الطريق الى الانتحار (الجزء الرابع)

النوع: 

 

على اثر اعلان حرب التحرير تأزمت علاقة الجنرال مع بكركي التي رأت فيها انتحارًا في ظل ميزان قوى مختل وفي توقيت خاطئ جدًا ودون تنسيق مع اي من الجهات الدولية التي 1990 سيما ما – كانت بمعظمها تعارض هذه الحرب وفي تقييم بكركي لاحداث سنتي 1989 يتعلق بحرب التحرير نقرأ التالي:

” وجاءت حرب التحرير وقد اعلنها دون استشارة احد من الناس.فاتصل غبطته بكل المراجع الدولية طالبًا النجدة فأجابت انها مع لبنان ووحدته وسيادته واستقلاله بحدوده المعترف بها دوليًا.وسأل غبطته بعد ذلك العماد عون-والمعارك حامية-علام يتكل لمواجهة الجيش السوري فأجاب:هناك وراء الخطوط السورية ثلاثة الاف مجموعة ستهب للمساعدة لاخراج السوري. وهي مجهزة تمامًا. ولم يتحرك احد.وكان خراب وقتلى وهجرة وتهجير.فكيف الامكان الموافقة على هذه الحرب وهي خاسرة مسبقًا لعدم تكافؤ القوى؟ افما قال السيد المسيح اي ملك يذهب لمحاربة ملك آخر بعشرة آلاف؟…وقيل بعدئذ:ليس المقصود دحر الجيش السوري بل لفت نظر العالم الى القضية اللبنانية وحمله على الاهتمام بها.واهتم العالم باسره: الولايات المتحدة والمجموعة الاوروبية والمجموعة العربية وحتى المجموعة الدولية.فقادنا هذا الاهتمام الى الطائف.حرب التحرير هي التي افضت بنا الى الطائف” (السادس والسبعون-الجزء الاول” ص 321)

تزايد العنف والهجرة وانسداد الافق دفع بالبطريرك الى السعي لمبادرة ما فكان ان دعى الى لقاء نيابي يعقد في بكركي وانتهى الى اصدار بيان يدعو فيه الى وقف لاطلاق النار فكانت المواجهة الاولى بين عون وبكركي فمنطق “الامر لي” لا يتقبل رأيًا آخر وشعار التحرير لا يقبل وقفًا لاطلاق النار فهل يجوز وقف اطلاق النار اثناء التحرير من الاحتلال؟

شعارات رنانة تحكمت بالناس التواقين الى تحرير بلدهم لكن ما يراه البطريرك لا يراه المواطنون المأخوذون بشعارات التحرير فالواقع انها كانت حرب استنزاف يتبادل فيها الطرفان اطلاق النار على الارض اللبنانية دون اي محاولة تقدم عسكري على الارض كما ان المناطق الشرقية محاصرة والمواد الاولية تكاد تختفي والهجرة المسيحية تتفاقم بالرغم من القصف المتواصل على البواخر فكان اجتماع بكركي المواجهة الاولى التي ستليها مواجهات اشد واعنف بين منطق العقل والحسابات الدقيقة وبين منطق الانتحار تحت شعار “الجيش هو الحل”.

ونتابع القراءة في سيرة البطريرك عن تلك المرحلة :

” رأى البطريرك الماروني انه لا بد من محاولة اطلاق مسعى جديد يؤكد على الثوابت الوطنية وفي مقدمتها سيادة لبنان واستقلاله وفي الوقت نفسه يفتح افقًا جديدًا.فدعا النواب المسيحيين الى اجتماع في بكركي في الثامن عشر من نيسان 1989 .شكل هذا اللقاء الاصطدام الاول بين البطريرك الماروني والعماد ميشال عون غير ان هذا الاصطدام لم يكن مباشرًا وفضل الجنرال ان يكون عبر النواب الثلاثة والعشرين الذين حضروا اللقاء.وقد تعرض بعضهم لتهديدات واستهدفت مكاتب بعضهم الآخر بالحجارة او بالحرق”.

(الكاتب انطوان سعد “السادس والسبعون-الجزء الاول” ص 216)

” احصت صحيفة لوريان لو جور بعد ثلاثة ايام على انعقاد اجتماع الثلاثة والعشرين نائبًا مسيحيًا ثلاثة وعشرين تظاهرة معارضة في بكركي معظمها اتى من كسروان وقد اطلق المتظاهرون شعارات قاسية ضد النواب وهتافات مؤيدة للعماد عون .فرد البطريرك صفير بموقف رفض فيه اسلوب التعامل معه ومع النواب.وبعد ان جدد تمسكه بسيادة الدولة اللبنانية،توجه الى المتظاهرين بالقول :”نحن نعيش في بلد ديمقراطي هذا يعني ان كل فئة من الشعب يحق لها ان تعبر عن رأيها(…) بالفوضى تضيع الامم.وليس بالشعارات الغوغائية يعاد بناؤها.لا يحق لكم ان تملوا علينا رأيًا ايًا كان هذا الرأي.ونحن نعلم ما نريد”.

(الكاتب انطوان سعد “السادس والسبعون-الجزء الاول” ص 221)

1000 قتيل، 3000 جريح و 300000 مهجر ومهاجر نتيجة لحرب التحرير ودمار لم يعرفه لبنان سابقًا ولم يتحرر شبر واحد فتدخل العرب وخلفهم الاميريكيون وطرحوا مبادرة من سبعة بنود تولى الموفد الجزائري تسويقها وبعد اخذ ورد وافق الافرقاء اللبنانيون على المبادرة العربية بما فيهم العماد عون وتضمنت البنود السبعة بندًا يتعلق بمنع ادخال السلاح الى المتقاتلين كما تضمنت بندًا يدعوا الى ذهاب النواب الى الطائف ليتفقوا حول مشروع حل قائم على معادلة الانسحاب السوري (مطلب المسيحيين) مقابل الاصلاحات الدستورية (مطلب المسلمين)

وذهب النواب المسيحيون الى الطائف بعد ان عقدوا اجتماعًا مع العماد عون كما لاقاهم النواب المسلمون وبدأت المناقشات وكان العماد عون يتابع تطور الامور من خلال المهندس داني شمعون الذي كان على اتصال مباشر بكل من النواب بيار دكاش وميشال ساسين المحسوبين على حزب الاحرار وتوصل النواب الى تسوية بين الاطراف المتنازعين تنهي القتال وتحل الميليشيات كما تنص على سلسلة من الاصلاحات الدستورية لمصلحة المسلمين وتنص ايضًا على جدولة الانسحاب السوري باتجاه البقاع في مدة سنتان من تاريخ اقرار الاصلاحات وترك امر الانسحاب النهائي للحكومتين على ان يجتمعا بعد سنتين ويحددا عدد الجنود ومدة بقائهم في لبنان.

طبعًا لم تكن تسوية الطائف هي المرتجى بل كانت الحد الادنى المطلوب لكن في ذلك الزمن ومع وجود سوريا واسرائيل والفلسطينيين وحراس الثورة الايرانية في لبنان كما مع وجود عشرات الميليشيات ومناطق النفوذ لم يكن بالامكان افضل مما كان فللمرة الاولى تلوح في الافق فرصة ليتنفس اللبنانيون الصعداء علهم يتمكنون من بناء دولة طال انتظارها وان لم تكن دولة الطائف على قدر الطموحات لكنها بالتأكيد افضل من الوضع الذي كان قائما .ًمعظم الافرقاء اللبنانيين كانت لهم تحفظاتهم لا بل معارضتهم الشديدة سيما عند الطائفة الشيعية وبالرجوع إلى أرشيف الصحافة لتلك الفترة، نجد اتفاق الطائف، في نظر معظم الأصوات الشيعية، “اتفاقًا مارونيًا، ومؤامرة خارجية، ونسخة منّقحة من اتفاق 17 أيار، ومجرد اتفاق لوقف النزاع المسّلح يمكن الالتزام به اضطرارًا، إنما ينبغي العمل بكل الوسائل المتاحة لإسقاطه أو تغييره…”. هذا الموقف يظهر بوضوح من خلال تصريحات وبيانات لكل من  على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ نبيه بري رئيس حركة أمل آنذاك. وحزب الله والرئيس عون.

لكن البطريرك صفير القارئ الممتاز للتوازنات والذي كان قد رفض قبل اشهر قليلة الاصلاحات التي طرحت في تونس في لقاء الرؤساء الروحيين وافق على اتفاق الطائف فالمناطق الحرة مطوقة ومدمرة والمسيحيون عصفت بهم الهجرة والمجتمع الدولي والعربي داعم للطائف باستثناء ايران وليبيا ومنظمة التحرير الفلسطينبة حتى العراق وافق على اتفاق الطائف وكانت مواجهة الاتفاق بمثابة الانتحار لكن العماد عون جاهز دائمًا للانتحار فبعد موافقة البطريرك والقوات اللبنانية والجبهة اللبنانية برئاسة داني شمعون كما حزب الوطنيين الاحرار وحزب الكتائب عقد العماد عون مؤتمرًا صحافيًا مفاجئًا اتهم فيه النواب بالخيانة واهدر دمهم في سابقة غريبة عن اللبنانيين وبدأت حملة اعتداءات على بيوت النواب وممتلكاتهم فتراجع داني شمعون كما صمت كافة الافرقاء المسلمين المعارضين للاتفاق فاذا كان العماد عون سيواجه الاتفاق فلماذا يتكبدون عناء المواجهة؟

وساءت العلاقة مع بكركي التي انتقدت الاعتداء على منازل النواب لكن “الشعب” كان يحاسب الخونة ونكمل القراءة عن تلك المرحلة:

“فجر الرابع من تشرين الثاني وعند الساعة الخامسة الا ثلثًا اعلن العماد عون بصفته رئيسًا للحكومة الانتقالية قراره بحل مجلس النواب في مؤتمر صحافي نقلته تلفزيونات المنطقة الشرقية واذاعاتها مباشرة.

ابلغ السفير البابوي بابلو بوانتي البطريرك صفير بحضور نائبيه العامين ابو جوده والراعي ما ابلغه للعماد عون:”ان الفاتيكان ضد حلّ مجلس النواب وضد تقسيم لبنان. لقد دقت ساعة الحقيقة واختيار الشر الاهون هو الاسلم.الكرسي الرسولي يؤيد انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية واحياء المؤسسات الدستورية ولا حياد في هذا المجال”.وطلب بوانتي من عون ان يعمل شيئًا ليعود عن قرار حل مجلس النواب.”فحل المجلس غير قانوني” وبدا للسفير البابوي بأن عون تأثر بما سمعه منه.

في عظة الاحد الواقع فيه الخامس من تشرين الثاني لفت البطريرك الماروني الى اعمال العنف التي كان يقوم بها انصار العماد عون ضد مكاتب ومنازل النواب وكانت وسائل اعلام الجنرال تقول ان الشعب المستاء من مواقف النواب هو الذي يقوم بهذه الاعمال التخريبية.

(الكاتب انطوان سعد “السادس والسبعون-الجزء الاول” ص 268  – 269)

الخامس من تشرين الثاني 1989 يوم لن يمحى من ذاكرة اللبنانيين فبعد يوم واحد من قيام العماد عون بحل المجلس النيابي اجتمع المجلس في القليعات واقر البنود الاصلاحية من الاتفاق وانتخب النائب رينيه معوض رئيسا للجمهورية لكن الابرز يومها كان الاعتداء على البطريرك صفير الذي سيبقى علامة سوداء في تاريخ المسيحيين مهما طال الزمن.

الكاتب: 
ادغار بو ملهب
التاريخ: 
السبت, أبريل 26, 2008
ملخص: 
رأى البطريرك الماروني انه لا بد من محاولة اطلاق مسعى جديد يؤكد على الثوابت الوطنية وفي مقدمتها سيادة لبنان واستقلاله وفي الوقت نفسه يفتح افقًا جديدًا.فدعا النواب المسيحيين الى اجتماع في بكركي في الثامن عشر من نيسان 1989 .شكل هذا اللقاء الاصطدام الاول بين