طرح تعديل الدستور: حركة محلية ـ إقليمية متكاملة!
لم ينس اللبنانيون، الذين لم يفقدوا ذاكرتهم بعد، أن مطلب تعديل الدستور لم يطرح في الغالب الا عندما كانت تبرز لدى البعض مصلحة شخصية، أو آنية، في طرحه: انتخابات رئاسة الجمهورية، تجديداً أو تمديداً. حدث ذلك أربع مرات على الأقل في تاريخ لبنان الاستقلالي، انتهت واحدة منها بتجديد لم يعش الا لفترة قصيرة (بشارة الخوري) واثنتان بالتمديد لفترة ثلاثة أعوام (الياس الهراوي واميل لحود) بينما أدت الرابعة، من دون تجاهل عوامل أخرى اقليمية ودولية، الى ثورة شعبية (كميل شمعون) كانت قد سبقتها انتخابات نيابية أسقط فيها معظم قادة البلاد.
فما الذي يدعو الى طرح تعديل اتفاق الطائف، الذي هو الدستور اللبناني، الآن وفي هذه الفترة بالذات؟!. وما هو سبب انطلاق شرارة الكلام في هذا الاتجاه من دمشق تحديدا، وعلى لسان العماد ميشال عون الذي لم ينس اللبنانيون كذلك أنه عمل بكل قواه لمنع الاتفاق.. عندما منع النواب من السفر الى الطائف، ثم حل مجلس النواب رداً على فشل المنع، ثم أخيراً حال دون عودة النواب الى بيوتهم بعد توصلهم، برعاية عربية ودولية، الى هذا الاتفاق ؟!.
غني عن القول إن عون، الذي تمرد على الاتفاق حتى بعد اقراره من مجلس النواب وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة الطائف الأولى وبقي "متمترساً" في القصر الجمهوري الى أن أخرج منه بالقوة الى منفاه في باريس، لم يحاول الا بعد عودته الى بيروت العام 2005 أن "يتراجع" عن موقفه الرافض للاتفاق. وما قاله يومها، وكرره مراراً بعد ذلك، أنه اعترض فقط على الشق المتعلق بانسحاب القوات السورية من لبنان و"مرحلة" هذا الانسحاب على عدة سنوات.
وغني عن القول كذلك إنه، بدعم علني من حلفائه في المعارضة (وسري من حلفاء المعارضة الاقليميين)، سعى طيلة الفترة الماضية للعودة ـ تحت مظلة الاتفاق المذكور ـ الى القصر الجمهوري اياه … وإنه، حتى بعد غزوة 7 أيار التي تبرع بوصفها بـ "الانتصار النهائي" للمعارضة، لم يوافق لا على بيان فندق فينيسيا ولا على اتفاق الدوحة الا في اللحظة الأخيرة، وبعد أن أبلغه حلفاؤه بأنهم لم يعودوا قادرين على المماطلة وسيكونون ملزمين بالسير وحدهم في الاتفاق اذا لم يمش معهم.
كل ذلك من الماضي في كل حال، لكن السؤال الذي يطرح نفسه حالياً هو: لماذا العودة الآن، وبعد انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بالتوافق لبنانياً وعربياً ودولياً، الى نغمة تعديل الدستور؟!.
في سياق محاولة الاجابة عن السؤال، لا بد من التوقف عند الوقائع التالية:
أولاً ـ ان طرح التعديل من قبل عون، ومن دمشق بالذات، لا يمكن أن يكون مفصولاً عن الترحيب " فوق الرئاسي" ـ بحسب التوصيف السوري ـ الذي نظم له سواء في العاصمة السورية أو في المحافظات الأخرى.
هذا على المستوى الرسمي، أما عندما يتم ذلك في "موسم" انتخابات نيابية لبنانية مفصلية، ويكون المطلوب مداعبة الغرائز الطائفية عبر ادعاء ان هدف التعديل هو استعادة "الحقوق" المسلوبة من المسيحيين و"الصلاحيات" المغتصبة من رئاسة الجمهورية، يكون للحديث عن "زعيم مسيحيي الشرق قاطبة " وعن "ذهاب عون الى دمشق بطريركاً وعودته منها باباً " معنى أبعد من شكليات الترحيب السوري وحرفية المطالبة بتعديل الدستور.
ثانياً ـ ان اتفاق الطائف، بحسب أبسط توصيفاته، كان التسوية الوحيدة الممكنة يومها لانهاء الحرب التي ضربت لبنان على امتداد خمسة عشر عاماً من جهة ولإخراج البلد من جهة ثانية من "مأزق" احتلال رئيس الحكومة المؤقتة (عون، ما غيرو) موقع الرئاسة الأولى ومنعه بالقوة انتخاب رئيس للجمهورية … مع أن انتخاب الرئيس كان مهمته الأولى والوحيدة.
وليس من المبالغة القول إن طرح التعديل في هذه المرحلة، بحسب أبسط توصيفاته أيضا، انما يصب في قناة اعادة البلاد الى الحرب الأهلية، أو الى مناخ هذه الحرب في اقل تقدير. وهذه الحرب، أو حتى مجرد مناخها، لا بد أن تنعكس على الانتخابات النيابية لناحية احتمال تأجيلها كما يهدد البعض. كأنما في مطالبة عون بتعديل اتفاق الطائف، ومن دمشق تحديدا، معادلة تقول بصوت لا لبس فيه: نفوز في الانتخابات النيابية، فنعدل الطائف، أو لا انتخابات ولا من يحزنون! .
ثالثاً ـ ان ما يشبه "اشارة الانطلاق" للمطالبة بتعديل اتفاق الطائف قد صدرت فعلاً في الأيام الأخيرة، فانضم اليها الأمير طلال ارسلان علناً بانتظار أن ينضم اليها آخرون في 8 آذار في وقت لاحق … ان لم يكن للأسباب الموجبة ذاتها لدى عون في ما يتعلق بمخاطبة الغرائز في الشارع المسيحي، فللأهداف ذاتها في ما يتعلق باعادة البلاد مجددا الى مناخات الحرب الأهلية وانعكاسات ذلك على المستويات السياسية والأمنية والاجتماعية.
رابعاً ـ ان حملة عون على رئاسة الحكومة و" تيار المستقبل " من جهة وعلى المملكة العربية السعودية من جهة أخرى، ومطالبته بتعديل اتفاق الطائف بدعوى أنه أخذ من الطائفة المارونية وأعطى ما أخذه منها الى الطائفة السنية، ليسا سوى وجهين لعملة واحدة. وهما، بهذا المعنى، تلتقيان مباشرة مع الحلف السوري ـ الايراني على الصعيد الاقليمي كما مع تحالف المستفيدين من هذا الحلف على الصعيد اللبناني المحلي. أما الهدف البعيد فلا يقل، كما بات البعض يقول صراحة وان في شكل خجول حتى الآن، عن "تحالف اقليات" في مواجهة الأكثرية الاسلامية السنية في المنطقة وفي العالم.
وعملياً، فاذا كان بعض أطراف 8 آذار يقصر حملته على رئاسة الحكومة و"تيار المستقبل" من دون انتقاد مباشر للسعودية أو مصر، والبعض الآخر يوجه سهامه ضد جهة ما من دون الأخرى، والبعض الثالث يكتفي بالكلام المنمق هنا أو هناك، فلم يعد من مجال للشك خصوصاً بعد غزوة 7 أيار أن جميع هؤلاء يستخدمون حركة عون وخطابه السياسي للتعبير عن حقيقة وأهداف التحالف الاقليمي ـ المحلي اللبناني.
ليس الحديث عن تعديل اتفاق الطائف، ولا عن فوز المعارضة (الذي لا بد منه، كما نقل عن الرئيس السوري بشار الأسد) في الانتخابات النيابية المقبلة، ولا عن الكلام على أحداث بحجم اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولا عن التخوف من احتمال تأجيل هذه الانتخابات، من نوع الترف السياسي أو مجرد التحشيد الانتخابي فقط.
هو تجسيد لحركة محلية ـ اقليمية متكاملة الأدوات والأهداف، والتي على اللبنانيين أن يتوقعوا الكثير من تعبيراتها في المرحلة المقبلة.