شيحا. ان مثلث اللغات الذي يملكه لبنان يجعل من غير الممكن تحديد آفاق هذا البلد وقدراته، رغم صغر مساحته الجغرافية".

ثم انتقل للحديث عن الثقة، ولفت الى انه بالنسبة لميشال شيحا المواطن والشخصية العامة، "الثقة تعني الحرية، والتسامح، انما بالاخص، تعني الشعور بالامان ضمن مجتمع يديره حكم القانون". وهذا المعنى موجود ايضا في فرنسا، لكن ميشال شيحا اضاف امرا آخر، اذ قال ان الثقة تعني اعتدال القوانين واحترام الشرعية. لقد كتب شيحا الدستور اللبناني ونصه الاصلي بالفرنسية، تبعه نص بالعربية، ويمكن رؤيته خلال العمل عبر الكتاب الرائع الذي نشرته مؤسسته العام 2001".

وتابع: "ان ولادة دستور شيحا عام 1926 سيبلغ قريبا عامه المئة، ويمكن القول ان شيحا احد اعظم المحامين الدستوريين في الشرق الاوسط في القرن العشرين. ان الثقة مهمة جدا وهي تعتبر وسيلة النقل الشرعية للعمليات الكبيرة، وهي ستساعد حتما من يرغب منكم في ان يصبح محاميا او رجل اعمال، وتجد جذورها ايضا وفق ما يقوله البعض في القانون الانكليزي، في "الاوقاف" العربية في مدارس انشئت في الاندلس والمغرب".

فؤاد السنيورة

ثم، تحدث السنيورة معربا عن سعادته لتلبية دعوة "مؤسسة ميشال شيحا"، منوها بمشاركة الطلاب بالتنافس على قواعد الكفاءة والجدارة، محددا ثلاث ركائز تنتظم من خلالها حياة المجتمعات، وهي: الحكم الرشيد، البصيرة، الرؤية المنفتحة، والثقة. واستذكر الرئيس السنيورة مواقف شيحا معتبرا "انه وبعد مرور 66 عاما على طرحِ تلك الأفكار السامية، لا تزال تلك الكلمات تعبر أكثر من أي وقت مضى عن أهمية وضرورة إحترام الدستور وهذه التشريعات القانونية والقيم الخلقية لصون دولة القانون". وركز على مبدأ الثقة: "ان مفهوم الثقة هو مربط الفرس، والمواطن هو مبتدأ الكلام ومنتهاه. فعلاقته وثقته بالدولة تتأسسان وتتعززان من خلال إحساسه وشعوره بالأمان والاحترام في تعامله مع القوانين والأجهزة والإدارات، وكذلك من خلال تأكده عبر التجربة ان الحكومة وإداراتها وأجهزتها وفي جميع ممارساتها تخضع لسلطة القانون وتحترمه. في المحصلة، اطمئنان المواطن إلى أن حقوقه محفوظة وكرامته مصونة ومصالحه الحالية والمستقبلية تجري رعايتها بالشكل الصحيح والسليم والعادل ودون أي تمييز. وعلى أساس ذلك تكون الثقة بالدولة بداية بالتكليف، وتتمظهر صورها بدرجة ثانية بحكم الممارسة. بعد ذلك تخضع عمليتا التكليف والممارسة الى ما يسمى الامتحان المستمر من خلال دورات المساءلة أو عبر التقييم الدوري المتمثل بالانتخابات النيابية الديموقراطية والحرة والنزيهة في ظل قانون انتخاب عادل يضمن صحة التمثيل ويصون الفكرة السامية للعيش المشترك.َّ يتبين من ذلك كله أن التكليف يكون في محله، ويتثبت إذا أدت تلك السلطة ما عليها من مسؤوليات تجاه مواطنيها، بما في ذلك تأدية حقوقهم كاملة غير منقوصة وبشكل عادل ومن دون أي تمييز".

وتناول العلاقة بين الدولة والمواطنين واهمية الثقة بينهم، وقال: "حينما نتكلم عن ممارسة تعبير المواطن عن هذه الثقة، فمن الطبيعي أن يعبر عن رأيه ويدافع عن قراره بحرية ومن دون أي إكراه أو إغراء. فالثقة تبنى بفعل الممارسة والتجربة وليس بالكلام المنمق والشعارات الموسمية والوعود الشعبوية المكررة. ولا يغيب عنا ونحن نشرح ونحلل ونستخلص أن ثمة تحاورا وتجاورا عضويين بين مفهومين: الثقة والحرية من جانب، والثقة وضرورة التلاؤم المستمر في غمرة التطورات.

- الأمر الأول، ان حرية الرأي تستتبع بطبيعة الحال بحرية التمثيل (البلدي منه والنيابي). ومتى طلب من الشعب التعبير عن رأيه في أداء الحكومة والمجلس النيابي من خلال الانتخابات، فمن باب أولى أن تكون حريته مصونة وخياراته محفوظة وقراره في التعبير عن رأيه حرا. فلا مكان لاية اكراهات او ضغوط محتملة تجبره على تعديل اشرعته (السياسية) وفق اشتهاء السلطة، وتدفعه بالتالي الى الاصطفاف بعكس مصالحه، بحيث تنتفي الثقة كتعبير حقيقي عن الشراكة بين أفرقاء المجتمع وبين المجتمع والدولة.

- الأمر الثاني، يتمثل في ضرورة شعور المواطن بأن هناك عملية إصلاحية حقيقية تتم بشكل مستدام، ما يجعل الأداء الحكومي عملا رشيدا ورشيقا، متلائما مع المتغيرات. فالإصلاح كما نفهمه هو ثقافة وروحية ومنظومة وعمل متدرج ودائب مستمر ومتلائم مع المتغيرات في هذا العالم الحافل بالتحولات. وهذا يفترض قدرة وإرادة الحكومة ومؤسساتها على أن يستمر عملها".

وبعدما عرض السنيورة ل"اتفاق الطائف" الذي جاء كأهم نواتج الثقة التي محضها اللبنانيون لنظامهم السياسي كما جرى تعديله بعد ذلك بالاتفاق، مستذكرا ما اعلنه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عن "ان لبنان هو رسالة اكثر مما هو وطن"، خاطب الطلاب الفائزين، قائلا: "أدعوكم إلى أن تدركوا أن الثقة التي تتأسس في وعيكم منذ الطفولة بين أحضان اهاليكم، ترافقكم الدرب كله في كافةِّ مراحل حياتكم. وعليه، فإن توطد هذه الثقة في المنزل، وبعدها في المدرسة والجامعة مع زملائكم، وبعدها مع الآخر في كافة مراحل حياتكم العملية بطريقة متبصرة وواعية، كفيل بأن يجعل من هذا التنوع والتلاقح في مجتمعنا وبين مختلف فئاته مصدر غنى للوطن. فكل رسالة بليغة الدلالة يفترض أن تحظى بمتلقين يستوعبون ويتفاعلون مع مضمونها، ويسعون لإيصالها لجمهور معني ومهتم بها، يعيد نشرها وتعميمها متى آمن ووثق بفكرة العيش المشترك وتقبل الآخر وأهمية التماهي معه والتلاقح الفكري مع معتقداته. وهنا يبرز دور جيلكم أنتم، المفعم بالحياة والطاقة والذكاء، في الحرص على تبادل هذه الثقافات بين كافة شرائح المجتمع على قاعدة قبول الآخر والتعاون معه والاعتناء به، وفي الابتعاد عن حرفها عن مقاصدها أو تسييسها وشرذمتها. إنها الدعوة إلى "التعددية الإيجابية" التي تنطوي تحت عنوان الرسالة القائمة على جعل هذه المنافسة التي جمعتكم اليوم في هذه المؤسسة العريقة، مصغرا عن المنافسة الحقيقية والإيجابية القائمة على الثقة التي يجب أن تتعزز بينكم وبين كل الأفراد والجماعات في المستقبل، لنشر رسالة لبنان في عيشه المشترك بين مختلف مكوناته".

وختم رئيس الحكومة الأسبق قائلا: "انها مسلمات ينبغي أن تترسخ في وجداننا وأفعالنا عندما نتحدث عن وجوب التحلي بالثقة، ونؤكد فعاليتها في شد اللحمة بين اللبنانيين وتوطيد نسيجهم الاجتماعي. فهي إن لم تتأسس وتتعزز بحكم التجربة، وتندرج في صلب ممارساتنا، فلن يكون هناك تسامح حقيقي ولا تقبل رحب للآخر، ولا حتى رغبة صادقة في العيش معه على قدم المساواة؛ أي بتساو وسلام وندية وبمحبة ورحمة".

المصدر: 
التاريخ: 
الأحد, مايو 13, 2018
ملخص: 
عرض السنيورة ل"اتفاق الطائف" الذي جاء كأهم نواتج الثقة التي محضها اللبنانيون لنظامهم السياسي كما جرى تعديله بعد ذلك بالاتفاق، مستذكرا ما اعلنه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عن "ان لبنان هو رسالة اكثر مما هو وطن"، خاطب الطلاب الفائزين، قائلا: "أدعوكم إلى