من يُشكّل الحكومة؟

النوع: 

بعد التعديلات الدستورية عام 1990 باتت مسألة تأليف الحكومة صلاحية مشتركة تتمّ بالاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء استناداً إلى أحكام الفقرة الرابعة من المادة /53/ من الدستور، التي قنّنت العرف الدستوري الذي يؤكّد الشراكة القائمة بين الرئيسين في ممارسة هذه الصلاحية.

وقد يعتبر البعض أنّ في هذه الصلاحية تجاوزاً للمبادئ البرلمانية الكلاسيكية التي تقضي بأن يؤلّف الحكومة رئيس الوزراء الذي تدعمه الغالبية النيابية لأنّه المسؤول عن سياستها أمام مجلس النواب.

لكنّ الخروج عن هذه القاعدة يجد مبرّراته في كثير من الأنظمة الدستورية ذات التركيبة المجتمعية الخاصة، وكذلك في الأنظمـة البرلمانيـة ذات التعددية الحزبية، خصوصاً عندما لا تتوافر فيها غالبية نيابية مرجّحة، وذلك وفقـاً لما قالهM. H. Fabre (1).

ويتعاظم دور الرئيس أكثر عندما تمرّ البلاد في أزمة حكم، ففي بلجيكا يتدخّل الملك كثيراً في تأليف الحكومة ويكون له تأثير كبير، وهذا ما حصل عندما تدخّل الملك « Baudouin» لينقذ البلاد من أزمة حكومية نتجت بسبب إقرار قانـون يمنع العقاب على الإجهاض، حيث امتنع الملك عن المصادقة عليه وفرض تشكيلة حكومية في ظلّ انقسام حادّ داخل البرلمان.

كذلك كان للرئيس الإيطالي «Sclafaro» التأثير المباشر عندما دعم كلّاً من حكومتي «Amato» و«Ciampi» وقد ساهم الرئيس في تأليفهما، لكنّه لم يتمكّن من لعب هذا الدور بعد الانتخابات التي جرت عـام 1994 مع رئيس الحكومة الجديدة «Berlusconi»، ثمّ عاد وتدخّل بعد انتخابات عام 1996 وساهم في تأليف حكومَتَي « Dini» و « Prodi ».

ويمكننا القول إنّ دور رئيس الجمهورية في تأليف الحكومة اللبنانية بعد التعديلات الدستورية ليس محدوداً، لكنّه ليس مطلقاً، ودوره يشبه في هذا المجال دور الرئيس الفرنسي في ظلّ الجمهورية الخامسة، فعلى رغم أنّ نصّ المادة الثامنة من الفصل الثاني من دستور عـام 1958 يعطي الرئيس حقّ تسمية الوزراء بناءً على اقتـراح رئيس الحكومة، فقـد كان الرئيس De Gaulle يتدخّل كثيراً في فرض وزراء على كلّ تشكيلة حكومية خصوصاً بعدما أصرّ على استبدال «M. Giscard d'Estaing» بالسيّد « M. Debré » وكذلك فعل خلفه.

لكنّ دور الرئيس لا يحجب في المطلق دور الأحزاب السياسية في هذا المجال، وعليه تكون الأدوار موزّعة في تأليف الحكومة على ثلاث جهات هي: رئيس الدولة، الرئيس المكلّف، الأحزاب السياسية. وإنّ دور رئيس الدولة يقوى ويضعف تبعاً لاستمرار تأييد الغالبية البرلمانية (3).

وممّا لا شك فيه أيضاً أنّ شخصية الرئيس تلعب دوراً مهمّاً في هذا الصدد بالإضافة إلى الظروف التي ترافق التكليف، فإذا عدنا إلى زمن الوصاية السورية على لبنان بعد إقرار التعديلات الدستورية نجد أنّ سلطة الوصاية كانت تملك القدرة على الحلّ والربط في هذا المجال، بالإضافة إلى دور محدود للرؤساء حيث إنّ شخصية الرئيس الشهيد رفيق الحريري كانت تطغى على شخصية الرئيس الياس الهراوي، لأنّ الأوّل كان يملك وزناً غير عاديّ في المعادلة السياسية اللبنانية ووهجاً دوليّاً ونجاحاً فريداً حجب دور الرئيس في تلك المرحلة.

وهذا الأمر لم يبقَ كذلك في عهد الرئيس إميل لحّود الذي كانت علاقته بالرئيس الحريري علاقة نهجين مختلفين يحكمهما التجاذب شبه الدائم، وقد تفاقم هذا التجاذب مع حكومة الرئيس السنيورة أيضاً.

أمّا في عهد الرئيس ميشال سليمان الذي بدأت ولايته بُعيد إتفاق الدوحة فقد وقّع مراسيم تأليف حكومة حُدّدت فيها سلفاً حصص وزارية له بما يتعارض مع النص الدستوري، وبما يؤكّد وجود تأثير آخر على دور الرئيس وموقعه، إذ بعد زوال وصاية النظام السوري على لبنان، تبيّن وجود قوى أخرى أدّت إلى التأثير سلباً على مجمل الحياة السياسية في لبنان لا سيّما على موقع رئيس الجمهورية ودوره.

لكنّ سليمان الذي استعاد وأعاد للرئاسة موقعها ودورها، خصوصاً في جملة المواقف التي اتّخذها، سواءٌ في ما يتعلق بوجوب حصر السلاح بيد القوى الشرعية، أو لجهة تحييد لبنان عن الأزمة السورية وفقاً لما جاء في "إعلان بعبدا"، أو لجهة اتّخاذ المواقف الجريئة لجهة الوقوف في وجه العدوان الحاصل على الأراضي اللبنانية من قِبل الجانبين السوري والإسرائيلي على حدٍّ سواء.

وعليه فإنّه مطلوب منه استكمال هذه المواقف من خلال توريث العهد المقبل ممارسة دستورية صائبة لأهمّ صلاحية دستورية أبقاها دستور "الطائف" بيد رئيس الجمهورية، ألا وهي الاتفاق مع الرئيس المكلّف على تأليف الحكومة، بحيث لا يُصار إلى تكريس حصة للرئيس لأنّ له صلاحية الاتفاق مع الرئيس المكلّف على كلّ التشكيلة الوزارية، فلا حصّة مؤلّفة من خمسة وزراء من أصل ثلاثين، ولا "ثلث ضامن" أو "ثلث معطل" أو "وزير ملك" أو ما شابه. وقد شكّلت فكرة "الوزير الملك" أسوأ التجارب التي شهدتها عملية التأليف منذ إقرار التعديلات حتى يومنا هذا.

لذلك وتماشياً مع الدور الذي يؤدّيه سليمان والذي يتلاءم مع موقعه الذي كرّسه دستور "الطائف" والذي لم يمارسه أيّ رئيس منذ بدء تطبيق "إتفاق الطائف" وصولاً إلى زوال الوصاية السورية عام 2005، مروراً بالأحداث التي سبقت اتفاق الدوحة وتلته، فقد أثبت سليمان في ممارسته أنّ زمن الوصايـة ولّـى فعليّاً ويبقى أن تخرج الوصاية من أذهان البعض، لذلك فإنّ العودة إلى الممارسة الموروثة عن عهد الوصاية باتت مرفوضة، لئلّا تشكّل هذه الحالات أعرافاً دستورية خاطئة تترسّخ في الحياة الدستورية، وفي ذهن المواطنين بخلاف النيّة التي قصدها المشرّع الدستوري، هذا المشرّع الذي وإن شاب إرادته شيء من الإكراه جرّاء الحالة الأمنية التي وصل إليها لبنان يوم شارك نوّاب الأمّة في مؤتمر الطائف، لكنّ الفرصة اليوم متاحة لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح تكريساً للعيش المشترك وبما يتلاءم مع التركيبة المجتمعية اللبنانية، فيمتنع الرئيس عن توقيع مرسوم تأليف حكومة لم يشارك في تأليفها بكاملها، أو أنّه لم يقتنع أيضاً بأنّها قادرة على تحقيق المصالح العليا للوطن.

الكاتب: 
انطوان أ سعد
التاريخ: 
السبت, يناير 19, 2013
ملخص: 
إنّ دور رئيس الجمهورية في تأليف الحكومة اللبنانية بعد التعديلات الدستورية ليس محدوداً، لكنّه ليس مطلقاً، ودوره يشبه في هذا المجال دور الرئيس الفرنسي في ظلّ الجمهورية الخامسة، فعلى رغم أنّ نصّ المادة الثامنة من الفصل الثاني من دستور عـام 1958 يعطي الرئيس ح