"القوات" والعرب و"الطائف"

النوع: 

 

في 30 أيلول 1989 تم التوصل إلى "اتفاق الطائف" في المملكة العربية السعودية الذي شكل مخرجًا من الحرب في لبنان وصار دستورًا جديدًا للجمهورية. 62 نائبًا لبنانيًا من نواب مجلس 1972 شاركوا في الإجتماعات التي استمرت نحو شهر. الإتفاق الذي أريد له أن يكون حلاً للأزمة اللبنانية بات بعد 26 عامًا حلاً مقترحًا لعدد من الدول العربية التي تعصف بها الصراعات وظهر أن روح الطائف حية وأن المطلوب نقل التجربة إلى أماكن أخرى من سوريا إلى العراق واليمن حيث بات يُحكى عن طائف يمني وطائف عراقي وطائف سوري بينما يذهب البعض في لبنان في اتجاه الإنقلاب على "الطائف" الأساسي سعيًا إلى تغيير النظام.

لم يولد "الطائف" في الطائف. بل كان نتيجة مراجعات واقتراحات كثيرة ومفاوضات لتعديل الدستور شارك فيها على مدى أعوام الرئيس رفيق الحريري والرئيس حسين الحسيني والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير و"القوات اللبنانية" سعيًا لوضع حد للحرب. بينما كان النظام السوري يعارض التسوية من أجل إبقاء سيطرته على لبنان. ولذلك كان هذا السعي لهذا الإتفاق مرادفاً دائماً لمفهوم واحد وأكيد: استعادة السيادة اللبنانية.

ما تكشف عن علاقة الدول العربية بالنظام السوري بعد بداية الحرب السورية لم يكن جديدًا بل كان معروفاً في الكواليس السرية للسياسات الرسمية العربية وبخاصة الخليجية. كانت الدول الراعية للطائف في الخليج والجزائر والمغرب تدرك منذ البداية الخطورة التي يشكلها النظام السوري على النظام العربي. بدأت المشكلة العربية مع ذلك النظام منذ أُعلنت الجمهورية الإسلامية في طهران ووقف الرئيس السوري حافظ الأسد إلى جانب إيران ضد العرب كلهم وليس ضد نظام الرئيس العراقي صدام حسين وحده. ما لم يكن مفهومًا بشكل واضح في ذلك الوقت انفجر في شكل كامل منذ العام 2011. كان الأسد يدرك في قرارة نفسه أن العرب إذا نجحوا في إخراجه من لبنان فسوف ينقضون عليه في سوريا ولذلك قاتل من أجل إلغاء "الطائف" وكل ما يمكن أن ينجم عنه. وعندما لم ينجح انقلب عليه وجعله طائفا سوريا بدل أن يكون عربيًا ودوليًا.

التوجه الدولي والعربي من أجل استعادة السيادة اللبنانية وتحميل النظام السوري مسؤولية الحرب واستمرارها في لبنان برز منذ البداية. لم يكن الطائف مجرد اتفاق بين النواب اللبنانيين وما كان ليكتمل حتى لو وافقت عليه "القوات اللبنانية" والبطريرك صفير. أكثر من ذلك كان بمثاية تنفيذ لإرادة دولية تمت ترجمتها عربيًا.

عندما ذهب وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إلى دمشق لإقناع الأسد بالإتفاق وبما جاء فيه حول انسحاب الجيش السوري من لبنان في غضون سنتين بعد التوصل إلى الإتفاق، أي في العام 1992، لم يكن يبلغه قرارًا عربيًا بذلك بل قرارًا دوليًا. فهم الأسد اللعبة وحجم القرار فقبل على أمل أن ينقلب لاحقاً على الإتفاق.

عندما انتخب النائب رينيه معوض في 5 تشرين الثاني 1989 رئيسًا للجمهورية كان ينتخب على أساس أنه رئيس الطائف الذي سيستعيد السيادة اللبنانية ولذلك اغتيل في 22 تشرين الثاني من العام نفسه ليأمر الرئيس الأسد وقتها بانتخاب النائب الياس الهراوي رئيسًا وليبدأ معه عهد الوصاية السورية على لبنان الذي نتج عنه محاولة تحطيم القوى التي سارت بالطائف وسهلت الوصول إليه وحل جميع الميليشيات باستثناء ميليشيا "حزب الله" الذي أعطي دورًا عسكريًا تنامى مع الوقت ليأخذ مكان الدولة اللبنانية والجيش اللبناني وليصبح منذ العام 2005 بديلاً عن الجيش السوري في لبنان ومنذ العام 2011 مدافعًا عن النظام السوري داخل سوريا. احتاج الأمر أكثر من عشرين عامًا ليفهم البعض ماذا جرى في العام 1989 ومن ثم في العام 1992 عندما عمل النظام السوري على تنفيذ الإنقلاب الكامل على الطائف من خلال تقديم موعد الإنتخابات النيابية وتعطيل موعد انسحاب جيشه من لبنان.

في العام 2004 صدر القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي وقضى مرة ثانية بسحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح "حزب الله" وكأنه كان قرارًا تنفيذيًا دوليًا لما نص عليه اتفاق الطائف. إذا كان اغتيال الرئيس معوض جاء نتيجة الطائف فإن اغتيال الرئيس رفيق الحريري جاء نتيجة القرار 1559. والسبب واحد: رفض النظام السوري وضع حد لاحتلاله لبنان ورفض "حزب الله" نزع سلاحه والإنضواء تحت سقف الدولة اللبنانية.

اغتيال معوض أو الحريري لم يكن اغتيالاً لشخص بل اغتيالاً لجمهورية. هذا الإغتيال مستمر من خلال منع انتخاب رئيس للجمهورية ومن خلال تمسك "حزب الله" بسلاحه وتمسك رئيس النظام السوري ببقائه حتى على مساحة ضيقة من الأرض السورية.

منذ العام 1989 كانت "القوات اللبنانية" في طليعة القوى المدافعة عن الطائف كممر إجباري للخروج من الحرب واستعادة السيادة اللبنانية. كان السفراء العرب يقولون في السر في المجلس الحربي أو في غدراس ما يقولونه اليوم علناً عن النظام السوري. وكانت "القوات" تدرك مدى أهمية المعركة من أجل الطائف. ولذلك رفضت أن تمشي في الطائف السوري وأن تخضع للترهيب وللترغيب. ومن هذا المنطلق كانت معركتها من أجل استعادة الجمهورية من خلال ترشح رئيسها سمير جعجع إلى الرئاسة. هذا الترشح يرمي في الدرجة الأولى لاستكمال استعادة السيادة وتأكيد انتفاء أي احتمال لإعادة عهد الوصاية السورية على لبنان، ونزع سلاح "حزب الله" وقيام الدولة القوية القادرة على حماية اللبنانيين كلهم على أساس المشاركة والشراكة التي كانت أساس روح اتفاق الطائف.

عندما انفتحت "القوات" على العالم العربي منذ العام 1985 كانت تدرك أهمية المدى الذي يجب أن يعيش فيه لبنان خارج دائرة سيطرة النظام السوري المباشرة عليه وعلى اللبنانيين من خلال الإتفاق الثلاثي الذي حاول هذا النظام فرضه بالقوة. وقد أفشلت "القوات" هذه المحاولة عندما أسقطت ذاك الإتفاق في العام 1986. وهي اليوم عندما تعيد تأكيد علاقاتها العربية لا تخرج عن المسار الذي سلكته في السابق.

ربما لم تكن "القوات" تعتبر أن الطائف هو الحل الأمثل في العام 1989 ولكنها بالتأكيد تعتبر اليوم أنه الحل الأفضل الذي لا بديل عنه. وأكثر من ذلك، تعتبر أن المطلوب اليوم رئيس بحجم الطائف وبحجم الروحية التي أوصلت رينيه معوض إلى رئاسة الجمهورية. وتدرك أن الطريق إلى هذه الرئاسة لا يمكن أن تمر عبر النظام السوري ولا عبر "حزب الله" والنظام الإيراني الذين قتلوا الطائف الأول في العام 1989 والطائف الثاني في العام 2004 ويحاولون اليوم قتل الطائف الثالث الذي يجب أن يولد من رحم الربيع العربي. وهذا الربيع العربي لا يمكن أن يقوم فعليًا إلا إذا انتهى عهد النظام السوري.

ولذلك عندما تفتح البوابات العربية أمام "القوات اللبنانية" والدكتور جعجع فهذا ليس إلا تسليمًا بأهمية دوره ودور "القوات اللبنانية" في هذه المرحلة وبأهمية العودة إلى روح الطائف والتأكيد أن لا مجال للإنقلاب عليه مجددًا. لقد استعادت "القوات" منذ العام 2006 حضورها العربي بعد خروج الدكتور سمير جعجع من الإعتقال. أولى العلاقات كانت مع جمهورية مصر العربية مع الرئيس حسني مبارك وهي مستمرة مع الرئيس عبد الفتاح السيسي. وفي الخليج باتت "القوات" الأكثر حضورًا من الإمارات إلى السعودية وقطر التي استقبلت كلها الدكتور جعجع في زيارات رسمية خاصة.

صحيح أن التحالف العربي منشغل في حرب اليمن وفي حرب سوريا وفي الدفاع عن المصالح العربية ولكن هذا التحالف الذي يتوسع لا يتوقف عند حدود معينة. وبعدما كان تحالفاً سياسيًا غير هجومي انكفأ أمام هجمة سوريا وإيران على الطائف وتحول ليصبح تحالفاً عسكريًا وسياسيًا مقاتلاً. ولذلك يعتبر أن عودة لبنان إلى الطائف الأساسي هو من ضمن استراتيجيته وأن روح الطائف لا بد أن تكون الحل الأمثل للأنظمة المتهالكة في عدد من الدول العربية وأن أي انقلاب جديد على الطائف في لبنان لا يمكن أن يتم ولن يتم.

الكاتب: 
نجم الهاشم
التاريخ: 
الثلاثاء, أكتوبر 6, 2015
ملخص: 
لم يولد "الطائف" في الطائف. بل كان نتيجة مراجعات واقتراحات كثيرة ومفاوضات لتعديل الدستور شارك فيها على مدى أعوام الرئيس رفيق الحريري والرئيس حسين الحسيني والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير و"القوات اللبنانية" سعيًا لوضع حد للحرب. بينما كان النظام السوري يعار