فؤاد أبو ناضر في «لبنان، نضالي، قضيتي»: يجب تعديل اتفاق الطائف والعودة إلى الميثاق الوطني لتحقيق التوازن في لبنان
أحد الأسئلة التي تُطرح هذه الأيام على الساحة اللبنانية هو: لماذا تحرص عدد من القيادات المسيحية اللبنانية على التمسك بموقع رئاسة الجمهورية كمجموعة، وتتحفظ على خسارة هذا الموقع لمجموعات دينية واجتماعية وسياسية أخرى في البلد؟
لفهم دوافع مثل هذا التوجه، قد يكون من المفيد مراجعة كتب كتبها قادة المجموعات المسيحية في لبنان، وخصوصاً أولئك الذين لعبوا دوراً في الحرب الأهلية اللبنانية لعام 1975 ـ 1990 كقادة مجموعات مسلحة ميليشيات مسيحية اعتبرت وما زالت تعتبر نفسها قادة منظمات مقاومة للمشاريع الساعية إلى تغيير طبيعة لبنان كبلد وتقليص دور الأقليات المسيحية فيه. وهما أمران يحميهما الدستور اللبناني والميثاق الوطني اللبناني والمتفق عليهما بين الطوائف اللبنانية عشية استقلال البلد عام 1943 والمهددين برأي البعض بما يُعرف بـ”اتفاق الطائف” الذي وُقّع في نهاية عام 1989 في السعودية. وربما من غير المنطقي عدم طرح الأسئلة في هذا المجال بحجة انه من غير المقبول إعطاء منصة تحليلية ـ فكرية لمجموعات متهمة بارتكاب المجازر والتجاوزات ضد القضايا العربية الوطنية كالقضية الفلسطينية. بل لعل تجاهل مواقفها ربما سيكون أكثر سلبية من معالجتها وفهم دوافعها. من الأمور المطروحة حالياً في لبنان هو: “هل تُعد القوات اللبنانية المنظمة عسكرياً في الماضي والتي تواجهت مع المجموعات الفلسطينية المسلحة في معارك حرب لبنان الأهلية (1975 ـ 1990) مراجعة مواقفها التي اتُخذت آنذاك؟ وما هي مواقف قياداتها حالياً في ضوء آخر التطورات على الساحة بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، وبعد التغييرات التي طرأت على لبنان ونظامه وعلى موقع رئاسة الجمهورية الذي تُطرح التساؤلات حول مصيره؟
مثل هذه الأسئلة قد يساهم في الإجابة عليها كتابٌ صدرَ مؤخراً للقائد السابق للقوات اللبنانية الدكتور فؤاد أبو ناضر بعنوان “لبنان، نضالي، قضيتي” علماً ان المؤلف قاتلَ في صفوف القوى اللبنانية المسيحية المسلحة إلى جانب قريبه الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميل قبل أن يترأس القوات اللبنانية أواخر عام 1984 بعد اغتيال الرئيس بشير الجميّل صيف عام 1982.
أهمية كتاب الدكتور أبو ناضر، أنه قريب في عدد من طروحاته من مواقف “حزب الكتائب اللبنانية” في الماضي والحاضر. والمؤلف هو حفيد مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل.
في المقدمة يقول أبو ناضر، وهو طبيب مارسَ ويمارس مهنته في مستشفيات لبنان: “خصمُ الأمس اللبناني هو اليوم شريك ممتاز في قيادة البلد أحترمه وأحترم مقاربته حتى لو انني قد لا أؤيدها”. (ص 12).
ويعترف بان الجهة التي انتسب إليها سياسياً وعسكرياً ارتكبت أخطاء ولكنها “اضطرت إلى القيام بالكثير مما قامت به لعدم توافر الخيارات الأخرى”. يضيف: “عندما تطوعت، كنت مقتنعاً وما أزال باننا لم نكن نمتلك خياراً آخر، وذلك لا يعني باننا لم نرتكب أخطاء خلال أعوام النزاع”. (ص 12 أيضا).
بالنسبة لموقف الكاتب إزاء الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية، فانه يبدو أكثر تحفظاً حيث يقول: “الفلسطينيون كانوا مخلصين في تعاملهم معنا ولكنهم انقلبوا ضدنا. لا اعتراض لي على الفلسطينيين بصفتهم شعباً، لكن وجودهم المسلح مثّل ويمثل إشكالية في لبنان. فعلى أرضنا حالياً جنود فلسطينيون تابعون لمنظمات عسكرية فلسطينية في ثكنة قرب قوسايا في البقاع اللبناني وفي قرية الناعمة إلى جوار بلدة الدامور الجنوبية، ويستحيل علينا تجريدهم من السلاح لأنهم يستفيدون من حماية النظام السوري وحزب الله اللبناني”. (ص 16).
بالإضافة إلى تحفظه في نظرته للوجود الفلسطيني المسلح على أرض لبنان، فانه يشعر بالقلق إزاء تقلص دور الطوائف المسيحية وانحساره سياسياً في العقود الأخيرة في البلد، وإمكان خسارة تلك الطوائف موقع رئاسة الجمهورية بسبب عوامل داخلية وإقليمية ونتيجة للتقلص في حجمها عددياً بالمقارنة مع الطوائف الأخرى.
يقول في الفصل الأول: “ان فكرة الآباء المؤسسين للبنان منذ البدء كانت إقامة الدولة العربية الوحيدة التي لا تملك دين دولة، والتي يترأسها مسيحي من دون ان ترفض محيطها المسلم، وحيث يتساوى المسلمون والمسيحيون في الحقوق. لكن، كان المسلمون السنّة اللبنانيون يرون عام 1958 بان الرئيس المصري جمال عبد الناصر رئيسهم. الآن، لم يعد المسلمون الشيعة اللبنانيون يريدون ان يكونوا أتباعاً للسنّة والفلسطينيين وهم يطالبون بلبنانيتهم على طريقتهم”. (ص 21 ـ 22).
وهنا يتحول تحليل المؤلف للواقع اللبناني إلى مقاربة تنطلق من صراع الطوائف الذي قد يراه البعض تحليلاً براغماتياً، ولكن قد يفضل البعض الآخر تحاليل أخرى من منطلق آخر غير طائفي.
فمثلاً، يرى أبو ناضر ان اتفاق القاهرة، الذي تم توقيعه عام 1969 بمبادرة من قيادات عسكرية لبنانية مرتبطة برئيس الجمهورية فؤاد شهاب وأعوانه الذي كان يحرص على علاقة مهادنة مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر، “كان السبب الرئيسي لانحطاط مؤسساتنا وإلقاء بلادنا في الحرب الأهلية”. (ص 25). بينما اعتبرت جهات أخرى شهابية الميول بان الرئيس شهاب، وبرغم صرامته في التعامل مع الانفلات الأمني في البلد كرئيس وكحليف وعرّاب للرئيس الذي خلفه شارل حلو، ربما كان يخشى مًسبقاً ويتجنب اشتعال حرب أهلية من جراء حدوث مجازر على شاكلة واقعة مخيم تل الزعتر وبعدها مجزرة صبرا وشاتيلا التي وقعت عام 1982 ضد اللاجئين الفلسطينيين العزل، ولذلك دعمَ ضمنياً عدم التجريد الكامل للفلسطينيين المدنيين من سلاحهم داخل المخيمات، علماً بان الرئيس شارل حلو الذي وقّع قائد الجيش اتفاقية القاهرة في عهده كانت لديه تحفظات حول التسرع في توقيع تلك الاتفاقية وعدم التشاور الكافي معه قبل إتمام الأمر معتبراً ذلك خضوعاً للنظام المصري.
وينتقد أبو ناضر توجه بعض الساسة اللبنانيين إلى “تقوية أنفسهم بواسطة حليف خارجي عالمي أو إقليمي يُملي عليهم مواقفهم وتهمه مصالحه قبل مصالحنا كلبنانيين” وهنا لعله يقصد القيادات والأحزاب اللبنانية التي يتم إملاء المواقف عليها من إيران أو السعودية أو إسرائيل أو سوريا أو الولايات المتحدة وروسيا والصين.
وبالتالي، نجد المؤلف متحفظاً إزاء ما سُميَ اتفاق الطائف والذي أُضيف إلى الدستور اللبناني وتم حكم لبنان بموجب بعض بنوده، منذ عام 1990. ويعتبر ان الاتفاق: “عدّل الدستور اللبناني والميثاق الوطني من دون ان يُحسنهما، وقد كرس لدى توقيعه الوصاية السورية على لبنان. ويجب تعديله ليتكيف مع الوضع الراهن، فهو أضعف سلطات رئيس الجمهورية المسيحي وزاد سلطة رئيس الوزراء السني ورئيس المجلس النيابي الشيعي، ولا يسعى إلى معالجة المسألة الطائفية في لبنان بتوازن”. (ص 29).
ويؤكد المؤلف انه هو وخاله الراحل بشير الجميّل لم يطمحا إلى انشاء دولة لبنانية مسيحية بالمطلق، بل على العكس اغتيل بشير الذي كان يعتبره كأخ له لأنه رفض الاملاءات الإسرائيلية من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين الذي طالبه بفرض نفسه على مسلمي لبنان بعد انتخابه رئيساً وتوقيع متسرع لمعاهدة سلام مع إسرائيل من دون استشارة وموافقة رفاقه المسلمين في هذا الوطن.
وبرغم ذلك، من الضروري، حسب ما قاله أبو ناضر في الفصل الثاني: “الحفاظ على مسيحييّ المشرق الذي هو أمر في مصلحة البشرية جمعاء، فهذه ليست مسألة دينية، بل قضية حقوق إنسان، إذ ان كل مسيحيي الشرق الأوسط ينظرون إلى لبنان كمرتع ممكن لهم يجعلهم أقوى حيث يعيشون، سواء الأقباط في مصر أو الأقليات المسيحية في العراق وسوريا وفلسطين. وهم يعتبرون لبنان وطنهم الثاني حيث لديهم حق ابداء الرأي كأقليات”. (ص 38/39).
ويؤكد في الفصل الرابع ان الرئيس ياسر عرفات، وأحد كبار ممثليه في لبنان أبو حسن سلامة وغيرهما من كبار القادة الفلسطينيين كانوا على اتصال مع قيادة القوات المسيحية اللبنانية وبينهم أمين وبشير الجميل وغيرهما، وانه عندما أوقف واحتُجز بشير الجميل في عام 1970 وعندما اختُطف المؤلف أبو ناضر وأعوانه في مرحلة لاحقة، لعبت القيادات الفلسطينية في لبنان دوراً رئيسياً في الإفراج عنهم. كما ان قيادة القوات اللبنانية حاولت ابلاغ أبو حسن سلامة بان عملية إسرائيلية تنظم لاغتياله، ولكن الإنذار جاء متأخراً، ونجحت “الموساد” في اغتياله، وهذا واقع أكدته مصادر أخرى.
المؤلف واجه معارضة من قادة مسيحيين آخرين عندما تسلّم قيادة “القوات اللبنانية” في تشرين الأول (أكتوبر) 1984 حيث حصل انقلاب على قيادته من جانب مجموعة معارضة للرئيس أمين الجميل ولحزب الكتائب قادها ايلي حبيقة، الذي كان أحد قادة “الاتفاق الثلاثي” الذي عُقِد بدعم سوري بين القوات اللبنانية وحركة أمل والحزب الاشتراكي في آذار (مارس) 1985 والذي جرى انقلاب ضده في كانون الثاني (يناير) 1986 وتم على أثره طرد حبيقة من المنطقة المسيحية آنذاك، حسب المؤلف.
ويؤكد أبو ناضر ان خاليه أمين الجميل وبشير الجميل لم يكونا متفقين في سياساتهما دائماً واختلفا في بعض المواقف وانه كان يبقى صامتاً عندما يقرر جده الشيخ بيار الادلاء بمواقفه في هذا المجال، فالشيخ بيار كان دائماً يفضل عدم القيام بأي مبادرات يسودها التنازل باتجاه إسرائيل، وكان يرى بان العلاقة مع البلدان العربية وقياداتها هي الأفضل للبنان، ولم يكن مؤيداً لكل مواقف نجله بشير في مجال توحيد البندقية المسيحية والمواجهة مع حزب الوطنيين الأحرار، وكان على تناغم مع مواقف الرئيس كميل شمعون، الذي كان (برأي المؤلف) رجل دولة بكل معنى الكلمة.
ولكن برأي الكاتب فإن: “استخبارات مرتبطة بالجيش اللبناني أثناء التدخل العسكري السوري في لبنان، أججت الخلافات بين الكتائب والأحرار لقسمة المسيحيين ما يسهّل السيطرة عليهم، فجهات في المكتب الثاني اللبناني آنذاك كانت مؤيدة للحالة القائمة المفروضة سورياً وإسرائيلياً المنزعجة من ثقل عملية ضمان آمن المناطق المسيحية عليها”. (ص 85).
في الصفحة (105) يؤكد ان جده الشيخ بيار الجميل “كان معارضاً لكل علاقة مع إسرائيل على حساب الخيار العربي للبنان، ولكن بعد معارك الأسواق والفنادق في عام 1976 واستشهاد حفيده أمين أسود فيها، اتخذ مواقف نابعة من ضرورات براغماتية مرتبطة بالصمود والبقاء”.
ويشير إلى ان: “رئيس الجمهورية الياس سركيس، في نهاية ولايته الرئاسية، اقتنع بأن صعود بشير الجميل إلى الرئاسة قد يؤمن بقاء لبنان”. (ص 100/101).
ويعتبر أبو ناضر ان قيادة سوريا آنذاك: “رغبت بان تكون هي المقررة لشتى الشؤون في لبنان وما عادت تقبل بان يكون ياسر عرفات الرجل القوي في لبنان، وقد آل بها الأمر إلى الاستعداد لتقديم السلاح والذخيرة إلى القوات اللبنانية لاعتبارها الفلسطينيين خطراً على أمنها، وتناغمت في هذا المجال مع الموقف الإسرائيلي لربما نتيجة لموقف ضمني إقليمي ودولي بتأييد ومباركة واشنطن”. وقد شعرنا بذلك (حسب قوله) “خلال معركة زحلة عام 1981 ضد القوات العسكرية السورية حيث لم نحصل على الدعم العسكري الإسرائيلي الكافي ميدانياً ونفذنا المعركة بأنفسنا وبالتعاون مع أهل زحلة المؤيدين لنا”. (ص 106).
ويوضح بان بشير الجميل رفض الخطة الإسرائيلية للبنان بعد انتخابه رئيساً، وكان ذلك واضحاً في خلافه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين في لقائهما في بلدة نهاريا الحدودية. وانتقدت الصحافة الإسرائيلية بشيراً بعد ذلك اللقاء لرفضه توقيع اتفاق سلام متسرع مع الدولة العبرية من دون موافقة القيادات المسلمة في لبنان. (ص 108).
ويعتبر بانه لو لم تقاوم المجموعات المسيحية اللبنانية الهيمنة على لبنان في حرب (75/76) وما تلاها لأصبح لبنان بلداً بديلاً للاجئين فيه ولربما كان تم ضمه إلى سوريا أو تقاسمه بين سوريا وإسرائيل. وبالتالي، يرى بان للحرية ثمناً، ويدعو شباب لبنان للثورة ضد الطائفية والاقطاعية السياسية والفساد في بلدهم كما فعلوا في ثورة تشرين لعام 2019.
فؤاد أبو ناضر: «لبنان، نضالي، قضيتي»
ترجمة إسكندر شديد
دار يونيفرسال، بيروت 2022
212 صفحة