الصراع على السنوات الثلاثين الآتية لا على الماضية
مؤسف أن يردّ الجيش على ما جرى من مناوشات في طرابلس، بنشر فيديو يشير فيه إلى تقديم المساعدات للناس. بذلك يصبح الجيش وقد تطبّع بأطباع القوى السياسية التقليدية، التي تشعر رعاياها بأنهم في حاجة دائمة إليها للحصول على القوت أو الخدمة أو المساعدة او فرصة العمل. بديهي رفض الاعتداء على الجيش، والبديهي أكثر رفض استخدام الجيش للعنف بحق المواطنين والمتظاهرين. ولا بد للنقاش أن يتخطى هذا، ولا بد من الذهاب بعيداً عن جدال "المدسوسين" و"الطوابير" الذين يتم تحريكهم لتخريب الاحتجاجات.. فالمشكلة ليس هنا.
الدوس على الدولة
الواقع في لبنان أصبح في بعد مختلف جذرياً. المواجهة الثانية من التحركات الشعبية والاحتجاجية ستضم بين جنباتها مجموعات مختلفة التوجهات والانتماءات. لم يعد من أحد قادر على ضبط الواقع في لبنان. حسابات السياسة وقواها تختلف عن حسابات الناس والمتظاهرين. وأكثر ما أغضب المتظاهرين هو تلهي الحكومة بتصفية الحسابات السياسية، على حساب إنجاز الخطط الإنقاذية اقتصادياً ومالياً. وبالتالي، فإن الاحتجاجات تشملها وتواجهها بشكل مباشر. لأن من خرج منتفضاً لا يريد للسلطة الحالية أن تستعيد مكتسبات السلطة السابقة، أو تستنسخ تجربة وعمل الحكومات السابقة.
ما بعد اتفاق الطائف، حصل تمازج بين الزعامات التقليدية ورجال الأعمال، فاصبحت التركيبة السياسية تقوم على هذا التمازج، وتتحكم بها عقلية تقليدية، وأخرى ميليشياوية تتقمص نمط رجال الأعمال أو حتى المافيات. وما يجمع بينها هو الدوس على الدولة وقوانينها ومؤسساتها. ويرتبط كل هذا بما يوازيه في الصراع السياسي بين القوى المختلفة، وبأبعاد إقليمية في الصراع على النفوذ والمقدرات.
الممانعة والاقتصاد
منذ ما بعد اتفاق الطائف، أمسك طرف الممانعة، المرتبط بسوريا وإيران، بملفي الأمن والسياسة الخارجية إلى العام 2005. وتحول إلى حزب الله بعد ذلك العام. فيما التركيبة الداخلية تشهد توزيعاً للحصص والمغانم. والتي كان فيها لتيار الحريرية السياسية ومن حالفها، الحصة الأكبر في السلطة والمؤسسات، وكذلك في المال والاقتصاد.
بعد اتفاق الدوحة، وما بعد التسوية الرئاسية في العام 2016 وما رافقها من ثمن، حقق من يمسك بالأمن والسياسة الخارجية تقدماً بارزاً في المعادلة. لم يعد يرتضي بالحصة إنما يبحث عن ما هو أكثر، وصولاً إلى إقصاء القوى الأخرى. وقد تم إخراجهم من السلطة وتركيبتها السياسية حالياً. ما يجري اليوم هو ما بعد السيطرة على الأمن والسياسة الخارجية، أي السيطرة على السلطة السياسية بكاملها. ولذا، يتمدد وينتقل إلى مرحلة ثالثة، هي السيطرة على القطاع المالي والاقتصادي.
من هنا تأتي المعركة مع المصارف وحاكم مصرف لبنان. طبعاً في هذه المعادلة، لا يمكن الحديث عن مكافحة فساد جدية، بل تصفية حسابات سياسية، وإعادة تركيب توليفة حكم جديدة تأخذ ما أخذه السالفون في السياسة. فمثلاً التيار الوطني الحرّ همه الأساسي محاربة الحريرية السياسية ليرثها في الدولة، وغيره يريد تصفية الحساب مع نبيه بري والاستحواذ على مكتسباته.
الصراع على السلطة
مواجهة هذا المشروع من قبل القوى السياسية المعارضة للسلطة الحالية، لا تقوم على مبدأ خطة بديلة لبناء الدولة، إنما للحفاظ على المصالح وحمايتها. فتأخذ المعركة السياسية طابع تقاذف المسؤوليات. ويعمل فريق على تدفيع خصومه والمصارف ثمناً لما يجري. فلم تعد المصارف تجد من يدافع عنها، خصوصاً بعد الإجراءات الأخيرة التي اتخذها القطاع المصرفي. وتقف القوى السياسية أمام خيار واحد، وهو استعادة الخطاب الطائفي والعصبي، والذي قد يكون نافعاً بالنسبة إليها، ما سيؤدي إلى توتر كبير، مقابل هدف الناس في بناء مشروع وطني جامع يقوم على مبدأ تعزيز الدولة.
السلطة التي تتم مواجهتها، ليس هدفها السنوات الثلاثين الفائتة، إنما السنوات الثلاثين المقبلة، والتي سيكون الفساد فيها أفدح من الفساد السابق. ولا قدرة للقوى السياسية المعارضة الانتصار على خصومها في السلطة بظل موازين القوى القائمة حالياً. فيما الخيار الوحيد هو نزول الناس إلى الشارع. لأن الناس هي التي ستكون قادرة على إنتاج التوازن مجدداً، وتؤسس لمرحلة انتقالية جديدة تضع لبنان على طريق طويل نحو بناء الدولة مجدداً. لا بد من تسوية جديدة وحقيقية مع القوى الموجودة في الشارع، وإشراكها في مرحلة انتقالية تذهب بالبلاد من حقبة إلى أخرى. عدا عن ذلك هو دخول في مزيد من حفلات الحروب والمعارك.