" طائف – 2 " ... حتماً

النوع: 

 

ترزح البلاد تحت ثقل أزمة سياسية خانقة وخطيرة وتخيّم عليها " أجواء الفراغ ". ولم يعد الأمر محصوراً بحالة ترقب وانتظار لما ستؤول إليه التطورات الإقليمية والعواصف العربية،  وتجاوزت الاوضاع مرحلة الجمود والمراوحة لتدخل المؤسسات في مرحلة التعطيل والفراغ . فالمجلس النيابي المدد له لا ينعقد وحركته مشلولة وإنتاجيته التشريعية معطلة، وحكومة تصريف الأعمال المستقيلة لا تجتمع ولا تتجاوز النطاق الضيق لتصريف الاعمال لأسباب سياسية دستورية، ويترافق ذلك مع توترات سياسية وأمنية متكررة ومتنقلة تأخذ للأسف طابعاً طائفياً ومذهبياً وتشكل تهديداً صريحاً للاستقرار والسلم الأهلي. فالوضع في طرابلس أصبح متفلتاً من الضوابط وفي طريقه لأن يصبح خارج السيطرة، والاشتباك السياسي والإعلامي بين "تيار المستقبل وحزب الله" تحديداً خرج عن القواعد والأصول بعدما جنحت المشادات الكلامية في اتجاهات اتهامية وتخوينية ... وهي انعكست بشكل مباشر وخطر على الشارع وتحديداً على انصار الفريقين.

وإذا كانت الحكومة الجديدة هي الخطوة الأولى التي تشكل اختراقاً في الجدار السياسي المرتفع وتفتح الوضع على آفاق جديدة، فإن لا شيء يدل إلى إمكانية تشكيل حكومة في المدى القريب والمنظور، لا بل كل المؤشرات توحي ان الموضوع الحكومي الخلافي قد تم ترحيله إلى أجل غير مسمى مع وجود فجوة سياسية يصعب ردمها بين طرفي الصراع حيث يعتبر فريق 14 آذار ان حكومة 8-8-8 هي أقصى ما يمكن ان يقبله، ويعتبر فريق 8 آذار ان حكومة 9-9-6 هي أقل ما يمكن ان يقبله، مع ان الساذج في هذا الوطن اصبح على يقين بأن هذا الكلام هو من باب الثرثرة السياسية ليس إلا لأنه لا حكومة ولا من يحكمون .

في الواقع نحن أمام أزمة حكومية متمادية للأسباب الآتية : الوضع الإقليمي ما زال ضبابياً وظروف التسويات لم تنضج بعد إن على صعيد مؤتمر " جنيف- 2 " أو على صعيد الملف النووي الإيراني وما يحكى عن مشروع اتفاق " أميركي – إيراني " من هنا فان معظم القوى السياسية بانتظار ما ستؤول إليه هذه المفاوضات وهم يحاولون إيهام الناس انهم يحاولون معالجة الاوضاع ويسعون إلى تشكيل حكومة بينما الحقيقة هي بعيدة كل البعد عن ذلك، فهؤلاء من كبيرهم إلى صغيرهم لا يقدمون ولا يؤخرون وليس لهم كلمة في هذا الشأن وكل ما باستطاعتهم فعله هو الثرثرة وإطلاق العنتريات فكلمة الفصل تأتي من الخارج وجميعهم بانتظار كلمة السر الخارجية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وفي ظل هذه الاجواء الملبدة وغير المطمئنة، يقترب موعد الاستحقاق الرئاسي الذي يواجه هو الآخر خطر الفراغ. والسؤال يبقى : كيف ستجري هذه الانتخابات وعلى أي أساس؟

صحيح ان هناك من بدأ يطرح التمديد للرئيس ميشال سليمان كخيار على اعتباره أفضل من الفراغ المحتمل ومن خلفية ان الاستحقاق الرئاسي سيكون محشوراً بين احتمالين لا ثالث لهما: (أما التمديد وإما الفراغ) وهنا وللتذكير فقط فإن التمديد يتطلب توافقاً سياسياً ووطنيا،ً ويجب ان يحظى باكثرية الثلثين في مجلس النواب لتعديل الدستور. لكن مع الأسف وباختصار شديد نقول ان السبب الذي حال دون إجراء انتخابات نيابية ويحول الآن دون تشكيل حكومة جديدة هو السبب ذاته الذي يجعل من الاتفاق على التمديد أمراً صعباً في ظل التجاذبات السياسية الحادة، ولقد أصبح واضحاً وضوح الشمس ان الأمور الخلافية والشائكة بين القوى السياسية في لبنان لن تحل "بالمفرق" بل من ضمن اتفاق على سلة واحدة متكاملة .

الفراغ الآتي على رئاسة الجمهورية لم يعد احتمالاً نظرياً فقط وإنما أصبح واقعاً ماثلاً وسيصبح عند حدوثه خطراً داهماً، وسيتجاوز في دقته وخطورته الوضع الذي نشأ بعد مغادرة الرئيس إميل لحود قصر بعبدا من دون عملية تسلم وتسليم... لأن أول ما يمكن حصوله بعد انتهاء ولاية الرئيس هو اندلاع نزاع سياسي ودستوري حول الحكومة التي ستتسلم صلاحيات الرئاسة وستحكم البلد في حال لم تشكل حكومة جديدة جامعة من الآن وحتى موعد الاستحقاق الرئاسي. فإذا شكلت حكومة أمر واقع، فإنها من الصعب ان تصل إلى جلسة الثقة في مجلس النواب، وإذا وصلت فمن المشكوك فيه ان تحصل على الثقة خصوصاً إذا صوّت وليد جنبلاط ضدها، وحتى لو نالت الثقة (افتراضاً) فكيف لها أن تحكم البلاد في ظل هذا الانقسام السياسي الحاد والخطر أو ان تتسلم الوزارات من وزراء 8 آذار، فهذا الفريق لن يسلم وزارته في هذه الحال ولن يرضى بهذه الحكومة حتى كحكومة تصريف أعمال...

أما إذا استمرت حكومة تصريف الاعمال برئاسة نجيب ميقاتي حتى ذلك الحين وباتت هي السلطة الوحيدة في ظل شغور مركز الرئاسة الأولى، فإن فريق 14 آذار سيطعن بأهليتها وصلاحيتها ويعتبرها حكومة مغتصبة للسلطة وفاقدة للشرعية الدستورية والميثاقية ولن يلتزم مع جمهوره بقراراتها وتوجهاتها السياسية.

إذن سيكون الفراغ مدخلاً لأزمة سياسية وطنية عميقة وكبيرة. ولن تبقى أزمة حكومة ورئاسة، وإنما ستصبح مفتوحة على أزمة حكم ونظام... فالتنازع على السلطة والصلاحيات سيؤدي إلى إطاحة الاستقرار السياسي برمته وإلى تهديد عمل وإنتاجية المؤسسات والإدارات والمرافق العامة، وسيأخذ الوضع منحى أكثر خطورة إذا ترافق انهيار الاستقرار السياسي مع انهيار الوضع الأمني. وما أقوله هنا ليس من باب التخويف والتهويل وانما من باب الموضوعية والواقع لأنه في حال استمرار الأزمة السورية وما ستنتجه من موجات نزوح جديدة للسوريين ونحن على ابواب " معركة القلمون " وما سيرافقها من عمليات تسلل وتدفق للمتطرفين والمتشددين معطوفاً على أزمة مؤسساتية في الداخل اللبناني، سيجعل من الصعب استمرار الوضع الأمني على ما هو عليه الآن من هدوء واستقرار نسبي مقبول وسيصبح الوضع العام أقرب إلى الوقوف عند عتبة الفوضى العارمة في الشارع والتوترات الأمنية والفراغ الشامل في المؤسسات ، دون أن ننسى ايضاً وايضاً مجلس النواب الذي تنتهي ولايته في تشرين الأول المقبل حيث لا يعود بإمكانه التمديد لنفسه حتى لو كان سيد نفسه في ظل عدم وجود رئيس جمهورية يوقع قانون التمديد، وعدم وجود حكومة تقترحه أو تتكفل بمفاعيله القانونية والمالية.

ازاء وضع مقفل كهذا وصورة قاتمة بهذا الحجم وأزمة بهذا المستوى، لا تعود الوسائل والمعالجات التقليدية ناجعة، ولا تعود " تسوية سياسية مرحلية" كافية لاحتواء الأزمة...

من المؤكد هذه المرة انه لن يكون هناك " اتفاق دوحة " جديد لأن الأزمة ستطرح بكل عناصرها ومكوّناتها وهي لم تعد محصورة بفراغ رئاسي وحكومي ونيابي حتى تُحل بانتخاب رئيس وتشكيل حكومة وإقرار قانون انتخابات. هذه مظاهر ونتائج وإفرازات الأزمة التي في حال تعقدت الأمور وتأزمت إلى هذا الحد، ستدفع إلى طرح الاسباب والخلفيات العميقة للأزمة وإلى تحدي مكامن الخلل في النظام، نظام الطائف، بعدما ثبت بالتجربة والممارسة التطبيقية أنه لم ينتج الاستقرار قي الحكم وإنما كان نظاماً مولداً للأزمات خصوصاً بعد انكشاف لبنان إقليمياً وزوال مظلة "الوصاية السورية" التي كانت تدير اللعبة الداخلية وكانت عامل توازن وضبط قسري للخلافات والأزمات...

إن الوضع في لبنان إذا انحدر إلى هذا الوضع وتدحرجت فيه كرة الأزمة من أزمة حكومة ورئاسة إلى أزمة حكم ونظام، فإن المخرج والحل سيكون بالتأكيد ليس في " دوحة-2 " وإنما في  "طائف-2"، لأن الفريق الشيعي في الحكم وخصوصاً منهم حزب الله والذي لم يكن موجوداً على " طاولة الطائف"، يريد تحسين وضع الطائفة الشيعية في الحكم والدولة من خلال نصوص دستورية. وسيجدها حزب الله فرصة سانحة لطرح المؤتمر التأسيسي الذي طالما ألمح إليه ولوّح به كورقة أساسية لإدخال "تعديلات وتحسينات" في النظام.

إن الشيعة في لبنان لن يكونوا بعد اليوم جزءاً من نظام الطائف وباتوا يتطلعون إلى دستور ونظام جديدين يكون فيه حجمهم في السلطة موازياً لحجمهم الواقعي الذي سجل منذ الطائف تطوراً على المستويات العسكرية والديموغرافية والاقتصادية... فالشيعة هم اليوم " الأقوى على الارض " وهم يتحكمون بشكل واضح بكل مفاصل الدولة وذلك بسبب امتلاكهم "للسلاح" إضافة إلى الدعم الأيراني اللامحدود لهم، لكنهم وحسب الدستور "والكتاب" يعتبرون أنفسهم الحلقة الأضعف بين الطوائف في الحكم وان تأثيرهم وفعاليتهم ليسا مستمدين من صلاحيات وسلطات معطاة لهم، وإنما من قوة "حزب الله" على الارض ومن حضور ودور الرئيس نبيه بري في اللعبة السياسية الداخلية، وإذا انتفى هذان العاملان أو أحدهما انعكس الأمر ضعفاً وخللاً في وضعية الشيعة على مستوى الدولة والحكم، وحتى ان قدرتهم على التأثير في مسار الأمور السياسية وتشكيل الحكومات ستصبح قدرة ضعيفة ومحدودة .

وهنا لا بد من التذكير بأن فتح ملف اتفاق الطائف من خارج طاولة الحوار الوطني، وطرح المؤتمر التأسيسي الذي يتوخى إعادة تأسيس وإعادة بناء النظام اللبناني، ليسا بالأمر السهل الذي سيمر بهدوء وسلام، وإنما سيكون محفوفاً بالمخاطر وسيترافق مع اهتزازات وخضات أمنية وتجاذبات سياسية قوية . وهكذا فإن " سيناريو الفراغ " هو السيناريو الأسوأ الذي سيوصل إلى أوضاع أمنية مضطربة حتى لا نقول أكثر، وهو في حد ذاته كافٍ للتأكيد على أهمية وضرورة إجراء انتخابات رئاسية في موعدها وبعدها يصار إلى العودة إلى طاولة الحوار لمناقشة الأمور الخلافية بكل صراحة ووضوح وجرأة وطرح هواجس كل الطوائف اللبنانية على بساط البحث... ووضع المصلحة الوطنية العليا للبنان في هذه المرحلة فوق كل المصالح الخاصة والخارجية والاقليمية.

الكاتب: 
دافيد ميشال عيسى
التاريخ: 
الاثنين, نوفمبر 18, 2013
ملخص: 
إن الوضع في لبنان إذا انحدر إلى هذا الوضع وتدحرجت فيه كرة الأزمة من أزمة حكومة ورئاسة إلى أزمة حكم ونظام، فإن المخرج والحل سيكون بالتأكيد ليس في " دوحة-2 " وإنما في "طائف-2"، لأن الفريق الشيعي في الحكم وخصوصاً منهم حزب الله والذي لم يكن موجوداً على " طاو