استهداف الطائف أبرز وجوه أزمة الحكومة

النوع: 

 

لسببٍ ما، يكرر المسؤولون السوريون أنهم لا يتدخلون في الشأن اللبناني، وأنهم مع "اتفاق" اللبنانيين، فيما الإعلام السوري يواكب ما يجري في لبنان منذ ما قبل الانتخابات النيابية بحملة منسقة على الدولة والنظام والرئيس المكلف، فـ"يبشّر" تارةً بانفجارات أمنية في البلد على خلفية الأزمة السياسية الحكومية، و"يتنبأ"، تارة أخرى وبشكل استباقي، بالخطوات والمواقف التي ستتخذها قوى الأقلية في التعاطي مع الأزمة الحكومية.

أول من أمس، أعلن وزير الخارجية السوري وليد المعلم من باريس أن "أحداً لا يمكنه أن يحل مكان اللبنانيين في تشكيل الحكومة"، وقبل يوم واحد من تصريحه هذا كانت صحيفة "تشرين" السورية تتحدث عن أن "شريحة كبيرة من اللبنانيين تجمع على أن النظام اللبناني بصيغته الراهنة غير قابل للحياة والاستمرار وأنه يعيش حالة موت سريري تتطلب خطوة انقاذية بعدما أصبح عصياً على الترقيع"، وأوردت في هذا الإطار أن "اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية ونقل السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً ووضع تصوراً للإصلاح يأتي في مقدمته إنشاء هيئة إلغاء الطائفية السياسية وإقرار اللامركزية الإدارية وقانون انتخابي جديد وقانون للأحزاب والعلاقات المميزة اللبنانية- السورية وغيرها من القوانين التي لم تنفذ الطبقة السياسية أياً منها". طبعاً لم تذكر الصحيفة أي شيء عن بند سحب سلاح المليشيات وعن بند اعادة انتشار القوات السورية الذي "جمد" قرابة العقد ونصف قبل أن تنسحب القوات السورية من لبنان في ربيع العام 2005.

الطائف بين "التفريغ" و"الهرطقة"

والواقع أن كلام الصحيفة السورية، صحيح الى حدّ ما، بصرف النظر عن مراد كاتبه ومن يقف وراءه، فـ "الشريحة الكبيرة من اللبنانيين" التي تحدثت عنها ما فتئت تسعى لإحداث تغيير في صيغة النظام، وهي إن لم تعلن ذلك صراحة فإنها تمارسه عملياً منذ العام 2006 بشكل ملموس.

وفي هذا الإطار يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

أولا: لا أحد يجادل في أن اتفاق الطائف قد تعرض لـ "التفريغ" على امتداد مرحلة الوصاية السورية بما أتاح المجال لنظام دمشق لإحكام سيطرته على القرار السياسي اللبناني من خلال السيطرة على المؤسسات الدستورية. بمعنى أن الهيمنة السورية لم تمكّن اللبنانيين من المضي في تطبيق الطائف طيلة الفترة المذكورة. وطيلة هذه الفترة أيضاً كانت المواقف المنتقدة للطائف والمطالِبة بتعديله تأتي من تلاوين المعارضة، أي حلفاء سوريا، أي من التحالف الذي لم يؤمن أساساً بهذا الاتفاق ـ الضمانة، وقد أثبتت الوقائع والأحداث منذ العام 2005 خصوصاً، أن كل ممارساته هي بمثابة انقلاب على الطائف والدستور.

ثانياً: منذ العام 2005 تحديداً، سمع اللبنانيون من هذا الفريق، "هرطقات" ومصطلحات وتفسيرات جرى تنسيبها الى الطائف والحال أن لا دخل للطائف بها من قريب أو بعيد. فباسم الطائف جرى تعطيل البلاد بهدف عرقلة المحكمة الدولية، تارة تحت شعار "حكومة الوحدة الوطنية"، وتارة أخرى تحت مسمى "الثلث المعطل"، وتحت كل ذلك جرى تعطيل الاقتصاد الوطني من خلال اعتصام وسط بيروت الشهير، ومن ثم احتلال العاصمة عسكريا وصولاً الى تكريس "ثلث إتفاق الدوحة المعطل".. باختصار قام الطائف عند هؤلاء على أساس وجود الوصاية السورية، فإذا ما انتهت تحت أي ظرف انتهت مفاعيل هذا الاتفاق وبات لبنان بحاجة الى صيغة جديدة.

من أزمة حكومية إلى أزمة نظام

ثالثاً: ان "النقض" الذي يمارس في وجه محاولات الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة، هو في بعض وجوهه، مذهبي أو بشكل أكثر دقة حزبي مذهبي. فـ "حزب الله" لا يفتأ بالتصريح بأن الحكم في لبنان بموجب اتفاق الطائف هو "ائتلاف بين الأكثريات الطائفية، أو الأكثريات في الطوائف"، ولا يخفى أن هذه النظرية هي أول طريق طرح المثالثة. وثمة من يستعيد اقتراحاً سبق أن ناقشته ايران مع بعض أطراف المجتمع الدولي صيف العام 2007 ويقوم على تعديل الصيغة اللبنانية بما يحسّن ظروف الشراكة الشيعية من خلال اعتماد صيغة المثالثة بدل المناصفة مقابل المساهمة في حل الأزمة اللبنانية وأيضاً بحث تخلي "حزب الله" عن سلاحه.

إن الحل السحري الذي ابتكره الطائف وأنهى بموجبه الحرب الأهلية قام على أساس اهمال العدد الراهن للمسيحيين والمسلمين مقابل اعتماد المناصفة بينهم وتوزيع النسب المذهبية في كلا النصفين المسيحي والمسلم، بما لا يمكن أياً من المذاهب في لبنان من امتلاك الثلث منفرداً، تماهياً مع "معنى" لبنان، بما هو رسالة للعيش المشترك ونموذج للتعددية في المنطقة.

رابعاً: إن الحديث عن الصيغة والنظام في مناسبة تشكيل الحكومة، يعني أن ثمة من يصور أو يسعى الى تحويل الأزمة الحكومية الى تحويلها الى أزمة نظام، أي الزعم كما تقول الصحيفة السورية باشم الشريحة الكبيرة من اللبنانيين- بأن النظام اللبناني ودستور الطائف ما عاد قادراً على الإيفاء بمتطلبات التعاقد الاجتماعي والسياسي بين اللبنانين، وبالتالي صار مصنعاً لأزمات متلاحقة وينبغي تغييره. ولا شك أن هذا الكلام في مقام تشكيل الحكومة، إلى كونه يتجاوز المنطق الديموقراطي الذي أنتجته الانتخابات، هو غير دستوري ومناقض للطائف.

إعادة الاعتبار للطائف

خامساً وأخيراً، لا بد من تأكيد أن ثمة فرصة حقيقية، قد تكون للمرة الأولى في لبنان، لوضع اتفاق الطائف موضع التطبيق اللبناني الذاتي، بعد "الوكالة" السورية التي أخضع اليها لبنان طيلة سنوات أدت الى عدم تطبيقه بما عطّل الآليات الدستورية. وهو الأمر الذي عبّر عنه الرئيس الحريري قبل تكليفه بتشكيل الحكومة من خلال تأكيد عزمه "تجديد الثقة باتفاق الطائف". وهذا الأمر يستدعي لحظ الاعتبارات التي أكد عليها الطائف في تشكيل الحكومات، ومنها: الاعتراف بالطائف دستوراً أنهى الحرب الأهلية وجدد العقد الاجتماعي والسياسي بين المكونات اللبنانية، وأن الانتخابات أفرزت غالبية نيابية واضحة، وأعطتها تفويضاً يعطيها الشرعية لتتحمّل المسؤولية على أساس البرنامج السياسي والاقتصادي الذي تقدّمت به والتوجّهات التي عرضتها للناخبين، وأن لا تكون الحكومة بموجب الميثاق الوطني مناقضة له، أي لا تستبعد أي بيئة أو مكوّن وطني بما يتناقض ومقتضيات العيش المشترك والوفاق الوطني، أي حكومة "تتمثل فيها الكتل النيابية الرئيسية"، بحسب تعبير الرئيس المكلف.

واقع الأمر، وهو ما يقتضي التشديد عليه، هو أن الارتداد على الطائف والدستور، هو في واقع الحال ارتداد على الدولة، فكرة ومشروعاً ومؤسسات وصيغة ومصائر. هو ضربٌ لكل ذلك في الصميم ورميٌ للبنان في المجهول.

فاتفاق الطائف، ولأسباب تتعدى الإطار السياسي المباشر، يمثل مرجعية مسيرة بناء الدولة في لبنان، جرى تنفيذ بعضها وتعطيل أكثرها لمصلحة الوصاية. أما وقد زالت الوصاية، فإن أي طعن فيه (أي في نصوصه) إنما هو بمثابة إنقلاب على الدولة.

الكاتب: 
أحمد الزعبي
التاريخ: 
الخميس, أكتوبر 1, 2009
ملخص: 
لا أحد يجادل في أن اتفاق الطائف قد تعرض لـ "التفريغ" على امتداد مرحلة الوصاية السورية بما أتاح المجال لنظام دمشق لإحكام سيطرته على القرار السياسي اللبناني من خلال السيطرة على المؤسسات الدستورية. بمعنى أن الهيمنة السورية لم تمكّن اللبنانيين من المضي في تطب