الامام شمس الدين واعادة تأسيس الفكرة اللبنانية

النوع: 

 

يعرف اللبنانيون عن الامام الراحل انه كان داعية حوار وعيش مشترك (كان يحب ان يسميه:العيش الواحد)... الا ان الاساس في سيرة الامام هو انه لم يتوقف في فهمه للحوار والعيش المشترك عند حدود المجاملات اللبنانية التقليدية (وهو كان يوليها اهتماما كونها تعيد لحمة النسيج الاجتماعي الواحد في الافراح والاتراح وفي الحياة اليومية الواحدة)، ولا عند دواعي الوفاق السياسي الضروري والحتمي (والذي كان يخاف عليه من جشع السياسيين وانانياتهم).. بل انه صاغ وبلور اطروحة اسلامية-شيعية متكاملة حول معنى لبنان ودوره، وحول صيغته السياسية (التي قال عنها انها فريدة ومميزة) وحول ضوابط ومحددات الشراكة الاسلامية-المسيحية في الوطن اللبناني (وهو كان يصر دائما على التذكير بانه هو والامام الصدر من اجترح عبارة الوطن النهائي لجميع بنيه ) في كيان سياسي دائم مستقر يقوم على نظام برلماني جمهوري ديموقراطي..وقد ذهب الامام في ذلك كله الى افاق تخطت سطحيات اللغة السياسية الاسلامية العامة التي تعطيك من طرف اللسان حلاوة فيما هي تضمر غير ما تعلن... وتجاوز تشوش الرؤى والخيارات التي حملتها النخب الاسلامية (والشيعية منها تحديدا) حيال الفكرة اللبنانية (حسب تعبير ميشال شيحا) والتي كان سقفها البيان التاريخي الذي اصدره كاظم الصلح عام 1936 ووقّع عليه عادل عسيران يومها...

ولم يكن لبنان الوطن النهائي في فكر شمس الدين دعوة الى صفاء عرقي او اثني او ثقافي (كما الدعوة الفينيقة مطلع القرن العشرين) يستمد قوته من اسطورة الانتساب الى تاريخ يوغل في القدم الى حد الاسطرة.. بل ان الامام كان اول مسلم تحدث عن "معنى لبنان" ملاقيا بذلك كلام البابا يوحنا بولس الثاني في ان لبنان اكثر من مجرد بلد، انه رسالة... ورسالة لبنان حسب شمس الدين هي معناه، وهي دوره ايضا في المحيط العربي والاسلامي... وهو بذلك لامس حقلا كان مقصورا على ميشال شيحا وكمال يوسف الحاج وشارل مالك، وكان بالتالي مسيحيا، ويمينيا، في زمن الانقسامات الايديولوجية المعروفة، وكان مجهولا او محرما على المسلمين التفكير فيه او القول به...فهو اعاد صياغة دوائر ميشال شيحا ( وهي كانت دوائر جمال عبد الناصر في فلسفة الثورة) صياغة اسلامية متجددة مركزها فكرة الحوار والتفاعل والمشاركة.... ولعلنا ننسى انه حين طرح الامام شمس الدين فكرة الحوار الاسلامي المسيحي (منذ عام 1976 اي والحرب الاهلية في ذروة استعارها) فانه لاقى الصد والتهكم (كما لاقى الامام الصدر بالمناسبة حين اعتصم في العاملية او دعا الى الحوار ونبذ العنف و لغة القوة والغلبة)...الا انه استمر في دعوته وشكل لها اللجان والهيئات وخاطب بها المحافل... وأذكر انني عندما كنت في الفاتيكان لحضور السينودوس من اجل لبنان مندوبا عن الشيخ، خرجت العمائم الشيعية في لبنان تسخّف هذه المشاركة لا بل وتدينها وتتحدث عن السينودوس باعتباره مركزا لحملة صليبية جديدة.... وذهب الخيال باحد "المراجع" ان شبهّه بمؤتمر كنيسة كليرمون في فرنسا والذي اعطى اشارة الانطلاق للحروب الصليبية عام 1094..لقد حدد الامام منذ ذلك الوقت فهمه لمعنى ودور لبنان ورسالته، باعتباره "فسحة مميزة يختبر فيها الانسان قدرته على التفاعل مع الاخر المختلف، واستيعاب التنوع، واعادة صياغته، مقدما بذلك مساهمة حقيقية في اغناء الحضارة الانسانية"، كما جاء في احدى وثائق المؤتمر الدائم للحوار اللبناني والذي كان الامام يحضنه ويرعاه (رئيسه سمير فرنجيه)...وان الحفاظ على هذا الدور وتنمية تلك الرسالة وابراز ذلك المعنى، يتطلب اساسا الحفاظ على صيغة لبنان وعلى استقراره وعلى سيادته واستقلاله..ومن هنا فان الامام كان القائد والزعيم والسياسي والمفكر الوحيد في لبنان (ولعله في العالم العربي) الذي اجرى مراجعة نقدية لشعاراته وافكاره وقام بنقد ذاتي وتخلى عن بعضها ولم يخجل من اعلان تخليه هذا والدعوة الى تبني الجديد الذي رأى انه طريق الخلاص...فهو دعا في منتصف الثمانينيات مثلا الى "مشروع الديموقراطية العددية القائمة على مبدأ الشورى"... وتخلى عنه لا بل ونقده... وهو كان يقول بان اتفاق الطائف هو اتفاق "الضرورة"، ثم عدل موقفه وقال بان الطائف هو افضل صيغة للبنان :"ولا ننسى ان هذه الصيغة-الطائف- اعتبرها البعض مؤقتة، ونحن اعتبرناها كذلك في حينه، حينما اعلن الاتفاق وووجه بمعارضة كبيرة داخل الطائفة الشيعية... انا رفعت انذاك شعار انه اتفاق الضرورة... والان اقول هو ليس اتفاق الضرورة... هو اتفاق الاختيار.. وهو اتفاق مناسب لطبيعة لبنان لانه يوافق ويحقق جميع الوسائل الممكنة للاستقرار والتقدم والازدهار" (الوصايا- ص. 62). وهو كان من حملة لواء الغاء الطائفية السياسية ثم رأى ان ذلك لا يفيد لبنان، فدعا الى التبصر والتأني في طرح الشعار، حتى لا نتعرض لما يجعلنا نأسف على ما فات مرددا قول الشاعر: "رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه"، قائلا: "وكم مرت علينا من ايام بكينا منها وها نحن الان نبكي عليها" !!! وقد عبر عن هذا الموقف في كلام واضح قاله في احد مؤتمرات الفريق العربي للحوار الاسلامي- المسيحي: "نحن في لبنان نعتبر بالرغم من كل تشكيك ومن كل اتهام اننا انجزنا افضل صيغة في التاريخ للعيش المشترك، ونحن نعتبر المحافظة عليها وصونها وترسيخها واجبا دينيا وليس فقط واجبا سياسيا... اكثر من هذا فاني اقول بصراحة ان الاطروحة الحارة والساطعة والمتوهجة التي سادت في العقدين الاخيرين عن سعي المجتمع اللبناني الى الغاء نظامه القائم فعلا على ما يسمى نظام الطائفية السياسية - انا ادعو الان ليس فقط الى تجميد هذا المسعى بل الى العدول عنه... اعتبر ان هذا انجاز من اعظم انجازات الروح والعقل في لبنان، وقد يكون نموذجا ينبغي ان يستفيد منه الاخرون الذين يعيشون في مجتمعات تنطوي على نسبة او اخرى كبيرة او صغيرة من التعددية..."(9 اذار 2000)...وهو اضاف لاحقا الى هذا الكلام ايمانه بضرورة الحفاظ على الصيغة اللبنانية "وعلى مبدأ الوطن النهائي، ليس لمصلحة الشيعة، وليس استجابة وترضية للمسيحيين،بل لانه كان ضرورة، فيما نعي، ولا ازال اعتقد بذلك الى الان، للاجتماع اللبناني ولبقاء كيان لبنان، ليس لمصلحة لبنان وشعبه فقط، وانما لمصلحة العالم العربي في كثير من الابعاد، وحتى لمصلحة جوانب كثيرة من العالم الاسلامي، ونحن نمر في حقبة تاريخية مفصلية تتعلق بقضايا التنوع والتعددية السياسية وما الى ذلك" (الوصايا-ص. 47-48)...

غير ان الامام لم يقتنع تماما بان اتفاق الطائف قد بدد المضمر وغير المعلن والمسكوت عنه لدى عوام المسلمين... ولم يقتنع بان المصالحة الوطنية والسلم الاهلي والعفو والتوافق صارت ثوابت دخلت اعماق المسلمين وعيا وسلوكا...وهو كان يقول بان "اندماج الشيعة وعموم المسلمين في اوطانهم"، وتسليمهم "بنهائية الكيان وبشروط المواطنة"، واقامة الدولة العادلة المتوازنة والمؤسسات والقوانين،لا يتم فقط بمجرد اقرار نوابهم او الزعماء والاحزاب، بوثيقة الوفاق وبالدستور الجديد، او بمجرد دخولهم باب الحكم والسلطة والوزارة والنيابة والادارة... ذلك ان المسألة أعمق من ذلك بكثير اذ هي تمس كيان وعقل ووجدان المسلمين وترتبط بوعيهم لذاتهم وللاخرين في منظومتهم العقدية-الفكرية-الفقهية...من هنا فقد عمل الامام على ملاقاة الجهد السياسي للرئيس الحريري في بلورة اسلوب اسلامي في حكم لبنان (والامام هو من قال ان نجاح تجربة الطائف هو بيد المسلمين في اسلوب ادارتهم للحكم وتأسيسهم للوطن وللدولة بعد الطائف) وذلك من خلال اجتراح وبلورة الاطار الفقهي الاسلامي الناظم للتجربة والفكر السياسي المنفتح والمتجدد المواكب لها... ان اعادة التأسيس النظري للرؤية الاسلامية اللبنانية للمجتمع والدولة والوطن والامة والشعب والديموقراطية هي المهمة التي تصدى لها الامام لتكمل ما كان يقوم به الرئيس الحريري من اعادة تأسيس سياسي للمشاركة الاسلامية في ادارة الدولة على قاعدة اتفاق الطائف...ان اعادة التأسيس الاسلامية للمشروع اللبناني، والذي كان مسيحيا ومارونيا بامتياز، هي ابرز واهم انجازات العملاقين شمس الدين والحريري..

فاذا كان الرئيس الحريري هو "ابو الطائف" كما كان يحلو للامام شمس الدين ان يقول،ومعمر لبنان بعد الحرب الاهلية، وباني الدولة والمؤسسات بعد الخراب والتفكك، فان الشيخ هو مؤصل الدعوة الى لبنان الوطن النهائي والدولة الوطنية تأصيلا اسلاميا فقهيا وكلاميا، وذلك في زمن لا تزال فيه الحركة الاسلامية العربية بمختلف تلاوينها تعيش حلم "الخلافة الكبرى" او "ولاية الفقيه" او "الدولة الاسلامية" او "تطبيق الشريعة" ...الخ...و قد صاغ الامام في كتابيه المبكرين: "نظام الحكم والادارة في الاسلام"، و"في الاجتماع السياسي الاسلامي"، اطروحة متكاملة حول الدولة الوطنية انطلق فيها من الاسئلة الحرجة التي تواجه الفقه والكلام الاسلامي: "هل من واجب المسلمين في المجال الوطني او القومي اقامة الحكم الاسلامي باعتبار ان مسألة الحكم السياسي هي تشريع الهي وتكليف شرعي غير قابل للاخذ والرد على ما يعتقد معظم الاسلاميين؟"... وقد أجاب الامام على ذلك قائلا: "ان كل شعب مسلم، على المستوى الوطني او القومي، يجب بالضرورة ان يكون له نظام وحكومة، يحفظانه ويضمنان سلامته وتقدمه. اما ان يكون هذا النظام وهذه الحكومة اسلاميين فقضية غير مسلّمة وغير بديهية، كما هو الشأن في اي مجتمع سياسي معاصر خارج العالم الاسلامي... فكما ان المجتمع السياسي البريطاني او الاميركي، او غيرهما، لا بد ان يكون له نظام حكم وحكومة، يمكن ان تكون تارة اشتراكية عمالية، واخرى رأسمالية محافظة،مع التزام المجتمع في تكوينه ومنهجه العام بالديمقراطية التي تلتزم باحترام قواعدها واصولها كل حكومة تتولى السلطة، فكذلك المجتمع السياسي الاسلامي يمكن ان يستمر مسلما في تكوينه ومنهجه العام ويكون قابلا لاي نظام لا يتنافى مع الاسلام باعتباره عقيدة المجتمع، ودون ان يكون نظام الحكم اسلاميا.. المهم هو استمرار الاسلام في الامة، واستمرار الامة مسلمة موحدة"(في الاجتماع السياسي الاسلامي-طبعة 1999- ص.14)... هذا اذا كان المجتمع مسلما بالكامل فكيف في مجتمعات متنوعة مثل لبنان؟ طبعا ان جواب الامام هو عدم جواز اقامة حكومة او دولة اسلامية او السعي اليها في مجتمع متنوع متعدد الطوائف والاديان والاعراق كما هي حال معظم البلدان العربية وليس فقط لبنان... فالامام لم يؤكد فقط على عدم جواز السعي او العمل لاقامة دولة اسلامية في لبنان او غيره من البلدان العربية التي فيها تنوع وتعدد، وانما هو دحض ايضا نظرية اقامة الدولة الاسلامية في مجتمع مسلم خالص (مثل ايران) دحضا فقهيا وكلاميا ودعا الاسلاميين الى التزام الديموقراطية التي رأى انها لا تتناقض مع، او تقابل، مفهوم الشورى... وهو صاغ نظرية ولاية الامة على نفسها ليقول ان الامة هي التي تنتج السلطة (مهما كان لونها او طبيعتها) وتنتج المؤسسات الحاكمة، وذلك بالشورى والديموقراطية...(راجع كتابيه نظام الحكم والادارة في الاسلام، وفي الاجتماع السياسي الاسلامي)... واذا كان الامام قد رفض وادان وقاوم افكار وسلوكيات بعض الحركات الاسلامية التي رفعت شعارات الحكم الاسلامي والاسلام هو البديل وما اليها، والتي حاولت تطبيق افكارها بالقوة والعنف والغلبة، فانه يسجل له انه نجح الى وقت وفاته في احداث تحول كبير في الحركة الاسلامية العربية وخصوصا في لبنان ومصر والعراق وسوريا والاردن وفلسطين وتونس والمغرب والسودان...يشهد له بذلك اركان هذه الحركات وكتاباتهم عن هذا الموضوع...غير ان ما هو اكثر جدة وحداثة في تنظير الامام الشيخ للدولة الوطنية هو تأكيده على صيغة التفاهم والمشاركة بين المجموعات المكونة للكيان الوطني وبما يحفظ لكل مجموعة خصوصياتها الثقافية والدينية... فهو دائم التأكيد والتكرار على وحدة الاجتماع السياسي مع الحفاظ على التنوع في المجتمع الاهلي" وهي المقولة التي قال بها الامام موسى الصدر ايضا.

في حوار خاص مع قادة المعارضة الشيعية في المملكة العربية السعودية، اقنعهم فيه بموقفه وفتح امامهم ابواب الاتصال والتواصل مع السلطات السعودية (وبمساعدة مباشرة من الرئيس الحريري) وصولا الى العفو الملكي عن المطلوبين وعودة المنفيين واطلاق حركة سياسية رائدة مباركة داخل المملكة،تحدث الامام شمس الدين عما يراه الخيار الوحيد امام الشيعة في لبنان والخليج والسعودية وباكستان وافغانستان، وحتى في العراق حيث هم الاكثرية، وطبعا مع اختلاف الشروط، وهو خيار: "تحقيق الكرامة والحد الاعلى من المصالح، وحفظ دينهم وفهمهم وحرية سلوكهم وممارستهم بقدر الامكان في ظل الشروط القائمة فعليا وواقعيا في المنطقة وفي العالم"... وقال الامام ان هذا "لا يمكن ان يحصل اذا كنا مصدر خوف للاخرين، لان الخوف منا لا يجعلنا متناقضين مع الانظمة فقط، بل يجعلنا، وهذا أسوأ ما يكون، على تناقض مع الشعوب بالذات، اي على تناقض مع شركائنا في الوطن.. ان علينا نحن الشيعة ان نبني حالة الفة نفسية بين النظام العربي والشيعة، وبين المجتمع غير الشيعي والشيعة... وهذا الامر يحتاج الى تواصل والى اعتراف متبادل ويحتاج الى ان لا يكون الشيعة مصدرا للخوف بل مركزا للامان... وبحسب مراجعتي لسلوك وممارسة ائمة اهل البيت ولخطهم السياسي في الامة، تبين لي ان همهم الاول والاعظم كان دمج الشيعة في الامة، وليس عزل الشيعة عنها...ولذلك فان على الشيعي ان يكون جزءا من المجتمع حتى لا يعامل على اساس انه مصدر للخوف او انه موضوع للاضطهاد...لقد شرّد الخوف السياسي والامني الشيعة في كل العالم الاسلامي... لماذا؟ الانظمة مسوؤلة بالطبع... ولكن بصراحة انا القي بجزء من المسؤولية على طريقة ادارة المشروع الشيعي، اذا صح هذا التعبير، في العصر الحديث... ليس المطلوب اظهار تشيع الشيعة فهذا ظاهر الى درجة الوجع... المطلوب ان يكون الشيعة مندمجين في مجتمعهم ومقبولين من مجتمعهم بشكل كامل... ستسمعون اعتراضات كثيرة ونحن تعودنا عليها... ولكن اعلموا ان هذا كان خط الائمة وديدنهم وسياستهم... ولم يكونوا في ذلك موالين للانظمة او خائفين او انهزاميين... لقد كانت رسالتهم السياسية وادارتهم السياسية تقتضي هذا النوع من السلوك لانه ليس المطلوب احداث فتنة في المجتمع، بل من المحرم احداث فتنة في المجتمع... انا اطلب منكم والتمس، الا تجعلوا هذا الهدف (الحوار) يجهض..والاتجعلوه يتعرقل..

اطروحتي هي هذه: ان الحوار والهدنة الداخلية هما الطريق الصحيح.. وفي اعتقادي فانه اذا كان ثمة رجاء في ان تتحقق مكاسب للشيعة في العالم فهي من هذا الطريق، طريق الاندماج وليس من طريق الانكفاء والسلبية الكاملة وليس من طريق الحالة الهجومية"...(كنت قد نشرت النص كاملا في كتاب الغدير رقم 4 وعنوانه:الامة والدولة والحركة الاسلامية)...

ان هذا الكلام كان يوجه الى الشيعة العرب ومنهم اللبنانيين لكي يتخلوا عن مشروع الاستقواء بالخارج (ايران) وعن اوهام الغلبة العددية والقوة المسلحة وعن اخافة غير الشيعة بالمارد الذي خرج من القمقم... وكان الامام يقول للشيعة ما قاله الامام علي والحسن والحسين وكل ائمة اهل البيت لشيعتهم، وما قاله هو في مؤتمر الغدير في لندن في تموز 1990 والذي جعل فهمي هويدي يكتب على لسانه: وحدة الامة قبل الامامة..... يومها (وكنت حاضرا معه ذلك المؤتمرالشيعي التاريخي) خرجت العمائم الشيعية الكبرى (وكانوا اكثر من 300 حضروا من كل انحاء العالم وخصوصا من النجف وقم) من قاعة الفندق الانكليزي الضخم وهي ترفع الصوت بالاحتجاج والمعارضة ضد الشيخ الذي تجرأ على مس المحرمات الشيعية التي عاشوا عليها لعقود وعقود... لقد انطلق الامام منذ وقت مبكر جدا (الثمانينيات) في دعوته الشيعة الى التصرف باعتبار انهم مواطنون لا اقليات، وانهم وحدويون لا مشاريع خاصة لديهم، وانهم جزء من نسيج مجتمعاتهم يقاومون الظلم والعدوان وفي نفس الوقت هم يبنون الاوطان ويحققون العمران، وانهم ليسوا بالخوارج الثوريين الذين لا يعترفون بالحدود او القوانين او المؤسسات...وهو استمر في دعوته هذه الى ان صاغها في اطروحته المعروفة التي تدعو الشيعة الى الاندماج في اوطانهم، حين كان يوصيهم "ان لا ينظروا الى انفسهم كفئة متميزة عن سائر شركائهم في الامة والوطن..وتاليا فانه يجب ان يندمجوا اندماجا كاملا في محيطهم الوطني والقومي والاسلامي من خلال الانخراط في ارقى درجات الالتزام الاخلاقي بقضايا الوطن والمواطنين، والالتزام بحفظ النظام وطاعة القوانين " ( من حديث له في الكويت 27-1-1994).. وفي مناسبة اخرى اوضح الامام: "كل اللبنانيين سواء كانوا شيعة ام غير شيعة عليهم ان يلتزموا مشروع الدولة الذي ركّب على اساس اتفاق الطائف... ان اية طائفة في لبنان لا يمكن ان تنجز مشروعا خاصا بها، واية طائفة تريد ان تنتج مشروعا خاصا بها ستخلق حالة دمار شامل ولن ينجح مشروعها اصلا..فمشروع الدولة يجب ان يقوم على توافق الكل وعلى التعاون.. ان اطروحة دولة اسلامية، او جمهورية اسلامية، من الناحية السياسية والتنظيمية، لا يمكن ان تكون... وفي لبنان كما تعلمون مشروع اسلامي بالمعنى التنظيمي والسياسي... اللبنانيون توافقوا على مشروع تكوين دولة وعلى تنفيذه وفقا للصيغة الدستورية القائمة فعلا والتي هي تعبير عن اتفاق الطائف.. ومن يريد ان يعمل ضمن هذا المشروع فليتفضل سواء كان حزب الله ام اي حزب اخر ديني او علماني... في لبنان ليس هناك اي طرح يتناول اصل الصيغة، فالصيغة هي هذه.. والذي يريد ان يغنيها والذي يريد ان يرشدها والذي يريد ان يحصنها، نحن نكون في غاية الشكر والامتنان له... ولكن السؤال هو: هل نريد لبنان ام لا نريده؟ هل نريد نظاما جمهوريا ديموقراطيا برلمانيا ام لا ؟ نحن قلنا : نعم للبنان، وقلنا نعم لنظام جمهوري ديموقراطي برلماني"..(من حوار في الكويت=15-2-1994). وهو قد أعاد في اخر ايامه التأكيد بصورة اعمق على هذا الموضوع وذلك في وصاياه التي سجلها وهو على فراش المرض المميت...يقول الامام: "على الشيعة ان يدمجوا انفسهم في اقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي اوطانهم، وان لا يخترعوا لانفسهم مشروعا خاصا يميزهم عن غيرهم تحت اي ستار من العناوين من قبيل انصافهم ورفع الظلامة عنهم، او من قبيل كونهم اقلية من الاقليات..ولا يجوز ولا يصح ان يحاولوا، حتى امام ظلم الانظمة، ان يقوموا بانفسهم وحدهم وبمعزل عن قوى اقوامهم بمشاريع خاصة للتصحيح والتقويم، لان هذا يعود عليهم بالضرر ولا يعود على المجتمع باي نفع"(الوصايا= ص. 27-28)... وفي مكان اخر تأكيد اقوى واشد: "واوصيهم وصية مؤكدة بألا يسعى اي منهم الى ان ينشىء مشروعا خاصا للشيعة في وطنه ضمن المشروع العام، لا في المجال السياسي او الاقتصادي او التنموي.. اوصيهم بان يندمجوا في نظام المصالح العام، وفي النظام الوطني العام، وان يكونوا متساوين في ولائهم للنظام وللقانون وللاستقرار وللسلطات العامة المحترمة"(ص.56).

لا بل ان الامام ذهب الى ابعد من ذلك في شأن "قداسة" الوطن النهائي فوق كل اعتبار قومي عربي او اسلامي اممي او شيعي مذهبي، حين صرح وهو في باريس:"اما بالنسبة الى سوريا ولبنان، فقلت واكرر ان لبنان خارج اي صيغة من الوحدة الى ابد الابدين... ولو تكونت جمهورية عربية من طنجة الى عدن، سيبقى لبنان دولة عربية اخرى.. فطبيعة الاجتماع اللبناني تقتضي ذلك، وفائدة العرب تقتضي ذلك ايضا.. وثمة خصوصية تجعل من الافضل له ولكل المحيط العربي والاسلامي ان يبقى جمهورية مستقلة ذات سيادة، غير متحدة مع احد، تتعاون مع الكل من دون ان يذوب كيانها مع احد" (النهار 7-12-2000)....

 غير ان اقوى واوضح العبارات التي حاول فيها نزع القداسة والاسطرة عن كثير من المفردات والعناوين كان يتم في خطبه العاشورائية بمناسبة ذكرى الحسين وكربلاء، وخصوصا في خطبة كل عاشر من محرم......:"الحسين هو امام للمسلمين وامام للمستضعفين، مسلمين كانوا ام غير مسلمين.. اقول هذا الكلام وسأظل اقوله كما قلته في السنين الماضية، لاقتلع الوهم الذي ربما يكون راسخا في قلوب بعض الشيعة بأن هذا شأن شيعي خاص... واقول هذا الكلام ايضا لاعيد تأكيد ما قلته في السنين الماضية من انه ليس للشيعة في لبنان او في العالم العربي مشروع خاص بهم.. الشيعة في لبنان وفي العالم العربي هم جزء من المشروع الوطني العام لبلدانهم ولامتهم... مشروع الدولة والمجتمع الواحد... ليس لديهم اي وهم في مشروع خاص كما انهم لا يتحملون مسؤولية اي مشروع خاص... هذا هو المعنى الاول والاساس لثورة الحسين الانسانية... الامام الحسين تحرك من اجل مشروع دولة للجميع..... وهذا هو المشروع الوطني الانساني الاسلامي... خطاب عاشوراء والحسين هو خطاب العيش المشترك في لبنان، لا بلقلقة اللسان والشعارات الجوفاء، بل بالعيش الواحد الذي يقوم على ثوابت الكيان اللبناني وثوابت الدولة والمجتمع في لبنان... العيش الواحد الذي يعترف للاخرين بكرامتهم وبحريتهم وبثقافتهم وبكياناتهم الداخلية، لا يهرّج عليهم ولا يهيمن عليهم بشعار القداسة.... لا تجعلوا الحسين حجرا تلقمون به افواه الاخرين او ترجمون به الاخرين، او تخضعون به الاخرين او تحابون به الاخرين..." (من خطبة العاشر من محرم 1417 الموافق 27 ايار 1996).....

 

الكاتب: 
سعود المولى
التاريخ: 
الأحد, مارس 12, 2006
ملخص: 
لقد حدد الامام منذ ذلك الوقت فهمه لمعنى ودور لبنان ورسالته، باعتباره "فسحة مميزة يختبر فيها الانسان قدرته على التفاعل مع الاخر المختلف، واستيعاب التنوع، واعادة صياغته، مقدما بذلك مساهمة حقيقية في اغناء الحضارة الانسانية"