لبنان بين الخوف من الفتنة المذهبية والخوف على «اتفاق الطائف»

النوع: 

 

بعدما استكمل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط انفصاله التدريجي عن قوى «14 مارس» ما مهد لتكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل حكومة ستكون على الأرجح من «لون واحد»، وبعد حديث رئيس** الحكومة السابق سعد الحريري عن محاولات لاغتياله سياسياً، واتهام قادة «ثورة الارز» في أدبياتهم السياسية «حزب الله» بـ «الانقلاب» على الدولة، وبعد الشرخ بين دمشق والرياض على خلفية الملف اللبناني، وإعلان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل عن مخاطر تقسيم لبنان، وبعد الجدل الدائر حول دورة عنف قد تؤدي إلى ولادة «طائف» جديد، وتبني قوى المعارضة شعار محاربة «الحريرية السياسية»، يبدو أن المشهد السياسي اللبناني وصل إلى المرحلة الاسوأ في أزمته المستدامة منذ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري.

وفي ظل الكلام عن «انقلاب» خفي يقوم به «حزب الله» الذي أعد العدة لفك ارتباط لبنان بالمحكمة الدولية، أو «المنتج الإسرائيلي» كما يصفها، تكثر التكهنات عن مستقبل غامض ينتظره لبنان، فالقوى السياسية المتنازعة التي لا يجمعها إلاّ التناقض، وصلت إلى ذروة صراعها، بعدما اقتضت المعادلة الراهنة الفصل لا الوصل. ولعل السؤال الأهم في جملة التكهنات المطروحة: أين «اتفاق الطائف»، وهل إيقاظ الفتنة المذهبية هذه المرة قد يفضي الى دستور جديد؟ الطائف الذي أخرج لبنان من أتون الحرب وكرس اللاءات الثلاث في مقدمته، لا للتوطين، لا للتقسيم، لا لأي شرعية تناقض العيش المشترك، دخل بدوره في رهانات القوى السياسية، فهناك طرف يخاف الانقلاب عليه خشية تبدل موازين القوى، وطرف يستخدم أدوات التعطيل التي منحت له مع «اتفاق الدوحة». وبين هذا وذاك، هل صحيح أن «حزب الله» يعمل لـ «ولادة» طائف جديد وهل الأجواء الاقليمية إثر دخول أنقرة والدوحة على خط الملف اللبناني تساهم في إقصاء الرياض، وما حظوظ «الشيعية السياسية» في لبنان وسط كل ما يجري؟

لبنان بين الخوف من الفتنة المذهبية والخوف على الطائف، عنوان ملف حملته «الراي» إلى كل من الأمين العام لحزب «الوطنيين الأحرار» إلياس ابو عاصي واستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية طلال عتريسي.

المشروع الفارسي

أكد الدكتور الياس أبو عاصي أن إلغاء المحكمة الدولية يصب في خانة مشروع إيران التوسعي، موضحاً أن «حزب الله» يقوم بـ «انقلاب تدريجي» بعدما كرس الثلث المعطل في «اتفاق الدوحة». ورأى أن تبني قادة المعارضة لهذا النهج سيرشح لبنان «ليكون غزة جديدة»، سائلاً قوى 8 مارس «هل أنتم قادرون على التعاطي مع المجتمع الدولي؟».

• بعد فشل المساعي السورية ـ السعودية ما السيناريو المتوقع وسط حديث قوى «14 مارس» عن انقلاب يحضر له «حزب الله»؟

لم يكن الرهان على التسوية السورية ـ السعودية كبيراً، وانطلاقاً من تتبعنا للأحداث أدركنا وجود عقبات معينة عرقلت المساعي بين دمشق والرياض. والأكيد أن الخيار الذي اتخذته المعارضة وتحديداً «حزب الله» أدخل لبنان في المحور الإيراني ـ السوري لأسباب استراتيجية متعددة، تبدأ بملف ما يسمى الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وصولاً إلى نتائج المباحثات بين الدول الست وإيران في تركيا على خلفية الملف النووي الإيراني. النقطة الأخيرة هي التي ستحدد مسار لبنان، وإيران تريد وضعنا في مواجهة العالم وتمارس لعبة مزدوجة، خصوصاً أن لها مشروعاً توسعياً اقليمياً، ولذلك كان لا بد من دعم مقومات هذا المشروع في الخارج، أي العراق ولبنان وفلسطين ودول أخرى. في رأيي أن الخيار الذي اتخذته المعارضة بالاستقالة وربما تأليف حكومة من لون واحد بذريعة اسقاط المحكمة الدولية على المستوى اللبناني، يتخطى مسألة المحكمة، فثمة مشروع فارسي يريد مد نفوذه الى البحر الأبيض المتوسط. وأعتقد أن الأهداف الاستراتيجية هي الثابتة، والأهداف التكتيكية هي المتحركة، وإلاّ ما معنى دلالات الخطاب الذي ألقاه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في بنت جبيل، لقد أراد أن يضع لبنان على خط المواجهة الأول، وإسقاط المحكمة ذريعة أو غطاء لمتابعة مستلزمات المعركة الايديولوجية والسياسية والاستراتيجية.

• ما تفسيرك لكلام وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل حين لمح إلى مخاطر التقسيم؟

الكلام الذي أدلى به سعود الفيصل كان هدفه اظهار الامتعاض من التعاطي السوري، وكلامه يعبر عن حدة الصدمة التي تلقتها السعودية بسبب الفخ السوري. وهنا أريد أن أوضح مسألة مهمة، «حزب الله» أذكى من أن يتبنى مشروع التقسيم، وسبق له أن ربح ورقة مهمة بعد تحالفه مع ميشال عون الذي وفر له سلاحاً سياسياً استراتيجياً، وتغطية مسيحية لإمرار مشروعه الإيراني. ويجب الاعتراف بوجود ازدواجية على المستوى الاستراتيجي والسياسي بين «14 مارس» و «8 مارس»، وهذا ما يجعل لبنان عرضة للاضطرابات. نحن في قوى «14 مارس» لا نريد ربط البلاد بالمشروع الفارسي، في حين يعززون هم نفوذ إيران على البحر المتوسط تحت شعار محاربة قوى الاستكبار العالمي. وفي رأيي أن «حزب الله» قام بنوع من الانقلاب التدريجي، وهذا لا يعني أنه سيلجأ إلى انقلاب عسكري مباشر، لكنه ربح أوراقاً كثيرة منذ «اتفاق الدوحة»، واستعمل أدوات التعطيل وشل البلد، ولولا الغطاء الذي قدمه ميشال عون لما توافرت له كل هذه الفرص الذهبية. واعتقد أن كلام الفيصل يصب في خانة الحديث عن وجود دويلة داخل دولة، ولا يبشر بالتقسيم.

• ثمة حديث عن تجدد دورة العنف الأهلي في لبنان بغية التأسيس لـ «طائف» جديد يعيد خلط موازين القوى. ما ردك على ذلك؟

لا أستبعد ذلك. المشروع الذي يقوده «حزب الله» يتم بتوجيه سوري ـ إيراني، وانطلاقاً من التجارب التاريخية السابقة، لا يمكن أي طرف في المعادلة اللبنانية إلغاء الآخر، كل الطوائف راهنت على منطق الغلبة، و«حزب الله» إذا أراد الخروج بـ «طائف» جديد، فهو كمن يزرع الريح في العاصفة، ولن يحصد سوى الخيبة، ولا يمكن تغيير قواعد العيش المشترك المسيحي ـ الإسلامي مهما سجل الحزب من انتصارات سياسية لانه ممنوع على النموذج اللبناني أن يسقط. أعتقد أن «حزب الله» يلجأ إلى نوع من التمويه، ويمارس لعبة مزدوجة، وهذا لا يعني أنه سينقلب عسكرياً على النظام أو «الطائف»، ولكنه استطاع تثبيت نفوذه داخل الدولة في مراحل مختلفة.

• أشرت إلى أن «حزب الله» قام بنوع من الانقلاب التدريجي، ماذا تقصد وهل هو قادر على تكريس نفوذه من دون تكريس «طائف» جديد ترعاه دول إقليمية خارج الغطاء السعودي؟

هناك نوعان من الانقلاب، الأول عسكري، والثاني سياسي. بدءاً من العام 2004 الذي شهد محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، بدأ «حزب الله» بإعداد العدة الانقلابية، وتابع عبر محاولة إسقاط القرار 1559 والتصدي له بكل الوسائل المتاحة وفرض اميل لحود. وبعدها وصلنا إلى إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبعد اغتيال جبران تويني، لجأ النواب الشيعة إلى الاعتكاف، وإثر تحقيق الانقلاب التدريجي، انتقل إلى تعطيل مؤسسات الدولة بدعوى أنها غير شرعية، إلى أن اوصلنا الى أحداث السابع من مايو الدامية والخطيرة، ففرض علينا «اتفاق الدوحة»، وكرس الثلث المعطل، ولكن الخطر أن «حزب الله» استعمل خطاباً خطيراً في الانتخابات النيابية الأخيرة، حين قال ان هذه الانتخابات هي استفتاء على المقاومة، وما ان دخل الحكومة حتى واصل انقلابه، وهو اليوم يتابع تدرجه لإبطال مفاعيل المحكمة الدولية. الأهم أن الحزب أراد تكريس «اتفاق الدوحة» كدستور بديل من «الطائف» واستعمل أداة الثلث المعطل، وهذا الأمر يتناقض مع الدستور والميثاق الوطني. الدستور ينص على تمثيل الطوائف وعلى العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وأدوات التعطيل التي مارسها «حزب الله» حققت له مكتسبات سياسية، وهو يستعمل النائب ميشال عون لتحقيق أكبر قدر من الرهانات، ورغم ما حققه حتى اللحظة، ليس في إمكانه إلغاء المعادلة اللبنانية.

• هل وصل لبنان الى انسداد في أفق التسوية؟ وما مستقبل البلاد وسط الاصطفاف السياسي والطائفي الحاد؟

لا أؤمن بإنسداد أفق التسوية، وسيكون لبنان عرضة للمراوحة حتى لو تم تشكيل حكومة من لون واحد. ثمة موازين قوى متحركة، وكل مرحلة لا بد من قراءتها وفق البعد الزمني والمادي. نحن اليوم في حال من التجاذب بين نظريتين: مشروع الدولة الذي تتبناه قوى «14 مارس»، ومشروع يريد ربطنا بالنفوذ الإيراني مهما كلف الأمر. وفي رأيي أن مسار المحادثات بين إيران والدول الست في تركيا هو الذي سيحدد خيارات «حزب الله» المقبلة، وأكرر أن مطالبة قوى «8 مارس» بإلغاء المحكمة هي بمثابة غطاء لأهداف أكبر، وإذا استمر قادة المعارضة في تبني هذا الخيار، فإن لبنان مرشح لأن يكون غزة جديدة، وهنا أريد أن أسأل قوى «8 مارس»: هل أنتم قادرون على التعاطي مع المجتمع الدولي؟ المحكمة هي واحدة من أدوات المشروع الإقليمي الإيراني، و«حزب الله» يريد ربطنا بهذا النفوذ، وهو في خطابه الشعبوي يتوجه إلى الشارع العربي ولا يتوجه إلى عقول الانتليجنسيا، وهو يدرك جيداً نقاط القوة عنده ويعمل على تطبيقها، ولكن رغم ذلك لن يتدحرج نحو مشروع التقسيم، لأنه سيخسر الكثير.

حكومة وحدة وطنية

رأى الدكتور طلال عتريسي أن «حزب الله» ليس لديه أي نية للانقلاب على الدولة، معتبراً أن ما تروج له قوى «14 مارس» يتقاطع مع كلام دائر في بعض العواصم الغربية. ولفت إلى أن البلاد أمام مرحلة حرجة، وأن النظام اللبناني عجز عن احتواء أزماته المتكررة، مؤكداً أن «حزب الله» لن ينجر إلى الفتنة رغم الخطاب المذهبي.

• ما السيناريو الذي تتوقعه مع الخيار الذي اتخذه وليد جنبلاط، وإلى أي مدى يمكن قوى المعارضة الاستمرار في الحكم بعد صدامها مع «الحريرية السياسية»؟

أظن أن البلاد مفتوحة على أكثر من سيناريو، الأول أن تكون هناك أزمة لجهة تأليف الحكومة، خصوصاً أن قوى «8 مارس» حصلت على أكثرية، ما يعني عدم مشاركة الحريري. ولكن هذه الحكومة إذا تشكلت فهي أمام تحديات مهمة، من ملف الأزمة الاجتماعية إلى الملف الاقتصادي إلى الملف الأهم، وهو كيفية التعاطي مع المحكمة الدولية، إلى ملف التعاون مع إرث «الحريرية السياسية»، وهذا تحد كبير بالنسبة إليها. السيناريو الثاني يتمثل في عودة الحريري، وهنا ندخل في معضلة جديدة، فهو لن يتمكن من الحكم إلاّ إذا وضع الحلول لملف شهود الزور وحدد موقفه من المحكمة. نحن في وضع سياسي معقد، والأزمة تتقاطع مع تحركات اقليمية شديدة التعقيد، سواء على مستوى الملف الإيراني أو الوضع في العراق والسودان. والسؤال: ماذا ستفعل الولايات المتحدة مع حكومة «8 مارس»، وهل ستتمسك الرياض بموقفها؟ مهما كلف الأمر «حزب الله» فلن ينجر إلى الفتنة رغم الخطاب المذهبي.

• قوى «14 مارس» تتحدث عن انقلاب يقوم به «حزب الله». ما رأيك في ذلك، وهل استطاع الحزب السيطرة على القرار السياسي في شكل تدريجي؟

هذا الكلام يتقاطع مع كلام دائر في بعض العواصم الغربية وحتى في إسرائيل، ولكن إذا تشكلت حكومة من قوى «8 مارس» فهذا الأمر لن يؤدي إلى محاولات انقلابية على المستوى السياسي والدستوري، و«حزب الله» لا يمكنه إلغاء القوى الاخرى، والملاحظ أن نهج «التيار الوطني الحر» حيال الحريرية السياسية أكثر قسوة من «حزب الله» نفسه. في رأيي أن قوى «14 مارس» تمارس حرباً إعلامية حين تقول ان «حزب الله» يريد الانقلاب على الدولة. هناك أمر واقع فرض اللجوء إلى هذه الخيارات، لذا تمّ الترويج داخلياً وخارجياً إلى أن الحزب سيسيطر على الدولة.

• اللبنانيون اليوم يخافون فتنة مذهبية قد تؤدي لاحقاً الى قلب موازين القوى الداخلية. إلى أي مدى يمكن الرهان على عنف جديد قد يؤدي الى إبطال «الطائف» والتأسيس لدستور جديد؟

استبعد في المرحلة الراهنة أن يتم البحث عن دستور جديد. الحكومة إذا تشكلت من قوى «8 مارس» ستدخل حقل ألغام، والتأسيس لأي دستور يحتاج إلى اجماع كل الأطراف عليه، عدا عن أن المعارضة ليس لها أي مصلحة في وقوع دورة عنف جديدة. «حزب الله» منذ العام 2005 كان في موقع الدفاع عن النفس، ولم يكن لديه مشكلة مع «الحريرية السياسية». وبعد عدوان 2006 طالب بحكومة وحدة وطنية، وفي هذه المرحلة لم يتجه نحو التعطيل بل تعاطى مع الحكومة وفقاً لمنطق الشراكة، إلى أن وقعت أحداث السابع من مايو التي قصمت ظهر البعير وأدخلت البلاد في وضع جديد، وأوصلت الى «اتفاق الدوحة» الذي منح المعارضة الثلث المعطل. «حزب الله» اليوم في وضع معقد جداً، فهو من جهة يريد حماية نفسه، ومن جهة أخرى لا يريد خسارة صورته أمام الرأي العام لا سيما الرأي العام السني في بيروت.

• هل ترى ان «الطائف» اليوم قادر على احتواء الأزمات التي يمر بها لبنان؟

هذا السؤال مهم جداًَ، وفي رأيي أن النظام اللبناني يولد الأزمات، وهذه الحال كانت قبل «الطائف» واستمرت بعده، ولبنان على مفترق طرق وهو عرضة لكل الزلازل الإقليمية بسبب نظامه، وضعف منظومته الأمنية والوطنية. بعد مرور عشرين عاماً على «اتفاق الطائف»، وقعت تحولات نوعية في لبنان. كثيرون يطرحون مسألة إعادة النظر في «الطائف»، وخصوصاً النخبة المثقفة، ولا أريد تحميل «اتفاق الطائف» كل أزماتنا، ولكن ثمة اخطاء ارتكبت في تفسير الدستور وتطبيقه، فأين نحن من مسألة إلغاء الطائفية السياسية؟ لا بد من البحث في بعض التعديلات كي تتماشى مع الوضع الجديد، تحديداً لأن «الطائف» لم يبحث في كل تفاصيل إدارة البلاد ما أدى إلى فشل في التطبيق من جهة وإلى خوف مشترك عند جميع الطوائف من جهة أخرى.

الكاتب: 
ريتا فرج
المصدر: 
التاريخ: 
الثلاثاء, فبراير 1, 2011
ملخص: 
لعل السؤال الأهم في جملة التكهنات المطروحة: أين «اتفاق الطائف»، وهل إيقاظ الفتنة المذهبية هذه المرة قد يفضي الى دستور جديد؟ الطائف الذي أخرج لبنان من أتون الحرب وكرس اللاءات الثلاث في مقدمته، لا للتوطين، لا للتقسيم، لا لأي شرعية تناقض العيش المشترك