البطريرك صفير يروي أسرار الطائف – 1
يوم الثلاثاء 14 آذار 1989، إستقبل البطريرك صفير في بكركي السفير الإيطالي دانيال مانشيني. «بدا متشائمًا أكثر من أي وقت مضى»، هكذا كتب صفير عن اللقاء في يومياته. وأضاف: «قال إنه كان مع العماد ميشال عون ليكون رئيسًا للجمهورية، ولكنه ابتدأ يراه غير ملائم للظرف الحالي لأنه ذو مزاج عسكري، ولا يُحكم لبنان عسكريًا. وتساءل كيف السبيل الى مساعدة لبنان لإخراجه من محنته؟ فقلنا له: «هناك قرارات أُخذت في مجلس الأمن بإخراج القوى الغربية من لبنان، فلتُنفذ».
كانت مواقف البطريرك صفير ثابتة حول هذا الموضوع ولم تتبدّل أبدًا. منذ انتقلت السلطة الى حكومة العماد ميشال عون في قصر بعبدا في 23 أيلول 1988، لم يتوانَ عن المطالبة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية ورفض كل الطروحات التي كانت تدعو للتقسيم أو لبقاء الوضع كما هو في ظل حكم الحكومتين: حكومة الرئيس العماد ميشال عون في المناطق الشرقية، وحكومة الرئيس سليم الحص في المناطق الغربية. كان قلبه على لبنان. هذا الهمّ كان رفيقه الدائم في الإتصالات التي كانت بدأت تجري معه منذ دعوته الى المشاركة في اللقاءات العربية في تونس والكويت من أجل إيجاد حل للأزمة اللبنانية.
لم تكن العلاقة جيدة بين البطريرك صفير و»القوات اللبنانية»، ولم يكن موافقاً على أن يبقى العماد ميشال عون متسلّمًا السلطة في بعبدا. لذلك كان للتطورات التي حصلت منذ ذلك اليوم الأثر الكبير في إقتراب المواقف بينه وبين «القوات». من بكركي عاش أزمة المعركة المحدودة التي شنها العماد عون على «القوات» في 14 شباط 1989 بعد عودته من إجتماعات تونس. وكان همّ البطريرك ألا تتكرر تلك الأحداث، وأن يشارك في المساعي لوضع حد للإنقسام والخروج من حال الحرب. لذلك تحوَّل الى نقطة جذب واستقطاب للباحثين عن مخارج وحلول ومخزناً للأسرار، كأنه جالس على كرسي الإعتراف التي تسمع وتحفظ وتسجل، وسيطاً بين أهل الأرض والسماء.
دبلوماسية صفير وعسكرية عون
في 6 آذار 1989، زار صفير العماد عون في قصر بعبدا. في هذا اللقاء إستمع من عون الى وجهة نظره حول العلاقة مع «القوات اللبنانية» ومعركة 14 شباط، وحول إقتراحات الحلول التي يمكن طرحها في اللقاءات في الكويت، والتي كانت تتمحور حول الإنتخابات والإصلاحات والإنسحابات، وهي المواضيع الذي بقيت مطروحة وشكلت العناوين الرئيسية التي قام عليها إتفاق الطائف. في هذا اللقاء أبلغ عون البطريرك أنه أمر غرفة العمليات بمراقبة الموانئ غير الشرعية ومنع البواخر من التوجه إليها.
في ذلك اليوم، في 14 آذار، وبعدما كان البطريرك إستقبل أيضًا رئيس الرابطة المارونية شاكر أبو سليمان بعد السفير الإيطالي، إندلعت «حرب التحرير». عن تلك اللحظات كتب صفير: «تأزم الوضع وقصف الإشتراكيون المرفأ ورد ميشال عون على القصف، وكان تراشق مريع وقع من جرائه أربعون قتيلاً ومائة وخمسون جريحًا. وعقد العماد عون مؤتمرًا صحافيًا أعلن فيه بدء معركة التحرير من سوريا، ونعت الجيش السوري بالمحتل، لا بل بأبشع محتل. وكان قد أصيب مكتبه في وزارة الدفاع في اليرزة. وقد أطلقنا نداء لوقف إطلاق النار».
في اليوم التالي، إستقبل صفير جورج سعادة وداني شمعون وشاكر أبو سليمان الذين كانوا عائدين من لقاء مع العماد عون، وسألوا البطريرك عما إذا كان من المناسب جمع النواب المسيحيين ورؤساء الأحزاب المسيحية لدعم موقف عون. بعد التداول رأى صفير أن يتم إعداد بيان وعرضه عليه قبل أي إجتماع، «بحيث لا يكون بمثابة إعلان حرب على سوريا، على ما قاله العماد عون، ولكن يجب أن يكون تأييدًا له إنما بعبارات دبلوماسية، أو تأكيد موقف بشأن سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه وإخراج القوى الغريبة من أرضه». تلك كانت بدايات العلامات الفارقة بين دبلوماسية صفير الهادئة والمتماسكة وعسكرية عون المتهوّرة والمتقلّبة. هذا ما عبّر عنه صفير في اليوم التالي أمام بطرس حرب عندما تساءل عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه عون وعن وجوب وضع حدّ للتأزيم. قال له حرب إن عون لم يكن ممتناً لقوله في النداء لوقف إطلاق النار «سواء كان السلاح شرعيًا أم غير شرعي».
عن إجتماع النواب ورؤساء الأحزاب علّق صفير: «تبيّن لنا أن تأييد العماد عون تأييدًا سافرًا فيه مخاطر، وتركه لوحده ينطوي أيضًا على مخاطر».
مكارثي: عون يريد أن يصبح رئيسًا
تقييم صفير للوضع المتفجّر لم يكن بعيدًا عن الموقف الأميركي. في اليوم نفسه، 16 آذار، كان يستقبل السفير الأميركي جون مكارثي وقد لخص موقفه على النحو التالي:
1-موقف العماد عون رائع وجريء لكنه خطر. وهذا ما قاله له هذا الصباح عندما زاره ونقل إليه نصيحة الحكومة الأميركية بالتزام التروّي.
2-العماد عون قال له: إذا ضربه الإشتراكيون أو جهات وطنية داخلية، فسيرد على السوريين لأنهم أصل البلاء.
3-الحكومة الأميركية ترى الوضع خطيرًا، وتنصح بالإعتدال وبأن يتضافر المعتدلون اللبنانيون.
4-ترى الحكومة الأميركية أن يقوم تعاون بين العماد عون والدكتور سليم الحص.
5-الحكومة الأميركية لا يمكن أن تفضّل عون على الحص، وهذا هو موقف سفيرها، ولا يمكنها أن تتجاهل أن الحص يحكم ثلاثة أرباع البلاد، وإن بطريقة غير دستورية.
6-العماد عون يريد أن يصبح رئيسًا للجمهورية ويلزمه تأييد القوى الفاعلة.
7-نائب وزير الخارجية إيغل برغر قال بطريقة غير رسمية جوابًا على سؤال طرحته عليه نائبة أميركية كانت في سوريا، إذا خرج السوريون من لبنان فستزداد الحالة سوءًا. ولكن موقف الحكومة في النهاية إعادة البلاد الى حالة طبيعية وإخراجها من وضعها بإخراج الجيوش الغريبة.
8-يميل الى الإعتقاد أن الجيش اللبناني هو من قصف الغربية فأوقع ثمانية عشر قتيلاً، وليس هناك برهان على أن السوريين هم الذين قصفوا.
9-ولما قلنا له: «إن الحالة المأساوية ستدفع بالسكان، وخاصة المسيحيين، الى الهجرة، فهل هذا ما يريده الغرب والولايات المتحدة؟» قال: لا يمكننا أن نسيطر على الوضع. إن أميركا قوة عظمى ولكن ليس في لبنان.
كانت الهواجس مشتركة بين السفير والبطريرك. في 6 أيلول 1989 سيضطر مكارثي الى إخلاء السفارة الأميركية في عوكر، بعد تسيير تظاهرات مؤيدة للعماد عون إليها ومحاصرتها. وفي 6 تشرين الثاني سيضطر البطريرك صفير الى مغادرة بكركي بعد إقتحام المتظاهرين المؤيدين لعون الصرح البطريركي والإعتداء على سيِّده.
شظايا على قرميد الصرح
ليلة 22 آذار 1989، كان القصف السوري على المناطق الشرقية عنيفاً جدًا. «كانت ليلة ليلاء»، كتب البطريرك صفير. إبتداء من التاسعة أبتدأت الراجمات والمدافع السورية تمطر المناطق الشرقية بوابل من القنابل. وكانت الإستفزازات قد بدأت منذ يومين، وكان السوريون يتعمدون شل الحياة الاقتصادية والإجتماعية في المناطق الشرقية، فيطلقون بعض القذائف في الصباح والظهر والمساء. فيُحجم الناس عن الإتيان بأي حركة. وأقفلوا المعابر. واشتد القصف الكلامي بين الإذاعة السورية التي دعت الى تنحية العماد عون عن السلطة، فردّ بوجوب تنحية الأسد عنها… وكانت القنابل تنفجر في محيط بكركي، فيسمع وقع الشظايا على قرميد الكرسي البطريركي، واضطر معظم الكهنة الى اللجوء الى «قاعة المائدة» لقضاء الليل.
في نهار ذلك اليوم، كان صفير يتصل بالعماد عون يستوضحه ما آلت إليه الأمور، فأجابه أن «أوساط الغرب كانت غير مبالية بالقضية اللبنانية، أما الآن فقد أصبحت متحمسة لتحريره، وأن الحصار البري الذي فرضه السوريون سيؤذي المنطقة الغربية أكثر من الشرقية، وأن المؤونة من الطحين كافية، وأن الوقت قد حان، بعد أربعة عشر سنة عذاب، للخلاص. وإذا حصل تراجع يضيع كل أمل لنا بالخلاص».
في 30 آذار، بعد سقوط قذائف داخل الصرح البطريركي، زار الدكتور سمير جعجع البطريرك صفير برفقة جورج عدوان وروجيه ديب، وأبلغه أنه عسكريًا مع الجنرال ويحارب معه السوريين ولا يسأله عن الخيار السياسي الذي أخذه. كما صفير، كذلك كان موقف «القوات» محرجًا وهي تراقب مسار معركة عسكرية لم يكن لها رأي في اندلاعها ولا في خلفيات الموقف السياسي للعماد عون الذي كان قبل أيام من حرب التحرير لا يزال يركّز هجومه على «القوات».