العنكبوت عن جريدة الجمهورية
صَعّدت بكركي فانتقل المشهد السياسي المأزوم مسيحياً بين «التيّار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» الى مشهدٍ مسيحي - شيعي أكثر تأزّماً لم تشهد العلاقة بين بكركي والمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى مثيلاً له منذ عشرات السنين، وها هي بكركي تصرّ اليوم على التمركز في مواقع الهجوم للدفاع عمّا قالته، فتوكد أوساطها لـ«الجمهورية» انّ «غبطته يقول: لبنان أكبر من الجميع. وهم يردّون عليه بـ«طائفتنا أكبر من لبنان ومصلحتنا قبل مصلحة لبنان وشعبه»، ولذلك نردّد اليوم ما قاله أسلافنا: «قلنا ما قلناه».
أنهت حرب العام 1975 حكم المارونية السياسية التي ساهمت بتأسيس الجمهورية الأولى، وأنهى اغتيال الرئيس رفيق الحريري حكم السنية السياسية على رغم صعودها في ظل الاحتلال السوري، وقد شارفت الشيعية الأمنية اليوم على النهاية.
لم يلقّب لبنان بـ«سويسرا الشرق» سوى بفعل حقبة الاستقرار والازدهار والبحبوحة التي عرفها البلد في زمن المارونية السياسية، فتميّز بدولة حديثة وعصرية ومتقدمة على كل دول المنطقة في شتى الحقول والمجالات، ولكن اندلاع الحرب في 13 نيسان 1975 بسبب الانقسام حول خيارات استراتيجية كبرى أدى إلى إنهاء حكم المارونية السياسية وإنهاء النموذج الذي شكّله لبنان.
يخطئ من يظنّ أنّ كلام المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان عن الكيان اللبناني وهويته التاريخية والميثاقية ينفصل عن الجذور الفكريّة والسياسية المؤسِّسة للمدرسة التي حكمت سلوك «حزب الله» منذ نشأته، وهي المدرسة التي تحدّد طبيعة النظرة إلى الوطن الدولة.
ذلك انّ طرح الفدرالية مطلب قديم. عمره من عمر نشوء لبنان كدولة عام 1920. يوم كانت ثمة طروحات حول لبنان فدرالي مع سوريا. وكان لهذا الطرح صدى حتى لدى بعض الموارنة، ومنهم شقيق البطريرك الحويك نفسه.
لكن عودة هذا الطرح كانت، على مدى مئة عام، مقرونة دوماً بإيقاعات زعيم مأزوم هنا، أو مشروع زعامة لاهثة لتحسين حظوظها أو تحصين نفوذها هناك.
ففي تاريخ 7/7/2015 وفي حديث صحافي، ذهب ممثل "التيار الوطني الحر" في الحكومة آنذاك جبران باسيل، الى التهديد بفرط النظام السياسي المستند الى وثيقة الوفاق الوطني اي الطائف، داعياً الى اعتماد الفدرالية، بحجة انّ المسيحيين مهددون في وجودهم .
تصريحان انشغل الاعلام اللبناني ببحث ما ورائيّاتهما: الأول هو خطاب رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل الذي دعا فيه الى اللامركزية الادارية وصولاً الى المالية الموسّعة مع ما يعنيه من استبطان للفدرالية.
ليست صدفة أن تقفز إلى الواجهة أفكار وطروحات «حسّاسة» أو «خطرة» على النظام أو الكيان اللبناني، في اللحظة التي بدأت فيها المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي. فالجميع، بمن فيهم «حزب الله»، يعرفون أنّ هذه المفاوضات في الشكل تدور حول الأرقام والخطط المالية والاقتصادية، لكنها في العمق مفاوضات حول الخيارات السياسية الكبرى. وفي عبارة أخرى، إنّ لبناناً آخر على وشك الولادة في مخاض الشرق الأوسط.
مبادرة شخصية منه، وتوقيت تفجيرها كان مدروساً ومحدَّداً بِدقَّة ليصيب الهدف.
هناك مصادفات في التاريخ غريبة ومثيرة ويصعب تفسيرها بلغة العقل والمنطق، على غرار ذكرى مئوية «لبنان الكبير»، التي تحلّ هذا العام في ظلّ انطباع عام انّ هذه المئوية لن تشكّل احتفالاً بلبنان القديم، بل ستشكّل مدخلاً للبنان الجديد.
فيروس كورونا، والأزمة الاقتصادية والمالية؛ خطران مصيريان يعصفان بلبنان في هذه الايام، من دون ان يجد لهما منفذًا للإفلات منهما بأقل الخسائر الممكنة. والى جانبهما واقع سياسي أشبه بلوح زجاجي مفسّخ، إمكانية «لحمه» مستحيلة، بل هو مفتوح على اشتباك وتنافر وسجالات وافتراءات وتجريح وقدح وذم، ومزيد من الانقسام والافتراق في اي لحظة، وتحت اي عنوان، وعند أتفه سبب!
هل هذا ما يتهدّد اللبنانيين فقط، أم أنّ المياه تجري من تحت ارجلهم من دون ان يشعروا، وانّ أمرًا ما يُحاك لهم، يوازي، أو ربما اخطر من الكورونا والأزمة الاقتصادية والمالية، يجري العمل على بلورته في بعض الغرف الخارجية المغلقة؟
تنقسم البيئة المسيحية بين وجهتي نظر: الأولى كلاسيكية وتقليدية وتاريخية ترفض المساس بموقع رئاسة الجمهورية تجنّباً لسابقة تُضعف الموقع الأول في الجمهورية، وثانية تعتبر انّ قوة رئيس الجمهورية من قوة تمسّكه بدولة القانون، وفي حال تراجع عن هذا الخط وَجب رحيله.
حتى مع إبصار الحكومة الجديدة النور، فلا حكومة في لبنان؟! هذا ما تشي به «المراهقات السياسية» العابرة لحدود العلاقات الشائكة بين القوى السياسية المتناقضة بين مشروعين، والتي يبدو انّها نفذت إلى قلب الفريق الواحد، وكادت تطيح مسعاه لتشكيل حكومته التي يراهن عليها لإنقاذ ما تبقّى سليماً في البلد، حتى ولو كانت موصومة بأنّها «حكومة لون واحد».
الصفحات