الفراغ يهدّد بإطاحة الطائف
مع كل مفصل حقيقي، يعود الحديث مجدداً الى اتفاق الطائف. اليوم، مع ارتفاع منسوب الخوف من الفراغ النيابي وملحقاته، يطرح مصير الاتفاق ومعه مستقبل المجموعات اللبنانية، ويترافق الغموض المحيط بالمعارك الدائرة في سوريا مع محاولة تعويم مهمة الموفد الدولي الاخضر الابراهيمي، او محاولة عقد حوار مباشر بين اطراف النزاع في موسكو. وفيما تبدو صورة الازمة السورية غير واضحة، يتزايد الخوف من تفجير ضخم يسبق مرحلة ذهاب الجميع الى المفاوضات، التي تجبر اطراف النزاع المحليين والاقليميين والدوليين على وضع ملفات سوريا كلها على الطاولة: مستقبل سوريا ومصير مؤسساتها، العسكرية خصوصاً، ووحدتها.
وعلى ايقاع التطور السوري، وما شهدناه اخيرا من احداث معبّرة في دلالاتها، يسير لبنان من مأزق قانون الانتخاب الى مأزق اجراء الانتخابات في حد ذاتها. ويتأكد يوما بعد آخر، ان النقاشات العبثية التي بدأت منذ اشهر حول المشروع الارثوذكسي، ثم المختلط والعودة الى قانون 1960 مجدداً، عبارة عن تقطيع للوقت لتبيان منحى الحرب السورية. والنقاش الحالي العقيم، وفق التموضع السياسي لكل الاطراف بحسب مصالحهم الخاصة، سيؤدي، بعد العجز عن الاتفاق على قانون جديد، الى تطورات خطيرة بالنسبة الى مستقبل النظام السياسي، في حال تأكدت المخاوف من الوصول الى المواعيد النهائية للاستحقاق من دون جلاء الوضع في سوريا. ما يعني ان لبنان سيشهد فراغاً نيابياً، في تجربة يتعرض لها للمرة الاولى. فلا قانون انتخابات ولا اجراء انتخابات ولا تمديد او تجديد، بحسب ما ترفض بعض القوى السياسية ذلك في شكل قاطع، في موازاة الدخول مجددا في سجال حول الحكومة وبقائها وشرعيتها. وبذلك يصبح البلد على المحك، لانه سيكون، لاول مرة، امام هزة نوعية تعرض اتفاق الطائف للاهتزاز وقد تطيحه. فكيف يمكن ان تكون عليه حال الافرقاء اللبنانيين؟
اولاً، يتشبث المسيحيون العاقلون بالطائف ويتمسّكون باستمراريته، لانهم يعتبرون انه، في المدى الراهن والمنظور، لا يمكن تحت اي ظروف ان يؤدي الذهاب الى عقد اجتماعي جديد او اتفاق آخر الى تحسين الشروط التي وضعت لهم في الطائف. في وقت لا يزال فيه البعض الآخر منهم خاضعاً لمبدأ المكاسب الانية وتسجيل النقاط على بعضهم البعض والاخرين.
ثانياً، تراءى للشيعة، في مرحلة من المراحل، امكان تعديل الطائف وان لهم مصلحة في طرح المثالثة. ورغم ان الكلام تراجع عن طرح المثالثة كفكرة وكمشروع عملي، لكن لا يبدو ان الشيعة متحمسون كثيرا لاستمرار العمل بالطائف.
ثالثاً، يبدو السنة الطرف الاكثر استفادة من الطائف وهم، رغم تكرار كلامهم عن التمسك بهذا الاتفاق وتنفيذه، الا انهم قد يكونون ذاهبين بين انتظار انتهاء الازمة السورية والمأزق الداخلي الانتخابي، الى موازنة بين استمرار الطائف والدفاع عنه او القبول بالذهاب الى مناقشة اتفاق آخر يضع سلاح حزب الله على طاولة المفاوضات.
رابعاً، يشكّل النائب وليد جنبلاط حالة دفاع مستمرة عن الطائف. لكن رغم انشغاله بتوازن علاقته مع الرئيس نبيه بري وكتلة المستقبل فإن قلبه وفكره وعقله مع دروز سوريا، وتشكل الازمة السورية العنوان الابرز لكل ملفاته.
من هنا، ولأن الاوضاع اللبنانية متجهة اكثر نحو فراغ واضح، نيابي يضاف اليه فراغ في المؤسسات الامنية، يبدو لبنان متجهاً الى ان يصبح امام حالة لا تشبه بشيء فترة الفراغ الرئاسي عام 2007، بل تفوقها خطورة. اذ سيخرج من ازمة الحكم ليكون امام ازمة وطن معلقة على نتائج حروب الآخرين.
ولأن الصورة ضبابية وقاتمة الى هذا الحد، لا يظهر ان المخرج الوحيد سوى «ابتكار قانون انتخابي» بعيد عن حسابات الربح والخسارة الضيّق الافق، ويؤمن الحد الادنى من التوافق، بما يضمن اقراره واقرار التعديل التقني للتمديد للمجلس وملء الفراغات الامنية، والعمل على عودة الاستقرار بما يوقف التوتر المتنقل من منطقة الى اخرى. وهذا الامر يتطلب بعض التواضع من زعماء القوى السياسية، ويتطلب تعديل دفتر الشروط لكافة الافرقاء اذا كانوا يريدون انقاذ البلد.
اذ حتى الآن، ومع توقف طاولة الحوار، لا يبدو الحوار الوسيلة الانجح، ولو بالواسطة، للخروج من مأزق الفراغ. ولا يظهر رئيس الجمهورية المسافر في جولاته الاغترابية، انه قادر على تأدية هذا الدور، بعدما اصبح يشكل بالنسبة الى البعض فريقاً سياسياً، ورئيس الحكومة منشغل بمشكلته الداخلية في قلب الحكومة ومع أخصامه في الطائفة السنية. اما تباينات رئيس المجلس النيابي مع حلفائه فأكبر بكثير من تلك التي يفترض ان تكون مع من يجب ان يكونوا في المبدأ اخصامه. وواضح ان مقاربات بكركي ايضا لكل هذه الملفات لم تتخط الاطار الاعلامي. وثمة استبعاد للتدخل الخارجي في الازمة اللبنانية، بخلاف ما كان يحدث في مراحل سابقة، وجل ما اسفرت عنه النصائح الغربية الاخيرة، لا يتعدى دعم اجراء الانتخابات في موعدها وحفظ الاستقرار.
وهنا أهمية تفادي الفراغ النيابي وملحقاته، لأنه حتى اللحظة، لا يزال الوضع الامني قنبلة صوتية لا اكثر، لكن الازمة السياسية الحالية يمكن ان تتحول مواجهات عاصفة، وبؤرها شبه جاهزة، ان في بعض احياء بيروت او مناطق الشمال والجنوب والبقاع. ولا يمكن سلوك طريق الانقاذ الا بقانون انتخابي، يخرج السياق الحالي للنقاش عن المراوحة، بل السير على حافة الهاوية نحو فراغ مجهول يسبق احتمال تعديل الطائف.