"عجائب" حركة الإنقلاب على اتفاق الطائف
إذا كان من المسلّم به ان اتفاق الطائف تعرّض لـ"التفريغ" على زمن الوصاية السورية بما مكّن هذه الوصاية من إحكام سيطرتها على القرار في المؤسسات الدستورية للبلد، أي ان اتفاق الطائف لم يطبّق في تلك المرحلة الطويلة، فإن ما تشهده البلاد في هذه الأيام، في ظل "الحركة" التي يقودها "حزب الله"، هو ارتداد كامل على الطائف والدستور، أي تمزيق لهما بالمعنى الحرفيّ.
"مصطلحات" لا وجود لها في الطائف
فخلال هذه الفترة الممتدة منذ عدة أشهر، سمع اللبنانيون من التحالف الذي يقف "حزب الله" على رأسه مصطلحات وتفسيرات يجري تنسيبها إلى الطائف، في حين أن لا علاقة لها بالطائف.
لا وجود في الطائف لما يسمّى "حكومة الوحدة الوطنية"، والطائف لم ينصّ إلا على حكومة وفاق وطني لمرّة واحدة، مهمتها وضع ما تضمّنه موضع التنفيذ.
ولا وجود في الطائف لما يسمّى "الثلث المعطّل" أو الثلث زائد واحد، أو الثلث الضامن أو المشارك، لان الاتفاق حدّد أسس المشاركة الوطنية ولم ينصّ على تعطيلها.
ولا وجود في الطائف لما يفيد ان استقالة وزراء من طائفة واحدة أو من مذهب واحد، تجعل الحكومة غير شرعية، وغير دستورية. فالاتفاق ينصّ على ان الحكومة عند تشكيلها يجب أن تكون مراعية لميثاق العيش المشترك، ويحدّد في المقابل الظروف التي تجعل الحكومة غير دستورية وفي حكم المستقيلة، وإلا لكان الاتفاق منظماً لـ"فرط" السلطة وليس لـ"تكوينها".
مفاهيم لا دستورية لحركة لا دستورية
وواقع الأمر ان هذه المصطلحات والمفاهيم والتفسيرات هي نفسها غير دستورية ولا تنتسب إلى اتفاق الطائف، لأن "الحركة" التي يقودها "حزب الله" على رأس التحالف السوري ـ الإيراني في لبنان، هي "حركة" إنقلابية، أي غير دستورية.
و"المجموعات" المكوّنة لهذا التحالف، لا تعترف بالطائف أصلاً. فموقف "حزب الله" من الاتفاق معروف بسلبيته، وكذلك موقف حليفه العوني. أما أتباع النظام المخابراتي السوري، فقد جاهروا مراراً بالقول ان الطائف والوصاية السورية "واحد" بمعنى ان الطائف قام على أساس أن تكون وصاية سورية، وعندما تنتهي الوصاية ينتهي الطائف نفسه.
ضرب الدولة
على ان ما يقتضي التشديد عليه، هو ان هذا الارتداد الكامل على الطائف والدستور، الذي تجسّده "الحركة" غير الدستورية لحزب الله وحلفائه، هو في واقع الأمر ارتداد على "الدولة"، أي على "فكرة" الدولة ومشروعها، أي ان ما يجري الآن، هو ضربٌ لفكرة الدولة في الصميم.
فاتفاق الطائف يمثّل مرجعية عملية بناء الدولة في لبنان. وعندما يجري طعن ما ورد فيه من نصوص يكون الإنقلاب على الدولة. فالأخذ بما يطرحه التحالف السوري ـ الإيراني، يعني نوعاً من التطبيق الفيدرالي للطائف، لان حصر البحث في دائرة توفير حقّ "الفيتو" لفريق سياسي ـ طائفي، يعني تركيب النظام السياسي فيدرالياً، ويعني تحويل الدولة المركزية إلى دولة فيدرالية، فيما اتفاق الطائف في "نصّه" و"روحه" ينظم الشراكة، وهو عندما يتحدّث عن أكثرية الثلثين لاتخاذ القرار في القضايا الرئيسية، إنما يحرص على تحصين الشراكة والمشاركة.
ولعل في ما يطرحه التحالف السوري ـ الإيراني، ما هو أسوأ من "الاتفاق الثلاثي" لكن مع فارق وحيد في مصلحة "الثلاثي". ففي مرحلة "الاتفاق الثلاثي" كانت الدولة مدمّرة و"فارطة"، وكانت الميليشيات تحاول آنذاك إعادة توحيدها بـ"شروط" معينة، في حين ان الدولة موجودة اليوم وموحّدة ويحاول التحالف فرطها.
الوزير الملك" بين "اللادستوري" و"السياسي"
لذلك، وحيال هذه الهجمة اللادستورية، ينبغي عدم التنازل عن اتفاق الطائف كمرجعية للشراكة الوطنية ولعملية بناء الدولة في آن.
والتشديد على عدم التنازل عن الطائف، ينطلق في واقع الأمر من ان أحد الاقتراحات التي وافقت عليها الحكومة وبعض الأكثرية، يقول بتوسيع الحكومة الحالية بحيث يكون فيها ما يسمّى "وزير ملك".
لا وجود في الطائف لما يسمّى "الوزير الملك"، علماً ان المواصفات المطروحة لهذا الوزير لا تجعله ملكاً بل تحوّله شاهداً، و"شاهد زور" على الأرجح. فكيف يكون ملكاً وزير لا يحق له التغيّب ولا يحقّ له التصويت ولا يحقّ له أن يكون لديه رأي؟
لا وجود في الطائف لـ"الوزير الملك"، والأمر غير ميثاقي وغير دستوري، لانه يحسم من "حصّة" فريق لبناني ما دوراً في الشراكة ولأنه يخالف القواعد الدستورية لدور الوزير.
وإذا كان ثمة تفهّم للمسوّغ "السياسي"، أي لـ"اعتبارات" هذا الطرح، فإن ما يجب أن يُقال فيه هو انه طرح من طبيعة الهجمة اللادستورية نفسها، أي انه اقتراح يلتفّ على الاقتراحات غير الدستورية باقتراح غير دستوري هو أيضاً.
إذاً، ان من غرائب المرحلة الحالية وعجائبها، ان "الصراع" لا تحكمه ضوابط دستورية ـ وميثاقية ـ وان بعض مشاريع الحلول لا تحكمها سقوف دستورية، وميثاقية أيضاً.
تغييب "السياسة" يطوّق عمرو موسى
بيد ان ذلك ليس وحده ما يدلّ على "عجائبية" المرحلة القائمة.
يقوم الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في هذه الأيام بتحرّك لمعالجة الأزمة اللبنانية، بدعم من الدول العربية الرئيسية وبتشجيع دولي. وغنيّ عن القول بادئ ذي بدء ان التحرك العربي هو مصدر الأمل الوحيد للبنانيين، وأن لا حلّ في "النهاية" إلا الحلّ اللبناني ـ العربي. فهذا ما كان دوماً عبر "التاريخ" اللبناني المعاصر.
غير ان ما يلفت في كل ما يجري ان "الغائب الأكبر" في المسار التفاوضي هو "السياسة". كيف؟
لقد "فُرض" على الأمين العام للجامعة واقع معيّن لمعادلات معيّنة. ثمّة من جانب التحالف السوري ـ الإيراني تحديدٌ للأزمة على انها "أزمة مشاركة" في الحكومة. وثمّة من جانب هذا التحالف مطالبة بالثلث المعطّل تأميناً للمشاركة بحسب ادعائه، وتأميناً لعدم إنفراد الأكثرية بالقرار (!).
في ضوء ذلك، يبدو الأمين العام محكوماً بإدارة تفاوض حول هذه النقطة بالذات بالدرجة الأولى وليس حول مسبّباتها السياسية.
بكلام آخر، تغيب المواضيع السياسية الأساسية عن دائرة البحث، وعن دائرة الضوء.
والمواضيع السياسية الأساسية هي، ولا شكّ ،تلك التي كان مؤتمر الحوار السابق بدأ بها، والتي كان من المفترض أن "تتطوّر" مضامينها بعد حرب تموز ـ آب. وهذه المواضيع هي المحكمة الدولية والعلاقات اللبنانية ـ السورية بأوجهها كافة والسلاح "الفلسطيني"، وسلاح "حزب الله" والقرار 1701.
فُرض على عمرو موسى البحث ضمن حدود جدول أعمال "التشاور" السابق. حتى المحكمة الدولية عندما يتم تناولها، ففي حدود موقعها من الأولويات أو من تراتب الأولويات، لكن أحداً لم يتطرّق إلى البنود الخلافية في المحكمة الدولية، إذا وجدت.
التحالف السوري ـ الإيراني يستبعد إحدى نتيجتين
والكلام هنا عن ان السياسة هي "الغائب الأكبر"، يهدف إلى استنتاج ان التحالف السوري ـ الإيراني يستبعد عمداً البحث السياسي لأن هذا البحث من شأنه أن يُفضي إلى إحدى نتيجتين لا يريدهما.
النتيجة الأولى، هي أن يتم الاتفاق على المواضيع السياسية الأساسية، أي على "تسوية" ما بشأنها كما في بدايات مؤتمر الحوار السابق، وعندئذٍ لا تفسير لمطالبة التحالف المعادي لـ14 آذار بما يسمّى الثلث المعطّل.
والنتيجة الثانية، هي أن يتأكد الاختلاف حول هذه المواضيع، وإذذاك لا معنى للمطالبة بما يسمّى "حكومة وحدة وطنية" عندما يكون برنامجها مسألة خلافيّة.
والحال، ان ما يتطلّع التحالف المذكور إليه، هو نقل الخلاف وبطريقة مقصودة إلى داخل مؤسسة القرار من أجل تعطيلها، لأن الحديث هنا هو عن مواضيع معروف سلفاً ان ثمّة خلافات بشأنها، وليس عن مواضيع "قد" تستجدّ "فجأة" في وقت من الأوقات.
وهنا أيضاً، كما في بداية هذا النصّ، من "عجائب" المرحلة ليس فقط تغييب "السياسة" بل ضرب الدستور بالارتداد عليه.
ذلك ان أقصر الطرق إلى الحلّ هو البحث السياسي لتنظيم الاتفاق أو تنظيم الاختلاف. وهذا وجه من وجوه الإنقلاب قيد محاولة التنفيذ.
على خلفية ما تقدّم، من الواضح ان تحرّك الأمين العام للجامعة موضوعٌ من جانب "حركة حزب الله" أمام مجموعة من الإشكاليات.
الأولى، بما ان قرار هذه "الحركة" موجود في دمشق وطهران، هي ان القدرة على إنتاج حلّ لبناني ـ عربي تغدو "صعبة" جدا.
الثانية، هي ان عدم اعتراف "حزب الله" وحلفائه باتفاق الطائف مرجعية وسقفاً، تجعل البحث عن حلّ للأزمة خارج أي مرجعية ميثاقية أو دستورية.
والثالثة، هي ان الإمعان من جانب الحزب وحلفائه في تغييب "السياسة" لمصلحة عملية "قضم" السلطة، يجعل "التوفيق" بين "مشروع الدولة" و"الإنقلاب" على الدولة عسيراً.
الأمين العام.. الشاهد والمحرِج
إذاً، ان تحرك عمرو موسى مطوّق بالعديد من الإشكاليات التي أنتجها التحالف السوري ـ الإيراني.
ومع ذلك، أي بالرغم مما يحيط بهذا المسعى العربي من عُقد وعراقيل، لا شكّ ان الأمين العام أسّس لدينامية معيّنة: فهو بات شاهداً على مجريات الصراع في لبنان وتداخلاته، وشاهداً على "وقائع" يستطيع أن "يخزّنها" في ذاكرته، وهو يقود تحركاً محرجاً لـ"حركة" حزب الله وحلفائه، وهو بما يمثّل سيكون "الملاذ" يوماً ما. ولهذه الاعتبارات جميعها، لا بدّ أن يواصل موسى مبادرته التي ستضاف إلى "توازن الحلّ" عندما يحين أوانه.