الرئاسة مستهدفة قبل الطائف وبعده
الهدف ما زال هو هو: رئاسة الجمهورية. قبل اتفاق الطائف وفي عزّ الجمهورية الأولى كانت الرئاسة الأولى في مرمى الاستهداف بحجّة صلاحياتها الاستثنائية، وبعد انتزاع هذه الصلاحيات بقيت في مرمى الاستهداف نفسه. لماذا؟
أدّت رئاسة الجمهورية في الجمهورية الأولى دور صمّام الأمان بالدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله وقراره الحر، الأمر الذي أوصلَ النظام السوري في ثمانينات القرن الماضي ومطلع التسعينات إلى قناعة أنّ المدخل لوضع اليد على لبنان كان بوَضع اليد على رئاسة الجمهورية. وعلى هذا الأساس تمّ اغتيال الرئيس رينيه معوض وخطف موقع الرئاسة الأولى التي يتمظهَر عبرها الدور المسيحي.
فضرب الدور المسيحي كان يتطلّب بالدرجة الأولى فصل رئاسة الجمهورية عن الوجدان المسيحي، لا بل جعلها في مواجهة الشارع المسيحي وفي الموقع النقيض له، وذلك لأنه في ظلّ الواقع الطائفي لا يمكن لأيّ جماعة أن تؤدي دورها على أكمل وجه سوى من خلال المؤسسات والمواقع المخصصة لها رئاسياً ووزارياً ونيابياً. وبالتالي، المعبر لاستهداف أيّ جماعة يكون عبر إقصاء قياداتها عن مواقع النفوذ داخل الدولة. وبالتالي، الهدف الأساس من استهداف الجماعة المسيحية هو دورها الطليعي في التمسّك بلبنان ودوره.
وما ينطبق على المسيحيين ينسحب على سائر الطوائف، فالرئيس رفيق الحريري لم يبرز دوره الفعلي وحجمه الاستثنائي وفعاليته الكبرى إلّا من خلال رئاسة الحكومة، حيث تمكّن من وَضع علاقاته وإمكاناته في خدمة لبنان، الأمر الذي كان متعذّراً قبل وصوله إلى الرئاسة الثالثة على رغم ما يختزن من طاقات ومؤهلات. وبالتالي، فإنّ نجاحه وطنياً وإعادته الاعتبار لدور الجماعة السنية كان مرتبطاً بموقع رئاسة الحكومة. وعندما شعر نظام الممانعة أنّ الحريري بات يشكل خطراً على وجوده في لبنان من خلال شبكة علاقاته الدولية والعربية وقدرته على الوصل والربط مع الطوائف الأخرى، قام باغتياله. لكنّ ما لم يكن يتصوّره هذا النظام، هو تحوّل الطائفة السنية إلى رافعة للمشروع السيادي في لبنان، الأمر الذي جعلها في مرمى الاستهداف على غرار الجماعة المسيحية.
وتمسّك الثنائية الحزبية الشيعية بموقع الرئاسة الثانية وسائر المواقع الإدارية ليس عن عبث، على رغم ما تملكه هذه الثنائية من سلاح وقوة بفعل الأمر الواقع، ولكنها لم تكتف بقوّتها الذاتية بل سَعت إلى حجز مواقعها في الدولة، ومن ثم التمدد على سائر المواقع إدراكاً منها أنّ دورها الفعلي لا يتمظهر عبر السلاح وما يسمّى بالمقاومة، إنما عبر المؤسسات القادرة وحدها على حماية مشروعها وسلاحها. ومن هنا حاولت مع إسقاط الحكومة الحريرية إعادة السراي إلى الوضع الذي كانت عليه قبل العام 2005. ولا شك أنه كان في حساباتها إعادة الرئاسة الأولى إلى هذا الزمن أيضاً بغية إعادة استنساخ الوصاية السورية بشكل كامل، ولكن هذه المرة بوَجه إيراني كامل.
وإذا كانت الثورة السورية قد أفشلت كلّ هذا المخطط مع فقدان «حزب الله» نقطة ارتكاز مهمة تتمثّل بالنظام السوري، إلّا أنّ التطورات المتصلة بارتفاع منسوب التعبئة السنية وانزلاق البلاد تدريجياً نحو فتنة سنية-شيعية، دفعَ الحزب إلى فكّ أسر الرئاسة الثالثة التي تحوّلت بالنسبة إليه من الموقع الذي يريد السيطرة عليه، إلى الموقع الذي يريد اللجوء إليه والاستعانة به لمواجهة التطرف السني.
ولكن، في كل هذا المشهد، الطرف الوحيد الذي ما زال يدفع الثمن هو الجماعة المسيحية الممنوع عليها استعادة دورها التاريخي في الدفاع عن معنى لبنان وتحمّل مسؤولياتها الوطنية، وواهِم كلّ من يعتقد أن المسيحيين باستطاعتهم تأدية واجبهم الوطني من خارج المؤسسات بدءاً من رئاسة الجمهورية التي ما زال الطرف الممانع يتعاطى مع استحقاقها على قاعدة مثلّثة الأضلاع: الفراغ، إيصال رئيس من صفوفه والذهاب نحو مرشّح وسطي مضمون، بمعنى ألّا يكرر دور الرئيس ميشال سليمان بالانحياز إلى الدولة والدستور.
فالمطروح اليوم يتعدى الانتخابات الرئاسية كاستحقاق ديموقراطي إلى استحقاق مصيري يرتبط بوجود المسيحيين ودورهم، لأنّ مواصلة تغييبهم سيدفعهم إمّا إلى الهجرة أو العودة إلى مشاريع سياسية تعيد الاعتبار لوجودهم ودورهم. وإذا كان السنّة انتزعوا الرئاسة الثالثة، وهذا حقّهم، نتيجة خشية «حزب الله» من انفجار الاحتقان السنّي، فعلى سائر الطوائف أن تعيد حساباتها قبل انفجار الاحتقان المسيحي.