الحراك اللبناني يقلب المشهد الرتيب لخريطة القوى السياسية

النوع: 

 

انتقلت الأحداث في لبنان من مرحلة كوارث الطبيعة، التي تتمثل في الحرائق والنيران وطوفان الشوارع، إلى مرحلة الخطر الحقيقي المتمثل في عنجهية سيطرة حزب الله ومن معه في السلطة، ورفضهم سماع صوت حراك الشارع اللبناني، ولعل أخطر ما يحدث في لبنان حاليا هو ذلك العجز لدى رئاسة الجمهورية عن استيعاب معنى ما يحصل في الشارع منذ نحو شهرين من جهة وعمق الأزمة الاقتصادية التي تشمل النظام المصرفي من جهة أخرى، إذ إن ما يحدث في الشارع اللبناني ليس حدثا عابرا، فلو كان كذلك لما كانت الثورة مستمرة بطريقة أو بأخرى في كل المناطق اللبنانية، بما في ذلك المناطق ذات الأكثرية المسيحية والمناطق التي تقع تحت سيطرة حزب الله في الجنوب والبقاع.

عقلية الحزب التي اعتادت على الطاعة العمياء لـ"قم" ومرشدها، لم يرق لها معارضة مشروعها، فوظفت إعلامها بتصويب نيرانه إلى المتظاهرين بصفتهم خصوما جددا على الساحة السياسية، ولو استدعى الأمر محاربة الشارع اللبناني كله، ما أصاب المشاركين من غير خصومه بالذهول عندما وصفهم بأنهم "عملاء سفارات"، ومن هنا لا بد من التوقف عند سؤال مفاده: هل حزب الله ولاؤه لبناني أم إيراني؟ فمن عميل السفارات، الذي يضع مصلحة البلاد على المحك، وهنا نقف عند تساؤل آخر: هل يكتفي الحزب بالاتهام؟ حتما الجواب لا، حيث شهد وسط بيروت أخيرا مواجهات بين شبان مناوئين للمتظاهرين ضد الطبقة السياسية، وقوات الأمن التي تعرض عناصرها للرشق بالحجارة والمفرقعات المشتعلة، قبل أن ترد بإطلاق الغاز المسيل للدموع لتفريقهم.

جاءت هذه المواجهات غداة دعوة حسن نصر الله مناصريه وحليفته حركة أمل إلى "ضبط الأعصاب"، بعد تكرار حوادث مماثلة وصدامات مع القوى الأمنية من جهة، ومع المتظاهرين الذين يطالبون برحيل الطبقة السياسية، من جهة ثانية، قادمين سيرا من منطقة الخندق الغميق وسط بيروت القريب، حيث عملوا على تخريب لافتات رفعها المتظاهرون في وقت سابق وحرقها في وسط الطريق، كما حاولوا دخول خيم موضوعة في ساحة الشهداء، مرددين هتافات "شيعة شيعة"، وفق ما نقلت شاشات تلفزة لبنانية محلية.

نتيجة لذلك، تدخلت قوات الأمن لمنعهم من التخريب، قبل أن تشهد الساحة عمليات كر وفر بين الطرفين، تطورت ببدء الشبان رمي عناصر الأمن بالحجارة ومفرقعات نارية ثقيلة وإطلاق الشتائم، وعمدت قوات مكافحة الشغب إلى إطلاق الغاز المسيل للدموع لتفريقهم، وتمكنت من دفعهم للعودة إلى المنطقة التي قدموا منها، بينما أصيب متظاهرون بالقرب من البرلمان بحالات اختناق.

قصر نظر الحزب -كونه يعد بلاده ورقة إيرانية لا أكثر- قرب من نهايته، إذ استطاع الوصول إلى هذا العهد بعدما فرض رئيس الجمهورية الذي يريده وبعد انتخابات نيابية بموجب قانون عجيب غريب فرضه على اللبنانيين بما أمن له أكثرية نيابية يتبجح بها قاسم سليماني قائد لواء القدس في الحرس الثوري الإيراني، مقدما مصلحة المرجعية على مصلحة دولة برمتها، في الواقع، لا توجد أي مقومات لنجاح عهد يتحكم فيه حزب الله الموجه من سليماني.

وهذا لا يمثل حالة النداء، الذي نقلته قناة المؤسسة اللبنانية للإرسال التلفزيونية أن إمام حسينية حي الخندق الغميق، وجه نداءات عبر مكبرات الصوت باسم حزب الله وحركة أمل لـ"الانضباط"، مطالبا الشبان بالعودة إلى منازلهم، بعد الأحداث الأخيرة، فالنداء لا يشمل استهداف المدنيين، إنما التوقف عن مهاجمة رجال الأمن وعدم الاشتباك معهم، لتحييد قوات الأمن.

الحراك الذي بدا عابرا للطوائف والمناطق، ومصرا على مطلب رحيل الطبقة السياسية، لم يكن داعما لأحد، فشعاره الذي تلخص في جملة "كلن يعني كلن"، شمل الجميع ولم يستثن أحدا، وهذا يشمل الرئيس المستقيل سعد الحريري، وليس كما يروج الحزب، الذي أدخل بلاده في عزلة عربية، متسببا في انهيار قطاعي السياحة والعملات الصعبة القادمة من الخليج.

الثابت غير القابل للتحول هو أن هناك ثورة شعبية مستمرة في لبنان، فهل يريد عهد حزب الله القائم منذ 2016 أخذ العلم بذلك؟ وحتى لو همدت هذه الثورة، فلا مفر من الاعتراف بأن تغييرا في العمق حصل فعلا مع هذا التغيير، لا يمكن بأي شكل العودة إلى تشكيل حكومات على الطريقة القديمة وتسجيل نقاط على اتفاق الطائف، عن طريق تأخير موعد الاستشارات النيابية الملزمة.

فهناك عهد شبه منته لا أكثر ولا أقل، انتهى هذا العهد تقريبا، في وقت تشهد فيه المنطقة كلها تغييرات كبيرة، تشمل هذه التغييرات الداخل الإيراني حيث لم تهدأ الثورة على الرغم من اللجوء إلى القمع الشديد لإسكاتها، الأهم من ذلك كله أن العراق -حيث سيتحدد مستقبل النظام في إيران- في حال غليان، في العراق ثورة على إيران، وهذا ما يفترض أن يعيه كل من يفكر في مستقبل لبنان.

هناك بكل بساطة وضوح إيراني تقابله صراحة لبنانية واثقة، عبر عنها الشعب بالرفض بأن يكون لبنان بلا حياة وتحت سيطرة ثقافة الموت التي يسعى الحزب إلى فرضها عليه، وهناك في لبنان من يعرف تماما أنه لو كانت إيران قوية بالفعل ومرتاحة إلى وضعها، لما وجدت نفسها مضطرة، إلى جمع أموال رواتب موظفي ومقاتلي الحزب من التبرعات. على هذا النحو، من الأفضل لإيران تقبل وضوح الشعب، وأن تفرج عن الحكومة اللبنانية الجديدة عن طريق ضبط أدواتها وأدوات أدواتها أنصار عهد حزب الله، فحكومة لبنانية معقولة ومقبولة من المجتمع الدولي ومن العرب تبقى الطريق الأقصر لمنع انهيار الدولة اللبنانية، بعودتها إلى حاضنتها العربية، ولا أمل لحزب الله وأمل من وراء البكاء على الأطلال، التي شهدتها الأعوام الماضية في تعزيز الوجود الإيراني في بغداد وبيروت ودمشق، من خلال قدرة نفوذ إيران على تحديد من هو رئيس الوزراء في العراق، كما صار رئيس الجمهورية في لبنان هو من يرشحه حزب الله لهذا الموقع، ممليا عليه ماذا يفعل وكيف يحكم.

الحراك الشعبي اللبناني قلب المشهد الرتيب لخريطة القوى في لبنان، ولم يمهل هذه القوى وقتا لكي تلتقط أنفاسها، لكن الأهم أنه كشف عجزا كبيرا لدى أحزاب السلطة عن السير في ركب زمن لا يصلح معه خطاب المؤامرة، في وقت ليس لدى هذه السلطة ما تقوله غير هذا الخطاب.

الكاتب: 
محمود عبد العزيز
المصدر: 
التاريخ: 
الأربعاء, أكتوبر 16, 2019
ملخص: 
عقلية الحزب التي اعتادت على الطاعة العمياء لـ"قم" ومرشدها، لم يرق لها معارضة مشروعها، فوظفت إعلامها بتصويب نيرانه إلى المتظاهرين بصفتهم خصوما جددا على الساحة السياسية، ولو استدعى الأمر محاربة الشارع اللبناني كله، ما أصاب المشاركين من غير خصومه بالذهول عند