إتفاق الطائف والمسار المأزوم للإقتصاد اللبناني

النوع: 

 يصعب فهم مسار تطور الإقتصاد اللبناني في حقبة ما بعد إتفاق الطائف، من دون الإضاءة ولو بصورة مختصرة على الإطار السياسي الذي اندرج فيه هذا التطور. فقد اختزل النسق الفعلي لتطبيق هذا الإتفاق مؤسسات السلطة السياسية عموماً بحفنة من زعماء الطوائف، ممّن جرى تكريسهم عبر "الزواج الفجّ" بين قادة "قوى الأمر الواقع" ورأس المال الكبير، الذي نشأ غداة الحرب الأهلية والذي تمّ تحضيره وتوجيهه على أيدي جهات إقليمية ودولية مؤثّرة. وتحقّقت عملية إعادة إنتاج هذه الزعامات على مدى أكثر من عقدين، عبر قوانين إنتخابية طائفية استندت الى مبدأ التمثيل الأكثري وتقسيمات إدارية متغيرة وأحيانا مرتجلة، بخلاف ما وعد به "الطائف" من توجّه نحو اعتماد مبدأ التمثيل النسبي خارج القيد الطائفي (ولو على مراحل). ساهم هذا المسار عمليا في تعقيد، بل تفكيك، آليات الإنتقال "الطبيعي" للحكم في البلاد، وفي تكريس ممارسات غير دستورية وغير قانونية لجهة التجديد والتمديد المتكرر للسلطات العامة القائمة، بدءاً من رئاسة الجمهورية وانتهاء بمجلس النواب. تزامن هذا الاختزال مع اختزال من نوع آخر - يتعارض مع ما وصف بأنه "روح" إتفاق الطائف - أفضى عمليا الى نقل جزء كبير من صلاحيات رئيس الجمهورية الى رئاسة مجلس الوزراء، بدلا من نقلها بحسب ما نصّ عليه هذا الإتفاق الى مجلس الوزراء مجتمعاً.

تبعا لذلك، تعاظمت التجاذبات الطائفية داخل النظام السياسي وفي معظم مناحي الحياة العامة، ودفعت هذا النظام عملياً نحو أشكال مستترة من المثالثة المذهبية، خلافاً لما نصّ عليه إتفاق الطائف أصلاً لجهة وجوب التحرّر التدريجي من نظام التمثيل الطائفي وبخاصة تجاوز الثنائية الطائفية في التمثيل السياسي. وقد استمرت في هذه البيئة غير السوية، مظاهر التباين الملتبس والفجّ – وفي أحيان كثيرة المصطنع - في أشكال وعي الجماعات اللبنانية المختلفة وتمثّلها للبنى الطائفية في البلاد، وهي مظاهر تراوح بين نظرة تبدو في حدّها الأدنى شديدة الإختزال (الطائفة-الطبقة، الطوائف "المحرومة"، الطائفة الغالبة والأقليات الطائفية في المحيط العربي)، ونظرة تذهب في حدّها الأقصى في منحى "ثقافوي" و"إثنوي" لا يخلو من تطرف ومغالاة. المقلق أن هذا التباين بات في الفترة الأخيرة يتأثر ببحر الانقسامات الأشد عمقا وشمولا التي انتشرت في العالم العربي والاسلامي، والتي تجهد قوى إقليمية ودولية متنوعة لاستخدامها وتكريسها كأداة فعّالة في إعادة تقسيم هذا الجزء من العالم وتقاسمه على أسس جيو- سياسية مستجدة.

كي تكتمل دورة الإنقلاب على الطائف، اتجهت الزعامات الطائفية والطبقية الملتئمة في ذلك "الزواج الفجّ"، نحو التعاطي مع عموم الناس بصفتهم رعايا أو "جماعات طائفية" وليس مواطنين، ونحو إخضاعهم للعصبيات الضيقة والإنتماءات ما دون الوطنية، بهدف استتباعهم وتشويه وعيهم لحقوقهم ومصالحهم الفعلية، وصولاً الى إعادة إنتاج الزعامات الطائفية نفسها، مما أتاح لها المضي في إفراغ قوانين التمثيل الشعبي من مضمونها الديموقراطي، واستتباع دور السلطات المحلية وتهميشها، والعمل على إخضاع مؤسسات الإعلام والجهاز القضائي لأهواء أطراف السلطة السياسية ومصالحهم. كما سهّل تقاسم مواقع النفوذ والمنافع في إدارة الحكم بين أولئك الأطراف، عبر "تقسيم عمل" ضمني بينهم أجيز بموجبه للبعض أن يقتطع حصة أكبر نسبيا في إدارة أجهزة الأمن والسياسة الخارجية والجزء البيروقراطي والمتقادم من الادارة العامة، في مقابل تحكم أكبر للبعض الآخر في ملفات السياسات الاعمارية والاقتصادية والنقدية والمالية، وفي إدارة الملفات مع المنظمات الدولية و"الدول المانحة" المعنية بتلك الملفات.

إن هذا النمط من تطبيق الطائف حال دون الترجمة الفعلية للعديد من المبادئ والمرتكزات والتوجهات ذات البعد الإقتصادي والإجتماعي التي وردت في متنه. ويمكن القول إن إتفاق الطائف، بعد نحو ربع قرن على توقيعه، حصد إخفاقات وعثرات في غير مجال، وسوف نكتفي في هذه المراجعة المكثّفة بالتوقف عند أبرز مواقع هذا الفشل، كالآتي:

أ – إن أهم معالم الفشل يتجسّد في ضمور مقوّمات الاقتصاد الحقيقي، حيث خسر قطاعا الزراعة والصناعة أكثر من ثلث وزنهما النسبي في الناتج المحلي القائم خلال العقدين المنصرمين، نتيجة تكاليف الانتاج المرتفعة والتحرير الفجّ للتجارة الخارجية والتشوّهات في بنية الأسعار الداخلية وأسعار الصرف الخارجية للعملة الوطنية، التي ساهمت مجتمعة في إضعاف القوة التنافسية لإنتاجنا المحلي. المقلق أن هذه الخسارة لم يجر التعويض عنها عبر الزيادة المطّردة في أنشطة الخدمات "النبيلة" وذات القيمة المضافة المرتفعة والمحفّزة على خلق فرص عمل لائقة، بل إن تلك الخسارة اتجهت نحو المزيد من التفاقم من جرّاء تعاظم دور الإستهلاك كمحدّد للنمو الإقتصادي - وبخاصة الإستهلاك المرتكز على الإستيراد وليس على الإنتاج المحلي – وكذلك من جرّاء الإنتفاخ غير الصحي في الإستثمار العقاري وفي المضاربات على الأراضي، وفي وزن القطاع المالي والخدمات الطفيلية القليلة الانتاجية وغيرها من الأنشطة البسيطة والمرتجلة. هكذا انخفضت – بفعل هذا النمط من النمو الإقتصادي – نسبة تغطية الصادرات للمستوردات الى نحو نصف ما كانت عليه قبل عقود قليلة، مع كل ما يعنيه ذلك من آثار سلبية في توازن الحسابات الخارجية وانتظام أداء سوق العمل المحلية. لا شك في أن خللاً معيّناً قد اعترى نمط انخراط لبنان وتعامله مع ظاهرة العولمة، حيث جرى استسهال الإعتماد على سياسة "اليد المرفوعة" وتحرير المبادلات التجارية والإنخراط الملتبس في المفاوضات مع منظمة التجارة العالمية وفي اتفاق الشراكة الأوروبية المتوسطية، قبل توفير متطلبات التوازن النسبي في المصالح المرتبطة بهذه المفاوضات. وهذا ما أدى الى التفريط - من دون مقابل – في موجبات حماية الإنتاج المحلي، وساهم في تدعيم التبعية للأسواق الخارجية وتوسيعها، عبر خضوع الطرف اللبناني لشروط التبادل التي يحددها الطرف الأجنبي في غير مجال (تحكم الإحتكارات العالمية بعملية تقرير الأسعار وبتعريف السياسات الإغراقية، والقيود على نقل التكنولوجيا، والإلتزام الصارم لقواعد حماية الملكية الفكرية وشهادات المنشأ ومعايير الإنتاج ومواصفاته).

ب – إن هذه الإتجاهات التي تحكمت في تطور الإقتصاد اللبناني قد تزامنت عمليا – بخلاف ما دعا اليه إتفاق الطائف وما لحظته "على الورق" الخطط الإعمارية التي وضعت في النصف الأول من التسعينات – مع التركز المتزايد للنشاط الاقتصادي عموماً في اطار "بيروت الكبرى"، في مقابل استمرار تراجع الوزن الاقتصادي للمناطق الطرفية وتهميشها، سواء لجهة حصتها من شبكات البنى التحتية الأساسية والاستثمارات الانمائية الخاصة أو لجهة حصتها من فرص العمل المتاحة ومن ثمرات النمو الاقتصادي. انسحب هذا التفاوت في النمو بين المناطق - بالتعارض الصريح مع ما أكّده إتفاق الطائف من وجوب إقرار مشروع اللامركزية الإدارية - خللاً موازياً في العلاقة بين السلطة العامة المركزية والسلطات المحلية، في كل ما يرتبط بمسار عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية عموما، وبنسق ادارة تلك العملية وتوجيهها على وجه الخصوص. بقي الواقع البلدي عموماً، ولا سيما في المناطق الأطراف، خاضعاً بامتياز لقوانين "اللعبة" التي يديرها تحالف المصالح التي تحكم قبضتها السياسية والإقتصادية على "المركز"، سواء على مستوى التشريع أو التجهيز الرأسمالي أو التمويل أو الإمداد بالموارد البشرية. وما عملية "السطو" الصريحة على الأموال المستحقة للبلديات لدى الصندوق البلدي المستقل، سوى مؤشر بين مؤشرات عدّة إلى تلك النظرة الدونية التي تكنّها الطبقة السياسية (المركزية) تجاه الموضوع البلدي عموماً. إن هذا الخلل في علاقة المركز بالأطراف، يتحمل الى حدّ كبير مسؤولية تنامي ظاهرة التهميش والاقصاء الاجتماعي في المناطق الطرفية، ولا سيما في محافظتي الشمال والبقاع اللتين تسجلان أدنى معدلات نمو وأعلى معدلات فقر غير مسبوقة.

ج – إن الحقبة التي تلت إتفاق الطائف هي بالتحديد الحقبة التي أنتجت المشكلتين المستعصيتين بامتياز، اللتين سوف تستمران حتى آجال غير محددة في إلقاء ثقلهما الضاغط بقوة على الدولة والإقتصاد والمجتمع: مشكلة العجز المالي للدولة من جهة، ومشكلة الدين العام من جهة ثانية. وفي غياب فاضح للموازنات وعمليات قطع الحساب السنوية، أصبح المصدر الأهمّ للعجز المالي متمثلاً في التوسع غير المسيطر عليه في الإنفاق العام الجاري المشبع بالهدر، الذي لم ينجح في تغطيته ارتفاع الإقتطاع الضريبي بنسبة تزيد على الضعفين منذ إقرار إتفاق الطائف. وقد أملى هذا العجز على الطبقة السياسية العمل بكل السبل – كي تتمكن من الإستمرار في إنفاقها - على استجلاب رؤوس الأموال والتحويلات والمساعدات و"الأمانات" من الخارج، عبر مؤتمرات الدول المانحة والعلاقات الوثيقة مع دول النفط، مع مراهنتها على أن يؤدي استمرار تدفق رؤوس الأموال الى تحقيق ارتفاع مستدام في الودائع المصرفية، مما يتيح للدولة مواصلة اقتراض جزء أكبر فأكبر من هذه الودائع لتتمكن من تمويل العجز وخدمة الدين. وقد سخّرت الدولة تحقيقاً لهذا الغرض، مجمل عناصر السياستين النقدية والمالية وسياسة الفوائد المرتفعة، ضاربةً عرض الحائط بالنتائج السلبية المترتبة على تلك السياسات على المستوى الماكرو- إقتصادي. هكذا أصبحت إحدى أهم مهمات التحالف الحاكم الذي يحكم قبضته على "رقبة الدولة" – وأيا كانت طبيعة التوازنات السياسية والطائفية داخل هذا التحالف – تقضي بالعمل على توجيه النظام الضريبي على النحو الذي يخدم متطلبات تسديد خدمة الدين العام، بعدما أسبغت الدولة عمليا صفة "الدين الممتاز" على الفوائد المترتبة على هذه الخدمة، والعائدة في معظمها الى حفنة من كبار المتمولين وكبار زبائن المصارف. لم يبرز بين "أهل الحكم" من يجيب فعلاً عن الأسئلة الأساسية الآتية: لماذا لم يجر التحكم في أولويات الانفاق العام الذي يتمّ تمويل جزء متزايد منه عبر الاقتراض؟ لماذا لم يتم التزام سقف محدد لاقتراض الدولة عاماً بعد عام؟ من الذي يتحمل فعلاً مسؤولية إدارة عملية خدمة الدين العام؟ ومن الذي يحدّد في المطاف الأخير مستوى معدلات الفائدة التي طبّقت على هذا الدين العام؟ والأهم من ذلك، من هم الذين حصدوا معظم ثمار هذه "اللعبة"، ومن هم الذين سددوا القسط الأكبر من تكاليفها؟

د- ركّز إتفاق الطائف على إعادة بناء ما هدّمته الحرب الأهلية من مرافق عامة وبنى تحتية، كشرط أساسي للنهوض بمناخ الإستثمار وتحسين معدلات النمو الإقتصادي. لكن على الرغم مما تحقّق على هذا الصعيد في النصف الثاني من التسعينات (خلال ذروة الحقبة الإعمارية)، فإن ما آلت اليه أوضاع شبكات البنى التحتية والمرافق العامة سرعان ما انتهت بعد فترة وجيزة نسبياً من إنطلاق المشروع الإعماري، الى درجة مريعة من التردي، على النحو الذي تشهد عليه راهنا حالة قطاعات الكهرباء والطاقة والمياه والنقل العام والتعليم الرسمي (في حلقاته الثلاث: التعليم العام، التعليم المهني، التعليم العالي). إن انشغال الطبقة السياسية بمصالحها الزبائنية الخاصة وبتنافسها البائس على اقتطاع ما يمكن اقتطاعه من الإنفاق العام الجاري وغير المنتج، كأداة للإستمرار في استقطاب "جمهورها الطائفي" عبر فتات السياسات التوزيعية البسيطة، جعلها تتغاضى بقدر كبير من انعدام المسؤولية عن ضمور حجم الإستثمار العام الى حدود دنيا غير مسبوقة (كنسبة من إجمالي الناتج المحلي القائم وكنسبة من إجمالي الإستثمار الرأسمالي). هذا ما جعل النمط الفعلي لتطبيق اتفاق الطائف يتزامن مع تمأسس التخلف والفوضى والفساد في أداء القطاع العام ومع الفشل الذريع في إعادة بناء المؤسسات والإدارات العامة وزيادة إنتاجية الموارد البشرية المستثمرة فيها. في المحصّلة العامة، انطوى تطبيق هذا الإتفاق على ارتفاع قياسي في كلفة الطبقة السياسية (معبّراً عنه بما تقتطعه بصيغ شتى من الإنفاق العام)، بالترافق مع انخفاض قياسي في حجم الخدمة العامة التي كان يفترض أن تقدمها هذه الطبقة لعموم المواطنين. يطرح هذا الواقع أسئلة كبيرة وشائكة حول حقيقة وظيفة الدولة (أو "اللا- دولة") راهنا في الإطار اللبناني!

ه- إن المسارات التي تمّ التوسّل بها عملياً في تطبيق اتفاق الطائف تتحمل مسؤولية كبيرة أيضاً عن زيادة الخلل في سوق العمل المحلية الى مستويات مقلقة. فالنموذج الإقتصادي الذي ترسخت أسسه خلال العقود الثلاثة الماضية لم يكن من حيث طبيعته مؤهلاً ولا قادراً على خلق ما يحتاج اليه البلد من فرص عمل، حجماً ونوعاً. إن نحو 40 الى 50 ألف وافد جديد يتدفق سنوياً الى سوق العمل (من ضمنهم نحو 30 ألف متخرج جامعي)، بينما لا يزيد إجمالي الطلب على العمل - من المؤسسات الخاصة القائمة أو المزمع انشاؤها سنوياً (النظامية منها وغير النظامية) ومن بعض المؤسسات العامة كالسلك العسكري وأساتذة التعليم الرسمي، إضافة الى العاملين لحسابهم - على ثلث حجم هذا العرض سنوياً. وهذا ما جعل سوق العمل المحلية على امتداد العقدين المنصرمين عرضة لظاهرتين أساسيتين متزامنتين: التعطل عن العمل (خصوصاً في صفوف الشباب ولا سيما الاناث) من جهة، وهجرة الموارد والكفاءات البشرية من جهة ثانية، مع الإشارة الى أن الظاهرة الثانية غالباً ما كانت تميل الى التخفيف من حدّة الظاهرة الأولى. ولا يسع الباحث إلاّ أن يلحظ أن معدلات البطالة كانت قد اتجهت صعوداً قبل تفجّر الحوادث في سوريا، إلا أنها تضاعفت على نحو خطير مع بلوغ حركة النزوح السوري الى لبنان مستويات قياسية. بيد أن مشكلات سوق العمل لا تقتصر على الفجوة السنوية بين العرض والطلب على العمل، بل هي تطال أيضاً العديد من القضايا الأخرى: الواقع المتردي لشروط العمل، التراجع النسبي في وزن العمل المأجور، الإزدياد المثير في نسبة العاملين غير النظاميين وبخاصة في صفوف العاملين لحسابهم الخاص، وكذلك في صفوف الأجراء الذين يفتقرون الى تصحيحات أجر نظامية، والى بدلات النقل المقررة رسمياً، كما يفتقرون الى الحماية الصحية والى أنظمة تعويضات الصرف من الخدمة. ويضاف الى هذه المشكلات كذلك، استمرار تدفق العمالة الرخيصة غير اللبنانية (وغير السورية).

و- إن تدفقات الهجرة اللبنانية الى الخارج كانت شهدت مستويات قياسية خلال سنوات الحرب الأهلية، ثم هدأت خلال الحقبة الإعمارية، لكنها استعادت إتجاهها التصاعدي خصوصاً بدءا من أوائل الألفية الثالثة، لترتفع الى أكثر من 50 ألف مهاجر سنوياً (في مقابل نحو 25 ألف مهاجر سنوياً خلال الفترة 1975-2000)، مع العلم أن هذه الهجرة تطال بنسبة أكبر أصحاب الخبرات ومتخرجي الجامعات والمعاهد الفنية العالية وذوي الكفاءات الوسطى والعليا. وتنطوي هذه الهجرة على كلفة سياسية باهظة، لأنها ساهمت وتساهم في إفراغ البلد من جمهور محدد من المواطنين (الناخبين) الذين يمكن اعتبارهم من الناحية المبدئية أكثر تطلباً في وعيهم لحقوقهم المشروعة وفي ممارستهم لها، وأكثر تمسكاً بإبداء الرأي والمحاسبة والمساءلة ورفع صوت النقد عالياً وخوض المعارك الانتخابية ومتابعتها. إن تزايد الهجرة في صفوف هذا النوع من الموارد البشرية ساهم عملياً في تسهيل عملية إعادة إنتاج النوع الرديء نفسه من الطبقة السياسية التي ما برحت تمارس السلطة وتتداولها منذ انتهاء الحرب. وتنطوي هذه الهجرة أيضاً على كلفة إقتصادية هائلة، لطالما جرى تستّر أركان التحالف الحاكم عليها، عبر تعظيمهم للمدائح غير البريئة حول "فضائل" الهجرة وما تستجرّه من تحويلات، وتغاضيهم المقصود والفجّ عما أنفقه المجتمع اللبناني من أموال (خاصة وعامة) على تعليم أبنائه منذ تاريخ ولادتهم حتى تاريخ تخرجهم في المعاهد والجامعات. إن هذا التستّر هو في الأساس تستّر عن أصل المشكلة التي تكمن في عجز النموذج الإقتصادي السائد عن خلق البيئة الإقتصادية الداخلية التي تسمح باستيعاب هذه الموارد البشرية والكفاءات واعادة توطينها وباستثمارها – كأولوية - في تطوير الميزات النسبية لإقتصاد البلد، وفي تدعيم مقوّمات الاقتصاد الكلي والنشاط الابداعي للمؤسسات وريادة الأعمال والتمرس بالكفاءة الانتاجية والمهنية في ممارسة الأنشطة الإقتصادية ذات القيمة المضافة المرتفعة.

ز – إضافة الى كل ما سبق، يمكن القول إن النمط الفعلي لتطبيق اتفاق الطائف فشل في تحسين الأوضاع المعيشية للفئات الإجتماعية الفقيرة وما دون المتوسطة. تدعم هذا الإستنتاج مروحة واسعة من مؤشرات القياس الرسمية وشبه الرسمية، التي سوف نكتفي باستعراض البعض المهم منها. فقد انخفضت حصة الأجور من الناتج المحلي القائم عمّا كانت عليه في أواسط التسعينات، في مقابل زيادة حصة الأرباح الرأسمالية والريوع التي تستقطب الجزء الأكبر منها المجموعات الإحتكارية الكبرى (المعروفة والموصوفة والمقرّبة من أركان الحكم على اختلاف تلاوينهم). وجاء هذا الإنخفاض كنتيجة لتراجع نسبة الأجراء من مجموع العاملين من ناحية، وللخلل المتصاعد بين الأسعار ومتوسط الأجر الفعلي من ناحية ثانية. كذلك تعمّقت مؤشرات عدم المساواة والتمييز التي يعاني منها اللبنانيون، لجهة حجم إنتفاعهم الفعلي من التقديمات الإجتماعية والخدمات العامة الأساسية، ونوع هذا الانتفاع، وبخاصة ما يرتبط منها بخدمات الكهرباء والماء والصحة ونوعية التعليم (ولا سيما التعليم الرسمي) والنقل العام والرعاية الإجتماعية ومساعدة المعوقين. ويفتقر نحو نصف اللبنانيين الى تغطية صحية نظامية راهناً، بينما يفتقر نحو ثلثي اللبنانيين الى نظم أو برامج تقاعد نظامية، ومن ضمنهم عشرات الألوف من الأجراء غير المصرّح عنهم للصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. كذلك يفتقر جميع اللبنانيين الى أي نظام تأميني مخصّص لمساعدة المتعطلين عن العمل، في الوقت الذي تتعاظم فيه ظاهرة البطالة المتركزة أساساً في صفوف الشباب والعمال المنتمين الى أسر فقيرة وما دون متوسطة. تزداد كذلك مؤشرات عدم العدالة في توزيع الأعباء الضريبية، حيث يتركّز القسم الأكبر من هذه الأعباء على الفئات الإجتماعية المتوسطة والفقيرة، من خلال الغلبة الساحقة للضرائب والرسوم غير المباشرة على إيرادات الدولة.

هذه هي في اختصار المحصلة الإقتصادية والإجتماعية التي واكبت النمط المحقّق لتطبيق إتفاق الطائف، ومع هذه المحصلة يجوز التساؤل: هل تكمن المشكلة في نمط التطبيق حصراً، أم تراها تكمن في إتفاق الطائف نفسه؟ هل يمكن مثل الطبقة السياسية التي تدير شؤون الحكم في لبنان منذ عقود، النجاح مستقبلاً في إحياء الأمل في عملية إعادة بناء الدولة؟ ألم يحن الوقت لإعلان سقوط هذه الطبقة والإتجاه الفعلي نحو البحث عن بدائل لها؟

الكاتب: 
كمال حمدان
التاريخ: 
السبت, ديسمبر 27, 2014
ملخص: 
كي تكتمل دورة الإنقلاب على الطائف، اتجهت الزعامات الطائفية والطبقية الملتئمة في ذلك "الزواج الفجّ"، نحو التعاطي مع عموم الناس بصفتهم رعايا أو "جماعات طائفية" وليس مواطنين، ونحو إخضاعهم للعصبيات الضيقة والإنتماءات ما دون الوطنية، بهدف استتباعهم وتشويه وعيه