"لبنان الكبير" على مشارف مئويته الأولى... إلى أين؟ (2/3)
حرب لبنان: نعي الميثاق – الاجتياح الإسرائيلي 1982
ليس صحيحًا أنَّ اندلاع الحرب العام 1975 كان بسبب الشكوى الإسلامية الدائمة من الغبن والحرمان الموجودين في الأطراف الإسلامية، أو استئثار المسيحيين بالسلطة والمناصب. فالطبقة السياسية الحاكمة من الطرفين الطائفيين، كانت لها مصالح مشتركة وتحالفات فوق الطائفية، ولا تريد أن تفرّط فيها في نزاع داخلي. من هنا، فالصحيح إنّ الحرب اندلعت حول دور لبنان في الصراع العربي - الإسرائيلي، ورغبة المسلمين المنشدّين إلى عروبتهم بأنْ يضطلع لبنان بدوره العروبي إلى جانب المقاومة الفلسطينية، فيما خشي المسيحيون على إنجازاتهم وأنْ يفقد لبنان دوره الخدماتي المميّز في الشرق الأوسط.
مطلع الحرب، نعت «الميثاق الوطني» قيادات إسلامية عُرفت بالاعتدال (10)، وكانت أعين المسلمين على رئاسة الجمهورية اللبنتانية (إعلان عدنان الحكيم ةرشيد كرامي)، فيما بدأت قيادات مسيحية تدعو إلى إعادة النظر بتجربة «لبنان الكبير»، وجرى تخيير المسلمين بين فدرلة لبنان أو تقسيمه، أي الإطاحة بـ «لبنان الكبير» (البستاني، مواقف لبنانية، 2، 8؛ نجم، سمير جعجع، 25). وعملت «القوات اللبنانية» على إقامة كانتون مسيحي في حيّزها الجغرافي. وعلى هذا الأساس، جرت عسكرة المسيحيين لحماية انجازاتهم التاريخية أو الانفصال عن «لبنان الكبير» ضمن حيّز طائفي يشبه «لبنان الصغير». لكن رئيس الجمهورية المغدور بشير الجميّل وخليفته شقيقه أمين و»الجبهة اللبنانية» راهنوا على «لبنان كبير» بدعم من إسرائيل بالنسبة إلى بشير والجبهة. فتمكنت تلك الدولة من خلط الأوراق باجتياحها لبنان العام 1982، وإعادة تسليم الموارنة دفّة الحُكم. لكن وصول الاجتياح إلى قلب بيروت العاصمة لأول مرّة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، جعل مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة في لبنان ينحدر بشدّة إلى 10 نقاط، وسط استمرار دورات العنف بين الميليشيات واستباحة موارد الدولة ومرافقها، وترهيب المواطنين وتهجيرهم والقتل على الهوية...
الطائفية المجتمعية:
تيارات راديكالية متقابلة
إنَّ حنين بعض المسلمين وتنظيمات إسلامية راديكالية إلى رؤية لبنان دولة إسلامية، على الرغم من مرور عقود على إنشائه، أخاف المسيحيين. فبعد ثلاث سنوات من نهاية الحرب الأهلية، قال الأستاذ في مدارس جمعية المقاصد الإسلامية في بيروت الدكتور عمر فرّوخ للباحث والأكاديمي الألماني تيودور هانف: «عندما يعتبر المسيحيون أنفسهم عربًأ ويسلكون كعربٍ، عندئذ يتساوون معنا (المسلمين). ولكن ينبغي عليهم أنْ يتصرّفوا بالمعنى الديمقراطي، كأقلية... في السياسة تحكم الأكثرية» (هانف 451)، أي أنْ يحكم المسلمون، كأكثرية، المسيحيين كما في أي بلد عربي؛ فيزول عندئذ الهدف من إنشاء لبنان مسيحي، وفق الرؤية المارونية، ليكون عامل توازن مع سورية الإسلامية.
تلا كلام فروخ تصريح آخر خطير، بُعيد اندلاع حرب لبنان، لحسين القوتلي، المدير العام لدار الفتوى، حول أحقيّة الأكثرية الإسلامية في حكم لبنان، معتبرًا أنّ «الصيغة اللبنانية» هي «مسيحية وصناعة أجنبية، لأنها أبدلت حُكم الإسلامِ بحُكم المسيحية المارونية» (سنّو، حرب لبنان، 1، ص 597). وقد نُظر إلى كلام قوتلي كإنذار للمسيحيين بتحويلهم إلى «أهل ذمة»، واستُغّل بذكاء لتغذية العصبية ضدَّ كلّ ما هو إسلامي، وبالتالي تخويف عامّة المسيحيين وجعلهم ينخرطون في مشاريع قياداتهم لتقسيم لبنان أو فدرلته، على الرغم من عدم وجود مشروع حقيقي، في حينه، لإقامة حُكمٍ أو كيانٍ إسلامي.
وقامت، كذلك، تنظيمات أصولية تدعو إلى أسلمة لبنان، سياسة ومجتمعًا، (حزب التحرير الإسلامي منذ الخمسينيات، وحركة التوحيد الإسلامي وحزب الله خلال الحرب). وفي الجانب الآخر، كانت كراسات «القضية اللبنانية» والتنظيمات الراديكالية والميليشيات المسيحية، كالتنظيم وحرّاس الأرز والكتائب اللبنانية والقوات اللبنانية، تعلن عن أَنّ لبنان لأصحابه المسيحيين، وتأخذ مواقف التعميم والكراهية ضدَّ المسلمين ودينهم، وترفض التعايش معهم، حتى أنَّ بعضها كان ينزع عنهم لبنانيتهم ويعتبرهم «غرباء»، وأنّ موطنهم هو الحجاز، ويرى وجوب انتهاء الحرب بـ «خائن مغلوب» و «وطني منتصر». من هنا، واصل مؤشر الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي هبوطه إلى 20 نقطة.
اتفاق الطائف 1989: سلم أهلي ... وعروبة سورية زائفة؟!
خلال العامين 1982 و1985، جرى إجلاء المقاومة الفلسطينية عن بيروت وشمال لبنان، فيما فشل «اتفاق 17 أيار» 1983 للسلام مع إسرائيل، ومشروع «الاتفاق الثلاثي» أواخر العام 1985 الذي رعته سورية بين ميليشيات الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل والقوات اللبنانية – جناح إيلي حبيقة، لجعل لبنان أكثر خضوعًا لها تعاهديًّا، فيما تحوّل الصراع العسكري لبنانيًّا – لبنانيًّا، أو بين ميليشيات الصف الواحد، يغذيه النظام السوري.
وبعد مرور سبعة عقود من ولادة «لبنان الكبير»، وُضعت تسوية عربية - دولية العام 1989، لضخّ الحياة في جسده المنهك، بعدما فقد كلَّ مقوّماته المؤسّساتية والاقتصادية والخدماتية وتماسكه السياسي، حتى دوره الشرق أوسطي الفريد. صحيح إنّ «اتفاق الطائف» أعطى لبنان الفرصة للإنطلاق من جديد (70 نقطة)، إلا أنه لم يضع البلاد على سكة سلم أهلي دائم ومستتبّ، بسبب تسليمه من قبل العرب والمجتمع الدولي إلى سورية التي عملت على الإمساك به بقوّة، عبر زيادة الشرخ الطائفي بين أبنائه، وتقاسمت النفوذ فيه سرًا مع إسرائيل = اتفاق الخطّ الأحمر بين الأعوام 1976 و2000 (سنّو، حرب لبنان، مج 1، 206-210)، كما دخول الميليشيات إلى مؤسّسات الدولة بفكرها الفئوي والطائفي والمذهبي ومصالحها الخاصّة وارتباطاتها الخارجية. فتراجع بذلك مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة إلى 30 نقطة، كما يبدو في الرسم البياني.
إنّ جعل لبنان عربي الهوية والانتماء، وفق الطائف، تحت الإشراف السوري، لم يُتحْ للمسيحيين اختبار عروبتهم «الجديدة» المفروضة عليهم في النصوص، في ظلّ عروبة سورية زائفة ومعاهدة أخوّة نفعية وانتهازية. وقد استُغل بند إلغاء الطائفية السياسية في الاتفاق لترهيب المسيحيين وترويضِهم وجعلهم أكثر خضوعًا للأكثرية الإسلامية، أي للإحتلال السوري (11).
مقاومتان لبنانيتان: مسيحية ضدّ الإحتلال السوري وشيعية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي - التمديد للحود
إنَّ صمت الطائفة السنيّة على النظام السوري وأفعاله، يعود إلى تخويفها من استعادة المسيحيين مركزهم المهيمن السابق قبل الحرب في حال خرج العسكر السوري من لبنان؛ فتأخرت مواجهتها للسوري الى العام 2005، تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وفي الوقت نفسه، تحالف شيعة حزب الله وحركة أمل، كلّ على حدة، مع النظام السوري. فكان ذلك سببًا رئيسيًّا للتباعد بين المسيحيين والمسلمين، حين أبدت بكركي وقرنة شهوان والتيار الوطني الحرّ مقاومة عنيدة للاحتلال السوري بعد تحرير جنوب لبنان العام 2000، بسبب عدم إعادة دمشق تموضع قواتها في البقاع اللبناني، وفق الطائف. كما بسبب قيام النظام السوري بين الأعوام 1992 و2005، بابتداع قوانين انتخابية مفبركة، ورئاسات وحكومات تبعية، ومناصفات وهمية، فضلًا عن انتهاكات بالجملة للدستور، والسيطرة على سياسة لبنان الخارجية، ومصّ اقتصاده، كما نفي قياداتٍ لبنانية، وقيامه بإفراز قوى سياسية ووزارية وبرلمانية لبنانية جديدة لا تعمل على تطبيق «اتفاق الطائف» بروح وطنية - هذه المقاومة المسيحية هي التي أمّنت، برأينا، صمود «لبنان الكبير» وعدم تحويله إلى محمية سورية. وهذه المقاومة هي التي لحق بها المسلمون بين الأعوام 2004 و2005.
وفي المقلب الآخر، تمكنت المقاومة الإسلامية لحزب الله، على الرغم من اجتياحين إسرائيليين للبنان خلال العامين 1993 و1996، من تحرير معظم الجنوب العام 2000، وإنْ بكلفة بشرية واقتصادية عالية. وكانت هذه المرّة الأولى التي تُخلي إسرائيل فيها أرضًا عربية عنوة بفعل مقاومة شعبية. فأضافت المقاومتان رصيدًا إيجابيًا لمؤشر «لبنان الكبير»؛ فارتفع إلى 60 نقطة.
لكن هذا الصمود، سرعان ما انتكس بتمديد بشار الأسد ولاية الرئيس إميل لحود عنوةً العام 2004، من خلال إجبار غالبية النواب اللبنانيين على تعديل الدستور، باستثناء 27 بطلًا، وسط سخط عربي ودولي على دمشق. وكان موقف الحريري من النظام السوري بدأ يتغيّر عقب صدور «قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان» عن الكونغرس الأميركي أواخر العام 2003. وكان سبقه موقف وليد جنبلاط العام 2000، بانتقاد الوجود العسكري السوري المخابراتي. فردّ نظام الأسد – لحود بمضايقة الحريري وإبعاده عن رئاسة الحكومة خريف 2004، وإقفال أبواب قصر المهاجرين أمام الزعيم الدرزي. لكن التمديد واغتيال رفيق الحريري في 14 شباط العام التالي، أدّيا إلى إخراج السوري بإذلال من لبنان في نيسان 2005.
تداعيات اغتيال الحريري: لبنان من دون عسكر سوري... صورة لتفجير الحريري
إنَّ اغتيال رفيق الحريري أدخل لبنان في نفق مظلم. وعلى الرغم من التعاطف العربي والدولي مع «ثورة الأرز»، وارتفاع مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة إلى 80 نقطة، وتشكيل ذلك حافزًا أمام اللبنانيين لاستعادة لبنان، إلا الانقسام السياسي السريع بين كتلتي 8 آذار و14 آذار، بأهداف ومصالح وعلاقات خارجية متباينة، لكلٍّ منهما، عطّل هذا التحوّل. فتمكن حزب الله، بسلاحه، من ملء الفراغ السوري، مدعومًا من إيران وبالتالي إضعاف كتلة 14 آذار تدريجيًا، فيما انفتحت البلاد على الإرهاب (فتح الإسلام العام 2007، وبعدها، منذ الثورة السورية على داعش وجبهة النصرة، في الداخل وعلى الحدود الشرقية) الآتي عبر سورية، ما أدخل «لبنانَ الكبير» في وضعٍ خطير؛ فهبط المؤشّر سريعًا إلى 40 نقطة. وقد حصل تناطح أيديولوجي وحزبي وطائفي ومذهبي إلى درجة تدمير فكرة الدولة ومصادرة قرارها وشلّ خدماتها، فيما استشرى الفساد، وأضحى الاقتصاد ومالية الدولة على شفير الهاوية.