من ينشر "ويكيليكس" الطائف؟

النوع: 

 

مع تأخّر رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي في تشكيل الحكومة، يظهر أكثر فأكثر أن الأزمة في عمقها هي أزمة الطائف. فالصراع الدائر اليوم يُختصَر بالآتي: ما الاعتبار الذي يجب أن يرعى التأليف؟ هل هو الاعتبار الدستوري، اي التزام النصوص التي تحدد صلاحيات رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف والمجلس النيابي ورئيسه؟ أم هو الاعتبار الميثاقي: أي التزام قواعد التمثيل العادل والمتوازن للقوى السياسية، بما ينطوي عليه ذلك من تمثيل للطوائف ايضا؟

أزمة الطائف تكمن في أن هذا الاتفاق لم يستطع، بعد 22 عاما على ولادته، تحقيق مصالحة بين النص الدستوري والروح الميثاقية. بين دستور 1920 وميثاق 1943. وبقي الراعي السوري يغطي هذا الفشل بحضوره السياسي والأمني والعسكري حتى العام 2005. وعندما انسحبت قواته من لبنان، ظهر النظام اللبناني عاريا حتى من ورقة التين.

الرئيس المكلّف متمسّك بصلاحيات رئاسة الحكومة في التأليف، وفقا للنص الدستوري. وكذلك رئيس الجمهورية. الأول يتلقّى دعما من مرجعيته الدينية وقوى أساسية في الطائفة. والثاني كذلك. لكن هناك اشكالية تتعلق بهما، كل في داخل البيت الطائفي الذي ينتمي إليه، تقوم على تجاذب بين ما هو دستوري، وما هو ميثاقي.

الرئيس ميقاتي لا يمثل التيار السنّي الأوسع شعبيا، ومعلوم أن "تيار المستقبل" أشعل "يوم غضب" غداة تكليفه تشكيل الحكومة العتيدة، تحت شعار أن "حزب الله" الشيعي هو الذي اختار الممثل للموقع السني الأول في الحكم. وعمد ميقاتي منذ تلك اللحظة الى استثمار رصيده كله مع دار الفتوى لتبديل هذه الصورة.

كذلك، يتعرّض رئيس الجمهورية لحملة مركَّزة من العماد ميشال عون شعارها أن لا حق له في حصص وزارية، لأنه لا يمثل زعامة شعبية مسيحية ذات وزن خارج كونه رئيسا، وأن دعمه كرئيس للجمهورية يجب أن يرتكز على تصحيح الخلل في الصلاحيات التي أخذها منه الطائف. وطبيعي أن يكون مطلب التصحيح شاملا لدى عون وسائر القوى المسيحية في 14 آذار، اضافة الى بكركي وبعبدا نفسها. لكن المقاربة تختلف.

حدة الصراع السياسي تمنع الجميع من التفاهم على إجراء مصالحة أولى وأخيرة بين ما هو دستوري وما هو ميثاقي. هذه المصالحة، إذا تمت، من شأنها أن تحل جانبا اساسيا من المشكلة.

فالطائف اوجد دستورا يشبه كائنا اسطوريا بثلاثة رؤوس. لذلك، هو لا يستطيع التحرك في اتجاه واحد، بل يحتاج دائما الى مرجعية تؤدي دور الحكَم بين اطراف السلطة، وهو ما قامت به سوريا ما بين 1991 و2005.

الطائف أعطى كلا من رئيس الجمهورية ورئيسي المجلس والحكومة حق الفيتو، لكنّه لم يجد سبيلا لتحويل هذه "الفيتوات" الى قرار وطني واحد.

مثلا، استطاع رئيس المجلس تجميد عملية انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس اميل لحود، على رغم امتلاك خصومه أغلبية في مجلس النواب السابق. فمارس حق "الفيتو" على انتخاب رئيس للجمهورية لا يرضى عنه، بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن الطائفة التي يمثلها.

أما رئيس الجمهورية، فله اليوم، مثلا، أن يوقّع مرسوم تأليف الحكومة أو لا يوقّعه. هذه واحدة من ابرز الصلاحيات الباقية للرئيس بعد الطائف. ولا يجبره الدستور بأي التزام في هذا المجال ولا مهلة زمنية. وهذا يعني أن الرئيس قادر على ان يعطل تأليف الحكومة حتى إشعار آخر، من دون ان يكون لمجلس النواب، مصدر السلطات، اي دور في ضبط مسار التأليف.

وأما الرئاسة الثالثة، فهي اليوم تقدّم النموذج الأبرز لـ"الفيتو" الممنوح لها: لا أفق يلزمها زمنيا، ولا مجلس النواب الذي سمى الرئيس ميقاتي ولا رئيس الجمهورية قادرين على دفع شخصية مكلّفة الى حسم امرها واصدار طبعة حكومية تحال الى المجلس النيابي. ويمكن ان يبقى البلد مفتوحا على ازمة تأليف شهورا او حتى سنوات، من دون حكومة، ومن دون مخرج.

هذه الفجوات الخطرة في الطائف تجعل من النظام اللبناني برميل بارود، وخصوصا بعدما اصبح هذا النظام "من دون مظلة" بخروج سوريا، علما أنّ هذه "المظلة" اياها استفادت من التناقضات التي كانت قائمة لتثبيت القدمين، وليس هناك في دستور الطائف ما يحوّل الفيتوات الى لعبة تفاعل منتجة وخلاقة.

وتبادلت الطوائف منذ العام 2005، انتهاكاتها ذات الطابع الميثاقي. فالوزراء الشيعة، مثلا، خرجوا من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى، ورفعوا شعار فقدانها الشرعية الميثاقية، علما أنّ الدستور لا يقيم اعتبارا لهذه الميثاقية، سوى في ما يورده في مقدمته، اي: لا شرعية لما يناقض ميثاق العيش المشترك. وفي المقابل، تضامن هؤلاء مع رئيس الجمهورية يومذاك إميل لحود في الاعتراض على احالة حكومة السنيورة مشروع المحكمة الدولية الى مجلس الأمن، من دون المرور بمجلس النواب والحصول على توقيع الرئيس، كما أنّ لحود نفسه استمر ممثلا لطائفته في السلطة على رغم الحملة التي قامت داخل هذه الطائفة ضده، فيما اضطرت مرجعيته الدينية الى الوقوف ضد اسقاطه في الشارع لئلا يتعرّض الموقع للاهتزاز، بعدما كانت هذه المرجعية باركت الطائف عند ولادته.

لكنّ مأزق الصلاحيات لدى رئيس الجمهورية، وهو ملفّ من عمر الطائف، يبدو بعيدا من الحل، لأن طموحات القوى المتصارعة لا تتيح المجال لإصلاح ما خرّبه هذا الاتفاق العام 1989.

وحتى اليوم، لا تسمح الظروف للرئيس ميشال سليمان بأن يطرح هذه المعاناة على بساط البحث، لا في الحوار ولا سواه، على رغم السلبيات التي تصيب الرئاسة ودورها نتيجة الخلل في الصلاحيات. اذ ليست له "صلاحية" طرح الصلاحيات للنقاش.

اقترب الرئيس سليمان من منتصف الولاية، لكنّ العهد مشلول. الطائف أكل الصلاحيات. والدوحة كرّست ما قام به الطائف.

يرغب الرئيس في أن يكون حاكما لا حَكَما فحسب، لكنّ الدستور يحول دون رغبته. وتوازنات القوى الطائفية والمذهبية تعوق طموحه إلى اصلاح الوضع. يقبل أن يكون "أبو الجميع" وحارس الدستور، لكنّه يصارع لـ"إثبات" أبوّته، فيما الدستور الذي يحرسه هو في آن "خصمه والحَكَم"، لأنه يحدّ من صلاحياته. المفارقة هي أنه حريص على دستور يحدّ من صلاحياته.

يرفض الرئيس ان يكون "أبو ملحم" فقط، بعدما كان الدستور سابقا يجعل الرئيس "أبو علي" الحقيقي. وبمقدار ما يسحب رعاة الحل الاقليميون والدوليون ايديهم من لبنان، وعن لبنان، تتواجه الطوائف اللبنانية ورؤساؤها وممثلوها وجها لوجه، ويصبحون امام استحقاق القدرة على تطوير النظام، وتنظيم "قواعد الاشتباك" بين رؤوسه في السلطة وخارجها.

الرئيسان اللذان مارسا الحكم بعد الطائف، الياس الهراوي واميل لحود، حاولا تعويض النقص في الصلاحيات الدستورية بالإفراط في الاستقواء بسوريا، الراعية لتنفيذ الطائف. وهذه المحاولات كان مردودها سلبيا في غالب الأحيان، لكنّ الرئيس سليمان يمارس الحكم من دون "رعاية خارجية" ولا صلاحيات دستورية فاعلة. النظام اللبناني من دون رعاية خارجية مباشرة، والرئيس بلا صلاحيات فاعلة، فأين المفرّ؟

الهراوي ولحود حاولا مرارا ترقيع الفجوات التي تعتري صلاحيات الرئيس، في نص الطائف، وفي عدم تنفيذه أحيانا، وفي تنفيذه مجزوءا او مشوَّها او ملتبسا احيانا أخرى، لكنّ عقبات حالت دائما دون ذلك، أحيانا من جانب رئيس السلطة التشريعية، وغالبا من جانب رئيس السلطة التنفيذية.

لو كان موقع الرئاسة "تقنيا" فقط، لربما كان سهلا علاج مشكلته، لكنّ للموقع وزنا ميثاقيا ايضا، لا يمكن تجاوز وزنه التمثيلي، واستطرادا الميثاقي. كما لا يمكن تجاوز الوزن الميثاقي لموقعي رئاسة مجلس النواب بالنسبة إلى الشيعة ورئاسة مجلس الوزراء بالنسبة إلى السنّة. وعندما يطرح رئيس الجمهورية مسألة صلاحياته، يُستثار الآخرون "ميثاقيا"، على رغم حرصه على المنطلقات الميثاقية في كل ما يقوم به.

إن المواد الدستورية الواجب تعديلها لمصلحة تمكين رئيس الجمهورية من الاضطلاع بدوره باتت معروفة. وقد اعد الرئيس الهراوي ملفا بها، تولى إنجازه حقوقيون وبعضهم نواب شاركوا في الطائف كبطرس حرب، ولم تسمح الظروف باعطاء هذا الملف حقه من النقاش. وفضّل الراعي السوري أن يهرب من المأزق الميثاقي، فعمد الى "توزيع" "صلاحيات" للمواقع كلها "من كيسه" وفقا لما يراه مناسبا، لأن ذلك يوفر عليه عناء المواجهة مع الطوائف من جهة، ولأنه يكرّس رعايته الحتمية للإدارة في لبنان من جهة ثانية.

هذا الملف ما زال مطويا، وأدى خروج سوريا إلى مواجهة اللبنانيين قدرتهم على ادارة شؤونهم بأنفسهم. لكنّ أيا من الأطراف الاقوياء لا يجد اليوم مصلحة في اجراء مراجعة حقيقية لاتفاق الطائف بهدف تصحيح الخلل فيه.

كما أن الطرف المسيحي يخشى أن يؤدّي طرح الطائف على بساط البحث، إلى استبداله باتفاق أسوأ منه للمسيحيين. ويدعم هذا الانطباع التحليل الذي يقول إنّ الطائف كان نتيجة ميزان دولي – إقليمي محلّي للقوى، ضم في حينه الولايات المتحدة وسوريا والسعودية، وحظي بدعم إسلامي ومباركة مرجعيات روحية وسياسية مسيحية. وهذا الميزان تبدّل اليوم. وترجم ذلك اتفاق الدوحة وتكليف ميقاتي تأليف حكومة جديدة.

قد لا يكون مطلوبا استبدال اتفاق الطائف، بل البحث عن الطروح والنقاشات التي أدّت اليه، وخصوصا إعادة دور رئاسة الجمهورية كمحور فاعل وقادر على حماية الدستور والميثاق. ويجب كشف الخفايا التي تركت العديد من البنود قنابل موقوتة في النص الدستوري والروح الميثاقية العام 1989. وفي ذلك، يحمل الرئيس حسين الحسيني في جعبته مضمونا يضاهي مضامين وثائق "ويكيليكس". لكنّ هناك وثائق على خط بيروت – دمشق الرياض وباريس وواشنطن، يمكن ان تشكل فضيحة إذا تم كشفها، هي والأحداث المشبوهة التي سبقتها ورافقتها وأعقبتها. وهي تفسّر ما وصل اليه "نظام الطائف".

الكاتب: 
طوني عيسى
التاريخ: 
الاثنين, أبريل 11, 2011
ملخص: 
الطائف اوجد دستورا يشبه كائنا اسطوريا بثلاثة رؤوس. لذلك، هو لا يستطيع التحرك في اتجاه واحد، بل يحتاج دائما الى مرجعية تؤدي دور الحكَم بين اطراف السلطة، وهو ما قامت به سوريا ما بين 1991 و2005. الطائف أعطى كلا من رئيس الجمهورية ورئيسي المجلس والحكومة حق الف