هل يتجه لبنان إلى ازمة وجود ومصير؟

النوع: 

 

يشهد المسرح السياسي اللبناني "بازار" قوانين انتخابية ومخاض تشكيل الحكومة وصيغ التمديد واحتمالات الفراغ الدستوري والضياع وفلتاناً أمنياً الى حد الفوضى.

وسط هذا الضجيج يواجه لبنان تحديات مصيرية تفرضها حقائق بدأت تتمظهر في الواقع أكثر، منها:

سقوط النظام الإقليمي العربي الرسمي ودخوله في مرحلة انتقالية تودع الماضي من دون أن يتبلور المستقبل. وتداعيات السقوط سوف يكون لها انعكاسات وتجاذبات على الساحة اللبنانية المنقسمة على ذاتها والمتحالفة مع قوى إقليمية تتمدّد وتتماهى معها وتحدد قواها وتقرر مصير التوازنات  الداخلية اللبنانية، بسبب ترابطها العضوي والبنيوي مع التوازنات الخارجية الإقليمية والدولية وامكانية اعادة رسم حدود القوى الإقليمية نفوذها وامتداداتها دولياً ومحلياً.

  سقوط اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت الحدود السياسية لدول الهلال الخصيب في العقد الثاني من القرن العشرين، حيث ظهر لبنان بحدوده الحالية العام 1920. وقبل نهاية قرن على نشوء الكيان اللبناني بدأت الأحداث تكسر الحدود السياسية بعد أن اعترفت بها الدول كحالة قانونية دولية، والحركات القومية كأمر واقع. لكن من جهة فإن "اسرائيل" تهدد حدود لبنان الجنوبية بمطامعها التوسعية في الارض والموارد، ومن جهة اخرى تحوّلت حدود لبنان الشمالية الشرقية الى مساحات مفتوحة تشهد تراشقاً عابراً للحدود وتبادل اطلاق النار والمقاتلين والعتاد بين ضفتيها، وقد اصبحت ساحة واحدة مستباحة للسلاح والمقاتلين والامدادات. وهكذا غدت هذه الحدود خطوطاً افتراضية يُعاد رسمها على ضوء نتائج الصراع الدموي الدائر على ضفتي الحدود وفي كلا البلدين.

وفي كل الحالات مصير الكيان اللبناني على المحك ويرجح ان وجوده بات مرهوناً بالمعارك الدائرة ونتائجها، وبالتالي قد تقرر حدوده قبل مضي قرن على ترسيمها. وهكذا لبنان على ابواب تغييرات جوهرية قد ترسمها جماعات وقوى فاعلة على الارض بامتداداتها الطبيعية والإقليمية أو يكون أمام مأزق سايكس بيكو جديدة ترسمها الدوائر الإقليمية والدولية.

سقوط اتفاق الطائف بسبب عدم القدرة على تطبيقه كاملاً او توفر الإرادة لذلك التطبيق، قبل تطويره وفق متطلبات الظروف والاوضاع ليبقى صالحاً للحكم. هذا هو السبب الاول؛ اما السبب الثاني فهو غياب الراعي العربي اولاً ومن ثم الراعي السوري فأصبح الطائف دستوراً غير قابل للحياة لتجميده كنص وفاعلية عند معطيات واقع انتهى وتجاوزت الأحداث بنوده وتخلي أهله ورعاته عنه ما يضع لبنان امام  ضرورة تأسيس اتفاق او عقد جديد غير متوفرة ظروف إنجاحه.

وسقوط الطائف يضع لبنان امام فراغ دستوري تنجم عنه حالة فوضى تهدد السلم الاهلي والوحدة الوطنية وتجعل الحكم فيه غير ممكن، ودولة فاشلة عاجزة إزاء ازمة حكومة وحكم ونظام فضلاً عن ازمة كيان ومصير ووجود.

وبنظرة فاحصة لمشاريع القوانين الانتخابية المطروحة تبدو انها تتناقض مع الطائف الذي حدّد  المحافظة كدائرة انتخابية بعد إعادة النظر في تقسيم المحافظات. وباختصار سقوط النظام الإقليمي سياسياً (عجز الجامعة العربية) وجغرافياً (تكسير حدود سايكس بيكو) وتزامنه مع سقوط الدولة اللبنانية سياسياً (عجز اتفاق الطائف كمرجعية شرعية) وأمنياً (تناقض المواقف السياسية من استراتيجية الدفاع ضد إسرائيل والتعامل مع الحكومة والمعارضة السوريتين)، مما يفتح الباب واسعاً امام اسئلة ومعطيات وتحديات مستجدة تواجه لبنان من دون جواب موحّد ومحدّد منها:

1) فائض المواد الطبيعية من غاز وبترول على شواطئ  المتوسط، خاصة في لبنان، يطرح مسألة خطيرة وهي استخراج الثروة الوطنية وحمايتها اللذان ينعكسان إيجابياً على الوضع الاقتصادي في لبنان اذا احسن استثمارها كما تشير حدة اطماع الدول الأخرى في هذه الثروة. حيث تشعر "اسرائيل" بالمنافسة اللبنانية فتزيد شهية اطماعها، كذلك الشركات الدولية التي ترسم استراتيجيات إقليمية لمصالحها.

2) فائض العنف والارهاب عبر حدود سايكس بيكو كسر الحواجز التي رسمتها الكيانات السياسية وتحوّلت تخومها ساحة معركة واحدة تعددت فيها المعابر والممرات لنقل العتاد والمقاتلين.

3) فائض العصبيات المذهبية والاتنية والقبلية يشجع التواصل بين الجماعات المنتشرة على ضفتي الحدود متجاوزة الحدود السياسية التي اصبحت شرايين تواصل بدلاً من كونها جدار فصل. لم تكن حدود سايكس بيكو على حجم الفئات المنتشرة جغرافياً في اكثر من كيان سياسي. فقد طافت الجماعات عن التخوم المسيّجة وحطمت الحدود التي تباعد بين الاهل والاقارب.

4) فائض الجهل والتخلف والتبعية والاستبداد والتكفير مع فائض الظلم والقهر الذي وحد النازحين واللاجئين والهاربين من الخوف والاستبداد فأصبحوا مادة متفجرة تتمدد في المكان على اتساعه، ضاربةً عرض الحائط الحدود المصطنعة التي أصبحت عاجزة عن عزل الناس في معتقلات كبيرة وقد باتت الحدود المجاورة مساحة عدوى وإمداد وتأثير متبادل ما أدخل معادلات إقليمية جديدة داخل الحدود الكيانية.

5) فائض المقاومة ضد اسرائيل أخرجها من القمقم المذهبي والكياني فغدت المقاومة في لبنان نموذجاً للانتفاضة في فلسطين وسنداً للمقاومة في الجولان وامتداداً  للمقاومة في العراق وحلماً للمعارضة في الاردن، وكلما اشتد عود المقاومة في لبنان أصبحت نواة لجبهة شرقية توحّد قوى الممانعة والمقاومة والتغيير في المنطقة متجاوزة الحدود والحواجز وطاقة توحيد المجتمع وتثويره في جبهة مقاومة على امتداد المشرق العربي بعيداً عن الحدود الرسمية والتخوم الافتراضية.

6) وبالتوازي مع فائض قوة المقاومة يواجهه فائض قوة الثورة المضادة او فائض العداء لسلاح المقاومة وروح الممانعة تحت شعار الاستقرار والازدهار على قاعدة التطبيع والسلم مع اسرائيل. مما شكل جبهة محاصرة المقاومة وأوجد مواجهة مفتوحة بين المقاومة وأعدائها وكل فريق له انصار ومؤيدون في لبنان ومحيطه، محكومة بمنطق الفتنة والحرب الاهلية او على الاقل صراع من اجل الهيمنة على السلطة في لبنان والهلال الخصيب في مواجهة بين "هلال شيعي" و"هلال سني" على حساب هلال المقاومة.

هذه الأسئلة الوجودية من يجيب عليها في لبنان؟ القوى القومية والتقدمية غارقة في أزمة أحزابها وتنظيماتها وتعيش حالة مخاض ونقد ذاتي ولم تبلور بعد فكراً جديداً فاعلاً. الجماعات الدينية تلقت التحديات وتجاوبت معها بأشكال ومستويات مختلفة.

هكذا يمكن رصد الحراكات الشعبية التالية:

 *  بعد ان ساد الفكر الانعزالي بشكل واسع داخل الوسط المسيحي، داعياً الى فصل لبنان عن محيطه ونظّر لإمكانية ادارة شؤون لبنان بعيداً عن جواره نلاحظ ان هذا الوسط انتقل الى وعي مشرقي يتفاعل مع المحيط ويلتزم بقضاياه ويدرك ترابط وجوده ووضعه في لبنان مع تطورات الحالة الإقليمية لا سيما في المشرق، فتأسست جمعيات ومراكز تدعو الى إحياء المشرقية بأشكال مختلفة تدل عن وعي جديد للتراث والمصير.

*يشهد الجمهور السني في لبنان حالات تجاذب حادة غير مستقرة ولم يحسم بعد بين اتجاهات فكرية متناقضة تتوزع بين الاخوان المسلمين والسلفيين واللبراليين والاعتدال والفكر القومي والتقدمي على اختلاف مدارسه. هذا الجمهور كان يتعاطف تاريخياً مع القومية العربية وكان في طليعة دعم ثورات الاستقلال العربية والقضية الفلسطينية على اختلاف مراحلها. اما اليوم فيشهد مواجهة كامنة وأحياناً مكشوفة بين تيارات التكفيريين ودعاة الامارة الاسلامية ولو في حي او قرية وبين فكر ديني وسطي معتدل يعبر عن نفسه بأشكال متنوعة، وهو في حالة الدفاع والترقب والضياع بين "لبنان اولاً" لا يرضي طموحه وبين "هلال سني" لم تتبلور معالمه بعد. هل هو بديل عن العروبة ام امتداد للعثمانية الجديدة. فبعد سقوط العروبة الخيالية يفتش رواد العروبة التاريخية عن عروبة حضارية جديدة تحقق طموحاتهم وتوحد جهود الامة على اختلاف مذاهبها وتياراتها.

*الاتجاه الشيعي الاغلب يلتف حول المقاومة التي بدأت تشعر بمأزق عزلتها الجغرافية (الجنوب والبقاع) وبشرياً (الطائفة الشيعية وحلفاؤها)، كما ان التحديات التي تواجهها من خارج الحدود من فلسطين المحتلة والعراق الفدرالي وسوريا المعارضة والسلطة، ما دفع البعض الى بداية طرح افكار ابعد من المقاومة الاسلامية في الجنوب لتلامس الدعوة الى تحرير الجليل في الشمال الفلسطيني ودعم المقاومة في الجولان ومساندة العمق العراقي مما بدأ يلامس فكرة حرب التحرير الشعبية الممتد من المتوسط الى الخليج والتي يطلق عليها البعض "الهلال الشيعي"، بينما يسميها آخرون هلال المقاومة المدعوم من ايران. وقد بدأت اوساط شيعية تستسيغ تسمية الهلال الشيعي لما فيها من امتداد شعبي وجغرافي يربط بلاد الشام ببلاد الرافدين وجبل عامل بالنجف، مروراً بمقام السيدة زينب.

اما الدروز فهم يتوزعون في فلسطين ولبنان وسوريا ويحلم البعض منهم بجبل يوحّدهم بين كل التناقضات التي تحيط بهم وتتحكم بأكثريتهم حالة الانتظار والتردد والخوف من المجهول.

يتخوف بعض اللبنانيين من اتجاه الوضع الى سقوط الدولة جغرافياً وسياسياً، خاصة ان منطقة الهلال الخصيب تشهد اعادة  رسم موازين القوى والحدود:

 1على اساس سايكس بيكو جديد يقسم المقسّم وفق مشروع صهيوني اميركي يضمن الامن لاسرائيل والثروات لاميركا.

2يمكن ان تذهب المنطقة الى فرصة جديدة اذا تمكّنت قوى المقاومة والتغيير من اعادة توحيد المجتمع في مواجهة المشروع الاميركي الاسرائيلي عبر صيغة مجلس تعاون مشرقي على طريقة مجلس التعاون الخليجي او تأسيس جبهة شرقية توحد قوى المقاومة والانتفاضة والممانعة في حرب تحرير قومية.

3 اعادة انتاج سايكس بيكو القديم بصيغ جديدة تتلاءم مع تحولات الواقع في المنطقة ولبنان تحديداً.

الانقلاب الاستراتيجي في المنطقة والمنعكس حكماً على لبنان يفرض تحدياً على لبنان والمنطقة يلخصه سؤال فلسفي: الى اين؟

ومع انسداد الآفاق السياسية الحالية بسبب الفوضى والضياع والتناقضات والصراعات التي مازالت سارية ولم تحسم بعد الاتجاهات لا بد من حوار فكري ثقافي نقدي بالعمق من اجل ابداع اجوبة تحاكي المصير.

 وقبل ان يستكمل لبنان قرنه الاول (1920-2020) علينا تحديد معنى لبنان ودوره وصيغته الافضل لحل ازمة النظام والكيان التي تعصف به وايجاد الصيغة الامثل لعلاقات لبنان في هلال المقاومة او ضمن مجلس تعاون مشرقي يحقق العدالة والمساواة والمقاومة.

فائض القوة داخل لبنان لم يحقق التغيير المنشود بسبب تنوّع وتناقض المذاهب والجماعات الدينية والسياسية، بينما فائض قوة المقاومة في لبنان يستكمل تحرير الاراضي اللبنانية ويمكن ان يكون طليعة تحرير الارض وحرية الانسان على امتداد المشرق.

الكاتب: 
سركيس ابو زيد
المصدر: 
التاريخ: 
الخميس, مايو 30, 2013
ملخص: 
أصبح الطائف دستوراً غير قابل للحياة لتجميده كنص وفاعلية عند معطيات واقع انتهى وتجاوزت الأحداث بنوده وتخلي أهله ورعاته عنه ما يضع لبنان امام ضرورة تأسيس اتفاق او عقد جديد غير متوفرة ظروف إنجاحه.