الطريق الى الانتحار (الجزء الخامس)
قيل
الاعتداء على البطريرك
تعددت الروايات حول ما حصل تلك الليلة لكن البطريرك يبقى الادرى والاعرف فهو المعني المباشر بما حصل وقد ضمن سيرته التي كتبها الاستاذ انطوان سعد بعضًا من المعلومات الدقيقة والقيمة التي لا تترك مجالا للشك حول هوية المحرضين والمعتدين. ما حصل في مساء ذلك اليوم المشؤوم كان قد بدأ قبل ذلك وتحديدًا قبل تولي العماد عون رئاسة الحكومة الانتقالية بقليل:
“توجه وفد من فريق عمل العماد ميشال عون من بينهم من سيصبح رئيس المكتب المركزي للتنسيق روجيه عزام واوضح الوفد للبطريرك صفير ان انتخاب رئيس للجمهورية بات صعبًا للغاية ان لم يكن مستحيلا وان الجيش اللبناني سيحل مكان السلطة السياسية المنتهية ولايتها. واقترح فريق عمل الجنرال عون ارساء قاعدة تعاون بين البطريركية المارونية والجيش اللبناني الممسك بالسلطة السياسية لتمرير فترة الفراغ الدستوري على خير رد البطريرك الماروني على ما طرح عليه بدعوة الجميع الى صب الاهتمام الاول والاخير على تسهيل اجراء الانتخابات الرئاسية والابتعاد عن كل مغامرة من شأنها ان تعرض وحدة لبنان للخطر.شعر الوفد ان البطريرك ليس متحمسًا للتجربة التي سيخوضها مع العماد عون من قبل ان تبدأ،ولمس بوضوح ميله الى عدم تأييد وصول رجل عسكري الى السلطة. واعتبارًا من ذلك اللقاء استبعد فريق عمل الجنرال كل امكانية اتكال على البطريرك الماروني لانجاح مشروعه،ورأوا ان الاهتمام يجب ان ينصب على تحييده وتجنب عرقلته” .
(الكاتب انطوان سعد “السادس والسبعون-الجزء الاول” ص 176)
1989 اعده فريق عمل العماد عون موقعًا من العميد -10- وفي تقرير مؤرخ في 11 الركن فؤاد عون والسيدين روجيه عزام ووليد فارس ونشرته مجلة الشراع اسابيع قليلة بعد الاعتداء على بكركي وفي التقرير خطة تحرك مقترحة حددت “آلية التنفيذ” يتم بموجبها “فرز القوى الموجودة في المناطق المحررة بحيث يعمل على عزل المعارض منها ومحاولة التفاهم معه او ضربه تمهيدًا للخروج بقرار سياسي موحد”. ما يتعلق بالبطريرك صفير ورد في الفقرة أ ويتضمن:
“أ-البطريرك الماروني نصرالله صفير: اننا نعتقد ان البطريرك صفير سيعارض هذه الخطة لاسباب تتعلق بسياسة الفاتيكان الذي يحرص على استمرار التعايش المسيحي- الاسلامي بمقدار ما يحرص على بقاء الوجود المسيحي في لبنان آمنًا وحرًا. لذا نقترح القيام بمحاولة اخيرة معه بغية اقناعه عن طريق بعض المقربين في بكركي امثال المطران رولان ابو جوده وفي حل فشل هذه المحاولة اتخاذ خطوات تصعيدية تؤدي الى:
-اجبار البطريرك على تبني مشروعنا والا ترحيله عن المناطق المحررة:يمكن ان يستتبع هذه الخطة ضغط على المطارنة لانتخاب مجلس بطريركي او ما شابه يكون ممثلا لتطلعات المسيحيين الحقيقية”. كما يتضمن التقرير الذي نشرته الشراع فقرات تتعلق بالقوات اللبنانية وباحزاب الجبهة اللبنانية كما اقتراحًا بحل مجلس النواب.لكن في تفاصيل الاعتداء نترك للبطريرك ولمعاونيه كما لبعض المقابلات التي اجراها كاتب سيرة البطريرك لاطلاعنا على ما حدث:
” الثالث من تشرين الثاني 1989 وصلت معلومات الى الاجهزة الامنية التابعة للقوات اللبنانية مفادها ان البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير سيتعرض في الايام القليلة المقبلة الى اعتداء لدفعه الى مغادرة المنطقة الشرقية فكلف الدكتور جعجع اثنين من ضباط القوات اللبنانية بزيارة البطريرك صفير واطلاعه على المعلومات وسؤاله ما اذا كان يرغب في ان تؤمن له القوات حماية تضاف الى الحماية التي تقدمها عناصر الجيش. ولما نقل موفدا جعجع المعلومة الى سيد بكركي انتفض وقال لهما :”انتم كقوات لستم موارنة اكثر من غيركم ولن يعتدي علي احد ولا احتاج الى اي حماية “.وعندما سمع قائد القوات في وقت لاحق رد البطريرك صفير ابتسم وقال “يصطفل،انا عملت اللي علي”.
في اليوم التالي اي السبت الواقع فيه الرابع من تشرين الثاني جاء المسؤول عن الامن في جونيه في احد الاجهزة الرسمية ليعلم البطريرك الماروني بأن “تظاهرة ستتجه الى بكركي غدًا الاحد لاقامة جناز لجورج سعاده”.وسأل عما يمكن عمله فأجاب البطريرك صفير :”ليتظاهروا في الساحة" وبعد ان تقاطعت المعلومات التي وردته من القوات اللبنانية مع معلومات الاجهزة الرسمية اوفد نائبيه العامين ابو جوده والراعي الى العماد عون ليبلغاه التالي :
“موقف بكركي هو موقف الفاتيكان.اننا ضد التقسيم ومع انتخاب رئيس للجمهورية واعادة مؤسسات الدولة.انت تتحمل مسؤولية كل ما يمكن ان يحدث في التظاهرة المتوجهة غدًا الى بكركي”.
اعتبر البطريرك صفير ان الخطوة الوقائية التي قام بها من شأنها ان تحمل العماد عون على تقصي امر التظاهرة المشار اليها واجهاضها بعدما علم بها الجميع وبعد ان حمله البطريرك المسؤولية الكاملة التي يمكن ان تنجم عنها.
….
عند السابعة مساء عقد مكتب التنسيق المركزي المساند للعماد عون اجتماع له في مجمع الرمال في نهر الكلب برئاسة روجيه عزام وجرى التداول في المستجدات لا سيما في انتخابات رئاسة الجمهورية ومواقف البطريرك صفير وقد ابدى المجتمعون امتعاضًا من بكركي واعلنت اكثر من مجموعة رغبتها في التظاهر احتجاجًا على مواقفها.وقال روجيه عزام فيما بعد انه شعر ان غضب الجماهير كبير وانه ليس من الحكمة توجيه تظاهرة ليلا الى بكركي ولا اقناع الناس بعدم التظاهر ضدها خصوصًا وان مكتب التنسيق على حد تأكيد رئيسه اجهض اكثر من محاولة تظاهر صاخب ضد بكركي في الاشهر السابقة “لذلك اضاف عزام قررنا تنظيم تظاهرة احتجاجية ضد البطريرك صفير في الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر اليوم التالي.صراحة خفت من ردة فعل غير جيدة ضد البطريرك في حال صعدنا في تلك الليلة الى بكركي فأعلنت ان التظاهرة ستكون في اليوم التالي وقد اصدرنا بيانًا في هذا الخصوص اذاعته وسائل الاعلام. طبعًا قامت قيامة البعض ورفض القرار وأعلن انه سيصعد في الحال الى بكركي لاعلان رفضه لمواقف البطريرك صفير المؤيدة لاتفاق الطائف.اما المجموعات التي تلتزم بقرارنا فلم تتظاهر ضد بكركي في تلك الليلة بل في اليوم التالي” وفيما كان سكان الصرح البطريركي يتابعون في جناح الكاردينال انطونيوس خريش نشرة الاخبار المسائية عبر تلفزيون لبنان وكانت الساعة قد قاربت التاسعة ليلا فوجئ البطريرك الماروني وصحبه بالخبر اذي اذاعته مذيعة التلفزيون:”احتجاجًا على مواقف البطريرك صفير التي مهدت لانتخابات رينيه معوض سقوم تظاهرة صامتة الى بكركي في الساعة الحادية عشرة من قل ظهر الاثنين”. ولدى خروج البطريرك صفير والمطرانين رولان ابو جوده وبشاره الراعي من جناح الكاردينال الى الرواق الكبير سمعوا قرع اجراس واصوات جلبة فتذكر البطريرك الماروني ان احد الآباء المقيمين في بكركي تلقى اتصالا هاتفيًا افاده ان هناك تجمعات تنظم في بيروت وجونيه ويقال انها قادمة الى الصرح البطريركي.
قرابة الساعة التاسعة والنصف كان قد وصل الى بكركي عدد من الشبان والشابات وطلبوا ان يقابلوا البطريرك الماروني في ساحة بكركي الخارجية الخارجية وقد نقل الطلب المطران رولان ابو جودة فرد البطريرك صفير:”ليختاروا اربعة ممثلين عنهم فجاء اربعة شبان واحد من آل طربيه وآخر من عائلة شلفون من غسطا والثالث طالب طب في السنة الثالثة في الجامعة الاميريكية والرابع من عائلة ابو الصنائع وكان الاخير اكثرهم هوسًا.ونقل الشبان الاربعة هواجسهم الى سيد بكركي،هواجسهم من اتفاق الطائف ومن موقف البطريرك صفير من الاتفاق في الوقت الذي يجب ان تتوحد فيه الجهود لدعم حرب التحرير التي اعلنها العماد عون لاخراج الجيش السوري من لبنان.
رد البطريرك صفير على ممثلي المتظاهرين بعد ان اصغى الى شكواهم انه مع العماد عون في المطالبة بالسيادة المطلقة وقال لهم :”بلغوا رفاقكم ذلك”.فخرجوا لبضع دقائق ئم عادوا يلحون على البطريرك بأن يقابل المتظاهرين ولما هم بالخروج اليهم تدفق المتظاهرون الغاضبون الى القاعتين الكبرى والصغرى للاستقبال وعبثًا حاول النائبان العامان رولان ابو جوده وبشاره الراعي تهدئة المتظاهرين واقناعهم بالتخلي عن فكرة الدخول عنوة الى الصح البطريركي وتسلق بعضهم على البوابة الكبرى والجدار الخارجي حتى وصلوا الى نافذة الرواق فوق المدخل فشد الدركيون اليهم ايديهم ليساعدوهم على الدخول.وما ان نجح بعض المتسللين الى الداخل في فتح الباب الحديدي حتى تدافع التظاهرون الى الداخل.
وعندما وافاهم السيد البطريرك الى القاعة الكبرى كانوا يصيحون بشعارات من مثل :”بالدم بالروح نفديك يا عماد”. وكانوا يرددون هذه اللازمة على فترات متقطعة واندفع بعضهم الى صورة البطريرك الماروني المعلقة فوق الجدار فاخترقوها وانزلوا الاطار ثم مزقوها ورفعوا صورة العماد عون مكانها.فيما الصق بعضهم الآخر صور الجنرال على باقي الجدران وصورة على الكرسي البطريركي فوق الوسادة التي كتب عليها:”مجد لبنان اعطي له”.وطلب المتظاهرون ان يخرج البطريرك صفير لمقابلة الجماهير التي ملأت الساحة الداخلية وكان هناك ايضًا من يزالون في الساحة الخارجية.فذهب البطريرك صفير معهم وقد احاط به بعض منهم مع الدرك ثم طلبوا منه القاء كلمة فيهم تأييدًا للعماد عون.وكان من بين المتظاهرين من يقول للبطريرك صفير :”قل انا ضد معوض او انا ضد النواب انا معك يا جنرال”.
ثم طلب احد المتظاهرين من السيد البطريرك ان يقبل صورة العماد عون المرفوعة فوق رأسه وتبعه كثيرون يقولون:”بوس الصورة،بوس الصورة”. فرفض البطريرك ذلك. كان المشهد هيستيريًا وتراجيديًا الى حد دفع بالمطران بشاره الراعي الى ترك جانب البطريرك والتوجه الى كنيسة الصرح البطريركي لأنه لم يعد بامكانه احتمال المنظر.
ويروي احد المتظاهرين ضد بكركي في مساء الخامس من تشرين الثاني تفاصيل ما حصل معه “كنت في الثالثة والعشرين من عمري وكانت الحماسة الوطنية تملأ قلبي وفيما كنت متوجهًا مع احد اصدقائي الى السينما مررنا بساحة ساسين حيث كان هناك تجمع للشبان والشابات يتظاهرن ضد انتخاب رينيه معوض رئيسًا للجمهورية وكانوا يغنون الاغاني الوطنية الحماسية فاستوقفنا الامر وشاركنا معهم وغنينا وهتفنا ضد سوريا ومعوض وبعد نحو ساعة قال لنا احد الشبان فلنتوجه الى بكركي لنعرف ما هو موقفها الحقيقي مما حصل لانه يقال ان البطريرك صفير قد باعنا وأيد اتفاق الطائف.لنذهب ونسأله قال الشاب الذي لم اعرف اسمه،توجهنا صوب الصرح البطريركي بالسيارات وكنا نحو خمسة وعشرين سيارة يركبها اكثر من ستين شخصًا ووصلنا بكركي عند الثامنة والنصف،رفض العسكريون المولجون حماية البطريركية دخول السيارات فدخلنا سيرأً على الاقدام الى ان وصلنا الى بوابة الصرح التي كانت مقفلة فصرنا نغني الاغاني الوطنية ونطلق الهتافات بصوت عال وبقينا على هذه الحال اكثر من ثلث ساعة الى ان اطل النائب البطريركي العام المطران رولان ابو جوده من النافذة فوق بوابة الصرح وسألنا عما نريد فقلنا له اننا نريد ان يخرج البطريرك صفير ويكلمنا لأننا نريد ان نسأله عن حقيقة موقفه فأجاب ان البطريرك مرتاح في تلك الساعة وقد يكون من الافضل ان نأتي في اليوم التالي لمقابلته ولما اصررنا قال لنا سيرى ما اذا كان بامكانه ترتيب شيء ما.
انتظرنا نحو ثلث ساعة ايضًا ولم يأتنا جواب فغضبنا وغضبت انا شخصيًا واعتبرت ان البطريرك يستخف بنا ويعتبرنا مجموعة اولاد،فقمت بتسلق باب الصرح ووصلت الى النافذة فارتعب وارتعد وقال لي كيف تدخل الى هنا بهذه الطريقة فأجبته :أنا اتعاطى كوكايين وانواع المخدرات كافة فلا تعترض طريقي اريد ان ارى البطريرك واسأله لماذا لم يوافق على مقابلتنا،في الحقيقة لم أدخن سيجارة دخان واحدة في حياتي لكني قلت له ذلك لارهابه. “ثم اطل المطران ابو جوده على المتظاهرين طالبًا اليهم ان يختاروا ثلاثة من بينهم لمقابلة البطريرك الماروني فرافقنا نحن الاربعة النائب البطريركي الى الصالون الاحمر حيث انتظرنا البطريرك الذي لم يتأخر عن المجيء وبعد السلام سألنا ماذا نريد فقلنا :أتينا الى بكركي لنعرف هل انت معنا او ضدنا أي ضد الطائف او معه، رد البطريرك علينا بالقول انه لا يمكنه ان يكون مع احد ضد احد وان الجميع هم ابناؤه ويعاملهم بالقدر نفسه بالمحبة.
فأعدت السؤال عليه مرتين وثلاث وأربع وربما أكثر فلم يعد يجيبني فاغتظت جدًا للأمر فكتمت غيظي الى حين انتهاء المقابلة وما ان نزلنا رفاقي الثلاثة وانا درج بكركي واتجهنا نحو بوابة الصرح حتى رأيت مئات الشبان مندفعين بشراسة من البوابة التي لم اعرف كيف فتحوها،ولم اعرف ايضًا كيف ارتفع عدد المتظاهرين الى مئات بعد ان كنا بضع عشرات فصرخت بهم لقد باعنا البطريرك للسعوديين والأميريكيين.لم اعرف جيدًا في حينه معنى ما قلته لكنني اذكر انه كان الكلام الذي يقوله معظم الناس.
“وعلى رغم كوني من المتظاهرين فان الشبان المندفعين بغضب أخذوني في طريقهم ولم اعد استطيع السيطرة على نفسي فاقتادوني معهم من جديد الى القاعة الكبرى حيث عمل المتظاهرون على تكسير كل ما لا يمكنهم اخذه معهم.كسروا المغاسل والصور واطارات الصور والمزهريات والكراسي واقتلعوا الحنفيات والشتول المزروعة في الاوعية المخصصة لها.لقد هالني ما قام به البعض،كان الصراخ يصم الآذان والضجة اشبه بمحطة للقطارات القديمة وقد آلمتنا حناجرنا من كثرة ما صرخنا وهتفنا،نحن جئنا لاعلان موقفنا واطلاع البطريرك على معارضتنا لسياسته ودعوته الى دعم سياسة العماد ميشال عون غير ان ما حصل يفوق التصور والحسبان والعقل والمنطق وكل الشرائع،وأنا اليوم شديد الندم على ما قمنا به.
“حملت صورة الجنرال عون فوق رأس البطريرك صفير فصارت الجماهير تصرخ وتقول للبطريرك بوس الصورة فرفض فحاولت ان اضعها امام فمه وتنبهت الى ان احد المتظاهرين كان يحمل مسدسًا فظننت انه قد يطلق النار على البطريرك فصرخت به ونهرته وهددته بالضرب فتراجع الى الوراء واقتاد المتظاهرون البطريرك الى اسفل وقد حاول بعضهم اختطافه فمنعتهم عن ذلك وساعدت البطريرك على العودة الى مقره.
“بعد الحادثة بأعوام كثيرة جئت في عداد وفد كبير من حركة روحية فاقتربت من البطريرك وهمست في أذنه بأنني كنت في التظاهرة التي اعتدت عليه وبأنني شديد الأسف لما حصل فأجابني بكل محبة :انا نسيت الحادثة هل ما ذلت تذكرها؟وابتسم واكمل حديثه مع الناس المحيطين به”.
حاول المطران رولان ابو جوده الاتصال بالعماد عون مرات عدة قبل وبعد دخول المتظاهرين الى الصرح البطريركي فحيناً قيل له انه بعيد عن الهاتف وحينًا آخر بأنه لا يمكن الاتصال به وأخيرًا تمكن من مكالمته وكان الصوت بعيدًا وغير واضح وطلب منه التدخل لوقف الانتهاك الحاصل.فوعد عون خيرًا ولكن بعد مضي اكثر من ساعة لم تحضر اي نجدة فأعاد المطران ابو جوده الاتصال برئيس الحكومة الانتقالية وأخبره ان أحدًا لم يأتي من القوى الامنية فأبدى تعجبه من ذلك وعندما قال له النائب البطريركي العام ماذا ستقول الناس في الغرب عندما سيعرض عليهم التلفزيون مشاهد الاعتداء المخزية أجاب عون:”سيقولون أن هناك انفصامًا بين الشعب والكنيسة”.
صعق اهل الصرح البطريركي لدى معرفتهم بما قاله العماد عون واعتبروا في حينه انه يخبئ نيات غير حسنة ضد الكنيسة فارتأى البطريرك الماروني ان ينتقل فجرًا الى الصرح البطريركي الصيفي في الديمان.
وصل العميد جورج حروق بعد منتصف الليل الى بكركي وقال ان العماد ميشال عون نبهه قرابة الساعة الثانية عشرة وكان السير معرقلا على الطريق المؤدية الى الصرح البطريركي لكثرة السيارات الموجودة في المكان وأبدى حروق اسفه لما حصل.
وفي روايته لما حصل في مساء الخامس من تشرين الثاني 1989 قال العماد ميشال عون بعد ثلاثة عشر عامًا على وقوع الحادثة(مقابلة خاصة مع الجنرال في منزله في باريس شباط 2002 ):”كانت ليلة رهيبة كان الشعب غاضبًا الى حد كبير لا بل كان مهتاجًا كان يرى ان حلمه بتحرير ارضه من الجيش السوري يتلاشى امام ناظريه من غير ان يتمكن من فعل شيء فسخط على النواب والبطريرك صفير معتبرًا ان مواقفهم هي التي ادت الى تبدد الحلم.”في تلك الليلة قررت ان أذهب الى منزلي لأرتاح قليلآً اذ كانت مرت علي ليال صعبة لم أذق فيها طعم النوم.في الطريق من بعبدا الى الرابية كان المشهد مخيفًا:اطارات تشتعل شبان وشابات يحملون الاعلام ويهتفون ويقطعون الطرقات ويوزعون المناشير،خفت من ان يتعرفوا الي فقلت للسائق بأن لا يتوقف ايًا كان الداعي،شعرت ان المتظاهرين من شدة محبتهم لي قد يقدمون على خنقي
“لم يأخذ احد رأيي لتوجيه تظاهرة ضد بكركي وما قيل عن تورط الرائد كيتل الحايك لا يعنيني فهو لم تكن له وظيفة أمنية يوم توليت رئاسة الحكومة الانتقالية ولم أنط به اي مسؤولية او اي مهمة،في أي حال يوم تسلمت السلطة كان البلد مخترقًا من كل اجهزة الاستخبارات في العالم.
“لا أبرئ القوات اللبنانية مما حصل فقد بدا على تلفزيون المؤسسة اللبنانية للارسال الذي عرض مقاطع من الاعتداء عنصران من القوات يعتديان على البطريرك صفير.
…
وعرف البطريرك صفير فيما بعد أن رئيس حزب الوطنيين الاحرار داني شمعون اتصل قبيل حصول الاعتداء بالعماد ميشال عون طالبًا اليه ارسال قوة حماية من الجيش اللبناني الى الصرح البطريركي لكن شمعون لم يعرف لماذا لم يتحرك احد لنجدة البطريرك كما علم سيد بكركي أن عون سئل لاحقًا:”لماذا حملت البطريرك على الهرب الى الديمان؟” فأجاب:”لقد اختار هو طريق المنفى”.
…
لم يكتف عون بهذا الموقف الذي اعتبر تأييدًا للتظاهرة اكثر مما هو ادانة لها بل تابع مناصروه مشروعهم ووجهوا تظاهرة الى بكركي اذ لم يكونوا قد علموا بعد ان البطريرك صفير قد غادر الى الديمان وعمد المتظاهرون الى فتح بوابة الحديد الخارجية عنوة والاندفاع الى الداخل ثم بادر المتظاهرون الى اطلاق الهتافات والشعارات مرددين بين الحين والحين :”بدنا البطرك،بدنا البطرك”.حاول النائب العام البطريركي المطران رولان ابو جوده ان يكلم المتظاهرين فلم يسكتوا واستمروا يطالبون بخروج البطريرك صفير الى مقابلتهم”.